مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

الأسرة في الإسلام للسيد الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

حقوق الوالدين

مما لا شك فيه إن القانون البشري العام، النافذ بقدرة خالقه العظيم، يقضي بان يولد الإنسان قاصرا من جميع الجهات لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً. ليس له إلا هذا الجسم الغض المهدد بالأخطار، وألا هذه النفس الصافية البيضاء الشديدة القابلية للتعليم. وقد انعم الله تعالى على هذا الطفل بالوالدين، وبحبهما واستعدادهما البعيد المدى للتضحية من أجله وتذليل الصعاب في سبيله.
ومن بين يدي الوالدين ينمو الطفل ويفتح عينيه على الدنيا بخيرها وشرها، ويتلقى منهما أولى معارفه، وركائز عقائده وأسس نظرته للكون والحياة. فكان لابد أن يساهم التشريع، توخيا للتربية الصالحة للولد، وحفظ العلاقة العادلة الصحيحة بينه وبين والديه، أن يساهم التشريع في الحث على طاعة الوالدين لكي يتلقى الولد منهما كل ما هو حق وصحيح من حقائق العقيدة والمجتمع والكون على مقدار ما يعرفانه من ثقافة ويحتويان عليه من وعي. لكي يكون بذلك مربوطاً بهما متعلقا بأقوالهما، لأجل صيانته، وهو في مقتبل تفكيره، عن الانحراف والتمرد، ولكي يقفا بصلابة ضد ما قد يتعرض له من خطأ أو زلل مما قد يقوده له التيار المنحرفة والمغريات المضللة الفاسدة.
وكان لابد للتشريع أيضاً، أن يساهم بالأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما، جهد الطاقة والمستطاع، فإنهما قد بذلا قصارى جهدهما في سبيل راحة الولد، حينما كانا قادرين وهو صغير عاجز؛ إذن فمن الحق والعدل أن يبذل الولد جهد طاقته في سبيل راحة والديه وإرضائهما، حينما يكون هو قادراً وهما عاجزين قد بلغا سن الشيخوخة.
وقد ساهم التشريع الإسلامي العظيم في كلا هذين الجانبين: إطاعة الوالدين والإحسان إليهما، وأعطى تعاليمه العادلة الحكيمة.
أما بالنسبة إلى طاعة الوالدين، فقد أوجبها الإسلام في حدود عقائده وواجباته، وندب إليها واستحبها في سائر الموارد. بمعنى إن الوالدين لو أمرا باعتقاد العقيدة الحق في الإسلام، أو بالقيام بالواجبات الإسلامية، فان قولهما يكون نافذاً وإطاعتهما واجبة إلزامية. لأنهما بذلك يبلغان لولدهما أحكام انفسهما، فإطاعتهما في ذلك إطاعة للإسلام، فتكون واجبة بوجوده.
ويندرج في ذلك، ما لو أمراه بالابتعاد عن البيئة الفاسدة وأصدقاء السوء الذين قد يؤثرون على أيمانه ويشككونه في عقيدته، وهو في مقتبل عمره. أو أمراه بالإعراض عن قراءة كتب الدعاية الكافرة اللاإسلامية الداعية إلى المبادئ الضالة المنحرفة. فان أطاعة الوالدين في كل ذلك واجب إلزامي في كل مراحل العمر.
وأما فيما لا يتصل بالإسلام من الأمور الاعتيادية التي قد يصدر الوالدان أوامرهما للولد بتنفيذها، فالإسلام وان لم يوجب الطاعة، إلا انه حث عليها حثاً شديداً واستحبها استحباباً أكيداً. فقد روي عن الإمام الصادق {عليه السلام} انه قال: إن رجلاً أتى إلى النبي {صلى الله عليه وآله}، فقال: أوصني قال: لا تشرك بالله شيئاً وان أحرقت بالنار وان عذبت، إلا وقلبك مطمئن بالإيمان. ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين وان أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فأفعل، فان ذلك من الإيمان.
فقد جعل للوالدين السيطرة المطلقة على أسرة الرجل وأمواله، بحيث لو أمراه بطلاق زوجته أو بيع داره لما وسعه المخالفة.
إلا إن السيطرة بهذا المقدار حكم إسلامي استحبابي، والخضوع لها دال بلا شك على إيمان الفرد وعمق عقيدته. نعم، تكون هذه الطاعة واجبة إذا لزم من العصيان إغضابهما وظلمهما وعدم الإحسان. وهو محرم بنص القرآن على ما سنتكلم فيه.
إلا إن هناك مورد واحد تكون فيه طاعة الوالدين محرمة في نظر الإسلام، وهو ما إذا عرف الولد في أوامر والديه الانحراف عن الإسلام. وانهما يأمرانه بالمحرمات وينهيانه عن الواجبات، ويثقفانه بالأفكار المنحرفة. فعند ذلك يجب على الولد طاعة الله وعصيات الوالدين والالتزام بالحق في العقيدة والسلوك. وذلك قوله عز من قائل: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) .
وأما بالنسبة إلى الإحسان إلى الأبويين. فهو ما ثبت وجوبه بنص القران مع بالغ الشدة في التأكيد والصرامة في الإلزام. قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) . وقال تعالى في آية أخرى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) .
ونحن إذ ننظر إلى هذه الآيات وما خصت به الوالدين من الحقوق، فنستطيع أن نفهم منها النقاط التالية:
أولاً: إن الله تعالى قرن وجوب الإحسان إلى الوالدين بوجوب توحيده، في قوله تعالى: (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) . للدلالة على إن ذلك بمكان من الأهمية، بحيث يأتي بالدرجة الثانية بعد عقيدة التوحيد. وما أعظمها من درجة؟!.
ثانياً: أكد الله تعالى على جانب شيخوخة الوالدين وكبرهما، وأوجب على الولد بذل أقصى الرعاية لهما والرحمة بهما في عصر ضعفهما واحتياجهما، كما كانا قد بذلا في سبيله أضعاف ذلك حينما كان قاصرا محتاجا للعطف والرعاية. أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)، فهي تأمر بالإحسان إليهما طيلة أيام الحياة، سواء في حالة الشيخوخة أم قبلها.
ثالثاً: انه عزوجل نهى عن أي شكل من أشكال الزجر والإهانة بالنسبة إلى الوالدين. وذلك في قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا). وإنما ذكر التأفف لأنه بصفته أهون أساليب إظهار الامتعاض، يكون محرماً لما قد يؤثر على عواطف الوالدين تأثيرا سيئا. فكيف بما هو أشد من الزجر أو الغضب أو الضرب؟!.
رابعاً: انه جل وعلا أمر الولد مضافاً إلى ذلك بإبداء أقصى التواضع والرحمة والقول الكريم تجاه والديه. إذ قال عز من قائل: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ). وعن الإمام الصادق في تفسير هذه الآية، انه قال: إن ضرباك فقل لها: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم. فما أسمى هذه الأخلاق وأعظم هذه المثل، وما أبعد واقعنا المؤلم عن الالتزام بها، وما أحرانا بإطاعتها وتطبيقها.
خامساً: انه عزوجل ألفت نظر الولد إلى التضحية والجهاد الذي عاناه الوالدان في تربيته وتدبير شؤونه أثناء صغره. كقوله عز من قائل: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) . ولذلك أمر الله تعالى الولد بأداء الشكر لوالديه بعد أدائه إلى ربه. فقال عزوجل: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) وأمره بالاستغفار لهما لعلهما يحضيان برضاء الله وحسن توفيقه. وذلك قوله عزوجل: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).
وقد أولى الشارع الإسلامي اهتمامه بإكرام الأم ووجوب برها أكثر من اهتمامه بالأب. بحيث إن الله تعالى في قرانه الكريم خص تضحية الأم بالذكر، وإنها حملته وهناً على وهن، ولم يخص الوالد بشيء. أما في السنة النبوية وغيرها من النصوص الإسلامية فهو موجود بكثرة. وسر ذلك هو إن تضحية الأم وأتعابها أثناء الحمل والولادة والرضاع والتربية جهود جبارة تفوق تضحية الأب وجهوده أضعافاً كثيرة. فعن الإمام الصادق {عليه السلام} انه قال: جاء رجل إلى النبي {صلى الله عليه وآله} فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك.. قال ثم من؟ قال: أمك.. قال: ثم من؟ قال: أمك.. قال: ثم من؟ قال: أباك.. فقد قدم الأم وكرر وجوب برها ثلاث مرات قبل ذكر الأب.
بقي أن نعرف إن وجوب الإحسان إلى الوالدين، لأهميته في نظر الإسلام ليس منحصراً بالوالدين الصالحين المؤمنين. فان تضحية الوالدين في سبيل الولد غير منحصرة بإيمانهما على أي حال. ومن ثم وجب بر الوالدين وان كانا فاسقين فاجرين كِبرّ الوالدين المؤمنين سواء بسواء. فعن الإمام الباقر {عليه السلام} انه قال: ثلاث لم يجعل الله فيهن رخصة… إلى أن قال: وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين. نعم، وجوب إطاعتهما أو استحبابها، متوقفة على أن لا يأمرا بما يخالف الإسلام.

السابق

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله