بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
لهذه الرسالة تأريخ لابد من إثباته لأجل الحقيقة والتاريخ !
فقد حج أحد الأطباء المشهورين في النجف الاشرف إلى مكة المكرمة
1387هـ وحين عاد من حجه سألني عما إذا كنت أعرف مصدراً تعرف فيه
مصالح الحج ووجوه الحكمة من أفعاله ، فوجدتني خالياً عن الجواب
جاهلاً بوجود مثل هذا الكتاب! بين الكتب الإسلامية،فاعتمدت – حسن
التوفيق الإلهي - على ما كان لدي من رؤوس أقلام من بعض المحاضرات
التي ألقيتها في مدرسة العلوم الإسلامية للأمام الحكيم ( قدس الله
سره ) فحولت العناوين إلى فصول ، والمختصرات إلى تفاصيل ،فكانت هذه
الرسالة كمحاولة لملء هذا الفراغ المؤسف في الكتب الإسلامية،عسى
الله أن يجعلها نافعة لإخواننا المؤمنين وقربة لوجهه الكريم انه
ولي التوفيق .
ولعل الأنسب ونحن في مبدأ هذا الموضوع،أن نذكر مختصراً عن الخريطة
العامة لأفعال الحج ، كما يراها الإسلام ويشرعها ليستطيع القارئ أن
يضع كل فعل من أفعال الحج في محله الصحيح عند ما يرد اسمه في غضون
هذه الرسالة .
الواجب على البعدين عن مكة بمقدار معين ، أنهم إن استطاعوا الحج ،
أن يقصدوا الديار المقدسة لأدائه ، فيمرون على الميقات ، وهو
المكان الذي خصصه رسول الإسلام(ص) لإحرام المسلمين-فيحرمون ،وذلك
بالنية ولبس القماش غير المخيط –للرجال - ومن دون حلي وزينة للنساء
، مع ركعتين من الصلاة والتلبية بعدها (1) وبذلك يدخل الفرد في حال
تؤهله للقيام بالأفعال المطلوبة ، ويحرم عليه الصيد البري واللذائذ
الجنسية وغير ذلك .
يقصد بإحرامه مكة المكرمة،فيطوف حول الكعبة سبع مرات، ويستلم الحجر
الأسود في
_____________________________
(1) ونصها:((لبيك اللهم لبيك ،لبيك لا شريك لك لبيك،إن الحمد
والنعمة لك والملك ،لا شريك لك لبيك))
بدء كل شوط وفي الختام ، ثم يصلي ركعتي الطواف في مقام إبراهيم ( ع
) ثم يسعى بين الصفا والمروة - وهما جبلان مجاوران للمسجد الحرام
تقريباً - سبع مرات ثم يقص من شعر شيئاً وتنتهي عمرة التمتع ...
ثم يحرم الحاج من مكة ، ويخرج إلى أرض عرفات فيبقى بها من زوال
اليوم التاسع من ذي الحجة الحرام إلى غروبه ، ثم يذهب إلى أرض
المزدلفة ، أو المشعر الحرام فيبقى فيه من فجر اليوم العاشر إلى
طلوع الشمس وبذلك يبدأ عيد الأضحى . فيذهب إلى منطقة (( منى ))
ليؤدي وظائف العيد الرئيسية الثلاث وهي رمي جمرة العقبة (1) والذبح
والحلق ثم يرجع في ذلك اليوم أو غده إلى زيارة مكة لأداء طواف
الحجج وركعتيه وسعي الحج وطواف النساء وركعتيه ، ثم يرجع إلى منى
لبقى فيها اليوم الحادي عشر واليومين اللذين بعده ، ليرمي في كل
يوم ثلاثاً من الجمرات ، وبانتهاء اليوم الثالث عشر – على أقصى
تقدير – تكون أفعال الحج قد انتهت..
فلسفة الحج ومصالحه
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله المتعالي الذي خلق الخلق ليعبدوه ،وهداهم النجدين
ليوحدوه،ولم يخلقهم عبثاً ولم يدعهم هملا ،بل كفلهم على قدر طاقتهم
وكفل لهم تنظيم دنياهم وآخرتهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور
ويهديهم إلى الصراط المستقيم .
أما بعد:فإن الله تعالى لم يأمر بأمر عبثاً ولم يكلف بشيء شططا، بل
على طبق حكمه
(1)الجمرة: جدار معين يرمى بسبع حصيات ، والجمرات ثلاث في (( منى
)) أهمها (( العقبة )) وتطلق الجمرة على الصحية الواحدة أيضا مما
يرمى ..
ومصلحة يتبع أثرها العبد المطيع ، ولا ينال الله منها شيئاً ، فإنه
غني عن العالمين ، وحاشاه من اللهو والعبث ، وجل عما يقولون علواً
كبيراً .
والمصالح والحكم المتصورة في الإحكام الشرعية الإلهية على وجهين ..
الوجه الأول:
ما ألمعنا إليه الآن من وجود مصلحة في الفعل المأمور به ، تعود إلى
العبد الممتثل ، ووجود مفسدة في الفعل المنهي عنه ، ترجع إلى
العاصي ، وهذا يشمل أغلب أحكام الشريعة ويندرج القسم الآخر في
الوجه الثاني الآتي .
وهذه الحكم في الأفعال المتعلقة للأوامر والنواهي أمور أخذها الله
تعالى بنظر الاعتبار في تشريعه ، وجعل على نفسه إيصال التشريع إلى
المكلفين عن طريق أنبيائه ورسله ولكنه لم يتعهد بإبلاغ تفاصيل
المصالح التي لاحظها إلى العباد أيضاً . كما أنه ليس من وظيفة أي
مقنن عندما يصدر قانوناً نافذاً على شعبه أن يذكر له المصالح
والدوافع الحقيقية التي أوجبت وضع كل تشريع من تشريعاته .
والله تعالى بكماله وعلمه الأزلي المطلق ، مطلع وعالم بتمام
المصالح والمفاسد المتعلقة بالبشر ، فإنه خالقهم والعالم بآلامهم
وآمالهم وحاجاتهم ومشاكلهم وطرق تذليل تلكم المشاكل وإشباع هذه
الحجات ، وعلى هذا الأساس صدرت تفاصيل تشريعه .
ومن هنا قد لايمكن للإنسان - وهو المحدود القاصر - أن يطلع على
التفاصيل الكبيرة للمصالح الأساسية التي أخذت بنظر الاعتبار في
التشريع الإلهي الإسلامي ،بل قد يلتفت إلى بعض تلك المصالح وتفوت
عن ذهنه جملة منها، فلا يفهم أن هذا التشريع أو ذاك مجعول على طبق
أي مصلحة.
ونحن بعد علمنا بأن الله خالقنا وموجهنا وقائدنا ، وإنه لا يريد
لنا إلا الخير والعدل والنظام في تشريعه وتكوينه فلا ضرورة لأن
نتجشم عناء البحث عن المصالح الكامنة في تشريعه ، بل لنا أن نطمئن
سلفاً إلى العدل الكبير والخير العميم الذي سوف يعمنا لو طبقت
التعاليم الإسلامية بكامل تفاصيلها ، ولا تحتمل وجود الظلم أو
الضرر في الشريعة إلا ما كان وارداً علينا من أنفسنا ومصالحنا
الخاصة ، مما يكون التشريع منزهاً عنه .
إلا أننا - إذ نكون بصدد البحث عن هذه المصالح - قد نوفق إلى نعمة
الاطلاع على بعضها فنشكره تعالى على توفيقه ، وأخرى نكون قاصرين عن
إدراك ذلك فندعوا الله قائلين :رب زدني علماً .
الوجه الثاني :
للمصالح المتصورة في الأحكام الشرعية : أن تكون المصلحة في نفس
الأمر لا في المأمور به .
وذلك لأن الله تعالى أمر ببعض الأفعال لا لخصوصية فيها أو لميزة
بها، وإنما يريد الله عز وجل أن ينظر إلى مدى طاعة عباده له ومقدار
انقيادهم لتشريعه وامتثالهم لأوامره ،فيختار فعلا - مما لا ضرر فيه
- فيأمر به متوخيا ذلك الغرض ، وهو معنى أن المصلحة تكمن في نفس
التوجيه الأمر المكلف لا المأمور به .
ولعل من ذلك عدد ركعات الصلوات اليومية ، وأوقاتها، وفي الحج -
الذي نحن بصدده - عدد أشواط الطواف والسعي وعدد حصيات الرمي وعدد
الجمرات الثلاث ،وبعض الأحكام الأخرى ، والله العالم بحقائق الأمور
.
وإذا كنا جاهلين بمصلحة بعض التشريعات ، فيجب أن نكون حذرين في
الجزم باندراج التشريع في القسم الأول آو الثاني من الوجهين أو
القسمين السابقين ، فلعل المصلحة تكون في الفعل المأمور به ونحن
نتخيلها في نفس توجيه الأمر أو بالعكس ،فإن جزمنا بأحد الأمرين من
دون علم،كنا واقفين موقف المفتري على الله بدون مستند صحيح أو ركن
وثيق.
على أننا يجب أن لا ننكر مصلحة أي حكم شرعي ، لمجرد كونها تناقص
مصالحنا الخاصة أو مجتمعنا أو تقاليدنا أو غير ذلك ، فإن المنظور
في مصالح الأحكام الشرعية أحد أمرين :
أحدهما :
تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ،الأمر الذي يقره العقل
وسائر القوانين ، وليس أن القانون ذا ناقض المصلحة الخاصة كان
خاطئاً أو ظالماً، إن كان موافقاً للمصلحة العامة .
ثانيهما :
تطبيق جميع الأحكام الإسلامية دفعة واحدة في مجتمع معين لكي يكون
المجتمع الإلهي العادل الأمثل . وفي مثل ذلك المجتمع سوف لن توجد
غالب الأحاسيس التي نحسها تجاه إطاعة الأحكام الشرعية وتجاه
مصالحها ومبادئها ونتائجها ، مما نحسه ونحن نعيش في مجتمع منحرف قد
طبق بعض الكتاب وكفر ببعض ، فإن المصالح تكون في ذلك المجتمع
الأمثل أوضح ومنافياتها الظالمة من التقاليد والمصالح ونحوها اقل
بكثير إلى حد لا يكون محل مقارنة وقياس .
المصالح العامة في الحج
تنقسم المصالح المتصورة في الحج إلى قسمين رئيسيين :
أولهما :
المصالح المتوخاة في الحج كوظيفة اجتماعية موحدة منظوراً إلى
أفعاله على وجه المجموع لتكوّن العمل الإسلامي الواحد المسمى بالحج
.
ثانيهما:
المصالح المتوخاة من وراء كل فعل من أفعاله إذا نظر إليه بحياله ،
لكن كجزء من الفريضة الكبرى .
وسنتكلم في هذا الفصل عن القسم الأول من المصالح .
وقبل الدخول في تفاصيل المصالح العامة في الحج , لا بد من الالتفات
إلى أنها تنقسم من ناحيتين :
الناحية الأولى:
أن بعض هذه المصالح شخصي وبعضه اجتماعي . فما كان منها اجتماعياً
فهو يفيد الأمة الإسلامية بشكل مباشر كما هو واضح , وما كان منها
شخصياً , فهو يفيد الأمة عن طريق صياغة نفس الفرد وتربيته وإنشاء
الشخصية الإسلامية العاملة المتكاملة من جميع الجهات , لتكوّن
العضو البنّاء المساهم في خدمة المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية
.
الناحية الثانية:
إن بعض هذه المصالح حسي مباشر وبعضها رمزي . فما كان حسياً مباشراً
ترتب عليه أثره الشخصي أو الاجتماعي بشكل واضح , على ما سيأتي
تفصيله , وما كان منه رمزياً فإنه حلقة واحدة من حلقات , وفرد يمثل
أفراداً وعمل ينتج أعمالاً , كما نقول في الدينار الورقي , إنه
يمثل الدينار الذهبي , أو نقول في الفرد أنه يمثل الجمعية ونحو ذلك
من الأمثلة . وعلى أي حال فقد وجدنا في الحج من المصالح العامة ما
يصل تعدادها إلى العشرة :
المصلحة الأولى :
تذكر الله تعالى دائماً , على استمرار, فإن الإنسان بطبيعته حين
يعمل عملاً من أجل هدف , فإنه يكون متذكراً لذلك الهدف عمله في
مقدماته أو نتائجه , مهما حاول التغاضي أو التناسي , فا لبناء أو
العامل يتذكر أنه يعمل لفلان , والمسافر يتذكر أنه متجه إلى مقصده
.. وهكذا, ومن ذلك أننا نجد أنه من الصعب على الصائم أن ينسى صومه
, وعلى المصلي أن ينسى صلاته , أو على المعتكف أن ينسى اعتكافه !..
فإذا كان الهدف من العمل هو الله تعالى , والتقرب إليه بما يحبه
ويأمر به , كما هو الحال في الحج , كان الله تعالى نصب العين
دائماً وحاضراً للفرد على استمرار في كل أفعال الحج , لأن الفرد
يشعر أنه يعمل عملاً لله وأنه يضحي في سبيله ..
وهذا الشعور المستمر بالله عز وجل , ودوام ذكره يعطي درساً واضحاً
للحال الذي يجب أن يكون عليه المؤمن في سائر أيام حياته وساعاته ,
متذكراً لله تعالى , آخذاً بنظر الاعتبار ثوابه وعقابه , غضبه
ورضاه , حتى يكون شعوره بالمسؤولية تجاه ربه ودينه أكثر , واندفاعه
نحو الطاعة وارتداعه عن العصيان أعمق وأشمل .
المصلحة الثانية:
إن العبد ليس متذكراً لله تعالى فقط , بل هو دائماً في شعور مستمر
على أنه يعمل في سبيل الله ويقوم في المشاعر كلها من أجله ولإطاعة
أمره .
وهذا أيضاً يعطينا رمزية واضحة وكاملة عما يجب أن يكون عليه الفرد
دائماً وأبداً , عاملاً في سبيل الله مطيعاً لأوامره , عاكفاً على
مرضاته , في كل تفاصيل سلوكه .
المصلحة الثالثة:
إن العبد لايشعر فقط أنه يعمل في سبيل الله تعالى ، بل أنه يضحي في
سبيله بقيامه بهذا العمل . فإن الحج ، كما هو معلوم ، ليس أمراً
سهلا كركعات الصلاة ، وإنما يحتاج إلى جهد بدني وفكري كبير ، ولمدة
كافية من الزمن تبدأ ببدء السفر وتنتهي بالرجوع ، يؤدي الفرد كل
ذلك طائعاً مختاراً راضياً لعله ينال مرضاة ربة وقربه .
وهذا أيضاً يعطينا رمزاً ودرساً عن الحالة التي يجب أن يكون عليها
الفرد المؤمن الواعي دائماً وأبداً في سائر أيام حياته وساعاته ،
فإن العمل في سبيل الله لا يكون كافياً وحده ، ما لم يكن مقترناً
بالتضحية من أجله بالمصالح الضيقة والشهوات والانحرافات ، وإلا كان
الفرد أقرب إلى سخط الله وعصيانه منه إلى قربه ورضوانه .
والعمل الإلهي دائماً مقترن بالعقبات والتضحيات التي ينال المرء
منها قسطاً غير قليل من المتاعب والآلام ، وكلما كبر الأمل كبر
الألم ، وكلما كبر العمل كبرت التضحية وعظم القرب الإلهي والعدل
الإسلامي، فهذا هو الذي ينبغي أن يأخذه المسلم الواعي بنظر
الاعتبار ، دون أمور أخرى لا تؤدي به إلا إلى العثار.
المصلحة الرابعة :
غفران الذنوب وتصفية النفس . فإن كل فرد ما عدا المعصوم لا بد أن
يكون قد اقترف خلال حياته ذنباً قليلاً أو كثيراً فإن للدوافع
الغريزية والحاجات النفسية والاجتماعية دافعاً نحو الانحراف لايمكن
إنكاره ، فقد يخرج الإنسان بضميره ظافراً منتصراً .
فلا يخضع لدفعها أو يذل أمامها ، وقد يكون اندفاعها أقوى من إرادته
وأمرها أعظم من وعيه فينهار أمامها ويقترف الذنب إشباعا لها وسداً
لرغباتها ، والناس يختلفون كل الاختلاف في درجة مقاومتهم للدوافع
المنحرفة ، باختلاف درجة إيمانهم ووعيهم وقوة إرادتهم .
وعلى أي حال فالإنسان لا يخلوا من ذنب أو ذنوب ، وهذا مايعلمه الله
تعالى من عباده ، ومن ثم أعطاه فرصاً عظيمة للتوبة والغفران . وعلى
الفرد المؤمن أن يغتنم هذه الفرص فيسد حاجته من العفو والغفران
وتطهير النفس ، كما قد سد حاجاته المنحرفة . فإن الحاجات الطاهرة
أولى بالإشباع في حكم كل وجدان وضمير .
وكان من أعظم تلك الفرص وأفسحها ، مما تفضل الله تعالى به على
المسلم المذنب ، هو الحج ،حيث يحب الله تعالى أن يرى عبده المسلم
المذنب خاشعاً له متوسلاً إليه منيباً خاشعاً خاضعاً حتى يغفر له
زلته ويعفو عن هفوته ..
المصلحة الخامسة :
تمثل التاريخ الإسلامي في الأماكن المقدسة ، فإن الله تعالى فرض
الحج لكي يؤدي في نفس الأماكن التي نشأ فيها رسول الله ( ص ) وقام
بدعوته الكبرى وأعماله العظمى في أكنافها ،وعاش فيها الصحابة رضوان
الله عليهم، وأدوا فيها مع الرسول ( ص ) واجبهم وجهادهم وعاش فيها
عدد من الأئمة المعصومين عليهم السلام ، وقاموا فيها بمسؤوليتهم
الإسلامية تجاه الأمة والدين .
فما أسعد الحاج إذ يتمثل في تلك الأماكن المقدسة في ذهنه ، حلقات
ذلك التأريخ الزاهر ، فهنا حدثت وقعة بدر وهنا وقعة احد وهنا غار
حراء ، حيث نزل الوحي بالسعادة للبشرية أجمعين ..
وهنا غار ثور غار الهجرة ، ذلك المنعطف الإسلامي الأساسي الذي
ترتبت عليه أعظم الفتوح وأكبر الانتصارات وهنا منبر رسول الله ( ص
) الذي كان يرقاه ويوجه المسلمين بتعاليمه ، وهنا الروضة بين قبره
ومنبره ، وهنا مهبط الوحي جبرئيل بالقرآن والأحكام ، إلى آخر هذه
الذكريات الذهبية ..
وما اسعد الفرد الواعي إذ يتمثل مع كل ذكرى ، ما تحتويه من عبر
وجهاد وما تعبر عنه من معان سامية من الإيمان والإخلاص ، وما تعطيه
من اندفاع نحو العمل الإسلامي والطاعة لله وإخلاص النية له ، وغير
ذلك من المعاني السامية والمثل العليا .
المصلحة السادسة :
الشعور بعظمة الإسلام وعمق هيبته وهيمنته على نفوس معتنقيه ، وقوته
ومنعته بهم عند الاحتكاك بالآلاف المؤلفة من الحجيج الذين يؤمون
بيت الله الحرام زرافات ووحداناً، كل عام منذ ما يزيد على عشرة
قرون ..
وسيبقى الحال على ذلك مادام في الأرض موحد مخلص وهذا شعور قهري
يحصل للفرد أمام تلك الجماهير المتدفقة سواء أكان موالياً للإسلام
أو معادياً له ، وسواء كان ملتفتاً أم غافلاً . فيحصل للمسلم
الملتفت الشعور
بالعزة والفخر بهذا الدين الجليل الذي مَنَّ الله تعالى عليه
باعتناقه ، والشعور بالقوة ، والاعتزاز بهؤلاء الآلاف من المسلمين
الموحدين إخوته في الدين . ويشعر الفرد المعادي بالخذلان والاندحار
تجاه المد الإسلامي العظيم .
المصلحة السابعة :
الشعور بالوحدة والأخوة مع الحجاج المسلمين , وبالهدف الواحد
المشترك بينهم ! فإن هؤلاء المسلمين
الذين تجمعوا من مختلف بقاع الأرض ، لاتجمعهم لغة ولا تقاليد ولا
أزياء
ولا حدود ، ولا يعرف الفرد منهم الأخر فيما سبق من الدهر ، ولم
يلاقه إلا على الصعيد المقدس ، ولم يجتمع معه إلا في هذا الهدف
الإلهي الكبير ، فالمؤمنون كلهم اخوة متضامنين متحدين ، وهدفهم
واحد مشترك هو رضاء الله والتقرب إليه والتضحية من أجله .
وبذلك يفهم الفرد قسطاً مما يجب أن يكون عليه الفرد من الشعور في
كل حياته الفكرية والاجتماعية من الشعور بالأخوة والاتحاد مع سائر
المسلمين بالهدف والتعالي عن الأحقاد الضيقة والضغائن المصلحية غير
الإسلامية التي لا تنفع إلا العدو المشترك المحارب للهدف المشترك .
المصلحة الثامنة :
أن يغتنم الفرد المسلم الواعي ،فرصة هذا اللقاء الأخوي الكبير ،
فيكون بنحو أو أخر على اتصال مع مختلف الحجاج الوافدين من مختلف
البلاد الإسلامية – ليتعرف على آلامهم وآمالهم ومشاكل بلادهم
وثقافتهم ومستويات تفكيرهم ، فإن (( من أصبح لا يهتم بأمور
المسلمين فليس بمسلم )) (1) كما ورد عن الرسول الأعظم ( ص ) وبذلك
يحصل على ثقافة ضرورية للفرد المسلم الواعي ، لا غنى له عنها لو
أراد العمل الإسلامي البناء والثقافة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) روي ذلك عن الأمام الصادق(ع) عن رسول الله(ص) –انظر أصول
الكافي.
الإسلامية الواسعة وسيحصل من خلال هذا الاجتماع الإسلامي الكبير
على ما لا يمكن أن يحصل عليه في بلاده مهما تحرى المصادر وقرأ كتب
التاريخ القديم والحديث ..
المصلحة التاسعة :
أن يغتنم الفرد المسلم الواعي فرصة هذا اللقاء الأخوي الكبير وهذا
الاطلاع الواسع على آلام وآمال المسلمين في مختلف البلاد المتقاربة
والمتباعدة . فيعقد معهم المداولات والمحادثات ويتطارح الأفكار حول
احسن الطرق و أفضلها .
وأقربها إلى الواقع العملي وأبعدها عن الفساد والانحراف مما يمكن
به تحقيق آمال الإسلام أو درء آلامه . أو سد حاجات البلاد
الإسلامية وتذليل مشاكلها .
وأن الحج ليحتوي في كل سنة على عدد مهم من رجال الفكر والعلم
والأدب والاجتماع من المسلمين ، ممن يكون على المستوى الرفيع من
المداولة في الشؤون العامة للأمة ، والدين وتقديمها على مصالحه
والسعي إلى صلاحها جهد الإمكان !..
وإن هذه المداولات , أو هذا المؤتمر السياسي الإسلامي الكبير , لو
وفق إلى قيادة واعية رشيدة وأفكار بناءة مخلصة , لنالت الأمة
الإسلامية منه ومن تكراره كل عام أفضل الثمار , ولأصبح العقبة
الكؤود أمام قوى الشرك والانحراف , والصوت المجلجل للأمة الإسلامية
والخطوة الموقفة لدفع الآلام وتحقيق الآمال . وهذا المؤتمر السياسي
, تصوره بنحو وآخر , أحد السياسيين في كتاب له , على أنه المصلحة
الوحيدة لتأسيس الحج وتشريعه في الإسلام وقال : إنه حين عرض هذه
الفكرة على ملك السعودية في ذلك الحين وافق عليها , ووجدها المصلحة
الوحيدة أيضاً . ويرى القارئ الآن بكل وضوح ما للحج من مصالح خاصة
وعامة زيادة على هذه المصلحة بالذات , وإن كانت هي من أهم مصالحه .
المصلحة العاشرة :
الدعوة إلى الإسلام وتبليغ أحكامه إلى الناس ، فإن الحج يعتبر
الفرصة الكبرى الوحيدة . الاجتماع مثل هذا العدد الضخم من المسلمين
ذلك العدد المتوجه الى الله الخاشع له ، المستعد للعمل في سبيله
وسماع أحكامه إلى بعض الحدود وبمختلف الدرجات ، فإن الانشغال
بالطاعة المتمثلة بشعائر الحج ، مما يساعد نفسياً على السماع وحسن
التقبل ، ولذا يجب على الدعاة المسلمين أن يغتنموا هذه الفرص
الكبرى في تبليغ أحكام الله تعالى و إرشاد الناس إلى التقوى
والصلاح ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) (1) و ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (2) وأحر
بالداعية أن يكون الرائد المخلص لامتثال هذه الأحكام
والممثل الأساسي لتطبيق أحكام الله في أيام الله .... أيام الحج .
ولا يخفى الفرق الأساسي في الدعوة والتبليغ ، بين الحج ، وبين غيره
من بلاد الله – ففي أي بلد معين حيث تكون – في الأغلب - واحداً
والآلام محددة ، واللغة متحدة ، يكون عمل الداعي الإسلامي الواعي
اللبق أسهل بكثير من الدعوة بالحج ، حيث لا جامع بين الحاضرين ولا
بين الداعية والمدعوين إلا الإسلام ، ومعه يكون التبليغ في حدود
هذا الأمر المشترك ، بمفاهيمه العامة وأحكامه الشاملة من دون أن
يتعرض الى حل مشكلة في بلد معين أو نحو ذلك.
ما لم يكن للداعية الثقافة الواسعة النيرة عن مختلف بلاد الإسلام
ومجتمعاتها ، مطلعاً على مشاكلها وأمالها ومستويات ثقافاتها
وتفكيرها، حتى يستطيع أن يأخذها في نظر الاعتبار تفصيلاً في بحوثه
وتبليغاته .. هذا على مستوى التبليغ الكلامي لجماهير المسلمين .
أما على مستوى العمل الاجتماعي الفعلي لإصلاح حال الحجاج، مثلاً أو
القيام بأي عمل أخر- فهو يواجه ما يواجهه نظيره في أي بلد أخر من
الصعوبات والعقبات .. لسنا الآن في صدد تعدادها ..
فهذا عدد من المصالح التي تترتب على الحج ، مما أستطعنا أن نفهمه
وأن نتصوره . وكل واحدة منها لها من الأهمية ما يكفي مبرراً ومصلحة
لتشريع الحج . فضلاً عن تشريعه من أجل الجميع لكي يكون حقلاً
يانعاً مثمراً بكل تلك الآثار والأعمال التي ذكرناها ، مضافاً الى
ما سنعرف من المصالح المهمة المتعلقة بخصوصيات أفعاله ، مما يكسبه
أهمية مضاعفة على ما سنلاحظ
_______________________
(1) سورة آل عمران الآية 104.
(2) سورة النحل الآية 125.