مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

كتاب فدك في التاريخ


معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم تدع منه ما هو أولى به من صدق عليه فرأى أمير المؤمنين ان يردها الى ورثتها ويسلمها اليهم تقرباً الى الله تعالى ، باقامة حقه وعدله والى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتنفيذ أمره وصدقته فأمر باثبات ذلك في دواوينه والكتاب الى عماله فلئن كان ينادي في كل موسم بعد ان قبض نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ان يذكر كل من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك فيقبل قوله وتنفذ عدته ان فاطمة رضي الله عنها لاُولى بأن يصدق قولها فيما جعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لها وقد كتب أمير المؤمنين الى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره برد فدك على ورثة فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة اليها وما فيها من الرقيق والغلات وغير ذلك وتسليمها الى محمّد ابن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومحمّد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب لتولية أمير المؤمنين اياههما القيام بها لاُهلها. فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وما ألهمه الله من طاعته ووفقه له من التقرب اليه والى رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأعلمه من قبلك وعامل محمّد بن يحيى ومحمّد بن عبدالله بما كنت تعامل به المبارك الطبري واعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاتها ان شاء الله والسلام.
ولما بويع المتوكل على الله انتزعها من الفاطميين واقطعها عبدالله ابن عمر البازيار وكان فيها احدى عشرة نخلة غرسها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيده الكريمة فوجه عبدالله بن عمر البازيار رجلاً يقال له : بشران بن أبي أمية الثقفي الى المدينة فصرم تلك النخيل ثم عاد ففلج.
وينتهي آخر عهد الفاطميين بفدك بخلافة المتوكل ومنحه اياها عبدالله بن عمر البازيار.


( 26 )

هذه المامة مختصرة بتاريخ فدك المضطرب الذي لا يستقيم على خط ولا يجمع على قاعدة ، وانما حاكت اكثره الاُهواء ، وصاغته الشهوات على ما اقتضته المطامع والسياسات الوقتية ، وعلى هذا فلم يخل هذا التاريخ من اعتدال واستقامة في أحايين مختلفة ، وظروف متباعدة حيث توكل فدك الى أهلها واصحابها الاولين ويلاحظ ان مشكلة فدك كانت قد حازت أهمية كبرى بنظر المجتمع الاسلامي وأسياده ، ولذا ترى حلها يختلف باختلاف سياسة الدولة ، ويرتبط باتجاه الخليفة العام نحو اهل البيت مباشرة فهو اذا استقام اتجاهه ، واعتدل رأيه ، رد فدكاً على الفاطميين ، واذا لم يكن كذلك وقع انتزاع فدك في أول القائمة من أعمال ذلك الخليفة.
ويدلنا على مدى ما بلغته فدك من القيمة المعنوية في النظر الاسلامي قصيدة دعبل الخزاعي التي انشأها حينما رد المأمون فدكاً ومطلعها : ـ

أصبح وجه الزمان قد ضحكا * بـرد مـأمـون هـاشم فـدكا

وقد بقيت كلمة بسيطة وهي ان فدكاً لم تكن أرضاً صغيرة أو مزرعا متواضعاً كما يظن البعض ، بل الامر الذي أطمئن اليه أنها كانت تدر على صاحبها أموالا طائلة تشكل ثروة مهمة وليس علي بعد هذا أن أحدد الحاصل السنوي منها وان ورد في بعض طرقنا الارتفاع به الى أعداد عالية جداً.
ويدل على مقدار القيمة المادية لفدك أمور ـ :
( الاُوّل ) : ما سيأتي من أن عمر منع أبا بكر من ترك فدك للزهراء لضعف المالية العامة مع احتياجها الى التقوية لما يتهدد الموقف من حروب الردة وثورات العصاة.


( 27 )

ومن الجلي أن أرضاً يستعان بحاصلاتها على تعديل ميزانية الدولة ، وتقوية مالياتها في ظروف حرجة كظرف الثورات والحروب الداخلية لابد أنها ذات نتاج عظيم.
( الثاني ) : قول الخليفة لفاطمة في محاورة له معها حول فدك : ان هذا المال لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانما كان مالاً من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال وينفقه في سبيل الله فان تحميل الرجال لا يكون الا بمال مهم تتقوم به نفقات الجيش.
( الثالث ) : ما سبق من تقسيم معاوية فدكاً أثلاثاً ، واعطائه لكل من يزيد ومروان وعمرو بن عثمان ثلثاً ، فان هذا يدل بوضوح على مدى الثروة المجتناة من تلك الاُرض ، فانها بلا شك ثروة عظيمة تصلح لأن توزع على امراء ثلاثة من أصحاب الثراء العريض والاموال الطائلة.
( الرابع ) : التعبير عنها بقرية كما في معجم البلدان ، وتقدير بعض نخيلها بنخيل الكوفة في القرن السادس الهجري كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.


( 28 )


( 29 )

ـ 3 ـ
تاريخ الثورة

قد كـان بعــدك أنباء وهــنبثة * لـو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
أبدت رجال لنا نجـوى صـدورهم * لما مضيت وحالت دونك التـرب

* * *

صبت علـي مصائــب لو أنها * صــبت على الاُيام صرن لياليا
قـد كنت أرتع تحت ظل مـحمد * لا أخشى ضيما وكـان جــماليا
واليوم أخضع للــذلـيل واتقي * ضيــمي وأدفع ظالـمي بردائيا
(الزهراء)



( 30 )

اذا كان التجرد عن المرتكزات والأناة في الحكم والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة ، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ، ومهما يكن موضوعها ، فهي أهم الشروط الاساسية لاقامة بناء تاريخي محكم لقضايا اسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكاً للتأريخ ، ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم ، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامة أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث وتكون مدار لبحثه كالحياة الدينية والاخلاقية والسياسية الى غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الانساني على شرط ان تستمد هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات ، وينشئه التعبد والتقليد لا من خيال مجنح يرتفع بالتوافه والسفاسف الى الذروة ، ويبني عليها ما شاء من تحقيق ونتائج. لا من قيود لم يستطع الكاتب ان يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له أساليب البحث العلمي النزيه.
واما اذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الامر خيراً كان أو شراً ولا لنحبس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث


( 31 )

ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة ، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمد من وحيها الاخاذ تاريخ اجيالنا السابقة ، فليس ذلك تاريخاً لاُولئك الاشخاص الذين عاشوا على وجه الاُرض يوماً ما وكانوا بشراً من البشر تتنازعهم ضروب شتى من الشعور والاحساس ، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشر ، بل هو ترجمة لاُشخاص عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا الى الآفاق العالية من الخيال.
فاذا كنت تريد ان تكون حراً في تفكيرك ، ومؤرخا لدنيا الناس لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب ، فضع عواطفك جانباً أو اذا شئت فاملاُ بها شعاب نفسك فهي ملكك لا ينازعك فيها أحد ، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث فانه لم يعد ملكك بعد ان اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك ان تكون اميناً ليأتي البحث مستوفياً لشروطه قائماً على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج.
كثيرة جداً هذه الأسباب التي تحول بين نقاد التاريخ وبين حريتهم فيما ينقدون وقد اعتاد المؤرخون أو أكثر المؤرخين بتعبير أصح ان يقتصروا على ضروب معينة من هندسة الحياة التي يؤرخونها وأن يصوغوا التاريخ صياغة قد يظهر فيها الجمال الفني احياناً حينما يتوسع الباحث في انطباعاته عن الموضوع ، ولكنها صورة باهتة في أكثر الاحايين ليس فيها ما في دنيا الناس التي تصورهم من معاني الحياة وشؤونها المتدفقة بألوان من النشاط والحركة والعمل وسوف تجد فيما يأتي امثلة بمقدار ما يتسع له موضوعنا من الزمن الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول أعني الظرف الذي تلا وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقررت فيه المسألة الاساسية في تاريخ الاسلام على شكل لا يتغير ، وهي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولى أمور المسلمين . .


( 32 )

كلنا نود ان يكون التاريخ الاسلامي في عصره الاول الزاهر طاهراً كل الطهر ، بريئا مما يخالط الحياة الانسانية من مضاعفات الشر ومزالق الهوى ، فقد كان عصراً مشعاً بالمثاليات الرفيعة ، اذ قام على انشائه أكبر المنشئين للعصور الانسانية في تاريخ هذا الكوكب على الاطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الالهية الى حيث لم ترتق اليه الفكرة الالهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الالهي العظيم. بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه الا نحو المبدع الاعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود ، واليه تسير كما كان استاذهم الاكبر الذي فنى الوجود المنبسط كله بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماوية عليه. فلم يكن يرى شيئاً ولا يسمع صوتاً سوى الصوت الالهي المنبعث من كل صوب وحدب ، وفي كل جهة من جهات الوجود ، وناحية من نواحي الكون يعلن تقليده الشارة الكبرى.
ان عصراً تلغى فيه قيمة الفوارق المادية على الاطلاق ، ويستوي فيه الحاكم والمحكوم في نظر القانون ، ومجالات تنفيذه ، ويجعل مدار القيمة المعنوية ، والكرامة المحترمة فيه تقوى الله التي هي تطهير روحي ، وصيانة للضمير ، وارتفاع بالنفس الى آفاق من المثالية الرفيعة ، ويحرم في عرفه احترام الغني لأنه غني ، واهانة الفقير لأنه فقير ، ولا يفرق فيه بين الاشخاص الا بمقدار الطاقة الانتاجية ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ويتسارع فيه الى الجهاد لصالح النوع الانساني الذي معناه الغاء مذهب السعادة الشخصية في هذه الدنيا ، واخراجها عن حساب الاعمال.
(أقول) : ان العصر الذي تجتمع له كل هذه المفاخر لهو خليق بالتقديس والتبجيل والاعجاب والتقدير ، ولكن ماذا أراني دفعت الى


( 33 )

التوسع في أمر لم أكن أريد ان أطيل فيه ؟ وليس لي ان افرط في جنب الموضوع الذي احاوله بالتوسع في امر آخر ، ولكنها الحماسة لذلك العصر هي التي دفعتني الى ذلك ، فهو بلا ريب زين العصور في الروحانية والاستقامة أنا أفهم هذا جيداً ، واوافق عليه متحمساً ، ولكني لا أفهم ان يمنع عن التعمق في الدرس العلمي ، أو التمحيص التاريخي لموضوع كموضوعات الساعة التي نتكلم عنها من مراحل ذلك الزمن ، أو يحضر علينا ان نبدأ البحث في مسألة فدك على اساس ان أحد الخصمين كان مخطئاً في موقفه بحسب موازين الشريعة ومقاييسها ، أو ان نلاحظ أن قصة الخلافة وفكرة السقيفة لم تكن مرتجلة ولا وليدة يومها اذ دلنا على ذلك سير الحوادث حينذاك ، وطبيعة الظروف المحيطة بها.
واكبر الظن ان كثيراً منا ذهب في تعليل مناقب ذلك العصر ومآثره مذهبا جعله يعتقد ان رجالات الزمن الخالي ، وبتعبير اوضح تحديداً ان أبا بكر وعمر واضرابهما الذين هم من موجهي الحياة العامة يومئذ لا يمكن ان يتعرضوا لنقد أو محاكمة ، لأنهم بناة ذلك العصر والواضعون لحياته خطوطها الذهبية ، فتاريخهم تاريخ ذلك العصر ، وتجريدهم عن شيء من مناقبهم تجريد لذلك العصر عن مثاليته التي يعتقدها فيه كل مسلم.
واريد ان اترك لي كلمة مختصرة في هذا الموضوع فيها مادة لبحث طويل ، ولمحة من دراسة مهمة قد اعرض لها في فرصة اخرى من فرص التأليف ، واكتفي الآن ان اتساءل عن نصيب هذا الرأي من الواقع .
صحيح ان الاسلام في أيام الخليفتين كان مهيمنا ، والفتوحات متصلة والحياة متدفقة بمعاني الخير ، وجميع نواحيها مزدهرة بالانبعاث الروحي الشامل ، واللون القرآني المشع ، ولكن هل يمكن ان نقبل ان التفسير الوحيد لهذا وجود الصديق او الفاروق على كرسي الحكم ؟ .


( 34 )

والجواب المفصل عن هذا السؤال نخرج ببيانه عن حدود الموضوع ولكنا نعلم ان المسلمين في أيام الخليفتين كانوا في اوج تحمسهم لدينهم ، والاستبسال في سبيل عقيدتهم ، حتى أن التاريخ سجل لنا ان شخصاً أجاب عمر حينما صعد يوماً على المنبر وسأل الناس : لو صرفناكم عما تعرفون الى ما تنكرون ما كنتم صانعين ؟ ـ اذن كنا نستتيبك فان تبت قبلناك فقال عمر : وان لم ؟ ـ قال : نضرب عنقك الذي فيه عيناك. فقال عمر : الحمد لله الذي جعل في هذه الامة من اذا اعوججنا اقام اودنا.
ونعلم ايضاً ان رجالات الحزب المعارض ـ واعني به أصحاب علي ـ كانوا بالمرصاد للخلافة الحاكمة ، وكان أي زلل وانحراف مشوه للون الحكم حينذاك كفيلاً بأن يقلبوا الدنيا رأساً على عقب ، كما قلبوها على عثمان يوم اشترى قصراً ، ويوم ولى أقاربه . ويوم عدل عن السيرة النبوية المثلى ، مع أن الناس في أيام عثمان كانوا أقرب الى الميوعة في الدين واللين والدعة منهم في أيام صاحبيه. ونفهم من هذا ان الحاكمين كانوا في ظرف دقيق لا يتسع للتغيير والتبديل في أسس السياسة ونقاطها الحساسة لو ارادوا الى ذلك سبيلا ، لانهم تحت مراقبة النظر الاسلامي العام الذي كان مخلصاً كل الاخلاص لمبادئه ، وجاعلاً لنفسه حق الاشراف على الحكم والحاكمين ، ولأنهم يتعرضون لو فعلوا شيئاً من ذلك لمعارضة خطرة من الحزب الذي لم يكن يزال يؤمن بان الحكم الاسلامي لابد ان يكون مطبوعاً بطابع محمدي خالص وان الشخص الوحيد الذي يستطيع ان يطبعه بهذا الطابع المقدس هو علي وارث رسول الله ووصيه وولي المؤمنين من بعده .
وأما الفتوحات الاسلامية فكان لها الصدارة في حوادث تلك الاُيام ولكننا جميعاً نعلم أيضاً ان ذلك لا يسجل للحكومة القائمة في ايام


( 35 )

الخليفتين بلونها المعروف مجداً في حساب التاريخ ما دام كل شان من شؤون الحرب ومعداته وأساليبه يتهيأ بعمل اشبه ما يكون بالعمل الاجماعي من الامة الذي تعبر به عن شخصيتها الكاملة تعبيراً عملياً خالداً ، ولا يعبر عن شخصية الحاكم الذي لم يصل اليه من لهيب الحرب شرر ، ولم يستقل فيه برأي ، ولم يتهيأ له الا بأمر ليس له فيه ادنى نصيب ، فان خليفة الوقت سواء أكان وقت فتح الشام أو العراق ومصر لم يعلم بكلمة الحرب عن قوة حكومته ومقدرة شخصه على أن يأخذ لهذه الكلمة أهبتها بل أعلن عن قوة الكلمة النبوية التي كانت وعدا قاطعاً بفتح بلاد كسرى وقيصر اهتزت له قلوب المسلمين حماسة واملاً بل ايماناً ويقيناً ، ويحدثنا التاريخ ان كثيراً ممن اعتزل الحياة العملية بعد رسول الله لم يخرج عن عزلته الى مجالات العمل الا حين ذكر هذا الحديث النبوي ، فقد كان هو والايمان المتركز في القلوب القوة التي هيأت للحرب كل ظروفه وكل رجاله وامكانياته ، وأمر آخر هيأ للمسلمين أسباب الفوز ، وأنالهم النصر في معارك الجهاد لا يتصل بحكومة الشورى عن قرب أو بعد ، وهو الصيت الحسن الذي نشره رسول الله للإسلام في آفاق الدنيا ، واطراف المعمورة ، فلم يكن يتوجه المسلمون الى فتح بلد من البلاد الا كان امامهم جيش آخر من الدعايات والترويجات لدعوتهم ومبادئهم.
وفي أمر الفتوحات شيء آخر هو الوحيد الذي كان من وظيفة الحاكمين وحدهم القيام به دون سائر المسلمين الذين هيئوا بقية الامور وهو ما يتلو الفتح من بث الروح الاسلامية ، وتركيز مثاليات القرآن في البلاد المفتوحة ، وتعميق الشعور الوجداني والديني في الناس الذي هو معنى وراء الشهادتين ، ولا أدري هل يمكننا أن نسجل للخليفتين شيئاً من البراعة في هذه الناحية او نشك في ذلك كل الشك كما صار اليه بعض الباحثين وكما يدل عليه تاريخ البلاد المفتوحة في الحياة الاسلامية


( 36 )

كانت الظروف كلها تشارك الخليفتين في تكوين الحياة العسكرية المنتجة التي قامت على عهدهما ، وفي بناء الحياة السياسية الخاصة التي اتخذاها.
ولا أدري ماذا كان موقفهما لو قدر لهما ولعلي ان يتبادلوا ظروفهم فيقف الصديق والفاروق موقف الامام ويسود في تلك الظروف التي كانت كلها تشجع على بناء سياسة ، ومنهج لحكم جديد ، وانشاء حياة لها من ألوان الترف ، وضروب النعيم حظ عظيم ، فهل كانا يعاكسان تلك الظروف كما عاكسها أمير المؤمنين ؟ . . فضرب بنفسه مثلاً في الاخلاص للمبدأ والنزاهة في الحكم.
وأنا لا أقصد بهذا أن أقول ان الخليفتين كانا مضطرين اضطراراً الى سيرة رشيدة في الحكم ، واعتدال في السياسة والحياة ، ومرغمين على ذلك ، وانما اعني ان الظروف المحيطة بهما كانت تفرض عليهما ذلك سواء أكانا راغبين فيه أو مكرهين عليه.
كما أني لا اريد ان اجردهما عن كل اثر في التاريخ ، وكيف يسعني شيء من ذلك وهما اللذان كتبا يوم السقيفة سطور التاريخ الاسلامي كله ، وانما عنيت انهما كانا ضعيفي الاثر في بناء تاريخ ايامهما خاصة وما ازدهرت به من حياة مكافحة وحياة فاضلة.
اكتب هذا كله وبين يدي كتاب ( فاطمة والفاطميون ) للاستاذ عباس محمود العقاد ، وقد جئته بشوق بالغ لاُرى ما يكتب في موضوع الخصومة بين الخليفة والزهراء ، وأنا على يقين من ان أيام التعبد بأعمال السالفين وتصويبها على كل تقدير قد انتهت وان الزمان الذي يتحاشى فيه عن التعمق في شيء من مسائل الفكر الانساني دينا كانت أو مذهبا


( 37 )

أو تاريخاً أو أي شيء آخر قد مضى مع ما مضى من تاريخ الاسلام بعد أن طال قروناً ، ولعل الخليفة الاُول كان هو اول من اعلن ذلك المذهب عندما صرخ في وجه من سأله عن مسألة الحرية الانسانية والقدر وهدده وتوعده ولكن أليس قد أراحنا الله تعالى من هذا المذهب الذي يسيىء الى روح الاسلام واذن فكان لي ان اتوقع بحثاً لذيذاً يتحفنا به الاستاذ في موضوع الخصومة من شتى نواحيها ولكن الواقع كان على عكس ذلك فاذا بكلمة الكتاب حول الموضوع قصيرة وقصيرة جداً والى حد استبيح لنفسي أن أنقلها واعرضها عليك دون ان اطيل عليك فقد قال :
(والحديث في مسألة فدك هو كذلك من الاحاديث التي لا تنتهي الى مقطع للقول متفق عليه غير ان الصدق فيه لا مراء ان الزهراء أجل من أن تطلب ما ليس لها بحق وان الصديق اجل من ان يسلبها حقها الذي تقوم به البينة عليه ، ومن اسخف ما قيل انه انما منعها فدك مخافة ان ينفق علي من غلتها على الدعوة اليه فقد ولي الخلافة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولم يسمع ان أحداً بايعهم لمال أخذه منهم ولم يرد ذكر شيء من هذا في اشاعة ولا في خبر يقين وما نعلم تزكية لذمة الحكم من عهد الخليفة الاول اوضح بينة من حكمه في مسألة فدك فقد كان يكسب برضى فاطمة ويرضى الصحابة برضاها وما أخذ من فدك شيئاً لنفسه فيما ادعاه عليه مدع وانما هو الحرج في ذمة الحكم بلغ اقصاه بهذه القضية بين هؤلاء الخصوم الصادقين المصدقين رضوان الله عليهم اجمعين انتهى).
ونلاحظ قبل كل شيء أن الاستاذ شاء أن يعتبر البحث في مسألة فدك لوناً من ألوان النزاع التي ليس لها قرار ولا يصل الحديث فيه الى نتيجة فاصلة ليقدم بذلك عذره عن التوفر على دراستها ، واعتقد ان في محاكمات هذا الكتاب التي سترد عليك جواباً عن هذا ، وتلاحظ أيضاً .


( 38 )

أنه بعد أن جعل مسألة فدك من الاحاديث التي لا تنتهي الى مقطع للقول متفق عليه رأى ان فيها حقيقتين لا مراء فيهما ولا جدال (أحداهما) ان الصديقة أرفع من ان تنالها تهمة بكذب والاخرى ان الصديق أجل من ان يسلبها حقها الذي تثبته البينة. فاذا لم يكن في صحة موقف الخليفة واتفاقه مع القانون جدال ففيم الجدال الذي لا قرار له ولم لا تنتهي مسألة فدك الى مقطع للقول متفق عليه.
وانا افهم ان للكاتب الحرية في ان يسجل رأيه في الموضوع أي موضوع كما يشاء وكما يشاء له تفكيره بعد أن يرسم للقارىء مدارك ذلك الرأي وبعد أن يدخل تقديرات المسألة كلها في الحساب ليخرج منها بتقدير معين ولكني لا أفهم ان يقول ان المسألة موضوع لبحث الباحثين ثم لا يأتي الا برأي مجرد عن المدارك يحتاج الى كثير من الشرح والتوضيح والى كثير من البحث والنظر فاذا كانت الزهراء أرفع من كل تهمة فما حاجتها الى البينة ؟ وهل تمنع التشريعات القضائية في الاسلام عن ان يحكم العالم استناداً الى علمه ؟ واذا كانت تمنع عن ذلك فهل معنى هذا ان يجوز في عرف الدين سلب الشيء من المالك ؟ هذه أسئلة ومعها أسئلة اخرى أيضاً في المسألة تتطلب جواباً علمياً ، وبحثاً على ضوء أساليب الاستنباط في الاسلام.
واريد ان اكون حراً واذن فاني استميح الاستاذ ان الاحظ ان تزكية موقف الخليفة والصديقة معاً أمر غير ممكن ، لأن الامر في منازعتهما لو كان مقتصراً على مطالبة الزهراء بفدك وامتناع الخليفة عن تسليمها له لعدم وجود مستمسك شرعي يحكم بواسطته لها بما تدعيه وانتهاء المطالبة الى هذا الحد لوسعنا ان نقول ان الزهراء طلبت حقها في نفس الامر والواقع ، وان الخليفة لما امتنع عن تسليمه لها لعدم تهيؤ


( 39 )

المدرك الشرعي الذي تثبت به الدعوى تركت مطالبتها ، لأنها عرفت انها لا تستحق فدكا بحسب النظام القضائي وسنن الشرع ، ولكننا نعلم ان الخصومة بينهما اخذت اشكالاً مختلفة حتى بلغت مبلغ الاتهام الصريح من الزهراء واقسمت على المقاطعة.
واذن فنحن بين اثنتين : احداهما ان نعترف بأن الزهراء قد ادعت باصرار ما ليس لها بحق في عرف القضاء الاسلامي والنظام الشرعي وان كان ملكها في واقع الامر ، والاخرى ان نلقي التبعة على الخليفة ونقول انه قد منعها حقها الذي كان يجب عليه ان يعطيها اياه أو يحكم لها بذلك على فرق علمي بين التعبيرين يتضح في بعض الفصول الآتية ، فتنزيه الزهراء عن ان تطلب طلباً لا ترضى به حدود الشرع والارتفاع بالخليفة عن أن يمنعها حقها الذي تسخو به عليها تلك الحدود لا يجتمعان الا اذا توافق النقيضان.
ولنترك هذا الى مناقشة اخرى ، فقد اعتبر الاستاذ حكم الخليفة في مسألة فدك أوضح بينة ودليل على تزكيته وثباته على الحق وعدم تعديه عن حدود الشريعة لانه لو اعطى فدكا لفاطمة لارضاها بذلك وارضى الصحابة برضاها ، ولنفترض معه ان حدود القانون الاسلامي هي التي كانت تفرض عليه أن يحكم بأن فدكا صدقة ولكن ماذا كان يمنعه عن أن ينزل للزهراء عن نصيبه ونصيب سائر الصحابة الذين صرح الاستاذ بأنهم يرضون بذلك ؟ .. أكان هذا محرماً في عرف الدين أيضاً ؟ أو أن أمراً ما اوحى اليه بأن لا يفعل ذلك ؟ بل ماذا كان يمنعه عن تسليم فدك للزهراء بعد أن اعطته وعداً قاطعاً بأن تصرف حاصلاتها في وجوه الخير والمصالح العامة ؟
وأما ما استسخفه الكاتب من تعليل لحكم الخليفة فسوف نعرف في هذا الفصل ما اذا كان سخيفاً حقاً.


( 40 )

اذا عرفنا ان مرتكزات الناس ليست وحياً من السماء لا تقبل شكاً ولا جدالاً ، وأن درس مسائل السالفين ليس كفراً ولا زندقة ولا تشكيكاً في أعلام النبوة كما كانوا يقولون ، فلنا ان نتساءل عما بعث الصديقة الى البدء بمنازعتها حول فدك على ذلك الوجه العنيف الذي لم يعرف او لم يشأ ان يعرف هيبة للسلطة المهيمنة أو جلالاً للقوة المتصرفة يعصم الحاكمين من لهيبها المتصاعد ، وشررها المتطاير ، وبقي الحكم من اشعاعة نور متألقة تلقي ضوءاً عليه ، فتظهر للتاريخ حقيقته مجردة عن كل ستار بل كانت بداية المنازعة ومراحلها نذير ثورة مكتسحة أو ثورة بالفعل عندما اكتملت في شكلها الاخير ، ويومها الاخير ، تحمل كل ما لهذا المفهوم من مقدمات ونتائج ، ولا تتعرض لضعف او تردد.
وما عساه ان يكون هدف السلطة الحاكمة ، أو بالاحرى هدف الخليفة ( رضي الله عنه ) نفسه في ان يقف مع الحوراء على طرفي الخط أو لم يكن يخطر بباله ان خطته هذه تفتح له باباً في التاريخ في تعداد أولياته ثم يذكر بينها خصومة أهل البيت ، فهل كان راضياً بأوليته هذه مخلصاً لها حتى يستبسل في امتناعه وموقفه السلبي بل الايجابي المعاكس أو انه كان منقاداً للقانون ، وملتزماً بحرفيته في موقفه هذا كما يقولون ، فلم يشأ ان يتعد حدود الله تبارك وتعالى في كثير أو قليل وان لموقفه الغريب تجاه الزهراء صلة بموقفه في السقيفة ، واعني بهذه الصلة الاتحاد في الغرض او اجتماع الغرضين على نقطة واحدة ، وبالاحرى ان تقوم على دائرة واحدة متسعة اتساع دولة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيها آمال بواسم ، وموجات من الاحلام ضحك لها الخليفة كثيراً وسعى في سبيلها كثيراً أيضاً.
اننا ندرك بوضوح ، ونحن نلاحظ الظرف التاريخي الذي حف بالحركة الفاطمية ان البيت الهاشمي المفجوع بعميده الاكبر قد توفرت له


( 41 )

كل بواعث الثورة على الاوضاع القائمة والانبعاث نحو تغييرها وانشائها انشاءاً جديداً وان الزهراء قد اجتمعت لها كل امكانيات الثورة ومؤهلات المعارضة التي قرر المعارضون ان تكون منازعة سليمة مهما كلف الاُمر.
واننا نحسن أيضاً اذا درسنا الواقع التاريخي لمشكلة فدك ومنازعاتها بأنها مطبوعة بطابع تلك الثورة ، ونتبين بجلاء ان هذه المنازعات كانت في واقعها ودوافعها ثورة على السياسة العليا والوانها التي بدت للزهراء بعيدة عما تألفه من ضروب الحكم ، ولم تكن حقاً منازعة في شيء من من شؤون السياسة المالية ، والمناهج الاقتصادية التي سارت عليها خلافة الشورى وان بدت على هذا الشكل في بعض الاحايين.
واذا اردنا ان نمسك بخيوط الثورة الفاطمية من اصولها أو ما يصح ان يعتبر من أصولها فعلينا ان ننظر نظرة شاملة عميقة لنتبين حادثتين متقاربتين في تاريخ الاسلام كان احدهما صدى للاخر وانعكاساً طبيعياً له وكانا معاً يمتدان بجذورهما وخيوطهما الاولى الى حيث قد يلتقي احدهما بالآخر أو بتعبير أصح الى النقطة المستعدة في طبيعتها الى ان تمتد منها خيوط الحادثتين.
أحدهما الثورة الفاطمية على الخليفة الاول التي كادت ان تزعزع كيانه السياسي ، وترمي بخلافته بين مهملات التاريخ.
والآخر موقف ينعكس فيه الاُمر فتقف عائشة أم المؤمنين بنت الخليفة الموتور في وجه علي زوج الصديقة الثائرة على أبيها.
وقد شاء القدر لكلتا الثائرتين ان تفشلا مع فارق بينهما مرده الى نصيب كل منهما من الرضا بثورتها ، والاطمئنان الضميري الى صوابها وحظ كل منها من الانتصار في حساب الحق الذي لا التواى فيه وهو ان


( 42 )

الزهراء فشلت بعد ان جعلت الخليفة يبكي ويقول اقيلوني بيعتي والسيدة عائشة فشلت فصارت تتمنى انها لم تخرج الى حرب ولم تشق عصا طاعة.
هاتان الثورتان متقاربتان في الموضوع والاشخاص فلماذا لا تنتهيان الى اسباب متقاربة وبواعث متشابهة.
ونحن نعلم جيداً ان سر الانقلاب الذي طرأ على السيدة عائشة حين اخبارها بأن علياً ولي الخلافة يرجع الى الايام الاولى في حياة علي وعائشة حينما كان المنافسة على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين زوجته وبضعته.
ومن شأن هذه المنافسة ان تتسع في آثارها فتثبت مشاعراً مختلفة من الغيظ والتنافر بين الشخصين المتنافسين وتلف بخيوطها من حولهما من الانصار والاصدقاء ، وقد اتسعت بالفعل في احد الطرفين فكان ما كان بين السيدة عائشة وعلي فلا بد ان تتسع في الطرف الآخر فتعم من كانت تعمل ام المؤمنين على حسابه في بيت النبي .
نعم ان انقلاب ام المؤمنين انما هو من وحي ذكريات تلك الاُيام التي نصح فيها علي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأن يطلقها في قصة الافك المعروفة.
وهذا النصح ان دل على شيء فانه يدل على انزعاجه منها ومن منافستها لقرينته وعلى ان الصراع بين زوج الرسول وبضعته كان قد اتسع في معناه وشمل علياً وغير علي ممن كان يهتم بنتائج تلك المنافسة واطوارها.
نعرف من هذا ان الظروف كانت توحي الى الخليفة الاول بشعور خاص نحو الزهراء وزوج الزهراء ولا ننسى انه هو الذي تقدم لخطبتها فرده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم تقدم علي الى ذلك فأجابه
( 43 )

النبي الى ما أراد وذاك الرد وهذا القبول يولدان في الخليفة اذا كان شخصاً طبيعياً يشعر بما يشعر به الناس ويحس كما يحسون شعوراً بالخيبة والغبطة لعلي ـ اذا احتطنا في التعبير ـ وبأن فاطمة كانت هي السبب في تلك المنافسة بينه وبين علي التي انتهت بفوز منافسه.
ولنلاحظ أيضاً ان أبا بكر هو الشخص الذي بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليقرأ سورة التوبة على الكافرين ثم ارسل وراءه وقد بلغ منتصف الطريق ليستدعيه ويعفيه من مهمته لا لشيء الا لأن الوحي شاء ان يضع امامه مرة اخرى منافسه في الزهراء الذي فاز بها دونه.
ولابد انه كان يراقب ابنته في مسابقتها مع الزهراء على الاولية لدى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويتأثر بعواطفها كما هو شأن الآباء مع الابناء.
وما يدرينا لعله اعتقد في وقت من الاوقات ان فاطمة هي التي دفعت بأبيها الى الخروج لصلاة الجماعة في المسجد يوم مهدت له ام المؤمنين التي كانت تعمل على حسابه في بيت النبي أن يؤم الناس ما دام النبي مريضاً.
ان التاريخ لا يمكننا ان نترقب منه شرح كل شيء شرحاً واضحاً جلياً غير ان الامر الذي تجمع عليه الدلائل ان من المعقول جداً ان يقف شخص مرت به ظروف كالظروف الخاصة التي أحاطت بالخليفة من علي وفاطمة موقفه التاريخي المعروف وان امرأة تعاصر ما عاصرته الزهراء في أيام أبيها من منافسات حتى في شباك يصل بينها وبين أبيها حري بها ان لا تسكت اذا اراد المنافسون ان يستولوا على حقها الشرعي الذي لا ريب فيه.


( 44 )

هذه هي الثورة الفاطمية في لونها العاطفي وهو لون من عدة الوان أوضحها وأجلاها اللون السياسي الغالب على أساليبها وأطوارها.
وأنا حين أقول ذلك لا أعني بالسياسة مفهومها الرائج في أذهان الناس هذا اليوم المركز على الالتواء والافتراء. وانما أقصد بها مفهومها الحقيقي الذي لا التواء فيه فالممعن في دراسة خطوات النزاع وتطوراته والاشكال التي اتخذها لا يفهم منه ما يفهم من قضية مطالبة بأرض بل يتجلى له منها مفهوم أوسع من ذلك ينطوي على غرض طموح يبعث الى الثورة ويهدف الى استرداد عرش مسلوب وتاج ضائع ومجد عظيم وتعديل امة انقلبت على اعقابها.
وعلى هذا كانت فدك معنى رمزياً يرمز الى المعنى العظيم ولا يعني تلك الأرض الحجازية المسلوبة. وهذه الرمزية التي اكتسبتها فدك هي التي ارتفعت بالمنازعة من مخاصمة عادية منكمشة في افقها محدودة في دائرتها الى ثورة واسعة النطاق رحيبة الافق.
ادرس ما شئت من المستندات التاريخية الثابتة للمسألة ، فهل ترى نزاعاً مادياً ؟ أو ترى اختلافاً حول فدك بمعناها المحدود وواقعها الضيق أو ترى تسابقاً على غلات أرض مهما صعد بها المبالغون وارتفعوا ؟ فليست شيئاً يحسب له المتنازعان حساباً.
كلا! . بل هي الثورة على اسس الحكم والصرخة التي ارادت فاطمة ان تقتلع بها الحجر الاساسي الذي بنى عليه التاريخ بعد يوم السقيفة.
ويكفينا لاثبات ذلك ان نلقي نظرة على الخطبة التي خطبتها الزهراء في المسجد امام الخليفة وبين يدي الجمع المحتشد من المهاجرين والانصار فانها دارت اكثر ما دارت حول امتداح علي والثناء على مواقفه الخالدة


( 45 )

في الاسلام وتسجيل حق أهل البيت الذين وصفتهم بأنّهم الوسيلة الى الله في خلقه وخاصته ومحل قدسه وحجته في غيبه وورثة انبيائه في الخلافة والحكم والفات المسلمين الى حظهم العاثر واختيارهم المرتجل وانقلابهم على اعقابهم ، وورودهم غير شربهم ، واسنادهم الامر الى غير أهله ، والفتنة التي سقطوا فيها ، والدواعي التي دعتهم الى ترك الكتاب ومخالفته فيما يحكم به في موضوع الخلافة والامامة.
فالمسألة اذن ليست مسألة ميراث ونحلة الا بالمقدار الذي يتصل بموضوع السياسة العليا ، وليست مطالبة بعقار أو دار ، بل هي في نظر الزهراء مسألة اسلام وكفر ، ومسألة ايمان ونفاق ، ومسألة نص وشورى
وكذلك نرى هذا النفس السياسي الرفيع في حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار ، اذ قالت فيما قالت : أين زحزحوها عن رواسي الرسالة. وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي حسن نقموا والله نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله ، وتالله لو تكافؤا عن زمام نبذه اليه رسول الله (ص) لاعتلقه وسار اليهم سيراً سجحا لا تكلم حشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً تطفح فضفاضه ، ولأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل الا بغمر الناهل وردعه سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، ألا هلم فاستمع وما عشت أراك الدهر عجباً وان تعجب فقد اعجبك الحادث الى أي لجأ استندوا وبأي عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، ولبئس للظالمين بدلا استبدلوا والله الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون انهم يحسنون صنعاً ، ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم أفمن


( 46 )

يهدي الى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ؟ فما لكم كيف تحكمون.
ولم يؤثر عن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) انهن خاصمن أبا بكر في شيء من ميراثهن أكن أزهد من الزهراء في متاع الدنيا ، وأقرب الى ذوق أبيها في الحياة ؟ أو أنهن اشتغلن بمصيبة رسول الله ولم تشتغل بها بضعته ؟ أو أن الظروف السياسية هي التي فرقت بينهن فأقامت من الزهراء معارضة شديدة ، ومنازعة خطرة دون نسوة النبي اللاتي لم تزعجهن اوضاع الحكم.
وأكبر الظن ان الصديقة كانت تجد في شيعة قرينها ، وصفوة أصحابه الذين لم يكونوا يشكون في صدقها من يعطف شهادته على شهادة علي وتكتمل بذلك البينة عند الخليفة أفلا يفيدنا هذا ان الهدف الأعلى لفاطمة الذي كانوا يعرفونه جيداً ليس هو اثبات النحلة أو الميراث ، بل القضاء على نتائج السقيفة وهو لا يحصل باقامة البينة في موضوع فدك ، بل بان تقدم البينة لدى الناس جيمعاً على انهم ضلوا سواء السبيل. وهذا ما كانت تريد ان تقدمه الحوراء في خطتها المناضلة.
ولنستمع الى كلام الخليفة بعد أن انتهت الزهراء من خطبتها وخرجت من المسجد فصعد المنبر وقال : أيها الناس ما هذه الدعة الى كل قالة لأن كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ألا من سمع فليقل. ومن شهد فليتكلم انما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة كام طحال أحب اهلها اليها البغي. ألا أني لو اشاء أن أقول لقلت ولو قلت لبحت اني ساكت ما تركت ، ثم التفت الى الانصار وقال : قد بلغني يا معشر الانصار مقالة سفهائكم واحق من لزم عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) انتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، ألا أني لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحق ذلك.


( 47 )

وهذا الكلام يكشف لنا عن جانب من شخصية الخليفة ، ويلقي ضوءاً على منازعة الزهراء له ، والذي يهمنا الآن ما يوضحه من أمر هذه المنازعة وانطباعات الخليفة عنها ، فانه فهم حق الفهم ان احتجاج الزهراء لم يكن حول الميراث أو النحلة ، وانما كان حرباً سياسية كما نسميها اليوم وتظلماً لقرينها العظيم الذي شاء الخليفة وأصحابه أن يبعدوه عن المقام الطبيعي له في دنيا الاسلام ، فلم يتكلم الا عن علي فوصفه بانه ثعالة وانه مرب لكل فتنة وانه كام طحال وان فاطمة ذنبه التابع له ، ولم يذكر عن الميراث قليلاً أو كثيراً.
ولنلاحظ ما جاءت به الرواية في صحاح السنة من ان علياً والعباس كانا يتنازعان في فدك في أيام عمر بن الخطاب فكان علي يقول ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جعلها في حياته لفاطمة ، وكان العباس يأبى ذلك ويقول هي ملك رسول الله وأنا وارثه ويتخاصمان الى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول انتما أعرف بشأنكما اما أنا فقد سلمتها اليكما.
فقد نفهم من هذا الحديث اذا كان صحيحاً ان حكم الخليفة كان سياسياً موقتاً وان موقفه كان ضرورة من ضرورات الحكم في تلك الساعة الحرجة والا فلما أهمل عمر بن الخطاب رواية الخليفة وطرحها جانبا وسلم فدكاً الى العباس وعلي وموقفه منهما يدل على انه سلم فدكاً اليهما على اساس انها ميراث رسول الله لا على وجه التوكيل ، اذ لو كان على هذا الوجه لما صح لعلي والعباس ان يتنازعا في أن فدكاً هل هي نحلة من رسول الله لفاطمة او تركة من تركاته التي يستحقها ورثته وما اثر هذا النزاع ولو فرض انها في رأي الخليفة مال للمسلمين وقد وكلهما في القيام عليه ، ولفض عمر النزاع وعرفها انه لا يرى فدكاً مالاً موروثاً ولا من املاك فاطمة وانما اوكل امرها اليهما لينوبا عنه برعايتها وتعاهدها كما ان عدم حكمه بفدك لعلي وحده معناه انه لم يكن واثقاً بنحلة رسول


( 48 )

الله ( صلى الله عليه وآله ) فدكا لفاطمة فليس من وجه لتسليمها الى علي والعباس الا الارث.
واذن ففي المسألة تقديران ( أحدهما ) ان عمر كان يتهم الخليفة بوضع الحديث في نفي الارث ( والآخر ) انه تأوله وفهم منه معنى لا ينفي التوريث ولكن لم يذكر تأويله ولم يناقش به أبا بكر حينما حدث به وسواء أصح هذا أو ذاك ، فالجانب السياسي في المسألة ظاهر والا فلماذا يتهم عمر الخليفة بوضع الحديث اذا لم يكن في ذلك ما يتصل بسياسة الحكم ، يومئذ ، ولماذا يخفي تأويله وتفسيره ، وهو الذي لم يتحرج عن ابداء مخالفته للنبي أو الخليفة الاول فيما اعترضهما من مسائل.
واذا عرفنا ان الزهراء نازعت في أمر الميراث بعد استيلاء الحزب الحاكم عليه ، لأن الناس لم يعتادوا ان يستأذنوا الخليفة في قبض مواريثهم او في تسليم المواريث الى أهلها ، فلم تكن فاطمة في حاجة الى مراجعة الخليفة ولم تكن لتأخذ رأيه وهو الظالم المنتزي على الحكم في رأيها فالمطالبة بالميراث لابد انها كانت صدى لما قام به الخليفة من تأميمه للتركة على ما نقول اليوم والاستيلاء عليها.
( أقول ) : اذا عرفنا هذا وان الزهراء لم تطالب بحقوقها قبل ان تنتزع منها : ـ تجلى لدينا ان ظرف المطالبة كان مشجعاً كل التشجيع للمعارضين على أن يغتنموا مسألة الميراث مادة خصبة لمقاومة الحزب الحاكم على اسلوب سلمي كانت تفرضه المصالح العليا يومئذ واتهامه بالغصب والتلاعب بقواعد الشريعة والاستخفاف بكرامة القانون.

* * *

واذا أردنا ان نفهم المنازعة في اشكالها واسبابها على ضوء الظروف المحيطة بها وتأثيرها كان لزاماً علينا ان نعرض تلك الظروف عرضاً


( 49 )

مستعجلاً ونسجل صورة واضحة الالوان للعهد الانقلابي بالمقدار الذي يتصل بغرضنا.
ولا أعني بالانقلاب حين أصف عهد الخليفة الاول بذلك الا مفهومه الحقيقي المنطبق على تلون السلطة الحاكمة بشكل جمهوري يتقوم بالثورة ويكتسب صلاحياته من الجماعات المنتخبة ونزعها لشكلها الاول الذي يستمد قوته وسلطته من السماء.
فقد كانت تلك اللحظة التي ضرب بها بشير بن سعد على يد الخليفة نقطة التحول في تأريخ الاسلام التي وضعت حداً لأفضل العهود وأعلنت عهداً آخر نترك تقريضه للتاريخ.
وقد كان ذلك في اليوم الذي حانت فيه الساعة الاخيرة في تاريخ النبوات التي قطعت اقدس اداة وصل بين السماء والارض وابركها وأفيضها خيراً ونعمة واجودها صقلاً للانسانية اذ لفظ سيد البشر نفسه الاخير وطارت روحه الى الرفيق الاعلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهرع الناس الى بيت النبوة الذي كان يشرق باضوائه لتوديع العهد المحمدي السعيد وتشييع النبوة التي كانت مفتاح مجد الامة وسر عظمتها واجتمعوا حوله تتقاذفهم شتى الخواطر وترتسم في افكارهم ذكريات من روعة النبوة وجلال النبي العظيم وقد خيل اليهم ان هذه السنوات العشر التي نعموا فيها برعاية خير الأنبياء وأبر الآباء كانت حلماً لذيذاً تمتعوا به لحظة من زمان وازدهرت به الانسانية برهة من حياتها وهاهم قد افاقوا على أسوا ما يستيقظ عليه نائم.
وبينما كان المسلمون في هذه الغمرة الطاغية ، والصمت الرهيب لا ينطق منهم أحد بكلمة ، وقد اكتفوا في تأبين الراحل العظيم بالدموع والحسرات والخشوع والذكريات يفاجؤون بصوت يجلجل في الفضاء ويقطع خيط الصمت الذي لف المجتمعين وهو يعلن أن رسول الله (ص)


( 50 )

لم يمت ولا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وارجلهم ممن ارجف بموته : لا أسمع رجلاً يقول مات رسول الله الا ضربته بسيفي.
والتفت الانظار الى مصدر الصوت ليعرفوا القائل فوجدوا عمر ابن الخطاب قد وقف خطيباً بين الناس وهو يجلجل برأيه في شدة لا تقبل نزاعاً وشاعت الحياة في الناس من جديد فتكلموا وتحدثوا في كلام عمر والتف بعضهم حوله.
واكبر الظن ان قوله وقع من أكثرهم موقع الاستغراب والتكذيب وحاول جماعة منهم ان يجادلوه في رأيه ولكنه بقي شديداً في قوله ثابتاً عليه والناس يتكاثرون حوله ويتكلمون في شأنه ويعجبون لحاله حتى جاء أبو بكر وكان حين توفي النبي في منزله بالسنح والتفت الى الناس وقال من كان يعبد محمداً فانه قد مات ومن كان يعبدالله فانه حي لا يموت قال الله تعالى ( انك ميت وانهم ميتون ) وقال ( أفان مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ) ولما سمع عمر ذلك اذعن واعترف بموت رسول الله (ص) وقال كأني ما سمعتها ـ يعني الآية.
ونحن لا نرى في هذه القصة ما يراه كثير من الباحثين من أن الخليفة كان بطل ذلك الظرف العجيب. والرجل الذي تهيأت له معدات الخلافة بحكم موقفه من رأي عمر لأن المسألة ليست من الأهمية بهذا الحد ولم يحدثنا التاريخ عن شخص واحد انتصر لعمر في رأيه فلم يكن الا رأياً شخصياً لا خطر له ولا شأن للقضاء عليه.
وقد يكون من حق البحث ان الاحظ ان شرح الخليفة لحقيقة الحال في خطابه الذي وجهه الى الناس كان شرحاً باهتاً في غير حد لا يبدو عليه من مشاعر المسلمين المتحرقة في ذلك اليوم شيء ، بل لم يزد في بيان الفاجعة الكبرى على ان قال ان من كان يعبد محمداً فان محمداً قد مات

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله