مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

كتاب المدرسة الإسلامية

المدرسة الاسلامية ::: 91 ـ 105
(91)
    إن المقياس الفطري يتطلب من الإنسان : أن يقدم مصالحه الذاتية على مصالح المجتمع ومقومات التماسك فيه ، والمقياس الذي ينبغي أن يحكم ويسود هو المقياس الذي تتعادل في حسابه المصالح كلها ، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.
    فكيف يتم التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين ، لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملاً من عوامل الخير والسعادة للمجموع بعد أن كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنن في الأنانية وأشكالها ؟.
    إن التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة ، وتتخذ العملية اسلوبين :
    الاسلوب الاول : هو تركيز التفسير الواقعي للحياة وإشاعة فهمها في لونها الصحيح ، كمقدمة تمهيدية إلى حياة اخروية يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه ، في سبيل تحصيل رضا الله. فالمقياس الخلقي ـ أو رضا الله تعالى ـ : يضمن المصلحة الشخصية ، في نفس الوقت الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الإنسان الى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد والمحافظة على قضايا العدالة فيه ، التي تحقق رضا الله تعالى ، لأن ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي ، ما دام كل عمل ونشاط في هذا الميدان يعوض عنه باعظم العوض واجله.


(92)
    فمسألة المجتمع هي مسألة الفرد أيضاً ، في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها. ولا يمكن أن يحصل هذا الأسلوب من التوفيق في ظل فهم مادي للحياة ، فإن الفهم المادي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلا إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة ، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدمه الإسلام ، فانه يوسع من ميدان الإنسان ، ويفرض عليه نظرة أعمق الى مصالحه ومنافعه ويجعل من الخسارة العاجلة ربحاً حقيقياً في هذه النظرة العميقة ، ومن الارباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف :
    « من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ». « ومن عمل صالحاً من ذكر أو انثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ». « يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم ، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ». « ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ، ولا نصب ، ولا مخصمة في سبيل الله ولا يطؤن موطناً يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلا .. إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً .. إلا كتب لهم ليجزيهم أحسن ما كانوا يعملون ».
    هذه بعض الصور الرائعة التي يقدمها الدين مثالاً على الأسلوب


(93)
الأول ، الذي يتبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين فيربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة ، ويطور من مصلحة الفرد تطويراً يجعله يؤمن : بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للإنسانية ـ التي يحددها الإسلام ـ مترابطتان (1).
    وأما الاسلوب الثاني : الذي يتخذه الدين ، للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الإجتماعية : فهو التعهد بتربية أخلاقية خاصة ، تعني بتغذية الإنسان روحياً ، وتنمية العواطف الإنسانية والمشاعر الخلقية فيه. فان في طبيعة الإنسان ـ كما ألمعنا سابقاً ـ طاقات واستعدادات لميول متنوعة ، بعضها ميول مادية تتفتح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس ، وبعضها ميول معنوية تتفتح وتنمو بالتربية والتعاهد ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان ـ إذا ترك لنفسه ـ أن تسيطر عليه الميول المادية لأنها تتفتح بصورة طبيعية ، وتظل الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة. والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله. فهو يوكل أمر تربية الإنسانية وتنمية الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة ويصبح الإنسان يحب القيم الخلقية والمثل التي يربيه الدين على
1 ـ انظر اقتصادنا ص 307.

(94)
احترامها ويستبسل في سبيلها ويزيح عن طريقها ما يقف امامها من مصالحه ومنافعه وليس معنى ذلك أن حب الذات يمحى من الطبيعة الإنسانية بل أن العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حب الذات فان القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبراً عن لذة شخصية خاصة فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقاً للذة الخاصة بذلك.
    فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخلقية بالمسألة الفردية ، ويتلخص أحدهما في : اعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية لا لأجل أن يزهد الإنسان في هذه الحياة ، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقر على غير العدل .. بل لاجل ضبط الإنسان بالمقياس الخلقي الصحيح ، الذي يمده ذلك التفسير بالضمان الكافي.
    ويتلخص الآخر في : التربية الخلقية التي ينشأ عنها في نفس الإنسان مختلف المشاعر والعواطف ، التي تضمن إجراء المقياس الخلقي بوحي من الذات.
    فالفهم المعنوي للحياة والتربية الخلقية للنفس في رسالة الإسلام .. هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانية.
    ولنعبر دائماً عن فهم الحياة على أنها تمهيد لحياة أبدية : بالفهم المعنوي للحياة ولنعبر أيضاً عن المشاعر والاحاسيس ، التي


(95)
تغذيها التربية الخلقية : بالاحساس الخلقي بالحياة.
    فالفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها ، هما الركيزتان اللتان يقوم على اساسهما المقياس الخلقي الجديد ، الذي يضعه الإسلام للإنسانية وهو : رضا الله تعالى. ورضا الله ـ هذا الذي يقيمه الإسلام مقياساً عاماً في الحياة ـ هو الذي يقود السفينة البشرية الى ساحل الحق والخير والعدالة.
    فالميزة الاساسية للنظام الإسلامي تتمثل : فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها ، والخط العريض في هذا النظام هو : اعتبار الفرد والمجتمع معاً ، وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن. فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم ، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر اليه الدولة وتشرع لحسابه.
    وكل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والاحساس فهو إما نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية ، فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات واشد الأخطار. وإما نظام يحبس في الفرد نزعته ويشل فيه طبيعته لوقاية المجتمع ومصالحه. فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته والأفراد ونزعاتهم بل يتعرض الوجود الاجتماعي للنظام دائماً للانتكاس على يد منشئيه ما دام هؤلاء يحملون نزعات فردية أيضاً ، وما دامت هذه النزعات تجد لها ـ بكبت النزعات الفردية الاخرى وتسلم


(96)
القيادة الحاسمة ـ مجالاً واسعاً وميداناً لا نظير له للانطلاق والاستغلال.
    وكل فهم معنوي للحياة احساس خلقي بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة يحسب فيه لكل جزء من المجتمع حسابه وتعطى لكل فرد حريته التي هذبها ذلك الفهم والاحساس والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنهما .. أقول : أن كل عقيدة لا تلد للإنسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيفاً للجو وتخفيفاً من الويلات وليست علاجاً محدوداً وقضاء حاسماً على أمراض المجتمع ومساوئه. وانما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة واحساس خلقي بها ينبثق عنهما نظام يملأ الحياة بروح هذا الاحساس وجوهر ذلك الفهم.
    وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها : فهو عقيدة معنوية وخلقية ، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية ، يرسم لها شوطها الواضح المحدد ، ويضع لها هدفاً ، اعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه.
    واما ان يقضي على الفهم المعنوي للحياة ، ويجرد الإنسان عن احساسه الخلقي بها ، وتعتبر المفاهيم الخلقية أوهاماً خالصة خلقتها المصالح المادية ، والعامل الاقتصادي هو الخلاق لكل القيم والمعنويات وترجى بعد ذلك سعادة للإنسانية ، واستقرار اجتماعي لها ، فهذا الرجاء الذي لا يتحقق إلا اذا تبدل البشر


(97)
الى أجهزة ميكانيكية يقوم على تنظيمها عدة من المهندسين الفنيين.
    وليست اقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها عملاً شاقاً وعسيراً ، فان الاديان في تاريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار وليس لجميع ما يحفل به العالم اليوم من مفاهيم معنوية ، وأحاسيس خلقية ، ومشاعر وعواطف نبيلة .. تعليل أوضح واكثر منطقية من تعليل ركائزها واسسها بالجهود الجبارة التي قامت بها الاديان لتهذيب الإنسانية والدافع الطبيعي في الإنسان ، وما ينبغي له من حياة وعمل.
    وقد حمل الإسلام المشعل المتفجر بالنور ، بعد ان بلغ البشر درجة خاصة من الوعي ، فبشر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى ، ورفع على أساسها راية انسانية وأقام دولة فكرية ، أخذت بزمام العالم ربع قرن ، واستهدفت الى توحيد البشر كله ، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم اسلوب الحياة ونظامها. فالدولة الإسلامية لها وظيفتان : احداهما : تربية الإنسان على القاعدة الفكرية ، وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها. والاخرى : مراقبته من خارج وارجاعه الى القاعدة الفكرية اذا انحرف عنها عملياً.
    ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية


(98)
من الحياة الاجتماعية فحسب ، بل هو وعي سياسي عميق مرده الى نظرة كلية كاملة نحو : الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والاخلاق ، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل.
    وكل وعي سياسي آخر فهو اما ان يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر الى العالم إلا من زاوية معينة ، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصة .. أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة ، التي تمون البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه.


(99)

(100)


(101)
    الحرية في الرأسمالية والإسلام :
    عرفنا ـ فيما سبق ـ أن الحرية هي النقطة المركزية في التفكير الرأسمالي ، كما أن فكرة الضمان هي المحور الرئيس في النظام الاشتراكي والشيوعي.
    ولأجل ذلك سندرس ـ بصورة مقارنة ـ موقف الإسلام والرأسمالية من الحرية ، ونقارن بعد ذلك بين الضمان في الإسلام والضمان في المذهب الماركسي.
    ونحن حين نطلق كلمة ( الحرية ) ، نقصد بها معناها العام وهو : نفي سيطرة الغير ، فإن هذا المفهوم هو الذي نستطيع أن نجده في كل من الحضارتين ، وان اختلف إطاره وقاعدته الفكرية في كل منهما (1).
1 ـ ولاجل ذلك وردت كلمة « الحرية » بمفهومها العام في نصوص اسلامية أصيلة ، لا يمكن أن تتهم بالتأثر بمفاهيم الحضارة الغربية. فقد جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام : « لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً ». وورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام انه قال : « خمس خصال من لم يكن فيه شيء منها لم يكن فيه كثير مستمتع : أولها ـ الوفاء ـ والثانية ـ التدبير ، والثالثة ـ الحياء ، والرابعة ـ حسن الخلق ، والخامسة ـ وهي تجمع هذه الخصال ـ ( الحرية ) »

(102)
    ومنذ نبدأ بالمقارنة بين الحرية في الإسلام ، والحرية في الديمقراطية الرأسمالية .. تبدو لدينا بوضوح الفروق الجوهرية بين الحرية التي عاشها المجتمع الرأسمالي ونادت بها الرأسمالية وبين الحرية التي حمل لواءها الإسلام وكفلها للمجتمع الذي صنعه وقدم فيه تجربته على مسرح التاريخ. فكل من الحريتين تحمل طابع الحضارة التي تنتمي اليها ، وتلتقي مع مفاهيمها عن الكون والحياة ، وتعبر عن الحالة العقلية والنفسية التي خلقها تلك الحضارة في التاريخ.
    فالحرية في الحضارة الرأسمالية : بدأت شكاً مريراً طاغياً واستحال هذا الشك في امتداده الثوري الى إيمان مذهبي بالحرية وعلى العكس من ذلك الحرية في الحضارة الإسلامية : فانها تعبير عن يقين مركزي ثابت ( الإيمان بالله ) تستمد منه الحرية ثوريتها ، وبقدر ارتكاز هذا اليقين وعمق مدلوله في حياة الإنسان ، تتضاعف الطاقات الثورية في تلك الحرية.
    والحرية الرأسمالية ذات مدلول ايجابي ، فهي تعتبر : أن كل إنسان هو الذي يملك بحق نفسه ، ويستطيع أن يتصرف فيها كما يحلو له ، دون أن يخضع في ذلك لأي سلطة خارجية. ولأجل ذلك كانت جميع المؤسسات الإجتماعية ـ ذات النفوذ في حياة الإنسان ـ تستمد حقها المشروع في السيطرة على كل فرد من الأفراد أنفسهم. وأما الحرية في الإسلام فهي : تحتفظ


(103)
بالجانب الثوري من الحرية وتعمل لتحرير الإنسان من سيطرة الأصنام ، كل الأصنام التي رزحت الإنسانية في قيودها عبر التاريخ ، ولكنها تقيم عملية التحرير الكبرى هذه على أساس الإيمان بالعبودية المخلصة لله ، وحده. فعبودية الإنسان لله في الإسلام ـ بدلاً عن امتلاكه لنفسه في الرأسمالية ـ هي الأداة التي يحطم بها الإنسان كل سيطرة وكل عبودية اخرى لأن هذه العبودية في معناها الرفيع تشعره بأنه يقف وسائر القوى الأخرى التي يعايشها على صعيد واحد ، أمام رب واحد فليس من حق أي قوة في الكون أن تتصرف في مصيره ، وتتحكم في وجوده وحياته.
    والحرية في مفاهيم الحضارة الرأسمالية حق طبيعي للإنسان وللإنسان أن يتنازل عن حقه متى شاء ، وليست كذلك في مفهومها الإسلامي ، لأن الحرية في الإسلام ترتبط إرتباطاً أساسياً بالعبودية لله ، فلا يسمح الإسلام للإنسان أن يستذل ويستكين ويتنازل عن حريته « لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً ». فالإنسان مسؤول عن حريته في الإسلام وليست الحرية حالة من حالات انعدام المسؤولية.
    هذا هو الفرق بين الحريتين في ملامحهما العامة وسنبدأ الآن بشيء من التوضيح :


(104)
    نشأت الحرية في الحضارة الرأسمالية تحت ظلال الشك الجارف المرير ، الذي سيطر على تيارات التفكير الاوروبي كافة نتيجة للثورات الفكرية التي تعاقبت في فجر تاريخ أوروبا الحديثة ، وزلزلت دعائم العقلية الغربية كلها.
    فقد بدأت أصنام التفكير الأوروبي تتهاوى الواحد تلو الآخر بسبب الفتوحات الثورية في دنيا العلم ، التي طلعت على الإنسان الغربي بمفاهيم جديدة عن الكون والحياة ، ونظريات تناقض كل المناقضة بدهياته بالأمس ، التي كانت تشكل حجر الزاوية في كيانه الفكري وحياته العقلية والدينية.
    وأخذ الإنسان الغربي عبر تلك الثورات الفكرية المتعاقبة ينظر الى الكون بمنظار جديد ، والى التراث الفكري الذي خلفته له الإنسانية منذ فجر التاريخ نظرات شك وارتياب. لانه بدأ يحسن ان عالم ( كوبرنيكوس ) الذي برهن على ان الأرض ليست إلا أحد توابع الشمس ، يختلف كل الاختلاف عن العالم التقليدي الذي كان يحدثنا عنه ( بطليموس ) ، وان الطبيعة التي بدأت تكشف عن اسرارها لجاليليو وأمثاله من العلماء ، شيء جديد بالنسبة الى الصورة التي ورثها عن القديسين والمفكرين


(105)
السابقين أمثال القديس توماس الاكويني ودانتي وغيرهما. وهكذا ألقى فجأة وبيد مرعوبة كل بدهياته بالأمس ، وأخذ يحاول الخلاص من الاطار الذي عاش فيه آلاف السنين.
    ولم يقف الشك في موجه الثوري الصاعد عند حد ، بل اكتسح في ثورته كل القيم والمفاهيم التي تواضعت عليها الإنسانية وكانت تعتمد عليها في ضبط السلوك وتنظيم الصلات. فما دام الكون الجديد يناقض المفهوم القديم عن العالم ، وما دام الإنسان ينظر الى واقعه ومحيطه من زاوية العلم لا الأساطير .. فلا بد ان يعاد النظر من جديد في المفهوم الديني ، الذي يحدد صلة الإنسان والكون بما وراء الغيب ، وبالتالي في كل الأهداف والمثل التي عاشها الإنسان ، قبل أن تتبلور نظرته الجديدة الى نفسه وكونه.
    وعلى هذا الأساس واجه دين الإنسان الغربي محنة الشك الحديث ، وهو لا يرتكز إلا على رصيد عاطفي ، بدأ ينضب بسبب من طغيان الكنيسة وجبروتها. فكان من الطبيعي ايضاً أن تذوب في أعقاب هذه الهزيمة كل القواعد الخلقية ، والقيم والمثل التي كانت تحدد من سلوك الإنسان ، وتخفف من غلوائه. لأن الأخلاق مرتبطة بالدين في حياة الإنسانية كلها ، فإذا فقدت رصيدها الديني الذي يمدها بالقيمة الحقيقية ، ويربطها بعالم الغيب وعالم الجزاء أصبحت خواء وضريبة لا مبرر لها.
السابق المدرسة الاسلامية ::: فهرس التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله