مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

فلسفة الحج ومصالحه للسيد الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

المصالح الخاصة لأفعال الحج

بعد أن عرفنا المصالح المتعلقة بالحج على وجه العموم لابد لنا أن نستعرض المصالح المتصورة لأفعاله الخاصة ، بما لها من رمزية أو صراحة ، وبما فيها من نفع فردي أو إجتماعي على ما سبق أن فصلنا القول فيه .. وقد سبق أن أشرنا إلى أنه من الصعب أن تحدد المصالح المتوخاة للخطوط الدقيقة لأعماله ومشاعره ، وعرفنا سبب ذلك في المقدمة ، وإنما تتضح المصالح بشكل جلي في العناوين العامة والخطوط العريضة لأعمال الحج كالإحرام والتلبية والطواف وصلاة الطواف والسعي والموقفين والذبح والحلق ورمي الجمار والنية والوقت ، فلا بد من التعرض الى ما يتصور من المصالح لكل واحد من هذه الافعال ..
الإحرام :
والمقصود الرئيسي منه ، هو التجرد عن المادة وعلائق الدنيا في سبيل الله ، ولأجل تمحيض التوحيد بالله وتركيز الإخلاص له وتعميق التوجه اليه..
فإن الإحرام بما فيه من زواجر وروادع ونواه صارمة يَدَعُ الإنسان يشعر بعمق أنه باختياره وطيب نفسه ، أراد أن يعيش هذه التضحية وأن يخطو في هذا السبيل خطوات لايريد بها إلا مرضاة الله عز وجل والتوجه اليه ، وترك الامور الدنية واللاأخلاقية كالجدال والفسوق في سبيله . وهو
- بحق - يعطي رمزية واضحة عما يجب أن يكون عليه الفرد في سائر ايام حياته من الالتفات الى تقديم رضاء الله وقربه على مصالحه الخاصة وأطماعه الضيقة ، فليس ينبغي أن يقوم في هذا السبيل حائل أو أن يعوق عائق في جميع أعمال الفرد، خاصة وعامة ، دينية أو دنيوية . وإن في بعض شرائط الإحرام خصيصة زائدة وفائدة إضافية :
فمن ذلك المنع عن لبس المخيط للرجل المحرم والمنع من لبس الحلي للمرأة المحرمة ، فإنه مجتمعاً من المحرمين يتساوى فيه الرئيس والمرؤوس والغني والفقير والحقير والعزيز ، كلهم بزي واحد وعمل واحد وفي سبيل هدف واحد وعبادة واحدة ، جمعهم التشريع الإلهي على صعيد واحد ، واُلغي


بينهم الفوارق الدنيوية والزخارف الزائفة ولا تبقى إلا المميزات الشرعية المعترف بها اسلامياً . وهي العلم والتقوى والجهاد ، فإن المحرم يخرج من زيه وجماله وماله ولكنه لا يخرج من علمه وتقواه وجهاده وإنما يضيف بحجة إلى عمله عملاً وإلى تقواه خشوعاً وإلى جهاده تضحية .
على ان زي الإحرام يذكر بحال الموت وزيه وما يلبس فيه من الاكفان ، تلك الحال التي تعرب عن التساوي بين الناس بشكل أصرح ، ويكون انعدام الفوارق بين القبور أجلى و أوضح ، وفي ذكر الموت شحذ لاحساس المسلم وهمته إلى طاعة الله ورضوانه والعمل في سبيله ، وإعلاء تفكيره وتدقيقه ، ونحوها من الأحاسيس التي يتطلبها الإسلام من الفرد في خطه التربوي الطويل .
ومن شرائط الاحرام ذو الخصيصة الزائدة سياق الهدي للحاج القارن ، فان فيه الفوائد والحكم التي ستذكر في الهدي ان شاء الله تعالى ..
التلبية :
وهي ركن أساسي في الإحرام لا ينعقد إلا به ، وفي ذلك من المعنويات الكبيرة التي تقرن الإحرام ، وبالتالي كل الحج ، بالنداء المقدس الذي قاله إبراهيم خليل الرحمن على نبينا وعليه السلام ناطقاً عن تشريع الله تعالى حين أمره ربه العلي العظيم قائلاً : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (1)
ولايخفى ما في هذا النداء الإلهي من دعوة رحيمة كبرى للبشر أجمعين تعطيهم الفرصة الكبرى ، بالتوجه إلى الله والحصول على رضاه وقربه ، وهو الهدف الأعلى لبشرية الذي يمثل كمالها المنشود ، ومن ثم يشعر المحرم الواعي أنه قصد الديار المقدسة وقام بهذه الفريضة الكبرى إجابة لنداء ربه وتلبية لدعوته .
وليس ينبغي للفرد المسلم أن يجيب نداء ربه في الحج وحده بل عليه ان يطبقه على سائر ايام حياته ، ويلبيه في كل تصرفاته ، ليكون الفرد الكامل البناء في المجتمع الكبير ، وهذه هي الرمزية التي تعطيها التلبية للسير والسلوك في كل أيام حياته ..
_______________
(1) سورة الحج:الاية 27
 


الطواف :
الكعبة تمثل الوجود المادي الرمزي للتوحيد الخالص الذي جاء به الاسلام وجاء به إبراهيم الذي وضع قواعد هذا البيت و (هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ) (1) وبالتالي يمثل - بنحو الرمز – الوجود الإلهي على الأرض ، ومن ثم انبثقت تسميته ببيت الله وأمر الإسلام بالتوجه إليه في كل صلاة رمزاً للتوجه إلى الله نفسه إيماناً وعبادة ، ومعه يكون من الطبيعي أن يكون قصد الكعبة من البلد البعيد والقريب ، قصداً مادياً وقصداً معنوياً للتوحيد ، ولدين الله العظيم ، ويكون إظهار الإخلاص لها إظهاراً لإخلاص التوحيد ، ويكون التقرب إليها بالذبح والنحر تقرباً إلى التوحيد الإلهي ، ويكون الدوران حول الكعبة بالطواف وجعلها مركز الاحساس المادي رمزاً حياً عن الدوران حول التوحيد ، حول دين الله القويم والحق الصريح ، وجعله مركز الاحساس المعنوي ، ومركز النشاط الانساني .
والإنسان إذا دار مدار التوحيد الخالص وشريعة الله عز وجل في سلوكه وإحساسه ، فإنه يكون حتماً الفرد الكامل العظيم الذي ينتهج المنهج العام للاسلام في تربية النفوس ..
يقول محمد أسد المستشرق النمسوي المسلم، معرباً عن مثل هذا المعنى : ان جزءاً من فريضة الحج ان تطوف بالكعبة سبع مرات ، لا احتراماً لقدس الاسلام المركزي فحسب ، بل لتذكير النفس بالمطلب الاساسي للحياة الاسلامية ان الكعبة هي رمز وحدانية الله وحركة الحاج الجسمانية من حولها هي التعبير الرمزي للنشاط الانساني ومضمونه ، إن أفكارنا ومشاعرنا وكل ما يشمله تعبير (( الحياة الباطنية )) ليست هي وحدها التي يجب ان يكون محورها الله ، بل كذلك حياتنا الخارجية الناشطة وافعالها ومساعينا العملية (1).
ويقول قبل ذلك عن بناء الكعبة :لقد عرف من بنى الكعبة انه ما من جمال في تناسق البناء وما من كمال في خطوطه مهما كان عظيماً يمكن أن يوفي الفكرة الإلهية حقها ، وهكذا قصر نفسه على أبسط شكل مثلث الأبعاد يمكن أن يتصوره العقل مكعباً من الحجر .
لقد سبق لي أن رأيت في بلدان إسلامية مختلفة مساجد أبدعت في بنائها أيدي الفنانين من المهندسين المعماريين العظام – ثم يعدد قسماً كبيراً
منها ثم يقول : كل هذه سبق أن رأيتها ولكن شعوري لم يكن قط قوياً كما كان الآن ، أمام الكعبة . بأن يد الباني كانت على مثل ذلك القرب من مفهومه الديني ،ففي بساطة المكعب المطلقة ، في الإنكار التام لكل جمال للخط والشكل ،نطقت هذه الفكرة تقول أيما جمال قد يستطيع الإنسان أن يخلقه بيديه يكون من الغرور إعتباره جديراً بالله ، وإذن فكلما كان ما يستطيع الإنسان أن يتصوره بسيطاً كان ما يستطيع فعله لتمجيد الخالق أعظم ما يكون (1).
إستلام الحجر :
هو من مميزات الطواف الرئيسية ، وتنبثق فكرته من فكرة الطواف نفسه ، فإذا كان الطواف الرمز المادي للدوران حول فكرة التوحيد وجعلها المركز الأساسي لنشاط الإنسان وسلوكه ، فأجر باستلام الحجر الأسود ، أن يكون الرمز المادي للاتصال بفكرة التوحيد وملامستها في عالم الفكر والمعنى ، لأنه ملامسة للرمز الذي يمثل الله في الأرض : الكعبة . وفي ذلك من المعنى الجليل في القرب الإلهي والتعمق في التوحيد ما لا يتوفر بأي عمل آخر ..
ويمكن أن تستفاد من الأثر الوارد كلمتان أخريان ..
أحدهما : أن الحجر يمين الله في أرضه ، وأن استلامه مبايعة لله تعالى فلئن كانت البيعة للخلفاء والعظماء مشروعة اجتماعياً أو إسلامياً ، مرة واحدة لكل شخص عظيم ، دلالة على الاقتداء به وبيع الولاء والطاعة المطلقة له ، والدلالة على أنه من شعبه ومواليه ، فهذا هو ما ينبغي أن يحدث بين الله وبين عباده إلا أن هذه المبايعة سوف لن تكون شكلية ولن تقتصر على المرة ، بل ينبغي الاستلام في كل شوط من أشواط الطواف وينبغي البقاء على المبايعة والولاء والايمان مدى الحياة ..
ولئن كانت بيعة الشجرة بيعة لله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) فإنها بوجودها العام غير خاصة بأولئك النفر المعينين ، وإنما هي فرصة مفتوحة لكل مسلم بأن يجدد بيعته وولاء لربه في كل عام ، وفي ذلك تعميق للاخلاص وشحذ للايمان وتجديد للاندفاع العقائدي في وجدان الفرد الواعي .
وإذا كان الفرد لا يمكنه أن يتصل بالله تعالى مباشرة فقد جعل الله تعالى له رمزاً عن ذلك في نفس الكيان المادي الرامز الى توحيده ووجوده ، لتسنح الفرصة الرحيمة الكافية لنيل شرف البيعة الإلهية مع سائر المسلمين ..
الحكمة الثانية : ان الحجر الأسود يشهد لأعمال الخلائق يوم القيامة . وليست هذه الشهادة ببدع جديد ، بعد أن نطق التنزيل الحكيم بشهادة أيدي المجرمين وأرجلهم يوم القيامة بما عملوا من أعمال وما قمن به من إجرام فكذلك الحجر يعتبر فرصة ثمينة لكل حاج بأن يشهد له يوم القيامة بأنه زار البيت وأستلم الحجر ، وبالتالي يشهد له على هذا العمل الصالح الذي قام به هذا المؤمن – وهو (( الحج )) .

السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله