مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

كتاب فدك في التاريخ


العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به ) وعن امامة أخيه بقوله : ( ان هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا )(1) ومعنى ذلك أن امامة علي تكملة طبيعية لنبوة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وان الرسالة السماوية قد اعلنت عن نبوة محمّد الكبير (ص) وامامة محمّد الصغير في وقت واحد.
ان علياً الذي رباه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وربى الاسلام معه فكانا ولديه العزيزين كان يشعر باخوته لهذا الاسلام وقد دفعه هذا الشعور الى افتداء أخيه بكل شيء حتى أنه اشترك في حروب الردة التي أعلنها المسلمون يومذاك(2) ولم يمنعه تزعم غيره لها عن القيام بالواجب المقدس ، لأن أبا بكر ان كان قد ابتزه حقه ونهب تراثه فالاسلام قد رفعه الى القمة وعرف له اخوته الصادقة وسجلها بأحرف من نور على صفحات الكتاب العزيز :
وصمد الامام على ترك الثورة ولكن ماذا يفعل ؟ وأي أسلوب يتخذه لموقفه ؟ هل يحتج على الفئة الحاكمة بنصوص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلماته التي أعلنت ان علياً هو القطب المعد لأن يدور عليه الفلك الاسلامي والزعيم الذي قدمته السماء الى أهل الأرض.
تردد هذا السؤال في نفسه كثيراً ثم وضع له الجواب الذي تعينه ظروف محنته وتلزمه به طبيعة الاوضاع القائمة فسكت عن النص الى حين.
ونحن نتبين من الصورة المشوشة التي عرفناها عن تلك الظروف والاوضاع ان الاعتراض بتلك النصوص المقدسة والاحتجاج بها في ساعة
____________
(1) أخرجه الطبري في تاريخ وابن الاثير في الكامل وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة .
(2) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 4 ص 165

( 77 )

ارتفع فيها المقياس الزئبقي للافكار المحمومة والأهواء الملتهبة التي سيطرت على الحزب الحاكم الى الدرجة العالية كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة له لأن أكثر النصوص التي صدرت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شأن الخلافة لم يكن قد سمعها الا مواطنوه في المدينة من مهاجرين وأنصار فكانت تلك النصوص اذن الامانة الغالية عند هذه الطائفة التي لابد ان تصل عن طريقهم الى سائر الناس في دنيا الاسلام يومئذ والى الاجيال المتعاقبة والعصور المتتالية. ولو احتج الامام على جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شأنه وأقام منها دليلاً على امامته وخلافته لكان الصدى الطبيعي لذلك ان يكذب الحزب الحاكم صديق الامة في دعواه وينكر تلك النصوص التي تمحو من خلافة الشورى لونها الشرعي وتعطل منها معنى الدين.
وقد لا يجد الحق صوتاً قوياً يرتفع به في قبال ذلك الانكار لأن كثيراً من قريش وفي مقدمتهم الامويون كانوا طامحين الى مجد السلطان ونعيم الملك وهم يرون في تقديم الخليفة على اساس من النص النبوي تسجيلاً لمذهب الامامة الالهية ، ومتى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم الاسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمّد الاكرمين وخروج غيرهم من المعركة خاسراً. وقد نلمح هذا اللون من التفكير في قول عمر لابن عباس معللاً اقصاء علي عن الامر : ان قومكم كرهوا ان يجمعوا لكم الخلافة والنبوة(1) فقد يدلنا هذا على أن اسناد الامر الى علي في بداية الامر كان معناه في الذهنية العامة حصر الخلافة في الهاشميين وليس لذلك تفسير اولى من أن المفهوم لجمهرة من الناس يومئذ من الخلافة العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيته من
____________
(1) راجع تاريخ الكامل ج 3 ص 24.

( 78 )

نصوص السماء لا من انتخاب المنتخبين فعلي ان وجد نصيراً من علية قريش يشجعه على مقاومة الحاكمين فانه لا يجد منهم عضداً في مسألة النص اذا تقدم الى الناس يحدثهم ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد سجل الخلافة لأهل بيته حين قال : اني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي الخ.
وأما الانصار فقد سبقوا جميع المسلمين الى الاستخفاف بتلك النصوص والاستهانة بها اذ حدث بهم الشراهة الى الحكم الى عقد مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا على يد واحد منهم فلن يجد علي فيهم اذا استدل بالنصوص النبوية جنوداً للقضية العادلة وشهوداً عليها لانهم اذا شهدوا على ذلك يسجلون على انفهسم تناقضاً فاضحاً في يوم واحد وهذا ما يأبونه على أنفسهم بطبيعة الحال.
وليس في مبايعة الأوس لأبي بكر أو قول من قال : لا نبايع الا علياً مناقضة كتلك المناقضة لأن المفهوم البديهي من تشكيل مؤتمر السقيفة ان مسألة الخلاف مسألة انتخاب لا نص فليس الى التراجع عن هذا الرأي في يوم اعلانه من سبيل.
وأما اعتراف المهاجرين بالامر فلا حرج فيه لأن الانصار لم يجتمعوا على رأي واحد في السقيفة وانما كانوا يتذاكرون ويتشاورون ولذا نرى الحباب بن المنذر يحاول بث الحماسة في نفوسهم والاستمالة بهم الى رأيه بما جلجل به في ذلك الاجتماع من كلام وهو يوضح انهم جمعوا لتأييد فكرة لم يكن يؤمن بها الا بعضهم.
واذن فقد كان الامام يقدر انه سوف يدفع الحزب الحاكم الى انكار النصوص والاستبسال في هذا الانكار اذا جاهر بها ولا يقف الى جانبه حينئذ صف ينتصر له في دعواه لان الناس بين من قادهم الهوى


( 79 )

السياسي الى انكار عملي للنص يسد عليهم مجال التراجع بعد ساعات وبين من يرى ان فكرة النص تجعل من الخلافة وقفاً على بني هاشم لا ينازعهم فيها منازع. واذا سجلت الجماعة الحاكمة وانصارها انكاراً للنص واكتفى الباقون بالسكوت في الاقل فمعنى هذا ان النص يفقد قيمته الواقعية وتضيع بذلك مستمسكات الامامة العلوية كلها ويؤمن العالم الاسلامي الذي كان بعيداً عن مدينة النبي (ص) على انكار المنكرين لانه منطق القوة الغالب في ذلك الزمان.
ولنلاحظ ناحية اخرى فان علياً لو ظفر بجماعة توافقه على دعواه وتشهد له بالنصوص النبوية المقدسة وتعارض انكار الفئة الحاكمة كان معنى ذلك ان ترفض هذه الجماعة خلافة أبي بكر وتتعرض لهجوم شديد من الحاكمين ينتهي بها الى الاشتراك في حرب مع الحزب الحاكم المتحمس لكيانه السياسي الى حد بعيد فإنّه لا يسكت عن هذا اللون من المعارضة الخطرة فمجاهرة علي بالنص كانت تجره الى المقابلة العملية وقد عرفنا سابقاً انه لم يكن مستعداً لاعلان الثورة على الوضع القائم والاشتراك مع السلطات المهيمنة في قتال.
ولم يكن للاحتجاج بالنص اثر واضح من ان تتخذ السياسة الحاكمة احتياطاتها واساليبها الدقيقة لمحو تلك الاحاديث النبوية من الذهنية الاسلامية لانها تعرف حينئذ ان فيها قوة خطر على الخلافة القائمة ومادة خصبة لثورة المعارضين في كل حين.
واني اعتقد أن عمر لو التفت الى ما تنبه اليه الأمويون بعد أن احتج الامام بالنصوص في أيام خلافته واشتهرت بين شيعته من خطرها لاستطاع أن يقطعها من اصولها ويقوم بما لم يقدر الأمويون عليه من اطفاء نورها وكان اعتراض الامام بالنص في تلك الساعة ينبهه الى ما يجب ان ينتهجه من أسلوب فأشفق على النصوص المقدسة أن تلعب بها


( 80 )

السياسة وسكت عنها على مضض واستغفل بذلك خصومه حتى ان عمر ( رضي الله تعالى عنه ) نفسه صرح بأن علياً هو ولي كل مؤمن ومؤمنة بنص النبي (1) ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
ثم ألم يكن من المعقول ان يخشى الامام على كرامة حبيبه وأخيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن تنتقض وهي أغلى عنده من كل نفيس ـ اذا جاهر بنصوص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو لم ينس موقف الفاروق من رسول الله (ص) حين طلب دواة ليكتب كتاباً لا يضل الناس بعده أبداً ، فقال عمر : ان النبي ليهجر أو قد غلب عليه الوجع ، وقد اعترف فيما بعد لابن عباس ان رسول الله (ص) كان يريد ان يعين علياً للخلافة وقد صده عن ذلك خوفاً من الفتنة(2).
وسواء أكان رسول الله (ص) يريد ان يحرر حق علي في الخلافة اولا فان المهم ان نتأمل موقف عمر من طلبه فهو اذا كان مستعداً لاتهام النبي (ص) وجهاً لوجه بما ينزهه عنه نص القرآن وضرورة الاسلام خوفاً من الفتنة فما الذي يمنعه عن اتهام آخر له بعد وفاته مهما تلطفنا في تقديره فلا يقل عن دعوى ان رسول الله (ص) لم يصدر عن أمر الله في موضوع الخلافة وانما استخلف علياً بوحي من عاطفته بل كان هذا اولى من تلك المعارضة لأن الفتنة التي تقوم بدعوى على النص أشد مما كان يترقبه عمر من اضطراب فيما اذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد خلف نصاً تحريرياً بامامة علي يعلمه الجميع.
____________
(1) راجع ذخائر العقبى ص 67.
والحديث يدلنا على ان الفاروق كان يميل أحياناً الى تغيير الطريقة التي سار عليها الحزب في بداية الامر مع الهاشميين غير ان الطابع السياسي الاول غلب عليه أخيراً.
(2) راجع شرح النهج ج 2 ص 114.

( 81 )

واذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد ترك التصريح بخلافة علي في ساعته الأخيرة لقول قاله عمر فان المفهوم ان يترك الوصي الاحتجاج بالنصوص خوفاً من قول قد يقوله :
ونتيجة هذا البحث ان سكوت أمير المؤمنين عن النص الى حين كان يفرضه عليه :
1ـ انه لم يكن يجد في رجالات تلك الساعة من يطمئن الى شهادته بذلك.
2 ـ ان الاعتراض بالنصوص كان من الحري به أن يلفت انظار الحاكمين الى قيمتها المادية فيستعملون شتى الاساليب لخنقها.
3 ـ ان معنى الاعتراض بها التهيؤ للثورة بأوسع معانيها وهذا ما لم يكن يريده الامام.
4 ـ ان اتهام عمر للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في آخر ساعاته عرف علياً بمقدار تفاني الحاكمين في سبيل مراكزهم ومدى استعدادهم لتأييدها والمدافعة عنها وجعله يخاف من تكرر شيء من ذلك فيما اذا أعلن عن نصوص امامته.

* * *

انتهى الامام الى قرار حاسم ، وهو ترك الثورة وعدم التسلح بالنصوص في وجه الحاكمين جهاراً وعلانية الا اذا اطمأن الى قدرته على تجنيد الرأي العام ضد أبي بكر وصاحبيه وهذا ما أخذ يحاوله علي في محنته آنذاك فبدأ يطوف سراً على زعماء المسلمين ورجالات المدينة يعظهم ويذكرهم ببراهين الحق وآياته والى جانبه قرينته تعزز موقفه وتشاركه في جهاده السري ولم يكن يقصد بذلك التطواف انشاء حزب يتهيأ له القتال به لأننا نعرف ان علياً كان له حزب من الانصار هتف باسمه وحاول الالتفاف حوله وانما أراد أن يمهد بتلك المقابلات لاجماع الناس عليه.


( 82 )

وهنا تجىء مسألة فدك لتحتل الصدارة في السياسة العلوية الجديدة فان الدور الفاطمي الذي رسم هارون النبوة خطوطه باتقان كان متفقاً مع ذلك التطواف الليلي في فلسفته وجديراً بأن يقلب الموقف على الخليفة وينهي خلافة الصديق كما تنتهي القصة التمثيلية لا كما يقوض حكم مركز على القوة والعدة.
وكان الدور الفاطمي يتخلص في أن تطالب الصديقة الصديق بما انتزعه منها من اموال وتجعل هذه المطالبة وسيلة للمناقشة في المسألة الاساسية واعني بها مسألة الخلافة وافهام الناس بأن اللحظة التي عدلوا فيها عن علي (ع) الى أبي بكر كانت لحظة هوس وشذوذ وانهم بذلك أخطأوا وخالفوا كتاب ربهم ووردوا غير شربهم.
ولما اختمرت الفكرة في ذهن فاطمة اندفعت لتصحح اوضاع الساعة وتمسح عن الحكم الاسلامي الذي وضعت قاعدته الاولى في السقيفة الوحل الذي تلطخ به عن طريق اتهام الخليفة الحاكم بالخيانة السافرة والعبث بكرامة القانون واتهام نتائج المعركة الانتخابية التي خرج منها أبو بكر خليفة بمخالفة الكتاب والصواب.
وقد توفرت في المقابلة الفاطمية ناحيتان لا تتهيآن للامام فيما لو وقف موقف قرينته.
أحديهما : ان الزهراء أقدر منه بظروف فجيعتها الخاصة ومكانتها من أبيها على استثارة العواطف وايصال المسلمين بسلك من كهرباء الروح بأبيها العظيم صلوات الله عليه وأيامه الغراء وتجنيد مشاعرهم لقضايا أهل البيت.
والاخرى : انها مهما تتخذ لمنازعتها من أشكال فلن تكتسب لون الحرب المسلحة التي تتطلب زعيماً يهيمن عليها ما دامت امرأة وما دام


( 83 )

هارون النبوة في بيته محتفظاً بالهدنة التي اعلنها حتى تجتمع الناس عليه ومراقبا للموقف ليتدخل فيه متى شاء متزعماً للثورة اذا بلغت حدها الاعلى أو مهدئاً للفتنة اذا لم يتهيأ له الظرف الذي يريده. فالحوراء بمقاومتها أما ان تحقق انتفاضاً اجماعياً على الخليفة وأما أن لا تخرج عن دائرة الجدال والنزاع ولا تجر الى فتنة وانشقاق.
واذن فقد أراد الامام صلوات الله عليه أن يسمع الناس يومئذ صوته من فم الزهراء ويبقى هو بعيداً عن ميدان المعركة ينتظر اللحظة المناسبة للاستفادة منها والفرصة التي تجعل منه رجل الموقف. وأراد أيضاً أن يقدم لأمة القرآن كلها في المقابلة الفاطمية برهاناً على بطلان الخلافة القائمة. وقد تم للامام ما أراد حيث عبرت الزهراء صلوات الله عليها عن الحق العلوي تعبيراً واضحاً فيه ألوان من الجمال والنضال.
وتتلخص المعارضة الفاطمية في عدة مظاهر : ـ
الأول : ـ ارسالها لرسول ينازع أبا بكر في مسائل الميراث ويطالب بحقوقها وهذه هي الخطوة الاولى التي انتهجتها الزهراء صلوات الله عليها تمهيداً لمباشرتها للعمل بنفسها.
الثاني : ـ مواجهتها بنفسها له في اجتماع خاص وقد أرادت بتلك المقابلة أن تشتد في طلب حقوقها من الخمس وفدك وغيرهما لتعرف مدى استعداد الخليفة للمقاومة.
ولا ضرورة في ترتيب خطوات المطالبة على أسلوب تتقدم فيه دعوى النحلة على دعوى الميراث كما ذهب الى ذلك أصحابنا بل قد يغلب على ظني تقدم المطالبة بالارث لأن الرواية تصرح بان رسول الزهراء انما كان يطالب بالميراث والأقرب في شأن هذه الرسالة أن تكون أولى الخطوات كما يقضي به التدرج الطبيعي للمنازعة وأيضاً فان دعوى الارث أقرب


( 84 )

الطريقين الى استخلاص الحق لثبوت التوارث في التشريع الاسلامي بالضرورة فلا جناح على الزهراء في أن تطلب ابتداء ميراثها من أبيها الذي يشمل فدكاً في معتقد الخليفة لعدم اطلاعه على النحلة وليس في هذه المطالبة مناقضة لدعوى نحلة فدك اطلاقاً لأن المطالبة بالميراث لم تتجه الى فدك خاصة وانما تعلقت بتركة النبي (ص) عامة.
الثالث : ـ خطبتها في المسجد بعد عشرة أيام من وفاة النبي (ص) كما في شرح النهج لابن أبي الحديد.
الرابع : ـ حديثها مع أبي بكر وعمر حينما زارها بقصد الاعتذار منها واعلانها غضبها عليهما وانهما اغضبا الله ورسوله (ص) بذلك(4).
الخامس : ـ خطابها الذي ألقته على نساء المهاجرين والأنصار حين اجتماعهن عندها.
السادس : ـ وصيتها بأن لا يحضر تجهيزها ودفنها أحد من خصومها(2) وكانت هذه الوصية الاعلان الاخير من الزهراء عن نقمتها على الخلافة القائمة.
وقد فشلت الحركة الفاطمية بمعنى ونجحت بمعنى آخر.
فشلت لأنها لم تطوح بحكومة الخليفة ( رضي الله عنه ) في زحفها الاخير الخطير الذي قامت به في اليوم العاشر من وفاة النبي (ص).
ولا نستطيع ان نتبين الامور التي جعلت الزهراء تخسر المعركة غير ان الامر الذي لا ريب فيه ان شخصية الخليفة (رض) من أهم الاسباب التي أدت الى فشلها لأنه من أصحاب المواهب السياسية وقد عالج الموقف بلباقة ملحوظة نجد لها مثالاً فيما أجاب به الزهراء من كلام
____________
(1) راجع الامامة والسياسة واعلام النساء.
(2) راجع حلية الأولياء ج2 ص 43 ومستدرك الحاكم ج3 ص 163 واُسد الغابة ج5 ص 524.

( 85 )

وجهة الى الأنصار من خطاب بعد انتهائها من خطبتها في المسجد فبينما هو يذوب رقة في جوابه للزهراء واذا به يطوي نفسه على نار متأججة تندلع بعد خروج فاطمة من المسجد. في أكبر الظن. فيقول : ما هذه الدعة الى كل قالة انما هو ثعالة شهيده ذنبه ـ وقد نقلنا الخطاب كاملاً فيما سبق ـ فان هذا الانقلاب من اللين والهدوء الى الغضب الفائر يدلنا على مقدار ما أوتي من سيطرة على مشاعره وقدرته على مسايرة الظرف وتمثيل الدور المناسب في كل حين.
ونجحت معارضة الزهراء لانها جهزت الحق بقوة قاهرة واضافت الى طاقته على الخلود في ميدان النضال المذهبي طاقة جديدة وقد سجلت هذا النجاح في حركتها كلها وفي محاورتها مع الصديق والفاروق عند زيارتهما لها بصورة خاصة اذا قالت لهما : أرأيتكما ان حدثتكما حديثاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعرفانه وتفعلان به فقالا نعم فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي فمن أحب فاطمة فقد أحبني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني(1) قالا نعم سمعناه من رسول الله (ص) قالت : فاني أشهد الله وملائكته انكما اسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي (ص) لأشكونكما عنده(2).
____________
(1) صحت عن رسول الله (ص) عبائر متعددة بهذا المعنى فقد جاء عنه في الصحيح انه قال لفاطمة ان الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك وقال : فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها ـ راجع صحيح البخاري ج5 ص 274 وصحيح مسلم ج4 ص261 ومستدرك الحاكم ج3 ص 154 وذخائر العقبى ص39 والصواعق ص 105 ومسند أحمد ج4 ص328 وجامع الترمذي ج2 ص 219 وابن ماجة ج1 ص 216.
(2) تجد حديث غضب فاطمة على أبي بكر في صحيح البخاري ج5 ص 5 وج6 ص196 وصحيح مسلم ج2 ص72 ومسند أحمد ج1 ص6 وتاريخ الطبري ج3 ص202 وكفاية الطالب ص226 وسنن البيهقي ج6 ص300.

( 86 )

ويصور لنا هذا الحديث مدى اهتمامها بتركيز الاعتراض على خصميها ومجاهرتهما بغضبها ونقمتها لتخرج من المنازعة بنتيجة لا نريد درسها والانتهاء فيها الى رأي معين لأن ذلك خارج عن دائرة عنوان هذا البحث ولأننا نجل الخليفة عن أن ندخل معه في مثل هذه المناقشات وانما نسجلها لتوضيح أفكار الزهراء صلوات الله عليها ووجهة نظرها فقط فانها كانت تعتقد ان النتيجة التي حصلت عليها هي الفوز المؤكد في حساب العقيدة والدين وأعني بها ان الصديق قد استحق غضب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم باغضابها وآذاهما بأذاها لانهما يغضبان لغضبها ويسخطان لسخطها بنص الحديث النبوي الصحيح فلا يجوز ان يكون خليفة ‏ ورسوله وقد قال الله تبارك وتعالى : ( وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا تنكحوا ازواجه من بعده ابداً ان ذلكم كان عند الله عظيماً * ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً * والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم * يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم * ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ).


( 87 )

ـ 4 ـ

قبسات من الكلام الفاطمي

يوم جاءت الى عدي وتيم * ومن الوجد ما أطال بكاها
تعظ القوم في أتم خطـاب * حكت المصطفى به وحكاها
( الأزري )



( 88 )

نقتبس هنا عدة عبائر من خطبة الزهراء عليها السلام لنعطيها حقها من التحليل والتوضيح ونفهمها كما هي في عالم الخلود وكما هي في واقعها الرائع قالت : ـ
« ثم قبضه اليه قبض رأفة واختيار ورغبة وايثار فمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن تعب هذه الدار في راحة قد حف بالملائكة الأبرار ورضوان الرب الغفار ومجاورة الملك الجبار ».
انظر الى البليغة كيف تركت النعيم المادي كله وملذوذات الحس حين أرادت أن تقرض فردوس أبيها وجنته الخالدة لانها رأت في معاني أبيها العظيم ما يرتفع على ذلك كله وما قيمة اللذة المادية جنينية كانت أو دنيوية في حساب محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الروحي الذي لم يرتفع أحد بالروح الانسانية كما ارتفع بها ولم يبلغ بها أحد سواه أوجهاً المحمدي ( ولم يغذها مصلح عداه بالعقيدة الالهية الكاملة التي هي غاية العقول في طيرانها الفكري والشوط الاخير للطواف الانساني حول الحقيقة المقدسة الذي يستقر عنده الضمير وتطمئن اليه الروح )(1).
فهو اذن : المربي الأكبر للروح ، والقائد الفريد الذي سجلت المعنويات الروحية تحت رايته انتصارها الخالد على القوى المادية في معركتهما القائمة منذ بدأ العقل حياته في وسط المادة.
____________
(1) نقلنا هذه الجملة عن كتابنا ـ العقيدة الالهية في الاسلام ـ.
( 89 )

وما دام هو بطل المعركة الفاصلة بين الروحية والمادية الذي ختمت برسالته رسالات السماء فلا غرو ان يكون محور ذلك العالم الروحي الجبار وهذا ما شاءت ان تقوله الزهراء حين قالت تصف الفردوس المحمدي : فمحمّد عن تعب هذه الدنيا في راحة قد حف بالملائكة الابرار فهو القطب أبداً في الدنيا والآخرة غير أنه في الاولى متعب لأنّه القطب الذي يجاهد ليقيم دورة الحياة الانسانية عليه على اسلوب خالد وفي الاخرى مرتاح لأنّه المحور الذي يكهرب الحياة الملائكية بنوره فتخف به الملائكة لتقدم بين يديه آيات الحمد والثناء.
وما دام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الطراز الأسمى فلتكن جنته على غراره ملؤها الترف المادي بل هي في أوضح معانيها الترف المعنوي ـ ان صح التعبير ـ واي ترف روحي أسمى من مجاورة المالك الجبار والظفر برضوان الرب الغفار.
وهكذا وصفت الزهراء جنة أبيها في جملتين فاذا به القطب المتصل بمبدأ النور والشمس التي تحيط بها الملائكة في دنيا النور.
وقالت :
وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطىء الاقدام تشربون الطرق ، وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد اللتيا والتي ، وبعد ان مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة اهل الكتاب كلما أوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتهم ، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله (ص) سيد


( 90 )

اولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً وانتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون(1) .
ما أروعها من مقارنة هذه التي عقدتها الزهراء بين أسمي طراز من الكفاءة العسكرية في دنيا الاسلام يومئذ وبين رجولة مفطومة ـ ان صح التعبير ـ من ملكات البطل ومقومات العسكري الموهوب. بين بسالة هتفت بآياتها السماء والأرض وكتبت بمداد الخلود في فهرس المثاليات الانسانية وشخصية اكتفت من الجهاد المقدس بالوقوف في الخط الحربي الاخير ـ العريش ـ وياليتها اقتنعت بذلك عن الفرار المحرم في عرف الاسلام. في عرف التضحية ، في عرف المفاداة بالنفس لتوحيد الحكومة السماوية على وجه الارض.
ولا نعرف في تاريخ الانسانية موهبة عسكرية بارعة لها من الآثار الخيرة في حياة هذا الكوكب كالموهبة العلوية الفذة في تاريخ الابطال فان مواقف الامام في سوح الجهاد وميادين النضال كانت بحق هي الركيزة التي قامت عليها دنيا الاسلام وصنعت له تاريخه الجبار.
فعلي هو المسلم الاول في اللحظة الاولى من تاريخ النبوة عندما لعلع الصوت الالهي من فم محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم هو بعد ذلك الغيور الاول والمدافع الاول الذي اسندت اليه السماء تصفية الحساب مع الانسانية الكافرة.
ان فوز الامام في هذه المقارنة يعني ان له حقاً في الخلافة من ناحيتين : ـ
( احداهما ) : انه الشخص العسكري الفريد بين مسلمة ذلك اليوم
____________
(1) تعني بهذا الكلام الجماعة الحاكمة كما سنوضح ذلك في الكلام على القطعة الآتية.
( 91 )

الذي لم يكن قد فصل فيه تماماً المركز السياسي الأعلى عن المقامات العسكرية.
( والاخرى ) : ان جهاده الرائع تكشف عن اخلاص أروع لا يعرف الشك اليه سبيلاً وجذوة مضطرمة بحرارة الايمان لا يجد الخمود اليها طريقاً. وهذه الجذوة المتقدة أبداً وذلك الاخلاص الفياض دائماً هما الشرطان الاساسيان للزعيم الذي توكل اليه الامة حراسة معنوياتها الغالية وحماية شرفها في التاريخ.
اقرأ حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتاريخ الجهاد النبوي فسوف ترى ان علياً هو الذي أدهش الارض والسماء بمواساته(1) وان الصديق (رض) هو الذي التجأ الى مركز القيادة العليا الذي كان محاطاً
____________
(1) أخرج الطبري في تاريخه عن ابن رافع : لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الالوية أبصر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم ، فحمل عليه ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبدا‏ الجمحي ، قال : ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك ، فقال جبرئيل : يارسول الله ان هذا للمواساة ، فقال رسول الله (ص) : انه مني وأنا منه ، فقال جبرائيل : وانا منكما ، قال : فسمعوا صوتاً :
لا سيف الا ذو الفقار * ولا فتى الا عـــلي

ولنتأمل جواب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لنلاحظ كيف انه ارتفع بعلي عن مفهوم المواساة الذي يقضي بتعدد محمّد وعلي الى مفهوم الوحدة والامتزاج فقال : انه مني وأنا منه ولم يرض بأن يفصل الامام عن شخصه لانهما وحدة لا تتجزأ ضربها الله مثلاً أعلى تأتم بها الانسانية ويهتدي على ضوئها الابطال والمصلحون في معارج السمو والارتقاء ، وأنا لا أدري كيف حاول الصحابة أو بعض الصحابة أن يفككوا عرى هذه الوحدة ويضعوا بين البطلين أشخاصاً ثلاثة كان من الجدير أن لا يفصلوا بهم بين محمّد وبين من هو من محمّد (ص).

( 92 )

بعدة من أبطال الانصار لحمايته(1) حتى يطمئن بذلك من غوائل الحرب.
وهو الذي فر يوم أحد(2) كما فر الفاروق(3) ولم يبايع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الموت في تلك الساعة الرهيبة التي قل فيها الناصر وتضعضعت راية السماء وبايع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الشهادة ثمانية ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الانصار لم يكن هو واحداً منهم كما صرح بذلك ارباب التاريخ(4) بل لم يرو له رواة المسلمين جميعاً قتالاً في ذلك الموقف مهما يكن لونه(5).
واذن فلماذا وقف مع الثائبين ان كان لم يفر ؟ ألم يكن القتال واجباً ما دام المدافعون لم يبلغوا العدد المطلوب لمقابلة العدو الذي أصاب النبي (ص) بعدة أصابات اضطرته الى الصلاة جالساً.
ولعلنا نعلم جميعاً ان شخصاً اذا كان في وسط الصراع ومعترك الحرب فلن ينجو من الموت على يد عدوه الا بالفرار أو الدفاع بالاشتراك عملياً في المعركة. والصديق اذا لم يكن قد فعل شيئاً من هذين وقد نجا بلا ريب فمعنى هذا ان عدواً وقف امام عدوه مكتف اليدين فلم يقتله خصمه فهل أشفق المشركون على أبي بكر ولم يشفقوا على محمّد وعلي والزبير وأبي دجانة وسهل بن حنيف.
وليس لدي من تفسير معقول للموقف الا ان يكون قد وقف الى جوار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكسب بذلك موقفاً هو في
____________
(1) راجع عيون الاثر ج1 ص258.
(2) كما يحدثنا بذلك التاريخ الشيعي.
(3) وقد اعترف هو بذلك وذكره به رسول الله (ص) ـ راجع شرح النهج ج3 ص389 ، 390.
(4) صرح بذلك الواقدي كما في شرح النهج ج3 ص388. والمقريزي في الامتاع ص132.
(5) اعترف بذلك ابن أبي الحديد ج3 ص389.

( 93 )

طبيعته أبعد نقاط المعركة عن الخطر لاحتفاف العدد المخلص في الجهاد يومئذ برسول الله (ص). وليس هذا ببعيد لأننا عرفنا من ذوق الصديق انه كان يحب ان يكون الى جانب رسول الله (ص) في الحرب لأن مركز النبي (ص) هو المركز المصون الذي تتوفر جميع القوى الاسلامية على حراسته والذب عنه.
وخذ حياة الامام علي (ع) وحياة الصديق وادرسهما فهل تجد في حياة الاول خموداً في الاخلاص او ضعفاً في الاندفاع نحن التضحية أو ركوناً الى الدعة والراحة في ساعة الحرب المقدسة. فارجع البصر هل ترى من فطور . ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئاً وهو حسير. لأنه سوف يجد روعة واستماتة في سبل الله لا تفوقها استماتة وشخصاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فيه استعداد للخلود ما خلد محمّد استاذه الاكبر لأنه نفسه (ص)(1).
ثم حدثني عن حياة الصديق ( رضي الله تعالى عنه ) ايام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهل تجد فيها الا تخاذلاً وضعفاً في الحياة المبدئية والحياة العسكرية يظهر تارة في التجائه الى العريش واخرى في فراره يوم احد وهزيمته في غزوة حنين(2) وتلكئه عن الواجب حينما أمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخروج تحت راية اُسامة
____________
(1) بنص آية المباهلة.
(2) كما في السيرة الحلبية ج3 ص123 ، اذا . حصر الثابتين بغيره وأما فرار الفاروق في ذلك اليوم فقد جاء ما يدل عليه في صحيح البخاري اذ روى باسناده عمن شهد يوم حنين انه قال : وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فاذا بعمر بن الخطاب في الناس فقلت له : ما شأن الناس ؟ قال : أمر الله. فان هذا يوضح ان عمر كان بين المنهزمين.

( 94 )

للغزو(1) ومرة اخرى في هزيمته يوم خيبر حينما بعثه رسول الله (ص) لاحتلال الوكر اليهودي على رأس جيش فرجع فاراً ثم أرسل الفاروق ( رضي الله تعال عنه ) واذا به من طراز صاحبه(2) حيث تبخرت في ذلك الموقف الرهيب حماسة عمر وبطولته الرائعة في أيام السلم التي اعتز بها الاسلام يوم اسلم كما يقولون ورجع عمر مع اصحابه يجبنهم ويجبنونه(3) فقال رسول الله (ص) اني دافع الراية غداً لرجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له(4) ويشعر كلامه هذا بتعريض بليغ يدغدغ به مشاعر القائدين الفاشلين واعتزاز بعليه العظيم الذي يحب الله ورسوله ويحبه ا‏لله ورسوله(5).
يا خليفتي المسلمين ـ أو بعض المسلمين ـ رضي الله تعالى عنكما أهكذا كان نبيكما الذي قمتما مقامه ؟ ألم تتلقيا عنه دروسه الفذة في الجهاد والمعاناة في سبيل الله ؟ ألم يكن في صحبتكما له طوال عقدين حاجز يحجز عن ذلك ؟ ألم تستمعا الى القرآن الذي اسندت اليكما حراسته والتوفر على نشر مثله العليا في المعمورة وهو يقول : ـ
____________
(1) فقد جاء في عدة من المصادر ان عمر وأبا بكر كانا فيمن جنده النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحرب تحت راية اسامة منها في السيرة الحلبية ج3.
(2) راجع مسند أحمد ج5 ص253 ومستدرك الحاكم ج3 ص27 وكنز العمال ج6 ص394.
(3) هذا تصوير علوي رائع للقائد الفاشل والجنود المتخاذلين وقد اطلع كل منهما على ضعف الآخر فأخذ يهول الموقف ليجد له من ذلك عذراً في الفرار.
(4) صحيح البخاري ج5 ص18 ومسند أحمد ج5 ص353.
(5) واكبر الظن ان الجيش الذي سار الامام على رأسه لاحتلال المستعمرة اليهودية هو الجيش الذي فر بالامس ونفهم من هذا مدى تأثير القائد على جيشه وتكهرب الجيش بمشاعره فان علياً استطاع أن يجعل من اولئك الجنود الذي كانوا يجبنون الفاروق في الحملة السابقة أبطالاً فاتحين بما سكب في أرواحهم من روحه العظيمة المتدفقة بالحماس والاخلاص.

( 95 )

ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفاً لقتال أو متحيزاً الى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.
وقد توافقني على أن مقام الصديق والفاروق (ض) في الاسلام يرتفع بهما عن الفرار المحرم فلا بد انهما تأولا ووجدا عذراً في فرارهما ونحن نعلم ان مجال الاجتهاد والتأويل عند الخليفة كان واسعاً حتى أنه اعتذر عن خالد لما قتل مسلماً متعمداً بأنّه اجتهد فأخطأ(1).
عـذرتــكما ان الحمام لمبغض * وان بقاء النـفس للنفس محبوب
ليكره طعم الموت والموت طالب * فكيف يلذ الموت والموت مطلوب

ولنعتذر اذا كان فيما قدمناه سبب للاعتذار وقد اضطرنا الى ذلك الوقوف عند المقارنة الفاطمية وما تستحقه من شرح وتوضيح.
قالت : ـ
« تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الاخبار ».
هذا الخطاب موجه الى الحزب الحاكم لأنه هو الذي زعم ما نسبته الزهراء الى مخاطبيها فيما يأتي من تعليل التسرع الى اتمام البيعة بالخوف من الفتنة. واذن فهو اتهام صريح له بالتآمر على السلطان واتخاذ التدابير اللازمة لهذه المؤامرة الرهيبة ووضع الخطط المحكمة لتنفيذها وتربص الفرصة السانحة للانقضاض على السلطة وتجريد البيت الهاشمي منها.
وقد رأينا في الفصل السابق ان الاتفاق السري بين الصديق والفاروق وأبي عبيدة(1) رضي الله عنهم مما تعززه الظواهر التاريخية.
____________
(1) تاريخ ابن شحنة على هامش الكامل ج11 ص114.
(2) نعتذر الى سيدنا أبي عبيدة عن ذكر اسمه مجرداً عن اللقب ، وليس هذا ذنبي بل ذنب الاجل الذي عجل بروحه قبل أن يصير الامر اليه فيمنحه الناس لقباً من الاُلقاب ، وأما لقب الامين فالارجح عندي أنه لم يحصل

=


( 96 )

ولا ينبغي ان نترقب دليلاً مادياً أقوى من كلام الزهراء الذي بينا اشعاره الى هذا المعنى بوضوح لمعاصرتها لتلك الظروف العصيبة. فلا ريب أنها كانت تفهم حوادث تلك الساعة فهما اخص ما يوصف به انه اقرب الى واقعها وأكثر اصابة له من دراسة يقوم بها النقاد بعد مئات السنين.
ومن حق البحث ان نسجل ان الزهراء هي أول من أعلنت ـ ان لم يكن زوجها هو المعلن الاول ـ عن التشكيلات الحزبية للجماعة الحاكمة واتهمتها بالتآمر السياسي ثم تبعها على ذلك جملة من معاصريها كأمير المؤمنين صلوات الله عليه ومعاوية بن ابي سفيان ـ كما عرفنا سابقاً ـ .
وما دام هذا الحزب الذي تجزم بوجوده الزهراء ويشير اليه الامام ويلمح اليه معاوية هو الذي سيطر على الحكم ومقدرات الامة وما دامت الاسر الحاكمة بعد ذلك التي وجهت جميع مرافق الحياة العامة لخدمتها قد طبقت اصول تلك السياسة وعناصر ذلك المنهج الحزبي الذي دوخ دنيا الاسلام فمن الطبيعي جداً ان لا نرى في التأريخ أو على الاقل التاريخ العام صورة واضحة الالوان لذلك الحزب الذي كان يجتهد ابطاله الاولون في تلوين أعمالهم باللون الشرعي الخالص الذي هو أبعد ما يكون عن الالوان السياسية والاتفاقات السابقة.

* * *

قالت : ـ
( فوسمتم غير ابلكم ، وأوردتم غير شربكم هذا والعهد قريب. والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابداراً زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين.
____________
=
عليه عن طريق النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ولا عن طريق الناس وانما لقب بالامين لمناسبات حزبية خاصة ليس من شأنها تقرير الاوسمة الرسمية.

( 97 )

أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تجلب ثم احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً وابشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة عليكم )(1).
لئن كان الصديق وصاحباه يشكلون حزباً ذا طابع خاص فمن العبث ان ننتظر منهم تصريحاً بذلك أو نتوقع ان يعلنوا عن الخطوط الرئيسية لمناهجهم ويبرروا بها موقفهم يوم السقيفة ومع هذا :
فلا بد من مبرر . .
ولا بد من تفسير . .
فقد ظهر في ذلك الموقف تسرعهم الى اتمام البيعة لأحدهم وتلهفهم على المقامات العليا تلهفاً لم يكن منتظراً بالطبع من صحابة على نمطهم لأن المفروض فيهم أنهم أناس من نوع اكمل وعقول لا تفكر الا في صالح المبدأ ولا تعبأ الا بالاحتفاظ له بالسيادة العليا. أما الملك الشخصي وأما اقتناص الكراسي فلا ينبغي ان يكون هو الغاية في حساب تلامذة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
أحس الحاكمون بذلك وادركوا ان موقفهم كان شاذا على أقل تقدير فأرادوا ( رضي الله عنهم ) ان يرقعوا موقفهم بالأهداف السامية والخوف على الاسلام من هبوب فتنة طاغية تجهز عليه ونسوا أن الرقعة تفضح موضعها وان الخيوط المقحمة في الثوب تشي بها.
ولذا دوت الزهراء بكلمتها الخالدة : ـ
زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين
____________
(1) وردت هذه القطعة في خطابها الثاني الذي ألقته على نساء المهاجرين والانصار في بيتها.
( 98 )

نعم انها الفتنة ثم هي ام الفتن بلا ريب.
ما أروعك يا بضعة النبي حين تكشفين القناع عن الحقيقة المرة وتتنبئين لأمة أبيك بالمستقبل الرهيب الذي تلتمع في أفقه سحب حمراء ؟
ماذا أقول‏ ؟ . . بل انهار من دم تزخر بالجماجم وهي تنعى على سلفها الصالح فعلهم وتقول : ألا أنهم في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين.
كانت العمليات السياسية يومئذ فتنة وكانت أم الفتن.
كانت فتنة في رأي الزهراء ـ على الأقل ـ لأنها خروج على الحكومة الاسلامية الشرعية القائمة في شخص علي هارون النبي (ص) والاولى من المسلمين بأنفهسم(1).
ومن مهازل القدر أن يعتذر الفاروق عن موقفه بأنه خاف الفتنة وهو لا يعلم ان اتنزاع الامر ممن اراده له رسول الله (ص) باعتراف عمر(2) هو الفتنة بعينها المستوعبة لكل ما لهذا المفهوم من ألوان.
وأنا لا أدري ما منع هؤلاء الخائفين من الفتنة الذين لا مطمع لهم في السلطان الا بمقدار ما يتصل بصالح الاسلام ان يسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خليفته أو يطلبوا منه أن يعين لهم المرجع
____________
(1) بنص حديث الغدير الذي رواه «111» من الصحابة و (84) من التابعين باحسان و «353» مؤلف من اخواننا السنة كما يظهر بمراجعة كتاب «الغدير» للعلامة الاميني. واحب أن ألاحظ هنا ان كثيراً من القرآن لم يروه من الصحابة عدد يبلغ مبلغ الرواة لحديث الغدير منهم فالتشكيك فيه ينتهي بالمشكك الى التشكيك في القرآن الكريم.
وأما دلالة الحديث على خلافة علي وامامته فهي أيضاً ترتفع عن التشكيك لوضوحها وبداهتها وتعدد القرائن عليها ولتراجع في ذلك «مراجعات» سيدنا سادن المذهب وحامي التشيع في دنيا الاسلام آية الله السيد عبدالحسين شرف الدين دام ظله العالي.
(2) راجع ج3 شرح النهج ص 114 و115 .

( 99 )

الاعلى للحكومة الاسلامية من بعده وقد طال المرض به أياماً متعددة وأعلن فيها مراراً عن قرب أجله واجتمع به جماعة من أصحابه فسألوه عن كيفية غسله وتفصيلات تجهيزه (1) ولم يقع في أنفسهم مطلقاً أن يسألوه عن المسألة الاساسية بل لم يخطر في بال اولئك الذين أصروا على عمر بأن يستخلف ولا يهمل الامة والحوا عليه في ذلك خوفاً من الفتنة(2) أن يطلبوا نظير هذا من رسول الله (ص) فهل ترى أنهم كانوا حينذاك في غفلة عن اخطار الموقف بالرغم من انذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفتن كقطع الليل والمظلم حتى اذا لحق سيد البشر بالرفيق الأعلى توهجت مشاعرهم بالغيرة على الدين وملأ قلوبهم الخوف من الفتنة والانعكاسات السيئة أو تعتقد معي ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد اختار للسفينة ربانها الأفضل ولذلك لم يسأله السائلون.
دع عنك هذا واختلق لهم ما شئت من المعاذير فان هؤلاء الغيارى على الاسلام لم يكتفوا بترك السؤال بل منعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مقاومة الخطر المرتقب حينما أراد أن يكتب كتاباً لا يضل المسلمون بعده أبداً. والفتنة ضلال واذن فلا فتنة بعد ذلك الكتاب أبداً فهل كانوا يشكون في صدق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو يرون أنهم أقدر على الاحتياط للاسلام والقضاء على الشغب والهرج من نبي الاسلام ورجله الاول.
وخليق بنا ان نسأل عما عناه النبي (ص) بالفتن التي جاء ذكرها في مناجاته لقبور البقيع في اخريات أيامه اذ يقول : ليهنكم ما أصبحتم فيه قد اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم(3).
____________
(1) راجع تاريخ ابن الاثير ج2 ص122.
(2) العقد الفريد ج 3 ص 17.
(3) راجع تاريخ الكامل ج2 ص222.

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله