مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب أضواء على ثورة الحسين للسيد الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

 

ونستطيع أن نؤكد أن هذا الاصلاح هو الذي كان مقصوداً للحسين عليه السلام ومستهدفاً له. وإن لم يصرح به تماماً آخذاً بقانون ((كلم الناس على قدر عقولهم))(128) . وهو هدف جليل وصحيح ولا غبار عليه.
الهدف السادس : المحتمل للحسين عليه السلام في حركته:
هو الاستجابة لأهل الكوفة حين طلبوا منه القدوم عليهم وأخذ البيعة منهم وممارسة الحكم بينهم ، وقالوا : ( وانما تقدم على جند لك مجندة)(129) . فأجابهم بالموافقة وعزم على المسير إليهم . الا أنه لم يوفق للوصول إلى الكوفة حيث اجتمع عليه الجيش المعادي في كربلاء وتم الاجهاز على حركته هناك.
وهذه الاستجابة وان كانت صحيحة بحسب الحكم الظاهري في الشريعة.
اذ يجب عليه سلام الله عليه ان يستجيب لمثل هذا الطلب الجليل. ولكننا مع ذلك لا نعتبره هدفاً حقيقاً للحركة. وانما هي استجابة لا بد منها لسد الألسنة وقطع المعاذير من ناحية ، والتكلم مع الناس على قدر عقولهم. وأما لو لاحظنا الأمر أعمق من ذلك بقليل لوجدنا عدّة اشكالات ترد على هذا الهدف.
أولاً: لأننا نعلم أنه عليه السلام يعلم أن أهل الكوفة يومئذ كاذبون عن الاعراب عن موالاتهم ومبايعتهم ، وانما هم فسقة ومنافقون.
ولا يتوقف الاطلاع على هذا الأمر على الالهام أو التسديد الالهي، وان كان هذا صحيحاً في نفسه. الا أنه أيضاً كان واضحاً لكثير من الناس، يومئذ ، بما فيهم الذين ناقشوه في خروجه، وقالوا له في ما قالوا: ( أن أهل الكوفة قد غدروا بأبيك وأخيك فمن الحري أن يغدروا بك . وانما الأفضل أن تذهب إلى
_________________________
(128) أصول الكافي ج1ص67 حديث 15
(129) الخوارزمي ج1ص195 – الطبري ج6ص197.
اليمن فإن فيها شيعة لابيك)(130) . ويمكن أن يكون هناك حصيناً ضد الاعداء آمناً من شرور الزمان. فمن هذه الناحية، لا يحتمل في حقه أنه كان موافقاً حقيقة على الأمر ، أو أن يكون مصدقاً لهذا الخبر، بالرغم من أهمّيته
ثانياً : انه بشر بمقتله قبل خروجه أكثر من مرة، وقد سبق أن ذكرنا ما يدل على ذلك مما روي عنه سلام الله عليه. اذن، فقد كان يعلم بالنتيجة قبل حصولها، بمعنى أنه يعلم بعدم وصوله إلى الكوفة ولا مبايعهم له ولا نصرتهم أياه. بل يعلم محاربتهم له ومقتله على أيديهم، فانهم قالوا له ، (بأن قلوبنا معك وسيوفنا عليك)(131) .
ثالثاً : انه هدف لم يحصل. وقد سبق أن تحدثنا في الشرائط ان كل هدف لم يحصل فهو ليس هدفاً حقيقياً.
رابعاً : أنه عليه السلام علم وهو في الطريق إلى العراق بغدر أهل الكوفة وقتلهم لمسلم بن عقيل وارتدادهم عن بيعته، وهذا يستلزم بوضوح سقوط تكليفه الشرعي عن الاستمرار بالذهاب إليهم والهمّة في الوصول لهم.
فإن قيل : أم الأمر كذلك غير أن الحر الرياحي جعجع به ومنعه عن المسير إلى حيث يريد وعن الرجوع إلى المدينة المنورة . وذلك سبب إلى وقوع الكارثة المروعة في كربلاء. ولولا ذلك لأمكنه عليه السلام الرجوع إلى المدينة أو الذهاب إلى أي مكان آخر، بعد أن سقط تكليفة الشرعي بالذهاب إلى الكوفة، كما عرفنا.
الا ان جواب ذلك : ان في مثل هذا التفكير جهلاً بالتاريخ الإسلامي كما وصل إلينا. فإن الحسين عليه السلام علم بمقتل مسلم بن عقيل وعذر أهل
_____________
(130) الخوارزمي ج1ص188 مناقب بن شهر آشوب ج3ص240 – اسرار الشهادة ص224
(131) الارشاد للمفيد ص218 - العقد الفريد ج4ص384
الكوفة، حين كان ركبه في منطقة تسمى (زرود)(132) ولم يفكر بالرجوع يومئذ بل استمر في المسير، وهذا معناه انه استمر بالمسير رغم سقوط تكليفه الشرعي المشار إليه في هذا الهدف. وذلك من أجل هدف آخر أعمق وأهم منه. ولم يكن ألتقى بالحر الرياحي(133) يومئذ. وانما ألتقى به بعد ذلك في منطقة تسمى (شرأف)(134) . وعندئذ عرض عليه العودة إلى المدينة المنورة انذاك كان أهل الكوفة قد بدلوا رأيهم به وأعرضوا عنه. فمنعه الحر الرياحي عن الرجوع، وذكر أنه مأمور بمصاحبته حتى يدخله على عبيد الله بن زياد في الكوفة(135).
اذن، فهناك فترة زمنية كافية لم يحدد التاريخ مقدارها ، لعلها أسبوع أو أكثر أو أقل ، كان يمكن للامام الحسين عليه السلام أن يعود بركبه إلى المدينة، وعندئذ لم يكن يلتقى بالحر ولا يجعجع به، وانما كان سلام الله عليه طالباً للشهادة على كل حال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(132) زرود في المعجم مما استعجم ج2ص696 بفتح أوله وبالدال المهملة في أخره . ومعجم البلان ج4ص327 وانها رمال بين التعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة وهي دون الخزيمية بميل وفيها بركة وحوص وفيها وقعة يقال لها يوم زرود.
(133) الحر بن يزيد بن ناجية بن تعلب بن عتاب بن هرمي بن رياح بن بربوع بن حنظلة التميمي....... من الشخصيات الاجتماعية البارزة في الكوفة واحد قواد الجيش الأموي الخارج لحرب الحسين (ع) وكان يقوم فيه ربع تميم وهندان كما يقول الطبري وغيره. وقد ذكر الخوارزمي في مقتله انه لحق بالحسين (ع) مع غلامه التركي ولعل اسمه (عروة) على ما نص عليه بعض المقاتل كمقتل الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ففيه اضافة إلى ذلك استشهاد ولد الحر (علي ) واخيه (مصعب ) كل هؤلاء لثلاثة بني يدي الحر. وفي اللهوف والخوارزمي ان قصة توبة الحر كانت بعد الحملة الأولى من أصحاب الحسين(ع) التي قتل فيها زهاء خمسين رجلاً . (واقعة الطف لآل بحر العلوم ص508).
(134) شراف : في معجم البلدان بفتح أوله وآخره فاء ثانية محققة . سمي باسم رجل يقال له شراف استخرج عيناً حدثت آباراً كبار كثيرة ماؤها عذب من شراف إلى واقعة ميلان.
(135) مقتل الخوارزمي ج1ص233 - الفتوح لابن أعثم ج 5 ص138 - أسرار الشهادة ص232
اللهم الا ان يقال : انه عليه السلام أدرك بوضوح بعد أن أخبر بغدر الكوفة ببيعته انه لا يستطيع أن ينجو وهو في هذه المنطقة بالذات من بلاد الله . وبهذا يختلف حاله عن حاله وهو في مكة أو المدينة، فإنه كان يستطيع ان يذهب من هناك إلى اليمن مثلاً، في حين لا يستطيع الآن أن يفعل شيئاً بحسب القانون الطبيعي، لأنه أصبح بمنزلة المحاصر لجييوش بني أمية. وإن لم يكن كذلك فعلاً، الا ان الرجوع يحتاج إلى زمن طويل نسبياً، الأمر الذي يستلزم انهم يدركونه أينما وجدوه.
وهنا ينتج أنه سلام الله عليه كان يائسا من الحياة. وتحدثنا فيما سبق أن اليائس من الحياة يختلف تكليفه الشرعي عن غيره ، ويستطيع أن يختار الموتة التي يتمناها لنفسه ان كان في مقدوره ذلك، وكان في مقدوره سلام الله عليه ذلك، فاختار لنفسه.
الهدف السابع : المحتمل لحركة الحسين عليه السلام
اعطاء الأمثولة للدين الحنيف القويم، وأنه يستحق هذا المقدار العظيم من التضحية والفداء. في سبيل الله وفي سبيل اقامة الأحكام الإسلامية والشعائر الدينية.
وينبغي هنا أن نلاحظ أن الأمر انما هو مربوط بالله سبحانه قبل أن يكون مربوطاً بشيء آخر ، لان الدين على عظمته انما اكتسب الأهمية لأنه رسول الله. والمعصومون أنما حصلوا عليها، لأنهم أولياء الله. اذن فالأمر مربوط بالله مباشرة وليس غيره من قريب ولا بعيد . وهو الذي يستحق الفداء في الحقيقة، وان كان هو في غنى عن العالمين. ولذا ورد في تفسير قوله تعالى ( وفديناه بذبح عظيم)(136) .
يعني الحسين عليه السلام. وهو لم يفد اسماعيل الذبيح سلام الله عليه. كما هو ظاهر السياق، بل وقع السياق في سبيل الله وفي طريق توحيد الله
_____________
(136) سورة الصافات . آية 107

وطاعته . وهو نفس الطريق الذي ذبح من اجله اسماعيل عليه السلام وبعث فيه الأنبياء وأرسلت الكتب السماوية وحصل ما حصل.
وفي هذا السبيل، قال الحسين عليه السلام: (( هؤّن ما نزل بي أنه بعين الله))(137). كما قيل انه حين سقط جريحاً لا يستطيع أن يواصل القتال، كان يردد قول رابعة العدوية:
تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال لكي اراكا
ولو قطعتني في الحب اربا لما مال الفؤاد إلى سواكا(138)
________________________
(137) اللهوف لابن طاووس ص49 البحار للمجلسي ج45 ص46
(138) شاع على لسان الخطباء الحسينيين هذه الأبيات وأنها لرابعة العدوية وقد قالها الحسين (ع) عند مصرعه ولا أعلم على أي مصدر قد اعتمد هؤلاء الخطباء أو من أين أتى هذا الشياع فقد تتبعت اغلب المصادر المعتمدة التي تذكر مقتل الحسين (ع) فلم أجد أحداً يذكر أن الحسين (ع) قال هذه الأبيات أو حتى أنها نسبت إليه ونفس الشؤء بالنسبة إلى رابعة العدوية فأغلب المصادر التاريخية التي ذكرتها لم تذكر أو تنسبها لها. ولقد ذكر الابيات ابي فرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي في كتابه (كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة ص27) الا انه نسبها إلى ابراهيم بن ادهم. وهو أحد الزهاد المشهورين.
واغلب الظن ان الخطباء استعملوها مجازاً كلسان حال عن الحسين(ع). والا بحسب القول الأول ببعد أن تكون للامام الحسين (ع) وذلك لسببين:-
الأو ل: أن الحسين (ع) أسبق زمناً من رابعة قوافعة الطف حدثت في 61هـ ورابعة العدوية ولدت في القرن الثاني الهجري حيث ذكر المؤرخون أو وقاتها كانت في سنة 180 هـ وبهذا لا يمكن أن يكون الحسين رآها أو سمعها فضلاً عن ان يتمثل بأبياتها. وكذا هو الحال بالنسبة إلى ابراهيم بن ادهم الذي هو متأخر زمناً قد يصل لعدّة قرون عن الحسين (ع).
الثاني : عدم وجود مصدر معتمد يذكر أن الحسين (ع) قال هذه الأبيات.
وفي نفس الوقت نستبعد ان تكون هذه الأبيات لرابعة العدوية وذلك لوجهين :
الأول : عدم وجود مصدر ينسب هذه الأبيات لرابعة. بل أـن بعض المصادر نسبتها إلى غيرها كابراهيم بن ادهم كما في (كشف الكربة).
الثاني : مضمون هذه الأبيات يجعلنا نستبعد ان تكون لرابعة فالبيت يقول(( وايتمت العيال لكي أراكا)) بينما يذكر لنا التاريخ أن رابعة لم تتزوج قط وانها توفيت بدون زوج ولا أطفال فكيف أيتمت

________________
العيال ؟ فإن قيل : انه لربما أريد بالعيال المعنى الآخر وهو الأعالة أي كل ما تعيله رابعة وتنفق=
= عليه . قلنا : ان رابعة لم تكن ميسورة الحال او غنية لكي تعيل غيرها بل بالعكس فان المؤرخين يذكرون أنها كانت فقيره وكان الذين يعرفونها هم الذين يعيلونها ويساعدونها على المعيشة وبهذا ينفي هذا المعنى أيضاً عن رابعة العدوية. فإن قيل : أن هذه الأبيات يمكن أن تكون لرابعة الشامية* وقد توهم أنها لرابعة العدوية والأولى كانت متزوجة وميسورة الحال فيمكن أن ينطبق معنى البيت الشعري عليها. وقلنا : ان هذا لا يتم لآن البيت الذي يقول:
تركت الخلق طرأ في هواكا وأيتمت العيال لكي آراك
يوحي لمعنيين : الأول : هو ترك الدنيا والخلق عن طريق الموت فهي ذاهبة إلى جوار الله في العالم الآخروي والموت بصورة شرعية أكيداً كالجهاد في سبيل الله ولم ينقل ذلك عن رابعة الشامية ولا حتى عن رابعة العدوية.
والثاني : ترك الخلق عن طريق الغيبة عنهم والأنعزال لمناجاة الله وعبادته بدون ان ترى أحداً وأن أحداً يراها وهذا ايضاً لم ينقل عن رابعة الشامية بل بالعكس فلقد عاشت حياتها مع زوجها مطيعة له حريصة على خدمته حتى أنها زوّجته ثلاث نساء غيرها خوفاً أن تكون قد الهتها العبادة عن بعض واجبات زوجها فيجد ذلك عند الباقيات.
ويمكن أي يسأل أحدهم اذا كان كذلك فمن أين شاع اسناد هذه الأبيات لرابعة؟ قلت : أن أغلب الظن ان الذين ذكروا هذه الابيات – من خطباء وغيرهم- لم يركزوا على ذكر الناظم لها. فعند التناقل جهل إسمه وخصوصاً مع قلة المصدار (( والتي تكاد أن تكون نادرة)) والتي تنسب هذه الأبيات لناظمها. وقد نسبت عرفاً لرابعة لوجود أبيات شعرية شبيهة بالأبيات المذكورة معنا ووزناً وقافية قد قالتها رابعة العدوية وقد نقلتها أغلب المصادر التي ذكرت رابعة وهو قولها:
أحبك حبين حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فانشغالي بك عمن سواكا
وأما الذ أنت أهل له فكشفك الحجب لكي آراكا
فلا الحمد في ذي وذال لي وانما لك الحمد في ذي وذاك
ويمكن أن نقول أيضاً انها قيلت على لسان الحسين (ع) كلسان حال لا أكثر. كما هو المشهور في كثير من الأبيات كقولهم :
ان كان دين محمد لم يسنقم الا بقتلي فيا سيوق خذيني
كقولهم
شيعتي ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني
وغيرها كثير

وفي هذا السبيل ايضاً روي عن زينب العقيلة بن علي أمير المؤمنين عليه وعليها السلام أنها بعد المقتل وضعت يديها تحت الجثمان وقالت: (( اللهم تقبل منا هذا القربان))(139) . وفي بعض الروايات : (( هذا القربان القليل))(140)، يعني القليل مهما كان شريفاً وعظيماً أمام عظمة الله اللامتناهية وأمام استحقاقه اللامتناهي للتضحية والفداء.
اذن فالمسألة الأهم من كل شيء هي أهمية التوجه إلى الله والتضحية في سبيله وتطبيق طاعته والحصول على رضوانه بكل صورة مهما كان الوسائط ومهما كانت النتائج .وهذا هدف صحيح قد تحقق فعلاً، وقد عرفت الأجيال ذلك بكل وضوح.
وقد يخطر في البال : عن قول زينب سلام الله عليها: اللهم تقبل منا هذا القربان : ان قولها (منا) ليس بصحيح ، لأنه وان كان قرباناً عظيماً الا انه انما قدّمه الحسين نفسه، وليس لأحد آخر أن يقدمه ، بل لا معنى لذلك ، لأن
_________________________________________
وقد رجعت سماحة المؤلف في هذه الأبيات فقال لي : انه قد سمعها شخصياً من أحد الخطباء الكبار ولم يقرأها في كتاب ولذلك لم يسندها وانما عبر عنها ب(قيل) . ولمن أراد التوسع في رابعة فليراجع =
=كتاب شهيدة العشق الألهي لعبد الرحمن بدوي وكتاب رابعة العدوية لطة عبد الباقي سرورو فانهما قد ذكر جميع المصادر التي ذكرت رابعة. والتي لا محال لذكرها هنا
_________________
* وهي رابعة بنت اسماعيل الشامية توفيت سنة 235 هـ ودفنت برأس زينا ببيت المقدس وزوجها أحمد بن أبي الحواري وأبوه أبو الحواري ميمون من أهل دمشق وقد كان من العارفين الورعين وقد كان أحمد له نصيب منه توفي سنة 230 هـ وكان قد تزوج ثلاث غيرها وهذه رابعة كانت أيضاً من العابدات الورعات فينقل عن زوجها عندما سئل عنها قال : اذا أتيتها في النهار قالت : بالله عليك لا تفسد علّي صومي واذا اتيتها في الليل قالت : لا تفسد علي عبادتي (كتاب سير السالكات المؤمنات الخيرات لأبي بكر الحصني) وكثير ما كان يشتبه المؤرخون بينها وبين رابعة العدوية التي كانت أسبق زماناً منها.
(139) الكبريت الأحمر ج3ص13 عن الطرازالمذهب
(140) نفس المصدر.
التضحية الحقيقية والألم الحقيقي لم يتحمله غيره ولم يشعر به غيره. فما تفسير كلامها سلام الله عليها؟
جواب ذلك : أن تضحية عظيمة من هذا القبيل، أو أية تضحية أخرى مهمّة، لا تكون ذات مستوى واحد بل على مستويات متعددة لأن انطباعها في نفس صاحبها وفي نفوس الآخرين يكون متعدداً لا محالة. وفي حدود ما نستطيع ان نسفيد منه هنا من المستويات نذكر ثلاثة منها:
المستوى الأول : التضحية بمعنى تحمل الألم والجروح والقتل والصبر عليه طواعية. وهذا المستوى خاص بصاحب التضحية، ولا يمكن أن يكون شاملاً لغيره كما قال السائل.
المستوى الثاني : التضحية بمعنى الاعانة لصاحب التضحية بكل ما يمكن من جهد وجهاد، وتحمل كل بلاء في سبيله، مضافاً إلى تحمل فراقة كشخص محبوب أسرياً ودينياً واجتماعياً.وتحمل الحرمان عن فوائده وتوجيهاته ولطفه.
وهذا المستوى خاص بمن كان مع الحسين عليه السلام من الركب المعاون له في الحياة والموافق له في الأهداف. فإنهم رجالاً ونسائاً وشيباً وشباناً. أتعبوا أنفسهم في سبيله تماماً، وتحملوا شظف(141) العيش وبلاء الدنيا لأجل رضاه الذي يكون سبباً لرضاء الله عزوجل . كما قال ((رضا الله رضانا أهل البيت))(142). ومن هذه الناحية وعلى هذا المستوى كانت التضحية تشملهم. فكأنهم هم اللذين رفعوا الحسين عليه السلام قرباناً لله عزوجل.
ولا شك ان العقيلة زينب سلام الله عليها بنت علي عليه السلام من ذلك الركب المضّحي في سبيل الحسين عليه السلام.ولعلها أهم النساء
_______________
(141) شظف : شظف الرجل شظفاً كان عيشه ضيقاً وشديداً ويابساً فيقال شظف العيش (أقرب الموارد ج1ص529).
(142) الخوارزمي ج2ص5 اللهوف ص 26 كشف العمة للأربلي ج2ص241
الموجودات فيه على الأطلاق. ومن هنا صح لها ان تدعو وتقول : الله تقبل منا هذا القربان.
المستوى الثالث : الموافقة مع الحسين عليه السلام نفسياً وقلبياً وعاطفياً، وبالتالي الموافقة الحقيقية على عمل الحسين (ع) وتضحيته وعلى هدف الحسين (ع) ورسألته. حتى أن الفرد المحب له يحس كأنه أعطى قطعة من قلبه أو كبده وأنها قتلت فعلاً بمقتل الحسين عليه السلام .
وانه (أعني المحب) وإن كان حياً يرزق في هذه الدنيا وفي كل جيل، الا ان التضحية تضحيته والعمل عمله. يكفينا من ذلك ما ورد : (( أن الأعمال بالنيات))(143). (( وأن نية المؤمن خير من عمله))(144). وماورد : ((أن الراضي بفعل قوم كفاعله))(145) .وماورد:
((أن الفرد يحشر مع من يحب))(146) إلى غير ذلك من المضامين التي تجعل التضحية التي قام بها الحسين عليه السلام، منتشرة فعلاً لدى كل محبيه والمتعاطفين معه علىمدى الأجيال. وان كل واحدمنهم يستطيع أن يقول :
اللهم تقبل منا هذا القربان. وليس العقيلة زينب فقط.
وقد يخطر في البال : في حدود هذه التضحيات المشار إليها : أن الأجيال كلها يجب أن تكون مثل الحسين عليه السلام في تضحيته الجسيمة وفعلته
________________
(143) أسعاف الراغبين لصبان على هامش نور الأبصار للشبلنجي ص76 منية المزيد للشهيد الثاني ص42-جامع السعادات ج3ص112.
(144) مصباح الشريعة ص5 منية المريد للشهيد الثاني ص43 - جامع السعادات ج3ص118
(145) عيون أخبار الرضا للصدوقج1ص273 – نهج البلاغة خطبة 104وفيها يقول أمير المؤمنين (ع) : (الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم وعلىكل داخل في باطل اثمان اثم العمل به واثم الرضا به)
(146) الكافي ج8ص80 حديث 35 بتصرف أمال الطوسي المجلد الثاني ص245 مجلس يوم الجمعة 2 رجب
الكريمة. فتضحي بالنفس والنفيس في سبيل الأهداف التي قتل لأجلها الحسين عليه السلام.
وجواب ذلك : أن الأمر ليس كذلك باستمرار، واثما قد يحصل ذلك أحياناً قليلة ، ولا يحصل ذلك أحياناً كثيرة وكل فرد يجب أن يحسب حساب تكليفه الشرعي أمام الله عزوجل. ونشير فيما يلي أن التكليف الشرعي كثيراً ما لا يقتضي ذلك. على عدة مستويات:
المستوى الأول : ان التضحية التي أرادها الحسين عليه السلام واستهدف حصولها، وقد حصلت فعلاً ، هي من اأهمية والعظمة بحيث لا تكون مقدورة لأحد اطلاقاً .وان زعم الزاعم لنفسه انه يتحملها ، الا أنه يخدع نفسه لا محالة. يكفي في ذلك أنه سلام الله عليه معصوم وأعمال المعصومين بلا شك فوق طاقة الأفراد الاعتياديين مهما تصاعدوا في درجات الايمان والأخلاص.
ومن هذا القبيل ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام عن زهدة : ((الا انكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني – يعني على أنفسكم الأمارة بالسوء – بعفة وسداد ...... إلى آخر ما قاله))(147).
المستوى ا لثاني : انه لو كانت تضحيات الحسين عليه السلام واجبة على الأجيال بعده، لكان أولى من يقوم بها أولاده المعصومون عليهم السلام، مع العلم أنه لم يفعل ذلك ولا واحد منهم . اذن، فلماذا يجب أن يكون تكليفنا في الأجيال المتاخرة مثل تكليفه ولا يكون مثل تكليف وعمل أولاده، مع أنهم جميعاً معصومون. يكفي أننا يمكن أن نأخذ بعمل العدد الأكثر من المعصومين وهو الهدوء وليس الثورة فإن أولاده المعصومين تسعة وهو واحد.
المستوى الثالث : أن الأصوب والأحجى لكل جيل هو أن ينظر إلى
________________
(147) نهج البلاغة شرح ابن أبي الحديد كتاب 45ج 16 ص205
تكليفه الشرعي أمام الله سبحانه، هل هو التضحية أو التقية. ولا شك أن التكليف الغالب في عصورنا هذه عصور الغيبة الكبرى هو التقية وليس التضحية. لمدى تآلب الاعداء وترصدهم في العالم ضدنا من كل صوب وحدب. بدون وجود طاقة فعلية عند ذوي الأخلاص لمقابلتهم ومضادتهم. ومن تخيل هذه القابلية، فهو متوهم سوف يثبت له الدهر أعني بالتجربة وهمته. والأفضل له هو العمل بالتكليف الفعلي وهو التقيةالمتنجة لحفظ أهل الحق من الهلاك المحقق في أي نقطة من نقاط هذا العالم المعروف.
الهدف الثامن : المحتمل لحركة الحسين عليه السلام.
ما يذكره بعض الناس، او طبقة من الناس من أن الحسين عليه السلام قتل من أجل اقامة المأتم عليه والبكاء عليه، فانها من الشعائر الدينية المهمة، التي توجب هداية الكثير من الباطل إلى الحق.
ويمكن ان يستدل على ذلك بما ورد عن النبي (ص) ما مضمونه : (( ان لولدي الحسين حرارةفي قلوب المؤمنين لا تخمد إلى يويم القيامة))(148) . وهذه الحرارة أمر وجداني قائم فعلاً يحس بها الفرد المحب للحسين في قلبه، وهي التي تدفعه إلى التعب في هذا الطريق.
ونتكلم عن هذا الهدف ضمن المستويات التالية:
المستوى الأول : أنه ينبغي أن يكون واضحاً ان هذا الهدف بمجرده لا يصلح ان يكون هدفاً لكل تلك التضحيات التي قام بها الحسين عليه السلام . الا اذا اندرجت تحت عنوان اهم واعم وهو طاعة الله سبحانه او هدايةالناس او الاجيال لهذه الطاعة، أو التضحية في سبيل عقيدة التوحيد، كما اسلفنا ونحو ذلك، مما تكون الشعائر والمآتم مصداقاً لها وتطبيقاً لها، وليس النظر إليها نظراً
______________
(148) مستدرك الوسائل ج2ص217 الكافي للكيليني ج8ص206

مستقلاً عن غيرها. وهذا ما سيتضح أكثر من المستويات التالية بعونه سبحانه.
المستوى الثاني : أنني أعتقد أن الله سبحانه جعل بأزاء تضحية الحسين عليه السلام نوعين مهمين من الثواب لا نوعاً واحداً، احدهما : الثواب الآخروي وهو المشار إليه بقول النبي (ص) –في الرواية- : ((ان لك عند الله مقامات أو درجات لن تنالها الا بالشهادة))(149).
وثانيهما : الثواب الدنيوي : وهي عدة امور يسّرها الله سبحانه وتعالى خلال الأعوام والاجيال المتأخرة عن مقتله سلام الله عليه. وأعتقد انه جل جلاله انما يسّرها لمصلحة الاجيال. والا فإن الحسين عليه السلام لاجل من ان تناله الفائدة منها بقليل ولا بكثير. وان كنا نقول : انها تصلح ان تكون جزاءً له على التضحية لمدى أهميتها البالغة كما سنعرف. آلا انها دنيوية اي حاصلة في الدنيا، والحسين عليه السلام لم يقصد في تضحيته اي شيء من امور الدنيا مما قل أو كثر يقيناً. وانما حصلت لأجل مصلحة هداية الآخرين لا اكثر. ونستطيع ان نعد منها الأمور التالية:-
الأمر الأول : ان الإمامة في ذريته لا في ذرية الحسن اخيه عليه السلام.
الأمر الثاني : حسن الظن به خلال الاجيال ابتداء من قاتليه انفسهم إلى الاجيال المتأخرة عنه إلى يوم القيامة. حتى في ضمائر الاعداء وغير المسلمين ولذا نسمع قاتله يقول للحاكم الاموي بعد انتهاء الواقعة على ما ورد:-
إملاً ركابي فضة أو ذهبا اني قتلت الفاري المحجبا
قتلت خير الناس أمّا وابا(150)
______________
(149) امالي الصدوق مجلس 30ص135 الخخوارزمي ج1ص185 - البحار ج44ص328
(150) العقد الفريد ج4ص381 تاريخ الطبري ج6ص261 الكامل لابن الاثير ج3ص296- كشف العمة للابلي ج2ص263 مقتل الخوارزمي ج2ص40 مناقب ابن شهر آشوب ج3 ص256
______________________
وقد اختلف المؤرخون في قائل الأبيات وبالتالي في قاتل الحسين (ع) ومن الذين ذكرهم المؤرخون في قتل الحسين (ع) (كما أحصاهم باقر شريف القرشي في حياة الإمام الحسين ج3) هم : =
= أولاً : سنان بن انس – الكامل لابن الاثير ج3ص295 مقاتل الطبيين اللهوف لابن طاووس-
البداية والنهاية ج8ص88 وفيه يقول الشاعر
(( وايّ رزية عدلت حسيناً عداة يثيره كف سناني)) الاستيعاب ج1ص379
ثانياً : شمر بن ذي الجوشن - الخوارزمي ج2ص36 - البحار للمجلسي ج45ص56
ثالثاً : عمر بن سعد - خطط المقريزي ج2ص268 مناقب ابن شهر آشوب ج5ص119
رابعاً : خولي بن يزيد الاصبحي – درر الابكار في وصف الصفوة الأخيار ص38 – مناقب ابن شهر آشوب ج3ص259 الفتوح لابن اعثم ج5ص218.
خامساً : شل بن يزيد الاصبحي – تاريخ الخميس ج2ص333 – الأخبار الطوال للدينوري ص231 حيث قيل ان خولى بن يزيد الأصبحي نزل عن فرسه ليحتز رأس الإمام (ع) فارتعدت يداه فنزل إليه اخوه شبل فاحتز رأسه ودفعه لأخية.
سادساً : الحصين بن نمير - المعجم الكبير للطبراني – الافادة في تاريخ الائمة السادة.
سابعاً : رجل من مذحج - تهذيب التهديب لابن حجر ج2ص353 (وقد انفرد بنقله)
ثامناً: المهاجر بن أوس – نص على ذلك السبط بن الجوزي ولم يذكره غيره. (مرآة الزمان في تاريخ الاعيان).
أقول : والراجح في هذه الأقوال كلها ان قاتل الحسين (ع) هو الشمر بن ذي الجوشن (لع) وذلك لعدة مرجحات منها ان الزيارة القائمية صريحة به وهي زيارة الناحية والواردة عن الإمام الحجة (عج) والتي يقول فهيا: (فلما رأت النساء جوادك مخزيا نظرن سرجك عليه ملويا .... وإلى مصرعك مبادرات والشمر جالس على صدرك واضعاً سيفه على نحرك قابض على شيبتك بيده ذابح لك بمهنده ..... الخ) (مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي ص456).
وهكذا جملة من الروايات المعتبرة. ومع ذلك لا شك في ان حولى بن يزيد الاصبحي وسنان بن انس (لع) ممن له مدخلية في قتل الحسين (ع) لذلك قال بعض العلماء ان القاتل كان ثلاثتهم حيث ذكر البعض ان هؤلاء الثلاثة عندما قدموا إلى عمر بن سعد ومعهم رأس الحسين (ع) قال خولى: انا ضربته بسهم فارديته عن جواده إلى الارض وسنان يقول : انا ضربته بالسيف ففلقت هامته والشمر يقول: أنا ابنت رأسه عن بدنه. (أسرار الشهادة للدربندي ص427)

الأمر الثالث : تأثير تضحيته الجسيمة في هداية الناس وتكاملهم ايماناً، كل حسب استحقاقه، في اي مكان ووزمان وجد الفرد إلى يوم القيامة. ومهما كانت نقطة بدايته، حتى لو كان كافراً، بل حتى لو كان معانداً احياناً.
الأمر الرابع : هذه الحرارة التي في قلوب المؤمنين من محبيه، والتي اشرنا إليها فيما سبق. والتي اوجبت تزايد ذكراه وتزايد اللوعة على ما اداه من تضحيات وما عاناه من بلاء.
الأمر الخامس : ان ذكر أي معصوم غير الحسن عليه السلام بما فيهم النبي (ص) وعلي عليه السلام، في أي مجلس من مجالس محبيه، وفي اي مناسبة للحديث سواء كانت مأتماً أو خطبة او موعظة او غيرها، فإنها لات كاد تكون تامة ولا مرضيّة للقلوب ما لم تقترن بذكر الحسين عليه السلام، والتألم لمصابه.
الأمر السادس : البكاء عليه لدى محبيه جيلاً بعد جيل واقامته الماتم والشعائر عليه سلام اله عليه. وهذا هو الذي ذكره بعض الناس كهدف مستقل كما ذكرنا. وهو انما يصح كنتيجة طبيعية وفق الله سبحانه وتعالى محبيه اليها لأجل مصلحتهم وهدايتهم. وسنتكلم عنها في المستوى الآتي من الحديث بعونه سبحانه لنفهمها بشكل واضح.
المستوى الثالث : الحديث عن البكاء عليه السلام واقامة المآتم لذكرى مصابه . وهنا ينبغي لنا ان نقول : ان في قضية الحسين عليه السلام جانبين مهمين لا يكاد احدهما ان يكون اقل اهّمية من الأخر:
الجانب الأول : جانب النعمة والرحمة، بهذا التوفيق الالهي العظيم للحسين عليه السلام واصحابه واهل بيته، بهذه المقامات وهذا الثواب الجزيل والعطاء الهني وهذا الجانب يقتضي الفرح والاستبشار لا الحزن والتألم . بل كما كان البلاء الدنيوي اكثر، كان الثواب الآخروي والتقرب الالهي اكثر، فيكون

الاستبشار اكثر.
وهذا ما ورد عن اصحابه المقاتلين معه انه قال احدهم: (عما قليل سنعانق الحورالعين)(151).وقال آخر : (ليس بيننا وبين الجنةالا ان يميل علينا هؤلاء باسيافهم)(152). وهم يعلمون انهم سيعانون الجرح والقتل والبلاء الصارم. ومن ذلك قول الشاعر يصف العباس عليه السلام اخو الحسين وقد حارب معه وابلى بلاء حسناً وعظيماً : قال الشاعر:
عبست وجوه القوم خوف الموت والعباس فيهم ضاحك يتبسم(153).
ومنه قول علي بن الحسين الأكبر فيما ورد عنه : (( لا نبالي اوقعنا على الموت ام وقع الموت علينا))(154)، يعني ما دمنا على الحق كما ورد في اول الرواية. وعدم المبالاة يعني عدم الحزن والتألم لهذا البلاء النازل. وانما هو الصبر بإيمان والجلد بيقين.بل الاستبشار برحمة الله ورضوانه.
واذا كان غير المعصومين يحسّ بذلك فكيف بالمعصومين ومنهم الحسين نفسه. واذا كان اصحابه وذوه ممن هو تحت ذلك البلاء العظيم نفسه، لا يشعرون بالحزن والالم النفسي، بل بالاستبشار فكيف ينبغي ان يكون حال من سواهم من الناس من محبين وأولياء .
الجانب الثاني: جانب الحزن والالم لما أصاب الحسين عليه السلام واهل بيته واصحابه ونسائه من بلاء وقتل وتشريد وسبي واذلال. وهي حادثة بمجموعها تعتبر اعظم ما وقع من البلاء الدنيوي على اي مجموعة اخرى من
______________________
(151) تاريخ الطبري ج6ص241 – اسرار الشهادة للدربندي ص249
(152) نفس المصدر – بتصرف
(153) للسيد جعفر الحلي – المتوفي فجأة في شعبان لسبع بقين منه سنة 1315هـ( ادب الطف ج8 (ص99-115)
(154) الطبريج6ص231 - الكامل لابن الأثر ج3ص282 - اللهوف ص30
البشر خلال التاريخ البشري الطويل. ومن هنا كان رد فعلها المأساوي اعظم وأجل من كل حادثة آخرى في العالم مماثلة او غير مماثلة. ومن هنا قال الشاعر عنها
وفجائع الأيام تبقى فترة وتزول وهي إلى القيامة باقية(1155).
وكلا هذين الجانبين المشار إليهما ناجزان فعلاً في حادثة الحسين عليه السلام. ويحتوي كل منهما على نقطة قوة ونقطة ضعف، ينبغي ان نلاحظهما لكي نعرف القيمة الحقيقية لكل منهما اولاً. ولماذا اختير الجانب الثاني المأساوي في هذا الصدد.
ولكل نقطة قوة في احدهما يقابله نقطة ضعف في الجانب الآخر. فنقطة القوة في الجانب الأول، هي كونه جانباً آخروياً محضاً، تقابله النقطة في الجانب الآخر، وهو كونه جانباً دنيوياً. لوضوح ان البلاء الذي عاناه الحسين عليه السلام ومن معه بلاء دنيوي خالص لا يشوبه بلاء آخروي اطلاقاً بل له في الآخرة اعلى المقامات وارفع الدرجات.ونقطة القوة في الجانب الثاني كونه سبباً لتربية المجتمع تربية صالحة ومؤكدة اكثر من الجانب الأول بكثير.ذلك المجتمع المتربي في حالته الاعتيادية على العواطف الشخصية والاسرية والدنيوية عموماً. اذن فمن المصلحة توجيه هذه العواطف إلى وجهة صالحة ومربية.فكما يبكي المؤمن على ولده أو والديه فليبك على الحسين (ع) واصحابه لينال في الآخرة ثواباً ويقيم للدين شعاراً. ومن هنا يكون توجيه البكاء والحزن للمؤمنين
_______________
(155) للشيخ عبد الحسين الأعسم بن الشيخ محمد علي بن الحسين بن محمد الاعسم الزبيدي النجفي. ولد في حدود سنة 1177هـ وتوفي 1247 هـ بالطاعون العام في النجف الاشرف عن عمر يناهز السبعين ودفن مع أبيه في مقبرة آل الأعسم. وهذا البيت من قصيدة طويلة مطلعها:
قد اوهنت جلدي الديار الخالية من اهلها ما للديار وماليه
(ادب الطف ج6ص287 – 294)
نحو الدين ونتائجه الطيبة اكثر بكثير مما يوجه الفرح والاستبشار المشار إليه في الجانب الأول.
مضافاً إلى ان الفهم العام لأي شيء بما فيها واقعة الحسين (ع) انما هو ظاهرها الدنيوي وليس واقعها الآخروي، فكان من الأفضل توجيه الناس إلى ما يفهمون والاستفادة لهم بمقدار ما يدركون.
ومن هنا ورد عن الشريعة المقدسة وقادتها الأوائل بشكل متواتر لا يقبل الشك: الحث على البكاء على الحسين وحادثته المروعة(156) .وكان الطعن في ذلك ومناقشته بقصد مخلص او مغرض ناشيء من خطأ فاحش لا يغتفر.
فمن امثلة ما ورد: أن النبي (ص) بكى على الحسين (ع) عند ولادته(157). وان امير المؤمنين (ع) ذكر واقعة الطف وانه نظر إلى كفي ولده العباس عليه السلام. وتنبأ بأنهما يقطعان في تلك الواقعة(158) . وان الإمام الحسن (ع) حين كان على فراش الموت مسموماً سمع اخاه الحسين يبكي عليه.فقال له : (( أتبكي عليّ ام انا ابكي عليك. لا يوم كيومك با ابا عبد الله فان لكي يوماً)
_______________
(156) امالي الصدوق ص125 مجلس 29- الدمعة الساكبة م1ص300 – البحار للمجلسي ج44 ص281
ومن هذه الأخبار ما ورد في البحار ج44 اول باب ثواب البكاء ص278 بسنده عن علي بن الحسين بن فضال عن ابيه قال : قال الرضا (ع) : (منتذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة ومن ذكّر فبكى وابكى لم تكبكي عينه يوم تبكي العبون ومن جلس مجلساً يحيي فيه امرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب) وفي امالي الصدوق بسنده عن ابي عمود قال : قال الرضا (ع) (المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال فاستحلت فيه دؤمانا وهتكت في حرمتنا وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا ..... (إلى ان قال).... فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فان البكار عليه تحط الذنوب العظام).
(157) الخصائص الكبرة لسويطي ج2ص125 - البحار للمجلسي ج44ص251
(158) اسرار الشهادة للدربندي ص263.
اعظم من هذا اليوم))(159).
واما الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام، فقد اصبح احد الخمسة البكّائين من البشر . وخم آدم ويعقوب ويوسف والزهراء وهو سلام الله عليهم اجمعين. وذلك لكثرة بكائه على ابيه سلام الله عليه. في زمن صعب واعلان الاهتمام به الا بالبكاء .ومن هنا كان من البكّائين . حتى كان يخلط طعامه وشرابه بالدموع(160).
واما قصيدة دعبل رحمة الله عليه التي قرأها على الإمام الرضا عليه السلام، فبكي لها وجمع العلويات خلف الستر لكي يسمعن ويبكين(161) فهي رواية اشهر من ان تذكر. وفيها يقول دعبل:
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلا(162) وقد مات عطشاناً بشط فرات
اذن للطمت الخد فاطم عنده واجريت دمع العين في الوجنات (163)
__________________
(159) مثير الأحزان لابن نما ص31 مناقب ابن شهر آشوب ج3ص238 – البحار ج5ص154
(160) مناقب ابن شهر آشوب ج3ص303 ط نجف – امالي الصدوق مجلس 29ص124 - ويتجلى هذا الامر فيما نقله ابن شهر آشوب عن الإمام الصادق حيث قال : (بكى علي بن الحسين عشرين سنة وما وضع بين يديه طعام الا بكى حتى قال مولى له جعلت فدال يا ابن رسول الله اني اخاف ان تكون من الهالكين فقال الإمام : انما اشكو بثي وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون اني لم اذكر مصرع بني فاطمة الا وخنقتني العبرة).
وفي رواية اخرى قال مولى له : اما آن لحزنكان ينقضي فقال له : ويحك ان يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله واحداً منهم فابيضّـ عيناه من كثرة بكائه عليه واحد وحدب ظهره من الغم وكان ابنه حياً في النيا وانا نظرت إلى ابي واخي وعمي وسبعة عشر من اهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني) ابن شهر آشوب ج32ص303.
(161) مقتل الخوارزي ج2ص130 – الدمعة الساكبة ص77 (نقلاً عن الاربلي في كشف الغمة).
(162) مجّدلاً : بمعنى مرمي ملقي على الأرض قتيلاً (مجمع البحرين ج5ص336).
(163) للشاعر دعبل الخزاعي (148 هـ- 246 هـ) وهذان البيتان من قصيدته التائية المشهورة التي مطلعها:

وحسب فهمي انه لمدى تأثير البكاء في النفوس اولاً وفي الاعلام ثانياً وفي التربية ثالثاً. حصلت هناك من المعصومين سلام الله عليهم عدة امور مما اقتضى التركيز عليها:
منها : أنه ابكى رسول الله (ص) بعد موت أولاده. كما ورد عنه انه قال : (( يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يغضب الرب))(164) .
ومنها : ان الامام الباقر عليه السلام كما ورد: اوصى بمال يصرف من ثلثه في نوادب يندبنه في عرفة عند الحج عشر سنوات (165).
ومنها : ان نساء الحسين (ع) من قريباب وبعيدات بقين على حالة الحزن والبكاء المتواصل وترك الراحة والهدوء عدة سنوات. حتى حصلت حركة
_______________
=
تجاوبن بالارنان والزفرات نوائح عجم اللفظ والنطقات
وقد انشدها على الأمام الرضا (ع) فلما وصل إلى قوله
وقبر ببغداد لنفس زكية تضمنها الرحمن في الغرفات
قال الرضا (ع) أفلا لك بيتين بهذا الموضع بها تمام قصيدتك فقال بلى يابن رسول الله فقال الأمام الرضا (ع)
وقبر بطوس يالها من مصيبة الحت على الأحشاء بالزفرات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائما يفرح عنا الغم والكربات
فقال دعبل : هذا القبر الذي بطوس قبر من ؟ قال الرضا (ع) : هو قبر . ادب الطف ج1 ص295 – 309
(164) الخصائص الحسينية للتستري ص40ط نجف- تحف العقول للحسن بن علي البحراني ص32.
(165) وسائل الشيعة للعاملي ج3ص239 . ونقله المرحوم المقرم فيمقتله عن التهذيب للطوسي ج2 ص108 وكتاب المكاسب والمنتهى للعلامي الحلي ج2ص112 والذكرى للشهيد الأول المبحث الرابع من أحكام الأموات وفيمن لا يحضره الفقيه ص36 انه (ع) اوصى بثمانمائة درهم لماتمه وان يندب فيالمواسم عشر سنين. وادعى بعضهم ان هذا العمل غير جائزباعتبار ان صوت المرآة عورة ويحرم على الاجانب سماعه وقد رد هذا القول السيد المقرمفي مقتله ص105 بأفضل جواب بحيث لم يبق شك في بطلانهذا القول وصحة فعل الأمام (ع) فراجع.
المختار الثقفي (166) الذي حاول قتل المتعدين من قتله الحسين(ع) واصحابه في الطف(167).
ومنها : ان الدعاء الموسوم بالندبة(168) انما هو اشعار للنفس بالحزن العميق لغيبة الامام المهدي عليه السلام. فلماذا الحزن ان كان في غيبته حككمة الهية وتسبيب لانتصاره يوم ظهورة؟وما ذلك الا ان البكاء شكل من اشكال التربية وشكل من اشكال الاعلام.
ولنسمع فيما يلي فقرات من دعاء الندبة هذا . لنجد التركيز فيه على الحزن العميق: (( ليت شعري اين استقرت بك النوى(169) بل اي ارض تقلكاو ثرى ابرصوى اوغيرها ام ذي طوى(170) . عزيز علين ارى الخلق ولا ترى ولا اسمع لك حسيساً ولا نجوى. عزيز عليّ ان تحيط بكدوني البلوى
___________________
(166) هو المختار بن ابي عبيد بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غبرة بن عوف بن ثقيف الثقيفي ابو اسحق. كان ابوه من حملة الصحابة وولد المختار عام الهجرة وليست له صحبة ولا رواية. وقد خرج بطلب بثأر الحسين بن علي (ع) واجتمع عليه كثير من الشيعة بالكوفة فغلب عليها وطلب قتلة الحسين (ع) فقتلهم ومنهم شمر بن ذي الجوشن الضبابي وخولي بن يزيد الاصبحي وعمر بن سعد بن ابي وقاص وهو امير الجيش الذي قاتل الحسين وقتل ابنه حفصاً وقتل عبيد الله بن زياد حيث كان ابن زياد بالشام فااقبل في جيش إلى العراق فسيّر غليه المختار ابراهيمبنالاشتر في جيس فلقيه في اعمال الموصل فقتل بن زياد وغيره ولذلك احبه كثير من المسلمين وابلى في ذلك بلاء حسناً وكان يرسل المال إلى أبن عمر وابن عباس وابن الحنفية وغيرهم فيقبلونه منه وكان ابن عمر زوج اخت المختار وهي صفية بنت ابي عبيد ثم سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جمع كثيرمن اهل الكوفة واهل البصرة فقتل المختار بالكوفة سنة 67هـ وكانت امارته على الكوفة سنة ونصف وكان عمره سبعاً وستين سنة ( اسدالغابة ج4ص336).
(167) تاريخ الطبري ج6ص38 ط مصر.
(168) انظره فيمفاتيح الجنان ص532
(169) النوى : البعد والوجه الذي يذهب فيه وينويه المسافر من قرب او بعد (اقرب الموارد ج2ص1363).
(170) ذي طوى : موضع قرب مكة ( اقرب الموارد ج1ص724).

ولا ينالك مني ضجيج ولا شكوى ...... هل من معين فاطيل معه العويل والبكاء هلمن جزوع فأساعد جزعه اذا خلا.... هلا قذيت عين فساعدتها عيني على القذى . هل اليك يا ابن احمد سبيل فتلقى . هي يتصل يومنا منك بغده فنحظى ............ الخ)) (171) هذا ، وسياـي مزيد ايضاح وتفصيل حول هذه الفكرة بعون الله تعالى.


________________
(171) مفاتيج الجنان للشيخ عباس القمي (دعاء الندبة).

اسئلة حول شخص الحسين (ع)
نثير فيما يلي عدداً من الاسئلة عن بعض الجوانب العامة من واقعة كربلاء، مما يرتبط بشخص الحسين (ع) جهد الامكان ، بصفته الشخص الرئيسي والأهم هناك. وكذلك بصفته الشخص الوحيد المعصوم المطلّع على الواقعيات فيهم. نثير هذه الآسئلة لكي نستفيد من اجوبتها تاريخياً ومعنوياً:-
السؤال ا لأول : لاشك ان الامام الحسين عليه السلام، قثد حصل تاريخياً انه بعد ان قتل اصحابه واهل بيته بقى وحيداً فريداً بين الاعداء، لا يجد له ناصراً ولا معينا(172) فهل شعر بذلك من الناحية المعنوية؟
جوابه : النفي بطبيعةالحال . لأنه يشعر انه مع الله جل جلاله ومن كان مع الله كان الله معه . وقال تعال : (ان تصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم)(173 وقال تعالى (فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)(174) وما دام الحسين ( ع) معم الله سبحانه اذن لا يهمه ان يكون احد من الخلق معه على الاطلاق.
وقد يخطر فيالبال : ان هذا الذي قلناه ينافي ما ورد عنه عليه السلام انه قال في ذلك الحال : ((هل من ناصر ينصرنا هل من معين يعيننا هل من ذاب يذبّعن حرم رسول الله (ص)(175) وهذا يدل على انه طلب النصرة من الآخرين على اي حال
______________
(172) الدمعة الساكبةم1ص340 - أسرار الشهادة للدربندي ص369.
(173) سورة محمد . آية7.
(174) سورة البقرة. آية152
(175) اللهوف ص43 - المنتخب للطريحي ص312 - الدمعة الساكبةص340.
وهذا هو الفهم العام بكل تاكيد لهذه العبارة . من كل من جعل الدنيا مبلغ علمه واقصى همه وغاية تفكيره.
وهو لا شك يحتويى على سوء فهم فضيع لهذه العبارة. فإن الحسين عليه السلام انما قالها لا لاجل نفسه. وحاشاه ان ينظر إلى غيرالله عزوجل، وهو الذي قيل انه استشهد ببعض الابيات مما سمعناه فيما سبق.
تركت الخلق طراً في هواكا وايتمت العيال لكي اراكا
ولو قطعتنتي في الحب اربا لما مال الفؤاد إلى سواك
والمهم ان هذا الامر شعر به عدد لا يستهان به من الناس طول التاريخ ممن لا يتصف بالعصمةفكيف حال المعصوم نفسه . وانما نتخيل نحن غير ذلك لأننا لا نفهم مستوى المعصوم ولا يخطر فيبالنا ما يمكن ان يكون علهي تجاه الله عزوجل. وانما طلب الناصر من قبله عليه السلام كان لفائدة الآخرين ، بلا شك ، ولكنه اتخذ حاله تلك سبيلاً للنطق بتلك التعبيرات، حتى لا يضع كل موعضة في غير محلها ولكي يتكلم مع الناس على قدر عقولهم .
وما يمكن ان يتصور منفوائد لهذه الجملة ، عدة امور:
الأمرالأول : طلب الناصر ممن يولد ويوجد خلال الاجيال، ليكون محباً للحسين عليه السلام سائراً في طريقة مضحياً فيسبيل دينيه بمقدار ما يقتضيه حاله. وكل من كان كذلك في اي زمان ومكان فقد اجاب الحسين عليه السلام للنصرة.
الأمر الثاني : طلب الناصر من البشر الموجودين في ذلك العصر، وتذكيرهم بمسؤوليتهم الكبرى المباشرة في الذب عن امامهم المعصوم عليه السلام.امام الله عزوجل. وذلكيكون موازياً لمضمون ما ورد من أن ((ممن
سمع واعيتنا ولم ينصرنا اكبه الله على منخريه في النار))(176).
الأمر الثالث : طلب الناصر من الجيش المعادي الواقف امامه في ذلك الحين .وذلك لنتيجتين: لأنهم كلهم حين يسمعون ذلك فإما ان يستجيب منهم أحد أو لا فإن لم يستجب كان هذا النداء حجة عليه وقهراً له في الآخرة، وتركيزاً لاهمية عقابه وان استجاب بعضه مكان ذلك النداء رحمة له وسببا لتوبته وهدايته ، كما تاب الحر الرياحي رضوان الله عليه ساعتئذ. وأثر هذا النداء في نفسه تأثيره الصحيح(177).
ويكفينا ان نتصور : لو ان عدداً مهما من الجيش المعادي قد التحق بالحسين عليه السلام ، او التحق الجيش كله، كيف سيكون حال التاريخ ا لاسلامي عندئذ؟ ولكنهم على اي حال لميكونوا يستحقون التوبة ولا الرجوع عن الحوبة. قبحهم الله.
ولا ينبغي ان يخطر على البال : انه من خطل القول طلب النصرة من الاعداء مباشرة. ولم يحصل مثل ذلك خلال التاريخ البشري.
وجوابه : ان ذلك منطلق من عدة اسس، ولا يمكن انتكون موجودة في غير الحسين عليه السلام.
الأساس الأول : انهم جميعاً يعلمون، شأنه العظيم وقربه إلى الرسول(ص) وفاطمةالزهراء وانه سيد شباب اهل الجنة وغير ذلك مما لا يخفاهم اجمعين.
الاساس الثاني : ان التعاليم العسكرية في ذلك الحين لم تكن متزمتة وصارمة ودقيقة مثل ما عليه هذا اليوم. ل كان كل فرد من الجيش له رأيه
______________
(176) اسرار الشهادة ص233 - البحار ج44ص315- الخوارزمي ج1ص227
(177) الطبري ج6ص244- اللهوف ص44 – ابن الاثير ج3ص288
وتفكيره وتصرفه كشخص اعتيادي تماما. ومن هنا امكن للحسين عليه السلام ان يتكلم معهم كافراد او كبشر بغض النظر عن موققفهم العسكري .
الأساس الثالث : ان عامة هؤلاء الموجدين ضده ليسوا اعداء له باشخاصهم. بل العدو الحقيقي ليس الا الحاكم الاموي. ثم المأمورون الاساسيون في الجيس كعبيد الله بن زياد الذي كان حاكم الكوفة يوممئذ وعمربن سعد الذي كان القائدالعام للجيش المعادي للحسين عليه السلام. واضرابهم . اما الباقون فهم مجلوبون باسباب عديدة : اهمّها الخوف والطمع وليسوا اعداء حقيقيين. ولذا قال قائلهم (قلوبنا معك وسيوفنا عليك)(178). ولذا صح للامام الحسين 0ع) طلب النصرة منهم لاجل مصلحتهم لعلهم يتوبون او يذّكرون.
السؤال الثاني : هل كان الامام الحسين عليه السلام ييدافع عن عصبية او عنصرية. من عشيرة او جنس او لغة او غير ذلك، او كان يختص دفاعه إلى جانب الدين الحنيف؟
ولعل هناك من محبيه واعدائه على السواء ، من يعتقد انه كان يدافع عن عنصريةاوقبلية . وحاشاه . ومن هنا جاء امثال قول الشاعر
قؤّضي(179) يا خيارم علياً نزار فلقد قوض العاد الرفيع
واملأي العين يا امية نوماً فحسين على الصعيد صريع(180)
وهوواضح بأن الحرب كان بين (نزار) المتمثل بالحسين (ع) وامية
____________________
(178) العقد الفريد ج4ص382 - الارشاد المفيد ص218 – اخوارزمي ج1ص220
(179) قوّض: نزع الأعواد والاطناب (اقرب الموارد ج2ص1052)
(180) للسيد حيدر الحلي (1246هـ - 1304 ه) وهذا البيت من قصيدة طويلة مطلعها
قد عهدنا الربوع وهي ربيع اين لا اين انسها المجموع
(ادب الطف ج 18 – 33 )
المتمثل بيزيد بن معاوية . اذن فالحرب قبلية وعنصرية وليست دينية. ونلاحظ مع شديد الاسف : ان هذا الشاعر يشعر انه محب للحسين، وانه مدافع عن قضيته، وانه ممن يثير الاسى من اجله. هكذا بالباطل تماماً مع شديد الاسف. فالبكاء ينبغي ان يكون على اعتقاد هذا الشاعر قبل ان يكون على مقتل الحسين عليه السلام
مع انه لا يوجد على الاطلاق في التصريحات التي قالها الحسين (ع) واصحابه قبل الواقعة او فيها، ما يدل على ذلك او مايستشم منه ذلك من قريب او بعيد . يكفينا الان اننا نتحدى اي واحد من البشر ان يأتينا بنقل نفوسهم. فاذا لم يأثتنا احد بذلك كفى ذلك حجة على ما نقول ز
واما في هذه العجالة، فينبغي ان نستدل ببعض النصوص الدالةعلى ان الدفاع كان عن الدين وعن شريعة سيد المرسلين (ص) .
مضافاً إلى وضوح هذه الفكرة، وهي انهم لو كانوا يدافعون عن عصبية اوقبلية لما كانت لهم جنة ولذهبوا إلى النار جميعاً ولما ايدهم وبكى من اجلهم رسول الله (ص) وامير المؤمنين وفاطمة الزهراء وزين العابدين والامام الرضا وغيرهم من أولياء الله . فتأييدهم لهم دليل قطعي على صحة هدفهم وقصدهم في شهادتهم تلك . مضافاً إلى ما ننقل الآنمن بعض تصريحاتهم:
انشد الحسين عليه السلام خلال بعض حملاته:
انا الحسين بن علي آليت ان لا انثني
احمي عيالات ابي امضي على دين النبي(181)
وحمايته للعيال على القاعدة لأنه مسؤول عن حمايتهم من الاعداء ما دام
______________
(181) مناقب ابن شهر آشوب ج32ص285 ط نجف – البحار لمجلسي ج45ص49
حياً، وهم نساء وأطفال عزل . وليس هذا من باب التعصب
وانشد علي بن الحسين الأكبر في بعض حملاته ضد الاعداء:
انا علي بن الحسين بن علي نحن –وبيت الله – أولى بالنبي
والله لا يحكم فينا ابن الدعي اطعنكم بالرمح حتى ينثني
اضربكم بالسيف احمي عن ابي ضرب غلام هاشمي علوي(182)
وكونه هاشمياً لا يعني كونها قضية يجب الدفاع عنها وانما الهاشميون متصفنون بصفات خاصة محجوبة عن غيرهم، كالعزة الإجتماعية والشجاعة والخبرة في فنون الحرب.
كما انشد العباس بن علي عدّة مرات في حملاته ضد الاعداء منها قوله:
لا ارهب الموت اذا الموت زقا(183) حتى اوري في المصاليت(184) لقى
نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا اني انا العباس اغدو بالسقا
و اخاف الموت يوم الملتقى(185)
وقوله بعد قطع يمينه:
والله ان قطعتموا يميني اني احامي ابداً عن ديني
وعن امام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين(186).
_________
(182) تاريخ الطبري ج6ص265 - اعلام الورى للطبرسي ص246 مثير الاحزان لابن نما ص51
وتمام الابيات في رواية في الارشا د للشيخ المفيد ص238 وفي مناقب ابن شهر آشوب ج3 ص257.
(183) زقا : بمعنى صاح (اقرب الموارد ج1ص468)
(184) مصاليت : (الاصليت والاصاتي والاصلات والمصلات والمصلت والمنصليت) الرجل الشجاع والماضي في الحوائج المشمر لهاكقوله (وانا المصاليت يوم الوغى وهو مصاليت الرجال). (اقرب الموارد ج1ص656).
(185) مناقب بان شهر آشوب ج3ص265 نجف
(186) نفس المصدر.
وقوله بعد قطع يده اليسرى:
يا نفس لا تخشي من الكفّأر وابشري برحمة الجّار
مع النبي المصطفى المختار قد قطعواببغيهم يساري
فاصلهم يارب حر النار(187)
وقوله رضوان الله عليه عند اعراضه عن شرب الماء:
يا نفس بعد الحسين هوني وبعده لا كنتي ان تكوني
هذا الحسين وارد المنون(188) وتشربين بارد المعين
تالله ما هذا فعال ديني(189)
وخطب زهير بن القين(190) رضوان الله عليه، وهو احد مبرّزي اصحاب الحسين عليه السلام، وقال في خطبته: (ان الله ابتلانا واياكم بذرية نبيه محمد (ص) لينظر ما نحن وانتم عاملون. إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد)(191) وخطب برير بن خضير(192) رضوان الله عليه ايضاً فقال : (يا معشر الناس : ان الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً وداعياً
______________
(187) نفس المصدر – البحار للمجلسي ج45ص41
(188) المنون : أي الموت يقال : (ذهبت بهم المنون) أي المنية (اقرب الموارد ج2ص1245) بتصرف.
(189) البحار للمجلسي ج45ص41 – رياض المصائب ص313
(190) هو زهير بن القين بن قيس بن مالك بن دينار بن ثعلبة بن عمرو اليشكري البجلي. وبجيله هم بنو انمار بن اراش بن كهلان من القحطانية كان شريفاً في قومه نازلاً فيهم بالكوفة. شجاعاً مطرقاً، له في الحروب مواقف مشهورة وكان عثماني العقيدة فاهتدى على يد الحسين حينما التقى به في الطريق وهو راجع من الحج في سنة 60 هـ والحسين وارد إلى العراق وتضم مع الحسين حتى ورد كربلاء فقتل بين يديه وله يوم عاشوراء مواقف حاسمة وخطب ومواعظ سجّلها التاريخ له باحرف من نور.( واقعة الطف لبحر العلوم نقلاً عن أبصار العين للسماوي) ص488 .
(191) تاريخ الطبري ج6ص243 – الكامل لابن الاثير ج3ص288 ط مصر.
(192) بربر بن خضير الهمداني ذكره عامة المؤرخين والرجاليين بالتجلة والتعظيم والاطراء قال المامقاني في رجاله ( وكان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ الفقراء في جامع الكوفة وله في
إلى الله وسراجاً منيراً. وهذا ماء الفرات تقع به خنازير السراد وكلابه وقد حيل بينه وبينه وابن بنت رسول الله (ص) افجزاء محمد هذا؟(193)
وخطب الحر الرياحي بعد توبته مخاطباً الجيس المعادي . وقال فيما قال ( يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر(194). اذا دعوتم هذا العبد الصالح حتى اذا اتاكم اسلمتوه . وزعمتم انكم قاتلوا انفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ......... الخ)(195).
وانشد وهب بن عبد الله بن خباب الكلبي (196) خلال حملته بابيات يقول منها:-
_______________
الهمداني شرف وقدر وهو من اصحاب المؤمنين (ع) وكان من اشراف اهل الكوفة وله كتاب القضاء والأحكام يرويه عن امير المؤمنين وعن الحسن (ع) وكتابه من الصول المعتبرة عند = الاصحاب ولما بلغه خبر الحسين (ع) خرج من الكوفة متوجهاً إلى مكة في طلبه فلحق به ولازمه حتى استشهد بين يديه . (واقعة الطف لبحر العلوم ص501).
(193) مقتل الخوارزمي ج1ص25 – البحار ج45 ص5 امالي الصدوق ص96 مجلس 30
(194) الهبل : بالتحريك قولك هبلته امه اي ثكلته (مجمع البحرين ج5ص497)
العبر : بالفتح فالسكون هو جريان الدمع او تردد البكاء في الصدر (مجمع البحرين ج3ص394 ط نجف)
(195) الكامل لابن الاثير ج3ص288 – تاريخ الطبري ج6ص445 – الارشاد للمفيد ص235.
(196) وهب لكلبي : ذكره ابن شهر آشوب في المناقب ج4ص101 ط قم بعنوان وهب بن عبد الله الكلبي وذكر له الرجل المعروف لأبيه (ان تنكروني فانا ابن الكلبي) وذكره الخوارزمي في مقتله ج2ص13 بعنوان وهب بن عبد الله بن خباب الكلبي ومثله في البحار ج45ص66 وكلاهما يذكران موت امه (ام وهب) عنده لا عند زوجها عبد الله وفي بعض المصادر ومنها البحرا ايضاً ج44ص320 ان اسمه وهب بن وهب ويذكر الخوارزمي في مقتله ان وهب هذا كان نصرانياً قاسم هو وامه على يد الحسين وانه قتل 24 رجلاً و12 فارساً ثم اخذ اسيراًإلى ابن سعد فضربت عنقه ورمي برأسه إلى عسكر الحسين فأخذت امه الرأس فقبلته ثم شدت بعمود القسطاط فقتلت به رجلين فقال لها الحسين ارجعي ام وهب فان الجهاد مرفوع عن النساء فرجعت وهي تقول الهي لا تقطع رجاتي فقال لها الحسين لا يقطع الله رجاك يا ام وهب(واقعة الطف لبحر العلوم) ص528
اني زعيم لك ام وهب بالطعن فيهم مقدماً والضرب
ضرب غلام مؤمن بالرب حتى يذوق القوم مر الحرب(197)
وانشد حبيب بن مظاهر رضوان الله عليه في مثل ذلك، وهو من مبرزي اصحاب الحسين عليه السلام:
اني حبيب وابي مظاهر فارس هيجاء (198) وحرب تسعر
انتم اعدّة عدّة واكثر ونحن اوفى منكم واصبر
ونحن اعلى حدّة واظهر حقاً وانقى منكم واعذر(199)
وانشد نافع بن هلال الجملي(200) في مثل ذلك. وهو ايضاً من مبرزيهم:
ان الغلام اليمني الجملي ديني على دين حسين وعلي
ان اقتل اليوم فهذا املي وذاك رأيي والاقي عملي(201)
وانشد جون(202) مولى ابي ذر الغفاري وهو عبد اسود:
__________________________
(197) الخوارزمي ج2ص12 مناقب بن شهر آشوب ج3ص250 ط نجف
وفي بعض المصادر راد على البيتين السابقين بيتين آخرين هم
أني أمرؤ ذو مرى وغضب ولست بالخوار عند النكب
حسبي بنفسي من عليم حسبي اذا انتميت في تراب العرب
(198) الهيجاء : أي الحرب . (اقرب الموارد ج2ص1414).
(199) مناقب ابن شهر آشوب ج3ص252 – الخوارزمي ج2ص18 – اسرار الشهادة ص274
(200) هو نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مذحد كان سيداً في قومه شريفا سرباً شجاعاً مطرقاً وكان قارئا كاتباً ومن حملت الحديث ومن اصحاب امير المؤمنين (ع) حضر حروبه الثلاث في العراق وخرج إلى الحسين (ع) قبل مقتل مسلم بن عقيل فلقيه في الطريق واصطحبه إلى النهاية وله مواقف معروفة يوم عاشوراء تدل على شدة تمسكه بمبدئه وولاته ذكرته عامة المصادر التاريخين بالتمجيد والاطراء كالطبري في تاريخه والشيخ في رجاله وابن شهر آشوب في مناقبه وله ذكر في الزيارتين الناحية والرجبية. 0واقع الطف لبحر العلوم) ص546
(201) الخوارزمي ج2ص21 – مناقب ابن شهر ىشوب ج3ص252 - أسرار الشهادة ص275
(202) جون : كان جون منضماً إلى اهل البيت بعد ابي ذر فكان مع الحسين وبعده مع الحسين وصحبه في سفره إلى العراق وكان دائسما في خدمته ورد ذكره في الزيارة كما في البحار ج45ص71
كيف ترى الكفار ضرب الاسود بالسيف ضرباً عن بني محمد
اذب عنهم باللسان واليد ارجو به الجنية يوم المورد(203)
وانشد عمرو بن جنادة(204) في مثل ذلك:
اميري حسين ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير ع
لي وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير
له طلعة مثل شمس ا لضحى له غرّة(205) مثل بدر منير(206)
وانشد الحجاج بن مسروق الجعفي (207) :
إقدم حسين هادياً مهدياً اليوم القى جدك النبيا
ثم اباك ذا الندى(208) عليا ذاك الذي نعرفه الوصيا(209)
____________
باسم جون بن حوى وورد اسمه في انساب البلادري ج3ص196 ط بيروت بعنوان حوى مولى ابي ذر (واقعة الطف لبحر العلوم) ص550
(203) الخوارزمي ج2ص19 مناقب بن شهر آشوب ج3ص252 – اسرار الشهادة ص275
(204) عمرو بن جنادة : قالوا وكان جنادة بن كعب الانصاري الخزرجي من الشيعة المخلصين في الولاء وقد خرج مع الحسين من مكة ومعه زوجته ام عمرو وولده عمرو وهو غلام لم يراهق وقيل بن احدى وعشرين او ابن تسع سنين وقد قتل ابوه جنادة في الحملةالأولى التي قتل فيها من اصحاب الحسين زهاء خمسين رجلاً فاقبلت زوجته إلى ولدها عمرو فالبسته لامه الحرب وقالت له يا بني اخرج وقاتل بين يدي ابن رسول الله (ص) فخرج الغلام واستأذن الحسين (ع) في القتال فأبى الحسين ان يأذن له وقال هذا غلام قتل ابوه في المعركة ولعل أمه تكره خروجه فقال الغلام: ان امي هي التي امرتني بذلك فاذن له وقاتل حتى قتل ( واقعة الطف لبحر العلوم ص553).
(205) العّرة : بالضم بياض في جبهة الفرس قدر الدرهم (اقرب الموارد ج2ص867) والغرة في الجبهة بياض فوق الدرهم ورجل أغر اي صبيح 0مجمع البحر ج3ص422).
(206) البحر للمجلسي ج45ص27 مناقب ابن شهر اشوب ج3ص253
(207) هو الحجاج بن مسروق بن مالك بن ثقيف بن سعد العشيرة المذحجي الجعفي كان من الشيعة المخلصين صحب امير المؤمنين (ع) في الكوفة ولما سمع بخروج الحسين (ع) من المدينة إلى مكة خرج من الكوفة إلى مكة فالتحق بركاب الحسين (ع) وظل معه يؤذن له في اوقات الصلوات إلى حين استشهاده في كربلاء . (واقعة الطف لبحر العلوم ص555).
(208) الندى : بمعنى الجود والكرم (مجمع البحرين ج1ص41).
(209) الطبري ج6ص353 - مناقب ابن شهر آشوب ج3ص252 – الخوارزمي ج2ص20

إلى غير ذلك من النصوص . وفيما نقلناه الكفاية لوضوح الفكرة. وهو تسالم الحسين عليه السلام واصحابه على خدمة الدين ونصر سيد المرسلين.
وهذا وينبغي ان نلتفت إلى ان مقصد هذا المعسكر الشريف وان كان كذلك. الا ان مقصد المعسكر المعادي لا نحاشيه من كل عنوان زائف وقصد دنيوي هزيل، بما فيها لاعصبية والعنصرية والتعصب الأعمى . حتى لعل المعاندين منهم كانوا ينظرون إلى الحسين (ع) بهذه الصفة وحاشاه.
السؤال الثالث : من الأسئلة العامة حول الحسين عليه السلام:
هل حصل للحسين واصحابه الذل والمهانة في واقعة كربلاء؟
هناك ، بلا شك من يعتقد ذلك على اي حال، ومنه جاء قول الشاعر:
ويصيح واذلاّه اين عشيرتي وسراة قومي اين اهل ودادي(210)
وحاشاه سلام الله عليه. وليس هذا الا من الكذب على المعصومين سلام الله عليهم، فيكون من اشد المحرمات. بل هو لا ينوي ذلك في قلبه فضلاً عن اين يقوله فضلاً عن اي يصيح به ، كما يزعم هذا الشاعر. وفي مقابله قول الشاعر:
فأبى ان يعيش الا عزيزاً او تجلى الكفاح وهو صريع(211)
بل القول بالذّلة امخالف للقرآن الكريم الذي يقول : (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)(212). والحسين عليه السلام كان في زمانه ولا زال اماماً واولى المؤمنين بصفات الايمان. ومن هنا جاء قوله عليه السلام في بعض خطبه ذاكراً طلب الحاكم الأموي للبيعة : ((الا ان الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنين : بين السلّة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون
_____________________
(210) للشيخ محمد النحوي العراقي (رياض المدح والرثاء للشيخ علي البحراني ص489)
(211) للسيد حيدر الحلي . (ادب الطف ج8ص22).
(212) سورة المنافقين آية 8
وحجور طابت وارحام طهرت على ان نؤثر طاعة اللئام علىمصارع الكرام))(213).
وهو واضح جداً بالاعتزاز بالايمان والصمود في جانب الحق. وليس هذا من التكبر الباطل في شيء وانما هو الاعتزاز بالله ورسوله . حسبنا ان نسمع قوله : (( من أراد عزاً بلا عشيرة وهيبة من غير سلطان وعزاً من غير مال وطاعة من غير نبل فليتحول من ذل معصيته إلى عز طاعته فإنه يجد ذلك))(214).

وكذلك قوله : ((فأولياؤه بعزته يعتزون))(215) وليس لهم كبرياء مستقلة عن كبرياء الله عزوجل. ولا شك ان الحسين واصحابه من خيرة من يكون مصداقاً وتطبيقاً لهذه النصوص.
بل هو العزيز في الدنيا والآخرى، اما في الدنيا فلصموده وصبره واما في الآخرة ، فللمقامات العليا التي ينالها بالشهادة .
نعم ، لا شك ان المعسكر المعادي وقادته ارادوا اذلاله وحاولوا اهانته . وهذا اكيد ، الا ان شيئاً من ذلك لم يحصل. لأن الذلة الحقيقية انما تحصل لو حصلت المبايعة للحاكم الأموي والخضوع له تلك هي الذلة التي تجنبها الحسين (ع) بكل جهدة÷ وضحّى ضدها بنفسه. واما لاصمود في ساحة القتال فلن يكون ذلة لا في نظر اصدقائه ولا في نظر ربه جل جلاله.
وهنا قد يخطر في البال : ان قوله تعالى : (ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذله ) (216) دال على حصول الذلة لجيس النبي (ص) في واقعة بدر.
_________________
(213) اللهوف ص41 الخوارزمي ج2ص6 البحار للمجلسي ج42ص9
(214) آمالي الطوسي م2ج18ص137 - الكافي ج1ص17.
(215) من دعاء للحسين (ع) يوم عرفة (مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي) انظر ص216 وما بعدها.
(216) سورة آل عمران آية 123.
واذا صح وصف جيس النبي (ص) بذلك صح وصف غيره بطريق اولى. فلماذا نتحاشى عن وصف الحسين وجيشهش بالذله؟
وجوابه : أن الاية الكريمة غير دالة أصلاً على ثبوت الذل: بمعنى المهانة للنبي (ص) وجيشه . ولو دلت على ذلك لوجب تأويلها بما يناسب الحال. شأنها في ذلك شأن الظاهر القرآنية التي دل الدليل على عدم امكان التعبد بمظاهرها . وذلك من وجوه.
الوجه الأول : ان المنظور هو الذلة بالمعنى العرفي ، يعني ان الانطباع هو ذلك بغض النظر عن الأحساس به : وذلك مثل قوله تعالى :
(واذكروا غذا انتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون ان يتخطفكم الناس فاواكم وأيّكرم بنصره)(217). وهذا تعبير عن انطباع معين يمكن التعبير عنه بالذلة مجازاً، بعد النظر إلى قلة المسلمين وضعفهم تجاه عدد الكفّار وعدتهم وجبروتهم.
الوجه الثاني : ان المنظرو في الاية الكريمة هو الذلة لو لا العناية الآلهية، وبالاستقلال عنها، والا فمن غير المحتمل حصول الذلة مع وجود تلك العناية. ولا شك ان تلك العناية موجودة باستمرار مع طرف الحق سواء كان الرسول (ص) أو الحسين (ع) أو اي شخص آخر مهم دينياً أو الهياً.
الوجه الثالث : ان الآية الكريمة وان صرحت بالذلة الا انها لم تصرح بمن يكونون اذلاء امامه . فلو تصورنا انهم اذلاء امامه. فلو تصورنا انهم اذلاء امام الاعداء، لورد الاشكال ولكمن يمكن ان نفهم ان المراد كونهم اذلاء اما الله عزوجل.
ونجعل التبشير بالنصر كقرينة متصلة على ذلك يعني : انه جل جلاله انما نصرهم لانهم كانوا اذلاء امامه وخاشعين له ومتوسلين به
_______________
(217) سورة الانفال آية 26

اذن فالآية الكريمة لا تدل بحال على تحقق الذلة الفعلية لطرف الحق اينما كان. ولو دلت لعى ذلك لتعارضت مع الآيات الأخرى جزماً، كقوله تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)(218) . فتكون هذه الآيات اولى بالصحة، ويكون من الواجب تأويل تلك الآية الكريمة . واذا تنزلنا جدلاً عن التأويل امكن تساقط دلالتها مع دلالة الآيات الأخرى . ومعه لا يبقى دليل على وجود الذلّة.
السؤال الرابع : هل اهتم الإمام الحسين عليه السلام بعياله؟.
هذا ما يؤكد عليه الخطباء الحسينيون كثيراً. ولكنني اعتقد انه امر لا ينبغي المبالغة فيه اطلاقاً، بل يجب اخذه من اقل زاوية وأضيق نطاق.
فإنه عليه السلام لو اراد الاهتمام الحقيقي بعياله كما يعتني اهل الدنيا بعوائلهم ويحرصون عليه إذن لكان الاولى به ان يعمل احد امور:
أولاً : ان يبايع الحاكم الأموي لينال الدنيا واموالها وزخارفها ويرتاح هو واهله وعياله فيها خير راحة. بغض النظر عن الآخرة. اعوذ بالله من ذلك.
ثانياً : ان كان هو يريد عدم البيعة فليخرج بهم إلى اليمن او غيرها من بلاد الله ليكونوا سعداء مرتاحين هناك.
ثالثاً: ان كان لا يريد ذلك فليتحمل القتل في المدينة المنورة، ولا حاجة إلى ان يخرج إلى العراق . لكي يكون هو المقتول ولا يكون على عياله باس. وقد ورد عنه : (( انهم يطلبوني وحدي. ولو اصابوني لذهلوا عن طلب غيري))(219).
رابعاً : ان كان يريد الخروج إلى الكوفة فليدع عياله في المدينة مرتاحين
____________________
(218) سورة المنافقين آية 8
(219) مناقب ابن شهر آشوب ج3ص248 - امالي الصدوق مجلس 3ص138 - الطبري ج6ص238 .
 

السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله