وكان ابن أبي العزاقر وجيهاً عند بني بسطام ،وذلك أن الشيخ أبا القاسم بن روح رضي
الله عنه ، كان قد جعل له عند الناس منزلة وجاهاً .فكان عند ارتداده يحكي كل كذب
ولاء وكفر لبني بسطام ،وبسنده عن الشيخ ابي القاسم رضي الله عنه ،فأنكره وأعظمه ،
ونهى بني بسطام عن كلامه وامرهم بلعنه والبراءة منه .فلم ينتهوا، واقاموا على
توليه، وذاك انه كان يقول لهم: أنني أذعت السر، وقد أخذ علي الكتمان ، فعوقبت
بالإبعاد بعد الإختصاص، لأن الأمر عظيم لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو
مؤتمن ممتحن، فيؤكد من نفوسهم عظم الأمر وجلالته.
فبلغ ذلك أبا القاسم رضي الله عنه ، فكتب إلى بني سطام بلعنه والبراءة منه وممن
تابعه على قوله وأقام على توليه ، فلما وصل إليهم وأظهروه عليه ، بكى بكاء عظيماً.
ثم قال إن لهذا القول باطناً عظيماً وهو ان اللعنة الإبعاد، فمعنى قوله: لعنه الله
، أي باعده الله من العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي، ومرغ خديه في التراب.
وقال :عليكم بالكتمان لهذا الأمر (1).وقد ترتب على بعض هذه العقائد ان الكبيرة أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله
عنهما ، دخلت على أم أبي جعفر بن بسطام ، فأعظمتها غاية الإعظام حتى لأنها انكبت
على رجلها تقبلها ، فلما أنكرت ذلك منها ، أخبرتها بما قاله لهم العزاقري من
العقائد ، وأن روح الزهراء عليها السلام قد تجسدت فيها ، فكيف لا تعظمها
وتتكبر شأنها ؟ ولم يفد تكذيب الكبيرة أم كلثوم لهذه العقائد ، وردعها لتلك المرأة
عنها ، لما سبق من العزاقري بأنه سر عظيم وقد أخذ عليهم أنه لا يكشفونه لأحد.
ــــــــــــــــ
(1)انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص249
صفحة (516)
وحين رأت الكبيرة أم كلثوم ذلك ، بادرت إلى ابي القاسم بن روح رضي الله عنه
،فأخبرته بالقصة ، فقال يا بنية ! إياك أن تمضي إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها ولا
تقبلي لها رقعة وان كاتبتك ولا رسولاً ان انفذته اليك ، ولا تلقيها بعد قولها .فهذا
كفر بالله تعالى والحاد .وقد احكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله
طريقاً الى ان يقول لهم: باذن الله تعالى وقد اتحد به وحل فيه كما يقول النصارى في
المسيح عليه السلام . ويعدو الى قول الحلاج لعنه الله.
قالت: فهجرت بني بسطام ، وتركت المضي اليهم ، ولم اقبل لهم عذراً. ولا لقيت امهم
بعدها.
وشاع هذا الحديث في بني نوبخت، فلم يتبق أحد إلا وتقد إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه
بلعن أبي جعفر الشلغماني والبراءة منه، وممن تولاه ورضي بقوله أو كلمة.ثمظهر توقيع
من صاحب الزمان عليه السلام يلعن أبي جعفر محمد بن علي والبراءة منه وممن تابعه
وشايعه بقوله وأقام على توليه، بعد المعرفة بهذا التوقيع(1).
ــــــــــــــــ
(1) انظر كل ذلك في الغيبة من ص248-ص250
صفحة (517)
وكان خروج التوقيع ضده عام اثني عشر وثلاثمائة، يقول الامام المهدي فيه: ان محمد بن
علي المعروف بالشلغماني ،وهو ممن عجل الله له النقمة، ولا أمهله، وقد ارتد عن
الإسلام وفارق، والحد في دين الله ،وأدعى ما كفر معه بالخالق جل وعلا وافترى كذباً
وزوراً وقال بهتاناً وإثماً عظيماً .كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً وخسروا
خسراناً مبيناً.
وإننا قد برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله وآله صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته
عليه منه ، ولعناه عليه لعائن الله تترى من الظاهر والباطن في السر والعلن ،وفي كل
وقت وعلى كل حال ،وعلى من شايعه وتابعه أو بلغه هذا القول من وأقام على توليه بعده.
وأعلمهم أننا من التوقي والمحذرة منه على ماكنا عليه ممن تقدمه من نظرائه من
الشريعي والنميري والهلالي والبلالي وغيرهم ، وعادة الله عندنا جميلة .وبه نثق ،
وإياه نستعين وهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل.
وقد صدر هذا التوقيع حين ألقي القبض على الشيخ الحسين بن روح رضي اللهعنه ،وأنفذه
من السجن في دار المقتدر إلى أحد أصحابه :شيخنا أبو علي بن همام ، فوزعه أبو علي
توزيعاً عاماً . ولم يدع أحداً من الشيوخ إلا أقرأه إياه وكتب بنسخته إلى سائر
الأمصار. فاشتهر ذلك ، في الطائفة ، فاجتمعت على لعنه والبراءة منه.(1)
ــــــــــــــــ
(1) انظر كل ذلك في الغيبة من ص252- 254
صفحة (518)
قال الراوي: وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النويختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح
رضي الله عنه ، على ظهر كتاب فيه جوابات
ومسائل أنفذت إلى قم ، يسأل عنها: هل هي جوابات الفقيه عليه - السلام يعني الامام
المهدي او جوابات محمد بن علي الشلغماني لانه حكى عنه انه قال: هذه المسائل انا
اجبت عنها فكتب اليهم على ظهر كتابهم :
" بسم الله الرحمن الرحيم" قد وقفنا على ظهر هذه الرقعة وما تضمنته فجميعه جوابنا
،ولا مدخل للمخذول والضال المضل المعروف بالعزاقري - لعنه الله - في حرف منه ، وقد
كانت أشياء خرجت إليكم على يدي أحمد بن بلال(1) وغيره من نظرائه ، وكان من ارتدادهم
عن الإسلام مثل ما كان من هذا عليهم لعنة الله"
وأراد الراوي أن يتاكد ، عما إذا كان ما خرج من هؤلاء المنحرفين قبل انحرافهم عن
الإمام المهدي "ع" هل هو صحيح أو مزور أيضاً.
قال الراوي: فاستثبت قديماً من ذلك ، فخرج الجواب :" على من استئبت ،فإنه لا ضرر من
خروج ما خرج على أيديهم ،وإن ذلك صحيح"(2) فإنه لا تنافي بين الإنحراف المتأخر وصحة
القول والنقل المتقدم حال إيمان الفرد واستقامته.
ــــــــــــــــ
(1) لعل المراد : أحمد بن هلال ،فإن ابن بلال اسمه محمد بن بلال ،لا أحمد كما سبق .
(2) غيبة الشيخ الطوسي ص228.
صفحة (519)
ومثل هذا التثبيت، ما سئل الشيخ ابن روح رضي الله عنه ،عن كتب أبن أبي العزاقر
بعدما ذم وخرجت فيه اللعنة ، فقيل له : فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء . فقال:
أقول فيها ما قاله محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضال
فقالوا ك كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء ، فقال صلوات الله عليه ،خذوا بما رووا
وذروا ما رأوا(1).
فنرى ابن روح يعقد مقارنة بين كتب العزاقري وكتب بني فضال ،حيث يفهم من كلامه
الامام العسكري قاعدة عامة ، وهي : إن الإنحراف في العقيدة ، لا ينافي إمكان صحة
الرواية.
فما على الفرد إلا أن يأخذ بما رووا من أخبار ويدع ما رأوا واعتقدوا من العقائد
المنحرفة والطرق الضالة .لا يفرق في ذلك بين بني فضال وابن أبي العزاقر.
وحين احس الشلغماني بالتحدي والمجابهة من قبل الشيخ ابن روح والمجتمع الموالي له
،اراد ان يباهل ابن روح حتى يضع المجتمع امام تحد الواقع، وذلك: أنه بعد أن اشتهر
أمره وتبرأ منه ابن روح واجتمع الشلغماني بجماعة من رؤساء الشيعة في مجلس الوزراء
ابن مقلة - وزير الراضي عام 322(2) - فوجدان كل فرد منهم يحكي عن الشيخ أبي القاسم
لعنه والبراءة منه .فقال: اجمعوا بيني وبينه حتى آخذ بيده ويأخذ بيدي فإن لم تنزل
عليه نار من السماء تحرقه ، وإلا فجميع ما قاله في حق.
فبلغ ذلك إلى الراضي فأمر بالقبض عليه ، وقتله فقتل، واستراحت الشيعة منه(3).
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص239
(2) الكامل ج6 ص238
(3) الغيبة ص250
صفحة (520)
يدلنا ذلك على ما أشرنا إليه فيما سبق من أن الخليفة الراضي كان عارفاً للحق وفياً
له ، في حدود قدرته ومصلحته ، وقد سبق أن ربطنا ذلك بإتصالات شخصية كان يقوم بها
الخليفة قبل خلافته مع الخاصة من موالي الإمام وعلمائهم .
كما أننا نفهم من ذلك بوضوح ،كيف أن هؤلاء الخاصة يجتمعون في دار الوزير ويتناقشون
فيه ،وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ما سبق منا من وجود الإتصالات الواسعة بينهم
وبين سائر بني الإسلام من وجود الإتصالات الواسعة بينهم وبين سائر بني الإسلام من
علماء ووجهاء . فإن الفرد من علمائنا في تلك الفقرة لم يكن يفرق في وضعه الإجتماعي
عن أي فرد آخر، ليس له طبقية خاصة أو نطاق معين ، غير ما يمليه عقيدته ودينه ، فهو
- في الأغلب - تاجر يتصل بالبائعين والمشترين ، ويتصل بالشريف والوضيع وله علاقات
مع سائر بني الاسلام من علماء ووجهاء .
ولكننا يجب ان لا ننسى في هذا الصدد مسلك الحذر والتقية التي كانوا يسيرون عليه،
فنحن نلاحظ :اولاً : ان الحسين بن روح لم يكن معهم في مجلس الوزير زيادة في التكتم
والحذر، ولو كان معهم لما زاد حاله عن ذلك، كما سمعناه منه في مجالس اخرى عند
المقتدر وغيره.
ثانياً : إن المناقشة في الطعن على الشلغماني ولعنه ، لم يكن ينافي الحذر والتقية ،
إذ أن مسلك الدولة منذ أعوام على معادات الشلغماني ومطاردته ، كما سنسمع بعد قليل .
صفحة (521)
كما ان هذا النقل التاريخي يدلنا بوضوح على ان مقتل الشلغماني من قبل الخليفة ، كان
من أجل انحرافه عن ابن روح. وهذا هو ما احتملناه فيما سبق من أن الدولة المتمثلة في
شخص الخليفة كانت تشعر بالفعل في قتلها للشلغماني- وربما للحلاج أيضاً- بأنها تقوم
بعمل مشترك تتفق عليه مع خط السفراء رضوان الله عليهم .
ومن خبر آخر عن مباهلة الشلغماني ، قال الراوي: أنفذ محمد بن علي الشلغماني
العزاقري إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله أن يباهله ، وقال ، أنا صاحب الرجل - يعني
المهدي - .
وقد أمرت بإظهار العلم ، وقد أظهرته باطناً وظاهراً ، فباهلني ! فأنفذ إليه الشيخ -
رضي الله عنه - في جواب ذلك : أينا تقدّم صاحبه فهو المخصوم ، فتقدم العزاقري فقتل
وصلب وأخذ معه ابن أبي عدن .وذلك في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة(1).
وقد اثبتت هذه المباهلة ، ضد مقصود الشلغماني فإنه أراد أن يضع المجتمع بإزاء الأمر
الواقع نتيجة للمباهلة، فحصل ذلك وثبت ما هو الحق والواقع ، لكن إلى جانب الشيخ ابن
روح رضي الله عنه ،وظهر كون الشلغماني مخصماً مبطلاً.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص186
صفحة (522)
خطوط من تاريخ الشلغماني :
هناك بعض التفاصيل التي ينبغي تحديدها قبل التعرض إلى حادثة قتل الشلغماني ، وهي
تتلخص في عدة أمور :
الأمر الأول: أننا سمعنا من تاريخنا :أن الشلغماني كان وكيلاً صالحاً لأبن روح حال
استتاره عن المقتدر(1).
وسمعنا أيضاً أن التوقيع الذي أرسله الإمام المهدي (ع) منذ وصل إلى ابن روح وهو في
سجنه في دار المقتدر، فأوصله ابن روح إلى ابن همام ، فوزعه الأخير بين مشايخ
أصحابه.
إذن فاستتار أبن روح متقدم زماناً على سجنه ، وانحراف الشلغماني واقع ما بين هاتين
الحادثتين ،ونحن وإن كنا نعلم تاريخ سجن ابن روح ، وهو عام 312 كما سبق .إلا أننا
لا نعلم تاريخ استتاره ولا مدته لكي نحدد عام انحراف الشلغماني ،وغاية ما يمكن
تحديده هو أنه انحراف في زمان خلافة المقتدر وهو تاريخ غير كاف في نفسه.
وعلى أي حال فالمهم هو معرفة تاريخ البيان الذي صار ضده ، ولا بد أن يكون بعد
انحرافه بقليل ، بحيث لا يبقى له مجال للعمل العام بالوكالة عن ابن روح خلال ذلك .
وتاريخ صدوره مضبوط بعام 312 نفسه .
الأمر الثاني: أخرج الشيخ في الغيبة عن أبي علي محمد بن همام ، وهو الذي سمعناه أنه
وزع بيان الإمام المهدي (ع) في لعن الشلغماني على المشايخ .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص183
صفحة (523)
انه قال : أن محمد بن علي الشلغماني لم يكن قط باباً - وكيلاً - إلى أبي القاسم ولا
طريقاً له ، ولا نصبه أبو القاسم لشيء من ذلك على وجه ولا سبب . ومن قال بذلك فقد
أبطل - يعني قال بالباطل - وإنما كان فقهياً من فقهائنا، وخلط وظهر عنه ما ظهر،
وانتشر الكفر والإلحاد عنه فخرج فيه التوقيع على يد أبي القاسم بلعنه والبراءة ممن
تابعه وشايعه ، وقال بقوله(1).
وهذا بخلاف ما سمعناه في الرواية الأخرى(2) من ان الشلغماني كان حين استقامته
واستشار الشيخ ابن روح ، سفيراً بينه وبين الناس في قضاء حوائجهم ومهماتهم ،وكانت
التوقيعات تخرج على يديه عن طريق ابن روح .
وقد أشرنا فيما سبق، أنه لا تنافي بين الإنحراف المتأخر والوكالة حال الإستقامة،
فإن الإستقامة ما دامت موجودة تترتب عليها كل الآثار الإسلامية كقبول روايته وإمكان
وكالته، وخاصة وإن ابن همام في الرواية الأولى يعترف باستقامته في مبدأ أمره ،
وتنتفي هذه الآثار بانحرافه ، وعلى أي حال فقد عرفنا ان النقل بثبوت الوكالة أكثر
ومعه يكون الإعتماد عليه أكثر.
الأمر الثالث: نسمع من التاريخ العام(3) أن ابا جعفر الشلغماني اتصل بالمحسن بن أبي
الحسن بن الفرات في وزارته الثالثة .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص250
(2) المصدر ص183 وما بعدها
(3) الكامل ج6 ص241
صفحة (524)
وقد سبق أن عرفنا أن أبا الحسن بن الفرات هذا هو علي بن محمد بن موسى بن الفرات ،
الذي وزر للمقتدر ثلاث مرات ، كانت وزارته الثالثة عام 311(1)
وكان ولده محسن بن علي هو الغالب على الأمور في هذه الوزارة(2) حتى عزل عام 312
واختفى ولده محسن وصودر ابن الفرات على جملة من المال مبلغها ألف ألف دينار(3).
وقد عرفنا ابن الفرات هذا فرعاً من أب وأخ منحرفين، اتبعا محمد بن نصير النميري
الذي ادعى السفارة زوراً، وخرج فيه من الإمام العسكري "ع" توقيعات شديدة اللهجة .
وكان ابنه المحسن وقحاً سيء الأدب ظالماً ذا قسوة شديدة ، وكان الناس يسمونه
:الخبيث بن الطيب(4) . ويروى له في التاريخ أثناء وزارة أبيه الثالثة عدة شنائع في
التعذيب والمصادرات (5).
فهذا هو الذي اتصل به ابن أبي العزاقر، فانظر بمن يستجير وعلى من يتكل، وكيف يهرب
من الحق إلى الباطل، صريحاً وبلا مواربة.
ومن الراجح أنه اتصل بع عام 312 الذي رجحنا فيما سبق أنه عام من انحرافه .
وعلى أي حال ، فبعد عزل ابن الفرات استوزر المقتدر عبد الله بن محمد ابن عبيد الله
الخاقاني(6) وذلك عام 312(7) .
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص173 (2) مروج الذهب ج4 ص214
(3) الكامل ج6 ص177 (4) المصدر ص174
(5) انظر المصدر والصفحة (6) مروج الذهب ج4 ص214
(7) الكامل ج6 ص178
صفحة (525)
فطلب الشلغنماني وطارده وحاول القبض عليه ، فاستتر الشلغماني وهرب الى الموصل .فبقي
سنين عند ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان في حياة ابيه عبد الله بن
حمدان(1). ويروي النجاشي في رجاله انه اخبر بقائمة كتبه عند استتاره بمعلثايا ، وهي
قرية من اعمال الموصل .
فانظر إلى ضعف الدولة وضيق سلطانها ، إذ نرى حكومة بغداد لا تستطيع القبض على شخص
بالموصل ، ويكون في إمكان بعض امرائها إجارته منها ،وإبعاده عنها.
ونعرف من هذا السياق ايضاً ، ان التوقيع الذي صدر ضده من الإمام المهدي عليه السلام
، كان قبل اختفائه في الموصل ،فانه ايضاً كان عام 312 ،كما عرفنا .ومن المعلوم
صدوره حال وجوده في بغداد واختلاطه بالناس .كما ان محاولته للمباهلة مع ابن روح ،
كانت بعد عوده الى بغداد ، قبل مقتله بعدة شهور.
وذلك انه انحدر الى بغداد واستتر ،وظهر عنه ببغداد انه يدعي لنفسه الربوبية .وقيل
أنه اتبعه على ذلك: على ذلك ، الحسين بن القائم بن عبد الله بن سليمان بن وهب ،
الذي وزر للمقتدر عام 319(2) وأبو جعفر وأبو علي ابنا بسطام(3) وابراهيم بن محمد بن
ابي عون وابن شبيب الزيات وأحمد بن عبدوس. كانوا يعتقدون الربوبية فيه.
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ص241
(2) رجال النجاشي ص294
(3) انظر ص264
صفحة (526)
وظهر ذلك عنهم ، وطلبوا أيام وزارة ابن مقلة حينوزر للمقتدر عام 316 (1) فلم يوجدوا
(2).
إذن فالشلغماني هرب على الموصل عام 312 وعاد إلى بغداد عام 316 .وسلطات المقتدر
بالرغم انها حاولت القبض على الحسين بن القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب عام
316 بتهمة اتباع الشلغماني واعتقاده الربوبية فيه ، فإن المقتدر استوزره عام 319
،كما رأينا. وهو معنى ما قلناه من ان الدولة كانت تؤيد من طرف خفي خط الإنحراف في
خط المزالين للأئمة عليهم السلام.
مقتله
اتفق تاريخنا الخاص والتاريخ العام على ان الراضي قتله عام 322(3) ، وذلك أنه لما
كان في شوال لهذا العام ظهر الشلغماني من بعد استتاره ببغداد، فقبض عليه الوزير ابن
مقلة(4) ، وكان هذا أول عام من تولي الراضي للخلافة ،وكان أبو علي محمد بن مقلو هو
أول وزرائه(5).
فقبض عليه الوزير ابن مقلة وسجنه ،وكبس داره ، فوجد فيها رقاعاً ، وكتباً ممن يدعي
عليه أنه على مذهبه يخاطبونه بما لا يخاطب به البشر بعضهم بعضاً .
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص192 (2) انظر المصدر ص241
(3) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص178وص250 والكامل ج6ص241
(4) الكامل نفس الصفحة (5) المروج ج4 ص231
صفحة (527)
وفيها خط الحسين بن القاسم ، فعرضت الخطوط فعرفها الناس .وعرضت على الشلغماني فأقر
أنها خطوطهم وأنكر مذهبه ، وأظهر الإسلام ، وتبرأ مما يقال فيه.
وأخذ ابي عون وابن عبدوس معه وأحضرا معه عند الخليفة وامرا بصفعه فامتنعا ، فلما
أكرها مد ابن عبدوس يده ، وصفعه وأما ابن ابي عون فإنه مد يده إلى لحية ورأسه ،
فارتعدت يده، فقبل لحية الشلغماني ورأسه ، ثم قال : إلهي وسيدي ورازقي.
فقال الراضي: قد زعمت أنك لا تدعي الإلهية ، فما هذا؟
فقال: وما علي من قوله ابن أبي عون؟ والله يعلم أنني لا قلت أنني إله قط .فقال ابن
عبدوس :إنه لم يدع الألوهية . وإنما ادعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر مكان ابن
روح ،وكنت أظن أنه يقول ذلك تقية.
ثم أحضروا عدة مرات، ومعهم الفقهاء والقضاة والكتاب والقواد وفي آخر الأيام أفتى
الفقهاء بإباحة دمه . فصلب الشلغماني، وابن أبي عون في ذي القعدة وأحرقا بالنار(1).
وكان الحسين بن القاسم بالرقة فأرسل الراضي إليه فقتل آخر ذي القعدة ، وحمل رأسه
إلى بغداد(2).
وبذلك، انتهى حساب الشلغماني ، تجاه الدولة وقواعدها الشعبية وتجاه المؤمنين به
،وتجاه السفير الشيخ أبي الاقسم بن روح رضي الله عنه. وبالتالي تجاه الإمام المهدي
عليه السلام نفسه ،وقواعده الشعبية .
وانتصر الإمام المهدي (ع) وسفيره ،م ن حيث أرا د الله تعالى لهما النصر.
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص241
(2) المصدر ص242
صفحة (528)
تاسعهم : الحسين بن منصور الحلاج.
الصوفي المشهور ، ولا نريد أن ندخل في هذا الصدد ، في ترجمته وتفاصيل حياته ،ولا
فيما يصدر منه من العجائب التي كانت ستهوي العوام وتستغويهم .وإنها هل هي حق أو
باطل. وما اختلف الناس فيه من ذلك، فإن ذلك كله خارج عن تاريخ الإمام المهدي عليه
السلام في غيبته الصغرى ،وإنما فصلنا القول في الشلغماني لإرتباطه بهذا التاريخ
ارتباطاً عضوياً . فليرجع في تفاصيل ترجمة الحلاج الي مصادره.
وانتصر الإمام المهدي (ع) وسفيره ، من حيث أراد الله تعالى لهما النصر.
تاسعهم : الحسين بن منصور الحلاج .
الصوفي المشهور ،ولا نريد أن ندخل في هذا الصدد ، في ترجمته وتفاصيل حياته ،ولا
فيما يصدر منه من العجائب التي كانت تستهوي العوام وتستغويهم ،وإنها هي حق أو باطل
.وما اختلف الناس فيه من ذلك ، فإن ذلك كله خارج عن تاريخ الإمام المهدي عليه
السلام في غيبته الصغرى. وإنما فصلنا القول في الشلغماني لإرتباطه بهذا التاريخ
ارتباطاً عضوياً . فليرجع في تفاصيل ترجمة الحلاج إلى مصادره.
وإنما نقتصر من ذلك على ما هو مربوط بنا في هذا التاريخ. من حيث أنه ادعى السفارة
عن الإمام المهدي (ع) . و مما نذكره سيتضح ما هو الحق تجاه عقيدة الحلاج وسلوكه.
وذلك: أنه لما قدم بغداد وأراد أن يغري أبا سهل ابن اسماعيل بن علي النوبختي ،وهو
من علمائنا الأجلاء في تلك الفترة . ويمت إلى الشيخ ابن روح النوبختي رضي الله عنه
برابطة النسب.
وتخيل أنه ممن تنطلي عليه حيله وخدعه. فكاتبه وأدعى له أنه وكيل الإمام المهدي عليه
السلام ، وقد أخرج الخطيب البغدادي شيئاً من ذلك ، كما اخرج الشيخ في غيبته بعض
التفاصيل حوله.
صفحة (529)
قال الخطيب البغدادي(1): أخبرنا علي بن أبي علي عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق ،
أن الحسين بن منصور الحلاج لما قدم بغداد يدعو، استغوى كثيراً من الناس والرؤساء
،وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله من طريقهم (2). فراسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه.
وكان أبو سهل من بينهم مثقفاً فهماً فطناً ، فقال أبو سهل لرسوله : هذه المعجزات
التي يظهرها قد تأتي فيها الحيل. ولكن أنا رجل غزل ولا لذة لي أكبر من النساء
وخلوتي بهن ،وأنا مبتلى بالصلع ، حتى أني أطول قحفي وآخذ على جبيني وأشد بالعمامة
،وأحتال فيه بحيل ،ومبتلى بالخضاب لستر المشيب ،فإن يصل لي شعراً ورد لحيتي سوداء
بلا خضاب ،آمنت بما يدعوني إليه كائناً ما كان ،إن شاء قلت :إنه باب الإمام. وإن
شاء قلت: إنه الإمام . وإن شاء قلت: إنه النبي ، وإن شاء قلت : إنه الله .
قال: فلما سمع الحلاج جوابه ، أيس منه وكف عنه.
قال الشيخ(3). بعد نقله نحواً من ذلك ، مع زيادة أن الحلاج زعم لأبي سهل في مراسلته
،أنه وكيل صاحب الزمان عليه السلام ، وهذا واضح أيضاً من كلام الخطيب البغدادي
باعتبار قول أبي سهل :إن شاء قلت :أنه باب الإمام ..أي وكيله. وأضاف الحلاج -
برواية الشيخ وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصر لك لتقوى نفسك ولا ترتاب
بهذا الأمر.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الكنى والألقاب ج3
(2) يقصد بكونه بالأصل شيعياً ودعوته في واقعها انحراف عن هذا المذهب .
(3) الغيبة ص248
صفحة (530)
وبعد أن كشفه أبو سهل وأفحمه وأظهر عجزه وأمسك الحلاج عنه ولم يرد إليه جواباً ولم
يرسل إليه رسولاً. وصيره أبو سهل أحدوثة وضحكة ، ويطنز - أي يسخر -به عند كل أحد ،
وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة منه.
وحين ذهب الحلاج إلى قم كاتب علي بن الحسين بن موسى بن بابويه ،وهو من أجلاء
علمائنا ، أبو الشيخ الصدوق قدس الله سرهما وادعى له الحلاج : أنه رسول الإمام
ووكيله.
فلما وصل خطابه إلى ابن بابويه ، مزقه وقال لرسول الحلاج: ما أفرغك للجهالات! فقال
له الرجل: فإن الرجل قد استدعانا فلم خرقت مكاتبته؟ وضحكوا منه وهزئوا به.
ثم نهض إلى دكانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه ، وعندما وصل نهض لإحترامه كل من
كان هناك غير رجل رآه جالساً في الموضع فلم ينهض له ولم يعرفه ابن بابويه.
فلما جلس وأخرج حسابه ودواته ، كما يكون التجار. أقبل على بعض بعض من كان حاضراً
فسأله عنه ، فأخبره. فسمعه الرجل يسأل عنه فأقبل عليه، وقال له: تسأل عني وأنا
حاضر؟ فقال له أبن بابوية أكبرتك أيها الرجل وأعظمت قدرك أن أسألك . فقال له :تخرق
رقعتي ،وأنا أشاهدك تخرقها. فقال له. فأنت الرجل إذن. ثم قال. خذ يا غلام برجله
وبقفاه وسحبوه من الدار سحباً، ثم قال له، أتدعي المعجزات ، عليك لعنة الله، فأخرج
بقفاه ، قال الراوي . فما رأيناه بعدها بقم.
صفحة (531)
يتضح من هذا التاريخ أمور:
الأمر الأول: أن أمر الحلاج كان أهون وأوضح لدى خاصة الموالين من أن يخرج فيه
التوقيع عن الإمام المهدي عليه السلام . فقد كان لهم من الموازين والقواعد
الإسلامية ، ما يكشفون به عن خدعه وأباطيله من دون حاجة إلى سؤال من المهدي "ع"
وجواب ، ولم يتسفحل به الأمر ليصل الحال إلى حد الحاجة إلى ذلك.
ولا ننسى في المقام قول ابن روح في الشلغماني : فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد ، قد
أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجد طريقاً إلى أن يقول لهم: بأن
الله تعالى اتحد به وحل فيه ، كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام. ويعود إلى
قول الحلاج لعنه الله(1). فقد حكم على عقائد الشلغماني بالبطلان باعتبار رجوعها في
نهاية المطاف إلى قول الحلاج ، فكيف يقول في الحلاج نفسه.
على انه لم يكن الذي التفت إلى فساد قوله، هو الحسين بن روح وأصحابه ، فحسب بل
التفتت إلى ذلك السلطات ، وخافت على شعبها من أن يؤثر الحلاج في إنحرافه عن أصل
الإسلام ، وهو الدين الحنيف الذي تقوم فيه الخلافة على اساس منه .فقبضوا عليه ،
وأفتى الفقهاء بإباحة دمه .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص249
صفحة (532)
ولما سمع الحلاج ذلك. قال: ما يحل لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة ، ولي
فيها كتب موجودة ، فالله الله من دمي ، ولكن الخليفة المقتدر ، أذن في قتله حين رأى
الفتاوي .فضرب ألف سوط وقطعت يده ثم رجله ثم يده ثم رجله . ثم قتل قم أحرق بالنار
وألقى رماده في دجلة ،ونصب الرأس ببغداد ، وأرسل على خراسان لأنه كان له بها أصحاب
.(1)
فأعجب من الخطيب البغدادي وإذ سمعنا منه انه يعتبر الحلاج محسوباً على الشيعة ، على
حين نرى الحلاج بنفسه يعترف أمام السلطات أن مذهبه السنة وله فيها كتب موجودة.
الأمر الثاني: أن الحلاج، كان يخدع كل قوم من جهة قناعتهم واعتقادهم ، ليجلبهم بعد
ذلك إلى ما يريده لهم من العقائد الباطلة والأقوال المنحرفة. وإذ يكون الناس في
فراغ عقائدي وضعف في الدعوة والإرشاد الإسلامي بينهم ، لم يكن بإمكانهم أن يفرقوا
بيم المعتقد الحق ولاباطل وبين ما هو معجزة وما هو خدعة ،وقد استغل الحلاج هذا
الواقع المر استغلالاً كبيراً واصطاد في هذا الماء العكر اصطياداً مضاعفاً. حتى ضج
منه أهل الإسلام بمختلف مذاهبهم .
وقد كان منطلقه إلى خداع القواعد الشعبية الموالية للأئمة عليهم السلام ،هو ادعاء
الوكالة عن الإمام المهدي عليه السلام .ثم يعلو منه على غيره(2) ، لتخيله أن هذا
الأمر مفهوم لهم معتاد بالنسبة إليهم .
ــــــــــــــــ
(1) انظر الكامل ج6 ص168-169
(2) غيبة الشيخ الطوسي ص247
صفحة (533)
ولولا وقوف ابي سهل النوبختي في بغداد وابن بابوية القمي في قم ضده لكان له اثر
مؤسف كبير.
الامر الثالث: انه يتضح ايضاً من هذا التاريخ ،ما سبق ان ذكرناه من كون علمائنا في
تلك الفترة ،لم يكونوا يشكلون طبقة منفصلة لهم حدود معينة وعلاقات محدودة. بل كان
حالهم حال غيرهم في اتخاذهم عملاً يرتزقون منه ،وينطلقون الى اللقاء مع مختلف
الطبقات عن طريقه. كالذي سمعناه عن ابن بابويه الذي كان الى جانب تجارته من اكابر
العلماء العاملين لتلك الفترة. ويكفينا من جهاده هذه الصورة الواضحة من قيامه ضد
الحلاج وفضحه في المجتمع المسلم.
عاشرهم : محمد بن المظفر .
أبو دلف ، الكاتب ، وقد سمعنا عند الحديث عن أبي بكر البغدادي أن أبا دلف هذا كان
مخمساً مشهوراً ، ثم انه آمن بأبي بكر البغدادي واعتبر مذهبه هو الصحيح(1) ،وكان
يدافع عنه بحرارة ويقدمه على الحسين بن روح رضي الله عنه(2) حت اوصى له ابو بكر
البغدادي بعد وفاته(3) واصبح بذلك مدعياً للسفارة بعد السمري ،وكان هذا علامة كذبه
لدى الاصحاب .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص256
(2) انظر المصدر ص250
(3) المصدر ص255
صفحة (534)
على ما سبق وكان ابو دلف معروفاً بالالحاد ثم اظهر الغلو ثم جن وسلسل وصار مفوضاً ،
قال الراوي : وما عرفناه قط ،إذا حضر في مشهد يعني مجتمعاً على الناس - إلا استخف
به ولا عرفته الشيعة إلا مدة يسيرة، والجماعة تتبرأ منه وممن يومي إليه وينمس به
"(2). وأمره في الجنون أكثر من أن يحصى(1).
فهؤلاء عشرة ، ممن مثلوا خط الإنحراف الداخلي الكبير أثناء فترة الغيبة الصغرى ، ضد
السفراء وقواعدهم الشعبية .وبالنتيجة ضد الإمام المهدي (ع) وضد المصالح الكبرى التي
كان يتوخاها في المجتمع ،وقد عرفناهم وجملة من أساليبهم وطرق الوقوف ضد تيارهم ،
والحمد لله رب العالمين .
تحليل مجابهة الإنحراف :
كان الإهتمام الكبير للإمام المهدي (ع) وسفرائه في الوقوف ضد هذا التيار ، أكبر من
الوقوف ضد أي تيار آخر .وذلك لعاملين أساسين :
أحدهما ، لاحظناه مما سبق ،من كون هذا العميل مما ينسجم وسياسة السلطات .فلا يكون
منافياً لمسلك الحذر والتكتم ،وحيث كان في ردع القواعد الشعبية الموالية عن هؤلاء
المزورين مصلحة كبرى كما هو معلوم ،ولا مانع منه من قبل السلطات ...إذن فمن المنطق
أن ننتظر ازدياد نشاط السفراء والوكلاء في ذلك ،وتعدد التوقعيعات بخصوصه.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص254
(2) المصدر ص255 وما بعدها.
صفحة (535)
ثانيهما :وهو الأهم، المبتني على قاعدةة عامة في منطق الجماعاتالبشرية، تقول: ان
الهدم التاشيء في داخل الجماعة يكون أضر بها وأشد عليها من الهدم الوارد عليها من
الخارج، في الأعم الأغلب. بل ان المنحرفين في كل جماعة، ليمثلون خط المناوئ جنباً
الى جنب مع الجماعات الأخرى المعادية.
ومن ثم كان المنحرفون عن الاسلام ، والمتاجرون باسمه، أشد على الإسلام من الكفار
والمشركين، وأكثر تأثيراً في الأبعاد عنه. وهم - في واقعهم - يد عاملة في مصلحة
القوى العالمية المناوئة للأسلام.
ولذلك ، كان هؤلاء المنحرفون، المدعون للسفارة زوراً ، أشد على القواعد الشعبية
وأضربها - لو أستفحل امرهم - من السلطات المنحرفة لانهم ويتاجرون باسم الامام
المهدي عليه السالم، ويدخلون الى عقول السذج عن طريق مهم معتاد بالنسبة اليهم وهو
السفارة عنه وقبض الاموال بالوكالة عنه. ثم انهم يزرقون من عقائدهم المنحرفة
وسلوكهم الباطل في نفوس الآخرين، تحت هذا الشعار، ما يحلو لهم وما يشاؤن.
على حين ان السلطات لا تملك الا الحديد والنار والسجون، ولم تكن هذه الامور يوماً
بصالحة في القيام ضد الغقيدة أة التاثير عليها. لا تستطيع السلطات ان تدخل الى
اذهان الموالين للأئمة عليهم السلام، عن طريق ديني باي حال من الاحوال. وليس ادل
على ذلك، من رفض المعتمد لعمالة جعفر بن علي ، حين كان يائساً من تأثيره في فرض
عمالته على موالى اخيه عليه السلام.
صفحة (536)
فكان من الواجب الوقوف ضد هذا التيار الداخلي المنحرف، الذي كاد ان يبلغ مبلغاً
عظيماً، لو لا ما بينه الامام المهدي عليه السلام من بينات وما قام به السفراء من
نشاط مضاعف كبير. الى جانب شعور الدولة بالعادات مع هؤلاء المنحرفين ومطاردتهم لهم.
ولم يخطر لها ان تستفيد منهم في سبيل هدم الجماعة الموالية وتفريق شملها وتشتيت
كلمتها مما اوجب تظافر نشاط السفراء والدولة على حربهم ومطاردتهم.
ولم تكن الدولة بقادرة على جرهم الى جانبها والاستفادة منهم في مصلحتها لعدة عوامل.
الاول: ان دعوتهم - على الاغلب - كانت خارجة عن أصل الاسلام بشكل مكشوف واضح، لدى
عموم الناس، بحيث لا يمكنهم التأير الكبير. ولا ينفعون السلطات حتى لو ارادوا ذلك.
الثاني: ان توقيعات الامام عليه السلام وموقف سفرائه ، كان قوياً فعالاً في التأثير
على الجماعة الموالية. بحيث لم يبق لهؤلاء الزورين باقية، يمكن أن تصلح سنداً
للدولة ، حتى لة أرادت استخدامها.
الثالث: ان الدولة ، كانت تخاف على قواعدها الشعبية من التشتت والانهدام . فأنها
على اي حال قائمة على اساس الإلتزام بالإسلام، ومنفعة في أصل وجودها من شعاراته.
فإذا دخلتها الدعوات المنحرفة عنه بشكل علني صريح ، كان ذلك مضراً بها لا محالة.
صفحة (537)
الرابع : ان الدولة كانت تخاف - في حدود ما تفهم - بأن يؤثر هؤلاء المنحرفون، بشكل
أو آخر، في صرف بعض قواعدها الشعبية عن مذهبهم وتقريبهم إلى خط الأئمة عليهم السلام
..ولو باعتبار أن هؤلاء المنحرفين مدعين للسفارة عن ألإمام المهدي عليه السلام ،وهو
القائد الفعلي لذلك الخط، وهو الخط الذي تفرق منه السلطات وتخشاه .
وقد سبقت بعض الشواهد على ذلك(1).
الخامس: أن هؤلاء المنحرفين ، كانوا في الأعم الأغلب مشتركين مع خط الأئمة والسفراء
، في الشعور بالظلم وعدم الإعتراف بشرعيتها، وهذا الشعور نفسه يجعلهم يرهبون أن
يبيعوا ضمائرهم للسلطات ويكرسوا نشاطهم من أجلها. وهم يشعرون بكل عمق ،إنهم لن
يحصلوا من القواعد الشعبية أحداً ، لو شعر الناس منهم مثل هذا الإتجاه.
وهذا هو الذي جعلهم طرفاً للعداء مع السلطات ومع السفراء على حد سواء .ولم يكن في
مستطاعهم ،وهم يمثلون أضيق الإتجاهات وأضعفها ، أن يحاربوا في جبهتين، ويبذلوا
نشاطهم في أكثر من ميدان واحد ، مما عجل في خاتمة أمرهم ، وإنهاء حسابهم ، وتوفيق
الله للأمة الإسلامية عموماً والموالين خصوصاً للخلاص منهم.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الكامل ج6 ص87
صفحة (538)
الفصل الخامس
الإمــام المــهدي(ع)
حيــاته ونشـاطه
خـلال هـذه الفترة
ويقع الكلام في ذلك ضمن عدة حقول ، نذكر عناوينها أولاً، لنكون على ذكر منها حين
ندخل في التفاصيل. فهي :
أولاً : حياته الخاصة خلال غيبته الصغرى .
ثانياً : محاولات القبض عليه من قبل السلطات .
ثالثاً : مقابلات للناس من حيث اسلوب ذلك وأهدافه .
رابعاً : تصرفه في الأمور المالية .
خامساً : حله للمشكلات العامة والخاصة .
سادساً : نصبه لوكلاء غير السفراء الأربعة .
سابعاً : إعلانه انتهاء السفارة وبدأ الغيبة الكبرى .
وقد عرفنا الشيء الكثير عن الإتجاهات والأساليب التي كان يتبناها الإمام المهدي
عليه السلام ، مما يندرج في عدد من هذه العناوين ،وعلينا في هذا الفصل ترتيب ما
عرفناه مع الزيادة عليه .
صفحة (539)
وتجنباً للتكرار ، سيكون التعرض إلى ما عرفناه مما سبق ضئيلاً إلى حد كبير ، وسيكون
الجهد مكرساً على ما يستجد في هذا الفصل من تاريخ وأفكار.
الحقل الأول
حياة المهدي(ع) الخاصة
من حيث صفته ومكانه ومقدار عمره ، وعدد من خصائصه الشخصية خلال غيبته الصغرى .
شكله :
كان سلام الله عليه وعجل فرجه ، يوم وفاة أبيه ، حيت رآه الناس يصلي على ابيه ...
صبياً بوجهه سمرة ، بشعره قطط بأسنانه تفل ، كما سبق ان سمعنا .
لم يصفه من رآه بعد ذلك خلال غيبته الصغرى ، بأنه شاب حسن الوجه طيب الرائحة ، هيوب
، ومع هيبته متقرب إلى الناس .قال الراوي :فتكلم ، فلم أر أحسن من كلامه ولا أعذب
من منطقه في حسن جلوسه(1). وفي رواية أخرى كأنه شاب أسمر لم أر قط في حسن صورته
واعتدال قامته(2) .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص152
(2) المصدر ص153
صفحة (540)
وفي رواية ثالثة فتى حسن الوجه طيب الرائحة يتبختر في مشيته(1). وفي رواية رابعة:
أنه ليس بالطويل الشامخ ولا بالقصير اللازق بل مربوع القامة مدور الهامة صلب الجبين
أزج الحاجبين ، أقنى الأنف ، سهل الخدين ، على خده الأيمن خال(2) .إلى غير ذلك من
الروايات (3).
ونسمع من سفيره محمد بن عثمان رضي الله عنه ، حين سئل عن رؤيته للمهدي (ع) ...يصف
عنقه في حسنه وغلظه ، فيشير بيده ويقول :وعنقه هكذا (4) أو قال :ورقبته مثل هذه(5).
وإنما أكد على صفة عنقه ليدل على صفة الرجولة فيه ، وأنه لم يبق كما عهده الناس في
حياة أبيه صبياً صغيراً ،أو غلاماً عشارياً عليه رداء تقنع به(6) .
إذن فهو عليه السلام ، قد تقدم وتطور من حيث شكله، فأصبح شاباً بعد أن كان غلاماً
وقوياً بعد أن كان ضعيفاً وكبيراً بعد أن كان صغيراً ، وكان سفراؤه يواجهونه في
شبابه هذا.
ــــــــــــــــ
(1)غيبة الشيخ ص159 (2) المصدر ص161
(3) انظر المصدر أيضاً ص156 وص163 وص182 وغيره من المصادر كثير.
(4) المصدر ص215 (5) المصدر 219
(6) المصدر ص155
صفحة (541)
ففي زمان العمري السفير الثاني ،حاول شخص أن يقابل المهدي (ع) فوفر له العمري فرصة
المقابلة ،فرآه شاباً من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة ، بهيئة التجار ، وفي كمه
شيء كهيئة التجار (1).
وكونه عليه السلام بهيئة التجار ، يدلنا على لباسه خلال هذه الفترة بل على عمله
أيضاً ..وهو التجارة ، حيث يستطيع أن يواجه الناس كتاجر من التجار من دون ان يعرف
الناس حقيقته ،ولعله تاجر مستقل عن تجارة سفره أو يعمل سفيره في تجارته .وقد عرفنا
مما سبق أن هيئة الكثير من علماء الخاصة بما فيهم السفراء أنفسهم ووكلائهم ،وعملهم
الإجتماعي الظاهر ، كان على ذلك .
ومن هنا اتخذ قائدهم وإمامهم نفس العمل والملبس ،وهو أمر أبعد ما يكون عن إلفات
النظر وإثارة الشكوك .
ثم يوصف لباسه حال الإحرام للحج ،وهو عليه السلام يحضر الموسم كل سنة ، يرى الناس
ويعرفهم ،ويرونه ولا يعرفونه(2) ويكون في أثناء حجه متزراً ببردة ومتشحاً بأخرى
،وقد عطف بردائه على عاتقه(3) شأنه في ذلك شأن كل حاج محرم يلبس ثياب الإحرام ،وفي
رواية أخرى عليه إزاران(4).
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص164 (2) المصدر ص221
(3) اكمال الدين المخطوط (4) غيبة الشيخ الطوسي ص156
صفحة (542)
مكانه وانتقالاته :
كان حال حياة أبيه عليهما السلام في سامراء . دلت على ذلك جميع الروايات الناقلة
لمشاهدته في تلك الفترة ، وقد سبق أن سمعنا قسطاً كبيراً منها .ومن الطبيعي أن يبقى
في سامراء يوم وفاة أبيه يصلي على أبيه ويقابل وفد القميين ، ليحولهم على بغداد ،
حيث يعين لهم سفيراً جديداً .
ويبقى في سامراء ردحاً من السنين بعد ذلك ،كما تدل عليه حوادث تحويل السفيرين
الأولين بأموال الوفود إلى سامراء ،كما سيأتي في الحقل الخاص بذلك ، ويدل عليه
أيضاً ما قامت به السلطات من المطاردة له والكبس على داره في سامراء من قبل المعتمد
والمعتضد .حيث يكون عليه السلام موجوداً هناك ولكنه يستطيع التخلص والهروب ،إذن فهو
إلى زمان خلافة المعتضد التي تولاها عام 279. كان ساكناً في دار ابيه في سامراء فلو
فرض -كما هو المظنون - ان الكبس الذي امر به المعتضد كان في اول عام من خلافته ،
فمعنى ذلك أن المهدي عليه السلام بقي هناك تسعة عشر سنة بعد وفاة أبيه عليه السلام.
وقد أبعد المهدي (ع) عن نفسه كل الآثار ،وكل ما يلفت النظر ويثير الشك ، حتى وكلائه
أصبحوا بعيدين عنه، لكي لا يوجهوا الأنظار إليه أولاً ، ولكي يعيشوا في قلب الحوادث
الإجتماعية شأن كل من يريد أداء الخدمة الصالحة لمجتمعه وأمته ، ثانياً، ولكي
يبعدوا هم بدورهم عن أرصاد الدولة وعاصمة الملك حال كونها في سامراء خلال هذه
التسعة عشر سنة ثالثاً .
صفحة (543)
أما هو فلا ينبغي أن يعيش الحوادث ولا أن يختلط بالناس ،بل يبقى بعيداً يكتفي بسماع
الأخبار والإطلاع على الآثار، يعيش هموم الأمة الإسلامية ذهنياً إن لم يستطع أن
يعيشها خارجاً ،حتى تهدأ النائرة ، ويندمل الجرح وتخف المطاردة ، وبمضي الردح الأول
من الغيبة الصغرى ليستطيع بعد ذلك أن يقوم بعمل جديد .
والمتتبع لخروج التوقيعات والبيانات عن الإمام المهدي عليه السلام خلال الفترة
الأولى من غيبته ، يرى بوضوح قلتها وندرتها .إلى حد لا يكاد ينقل عن السفير الأول ،
بل السفير الثاني في أول سفارته توقيع ذو بال، إلا في حدود قليلة وعند الحاجة
الكبيرة ، وما ذلك إلا لأن الحاجة إلى الحذر في هذه الفترة ألزم ، والبعد ما بين
المهدي وسفرائه من حيث المكان أكثر.
وحين تنتهي هذه الفترة الحرجة ،ولا يزال محمد بن عثمان سفيراً في ذلك الحين ، تنفتح
له عليه السلام ، فرصة جديدة في الخروج والتجول بنحو لا يمكن أن يعرفه الناس ولا أن
يشار إليه بحقيقته ، فإن أكثر الناس لم يروه في حياة أبيه، ومن رآه منهم كان قد رآه
طفلاً أو صبياً والآن قد أصبح شاباً وسيماً ،فلا تكاد ملامحه أن تكون محفوظة معروفة
بعد مرور هذه الفترة، على ان جيلاً من الناس قد مات وجيلاً قد واجه الحياة من جديد،
وهو لا يعرف من شكل المهدي شيئاً . وكلما طالت المدة ابتعدت صورته عن أذهان الناس
وذابت ذوباناً كلياً .
صفحة (544)
ومن هنا انفسحت للمهدي فرصة جديدة ،لأن يدخل بغداد لنراه تارة بزي التجار(1). وأخرى
أمراً محمد بن علي بن بلال ،أن يدفع ما لديه من الأموال إلى سفيره العمري(2) .وأصبح
يحضر موسم الحج في كل عام ، كما سمعنا ماشياً (3)،بل أصبح يخالط الحجاج من خواصه
ويحدثهم(4) ويعلمهم الأدعية ويعطيهم التعليمات(5) .بل أنه ليكشف حقيقته امام البعض
إذا اقتضت المصلحة ولم يكن في ذلك خطر(6). وكان يسكن خلال فترة الحج في تلك الديار
المقدسة .
ومن هنا سنرى ان جملة من مقابلاته تمت هناك ، من قبل الباحثين عنه المريدين التشرف
بلقائه.
وكما يذهب إلى الحج ،فإنه يذهب إلى كربلاء لزيارة جده سيد الشهداء أبي عبد الله
الحسين، يوم عرفة، فيوصل إلى أحدهم مالاً (7) على ما سيأتي .
بل أنه يصل إلى مصر. على ما يظهر من بعض الروايات ، وينزل الإسكندرية في خان ينزله
الغرباء ، يصلي في مسجده بأهل ذلك الخان .ثم يسافر مع أحدهم ، ويأخذ طريق البحر(8).
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص164 (2) المصدر ص246
(3) المصدر ص258 (4) انظر المصدر نفسه ص152
(5) المصدر ص156 (6) المصدر ص152
(7) المصدر ص 181 (8) المصدر ص183
صفحة (545)
ثم أنه يعود من هذه الأسفار إلى بغداد ليباشر الإتصال بسفرائه ،وإدارة مصالح
المجتمع ،والوقوف في وجه المنحرفين ، عن طريق التوقيعات والبيانات .
هذا ونسمع قول المهدي "ع" - في رواية علي بن ابراهيم بن مهزيار ! أبي أبو محمد عهد
إلي أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ،ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ،ولهم
عذاب أليم وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها.والله
مولاكم أظهر التقية،فوكلها بي، فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي فأخرج(1).
وهذا الخبر لو صح لكان معارضاً لعدد من الأخبار أهمها طريقة استحصال التوقيعات منه
عليه السلام ،إلا ببعض الفروض االبعيدة أو الإعجازية التي نحن في غنى عن افتراضها
،والمهدي (ع) في غنى عن اتخاذها. ومعه تكون تلك الأخبار مقدمة على مدلول هذا الخبر.
وقد سبق أن عرفنا أن الحذر والتقية يتم مع سكناه المدن ايضاً لعدم معرفة الناس
بشكله وعدم الإلتفات إلى حقيقته .وليست التقية متوقفة على سكنى الجبال وعفر البلاد
.ان لم يكن ذلك ملفتاً للنظر وجالباً للشك احياناً والله العالم بحقائق الامور.
ــــــــــــــــ
(1) غيبته الشيخ ا لطوسي ص161
صفحة (546)
عمره الشريف:
ولد عليه السلام في النصف من شعبان عام 255 ،كما عرفنا ، فيكون عمره حين وفاة أبيه
شهر ربيع الأول من عام 260 كما سبق ، أربع سنوات وحوالي ستة أشهر .وقال المسعودي
وثمانية أشهر(1).
ولعله مبني على رواية أخرى لم تأخذ بها ،وفي هذا العمر تولى منصب الإمامة وقيادة
الأمة وآتاه الله الحكم صبياً.
وقد عرفنا أنه لم يكن شكله يوم وفاة أبيه موافقاً مع هذا العمر ، بل كان صبياً
يافعاً يقول من يراه أنه ابن ثمان أو عشر سنين ،وقد أعطينا لذلك التبريرات الكافية
فيما سبق ويكون عمره الشريف حين شوهد في الحج عام 293 ، شاباً أسمر ، قال الراوي :
لم أر قط في حسن صورته واعتدال قامته(2) ثمان وثلاثون عاماً .
ويكون عمره عند وفاة سفيره الثاني في جمادى الأولى عام 305 خمسين عاماً غير ثلاثة
أشهر .وعند وفاة سفيره الثالث الحسين بن روح رضي الله عنه عام 326 واحداً وسبعين
عاماً.
ويكون عمره عند وفاة سفيره الرابع الشيخ السمري، عام 329 ، وانتهاء فترة الغيبة
الصغرى ..أربعاً وسبعين عاماً ، قضى منها أربع سنين ونصف في حياة أبيه عليه السلام
، وتسعة وستين عاماً ونصف في حياة أبيه عليه السلام ، وتسعة وستين عاماً ونصف وخمسة
عشر يوماً في الغيبة الصغرى ، ثم بدأت الغيبة الكبرى حيث لا ظهور إلا أن يأذن الله
تعالى بالفرج لكي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
ــــــــــــــــ
(1) اثبات لاوصية ص236
(2) الغيبة ص153
صفحة (547)
ويكون عمره يوم انتهى المسعودي من كتابه إثبات الوصية ،وهو عام اثنتين وثلاثين
وثلاث مائة ، أي بعد انتهاء الغيبة الصغرى بثلاث سنوات ...يكون عمره الشريف ستاً
وسبعين سنة واحد عشر شهراً ونصف شهر ، كما ذكر المسعودي(1).
هذا بحسب عدد السنين ، وأما بحسب شكله ، فكان عليه السلام لا يزال شاباً . يقدره
الناظر بحوالي العشرين عاماً على ما يستفاد من مجموع اوصافه ،وهذا أمر ممكن بل
ضروري الثبوت ، باعتبارين:
أحدهما ،وهو الأمر الأساسي ،الإيمان بقدرة الله تعالى الذي خلقكم أول مرة ،والذي
يحي العظام وهي رميم، وبيده ملكوت كل شيء ، وهو على كل شيء قدير.
فإذا عرفنا المصلحة الكبرى المتوقفة على وجود المهدي (ع) والمسؤولية الكبرى المناطة
به ،وإنها من الأهمية والرسوخ في الإسلام إلى حد يعمل الله عز وجل إرادته الخاصة في
تنفيذها ...نعرف كيف يمكن أن يحفظ الله تعالى المهدي لأجل ذلك الهدف الكبير.
ثانيهما: نموه البطيء في غيبته الكبرى بحيث يقدر له من العمر حين ظهوره أربعين
عاماً كما ورد في الروايات(2)
إذن فهو بالرغم من نموه السريع في صغره في حياة أبيه ، حتى نما في الأربع سنوات ،ما
ينمو به ألإنسان خلال ثمان أو عشر سنين ...أصبح نموه يتباطأ بعد ذلك .ففي خلال
السبعين عاماً لغيبته الصغرى نما بمقدار حوالي العشر سنين من العمر الطبيعي ،حيث
كان في أولها يقدر بحوالي عشر سنوات ،وكان في آخرها يقدر بحوالي العشرين .
ــــــــــــــــ
(1) انظر إثبات الوصية ص263
(2) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص258 وكتاب المهدي .
صفحة (548)
ثم هو في السنوات المتطاولة المتمادية في غيبته الكبرى ينمو بمقدار العشرين الباقية
من سن الأربعين الطبيعي للإنسان، ليظهر في آخرها وهو كإبن الأربعين ،وهو السن الذي
يكون فيه الرجل في غاية الرشد والنضج والحنكة.
ثم أن المظنون أن نموه أمام الناس بعد ظهوره سوف يكون طبيعياً كشخص له أربعون سنة ،
فما فوق.
ومن طريف ما ورد في هذا الصدد ،ما في عقد الدرر عن أبي عبد الله الحسن عليه السلام
،أنه قال :أنه لو قام المهدي لأنكره الناس ،لأنه يرجع إليهم شاباً موفقاً وإن من
أعظم البلية أن يخرج إليهم صاحبهم شاباً ،وهم يظنونه شيخاً كبيراً(1)،والمراد من
قوله ، يرجع إليهم أنه يظهر لهم بعد غياب ،لا أنه يكون شيخاً ثم يتحول شاباً بطريق
إعجازي .
هذا كله، بحسب المصالح الإلهية الكبرى ، المذخورة ليومه الموعود.
فهذه لمحات من حياته الخاصة ، وستعرف جملة أخرى من تفاصيلها في الحقول التالية .
الحقل الثاني
ــــــــــــــــ
(1) كتاب المهدي ص208 وانظر عقد الدرر المخطوط.
صفحة (549)
محاولة السلطات القبض عليه
كان القبض عليه أحد الأهداف الكبرى للدولة ،من حيث أنها تعلم ما في كيانها من ضعف
وانحراف وتسيب. وتعلم أن المهدي عليه السلام هو المذخور لرفع الظلم والجور عن بني
البشر ،إذن فهو يناقض بأساس وجوده وعمق هدفه ، كيان هذه الدولة من الصميم ، ويشكل
ضدها الخطر الأصيل .
ولم تكن الدولة لتعلم أنه سيتأخر ظهوره ، ما حصل له من التأخير بعد ذلك ،فإن من
مميزات ظهور الإمام المهدي (ع) كونه محتمل الظهور في كل وقت ، لكي يخافه كل ظالم
ويخشاه كل منحرف.
وقد سبق أن دللنا على ان الخلفاء كانوا عالمين بوجوده وهدفه ولا أقل من احتمالهم
لذلك .وهو يكفي لتصديهم إلى تحصين دولتهم ضد خطره وتجريد الحملات للقبض عليه.
وقد جردت السلطات ثلاث حملات للقبض عليه، إحداها قام بها المعتمد في الفترة القليلة
المتأخرة عن وفاة الإمام العسكري عليه السلام والأخريان قام بهما المعتضد الذي تولى
الحكم بعده ،واما الخلفاء المـتأخرون فلم ينقل عنهم ذلك، ولعلهم كانوا قد أيسوا من
ذلك يأساً تاماً.
أما محاولة المعتمد ، فقد سبق أن سمعناها في القسم الأول من هذا التاريخ ، عند
استعراض ما قام به جعفر بن علي من محاولات وأعمال فلا نعيد.
وقد عرفنا ما تلا ذلك من انشغال الدولة بحرب صاحب الزنج وغيره، مما اوجب انحراف
السلطات ذهنياً عن أن تجرد حملات أخرى للكبس والتفتيش ، أثناء خلافة المعتمد ،وهي
التسعة عشر عاماً التي قضاها في الحكم بعد وفاة الامام العسكري .
صفحة (550)
الا ان التجسس المستمر والتلفت الدائم من قبل السلطات ، كان قائماً على قدم وساق ،
ومستمراً خلال الزمان، وكان يجابه كما عرفنا باساليب السرية والكتمان والمضاعفة
التي كان يقوم بها السفيران الاولان في هذه الفترة الصعبة من الغيبة الصغرى ،بما في
ذلك تحريم التصريح باسمه والدلالة على مكانه ، إلا لمن امتحن الله قلبه للإيمان
.وفي خلال هذه الأعوام التسعة عشر ، يكون التجسس قد أنتج شيئاً مهماً بالنسبة إلى
الدولة. وهو ثبوت فكرة السفارة لديها ،وأن هناك من يدعي السفارة عن الإمام المهدي
(ع) ويقبض المال بالوكالة عنه(1) إذن فهو موجود ، ليس هذا فقط ، بل يحاول قيادة
قواعده الشعبية وقبض الأموال منهم .ومن ثم كانت من أعظم مهام المعتضد عند توليه
الخلافة أن يجدد الحملات لمحاولات القبض على المهدي .
ومن ثم يبادر، فيبعث على ثلاث نفر ، فيهم أمرهم ، رشيق صاحب الماداري، ويأمرهم أن
يخرجوا إلى سامراء مخففين لا يكون معهم قليل ولا كثير، إلا أن يركب كل واحد منهم
فرساً ويجنب معه آخر ووصف لهم محلة وداراً ، وقال :إذا أتيتموها تجدون على الباب
خادماً اسود فاكبسوا الدار ومن رايتم فيها فاتوني براسه(2).
ــــــــــــــــ
(1) أعلام الورى ص421
(2) انظر تفصيل الرواية في لغيبة ص149 وما بعدها الخرايج ص67والبحار ج13 ص118
صفحة (551)
انظر لمقدار ما أتت به أخبار التجسس ..إنه يعلم بدار المهدي (ع) وهي دار ابيه
..إنها دار معروفة في سامراء، لها تاريخ مجيد وليس في هذا ما يلفت الإنتباه ..ولكنه
يعلم بالعبد الجالس على باب الدار .فإنه من الأخبار المتأخرة ،إذ لم تكن الحالة في
حياة الإمام العسكري بهذا الشكل بالتعيين.
كما أنه يعلم بوجود شخص آخر غير هذا العبد ، في داخل الدار وهو الإمام المهدي (ع)
لا محالة ،وعلى الأقل يعلم انها دار سكناه وان كان يحتمل عدم وجوده فيها ساعة الكبس
ولكن لا اقل من احتمال وجوده والكبس دائماً مغامرة ومقامرة.
وهو لا يحاول أن يرى المهدي او ان يكلمه، وإنما يأمر بقتله رأساً وحمل رأسه إليه،
وبذلك يتحقق الهدف الأعلى لكيان الدولة الزائف .
وهو لا يعين لهم شخصاً أو اسماً معيناً ، بل يغمض من هذه الناحية أنه يريد أن يبقي
هذا الأمر خفياً حتى على هؤلاء القائمين بالجملة ،ولا يهمه بعد ذلك أن يقتلوا شخصاً
غير المهدي ويأتوه برأسه ، فحسبه أنه قام بالمحاولة على أي حال .
ويتوخى المعتضد من هذا الإغماض أهدافاً :
الأول: عدم إثارة مسألة المهدي إمام هؤلاء الجلاوزة ،وعدم تنبيههم إلى ذلك ،مهما
أمكن ،لكي لا يكون ذلك رأس الخيط بالنسبة إليهم أو إلى أحهم للبحث عن الحق في خط
الإمام المهدي (ع) او الميل إليه .
صفحة (552)
الثاني: عدم كشف مهمتهم الحقيقية أمامهم ، محافظة على سمعته وسمعة الدولة. فإنهم إن
عرفوا ان المعتضد يكلفهم القبض على المهدي (ع) ،أمكن تسريب الخبر إلى المجتمع ،
فيترتب على ذلك، ما لا يحمد عقباه للمعتضد .
الثالث: عدم كشف مهمتهم الحقيقية أمامهم للمحافظة على سرية المطلب. حتى عن خاصة
الدولة، وجهاز استخباراتها .فإن الأمر اهم وادق من ان يعرفه الناس .وقد كان أشخاص
الخلفاء وحدهم يعرفون ذلك في الغالب، وقد عرفنا وجه مصلحتهم في الحرص على سرية
المطلب وإبهامه. وبدأت الحملة كما امر المعتضد، وتوجه الثلاثة إلى سامراء، وبحثوا
عن الدار، فوجدوها، كما وصفها لهم المعتضد .ورأوا في الدهليز خادماً أسود وفي يده
تكة ينسجها .فسألوه عن الدار ومن فيها فقال :صاحبها .قال: رشيق: فوالله ما التفت
إلينا وقل اكتراثه بنا.
ثم أنهم استمروا على مهمتهم ، فكبسوا الدار وجاسوا خلالها فوجدوا غرفة سرية .وعليها
ستر جميل جديد . قال رشيق : ما نظرت قط إلى أنبل منه ، كأن الأيدي رفعت عنه في ذلك
الوقت .
ولم يكن في الدار أحد. فرفعوا الستر ،فرأوا بيتاً كبيراً كأنه بحر فيه ماء ،وفي
أقصى البيت حصير يبدو كأنه على الماء .وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة . قائم يصلي
،وبقي مشتغلاً بصلاته متوجهاً إلى ربه لم يلتفت إليهم ، كأنه لم يرهم ولم يسمعهم.
صفحة (553)
فسبق أحد الرجلين اللذين كانا مع رشيق ليتخطى البيت ، فغرق في الماء، وما زال يضطرب
، حتى أنقذوه وأخرجوه ، وغشي عليه وبقي ساعة ، ثم هم الرجل الآخر أن يتخطى البيت
فغرق في الماء أيضاً .فأصابه ما أصاب صاحبه.
فبقي رشيق وهو قائد الحملة ، مبهوتاً واجماً ،وليس من نيل الغرض ،وأراد أن يلطف من
خاطر هذا المصلي ويزيل ما قد يكون قد علق بذهنه من هذه الحملة ،فتوجه إليه قائلا
:المعذرة إلى الله واليك فوالله ما علمت كيف الخبر ولا إلى من أجيء .وأنا تائب إلى
الله .قال رشيق : فوالله ما التفت إلى شيء مما قلنا .وما انتقل عما كان فيه فهالنا
ذلك ، وانصرفنا عنه.
انظر كيف انتصر المهدي (ع) على هؤلاء الجلاوزة المنحرفين وكيف استطاع أن يؤثر على
أعصابهم هذا التأثير الرهيب ، فقد كان يمكنه أن يدبر أمره بحيث يختفي منهم كما لا
يراهم ولا يرون ..بأن يكون خارج تلك الدار ساعة الكبس .ولكنه دبر الأمر بحيث يتحدى
السلطات يقيم عليها الحجة ، في إثبات حقه .
فقد ملأ مكانه ،بأسلوب طبيعي أو إعجازي بالماء ،وبقي آمناً لا حاجة له أن يلتفت إلى
هذه الحملة،أو أن يعيرها أية أهمية ، حتى خادمه الأسود ،كان مطمئناً من تدابير
مولاه وإمامه ، وحفظ الله تعالى إياه ، فلا حاجة إلى الخوف والاهتمام .
والمهدي عليه السلام ، يعلم سلفاً أن لا يكون مع هؤلاء الجلاوزة سلاح يقذف به
كالسهم ، ليصل إليه وهو على مصلاه في نهاية الغرفة .
صفحة (554)
وإنما يستصحبون معهم السيف ، لقطع رأسه ،وهو لا يمكن أن يعمل مع هذه التدابير ،
والعلم بساعة ورودهم ونوع سلاحهم ،ونحو ذلك ليس بدعاً على علم الإمامة وليس أعجب من
هذا التدبير الذي أرهب السلطات وانتصر عليهم .
وكان الجلاوزة ظنوا أنهم متوهمون في حسبان المكان مملوءاً بالماء وأنه شيء من خداع
النظر .حيث حاول اثنان منهم اقتحام المكان .
ونفس كلام رشيق يوحي بهذا الظن حيث يقول :كأن بحراً فيه ماء .
وفي أقصى البيت حصير قد علما أنه على الماء .أي أنهم ظنوا ولم يتأكدوا بحسب ما يدل
عليه السياق ،إلا أن التجربة الفعلية المكررة ، في غرق اثنين منهم يقطعون الشك
باليقين ،فإنه سواء كان حصول الماء طبيعياً أو إعجازياً ، فإنه يوجب الغرق .ولا
يعني بحال كونه وهمياً غير واقعي.
واما وقوف الإمام عليه السلام على الماء . فإن كان حقيقياً ، فهو إعجازي لا محالة ،
لا يكون إلا بقدرة الله عز وجل ،لإقامة الحجة على المنحرفين والظالمين ، والمعجزة
عند إقامة الحجة ممكنة بل ضرورية كما برهنا عليه في بحوث أخرى ، وعليها قامت الدعوة
الإلهية في خط الأنبياء الطويل .
صفحة (555)
على أننا يمكن أن نتصور أن المهدي(ع) قد أعد لنفسه في آخر هذا الماء قطعة صغيرة من
الأرض .بمقدار الحصير لكي يصلي عليها ، وكان الماء يغمرها ، فلم يبد منها شيء ،
فتوهموا ان الحصير على الماء.
وحين ايس رشيق من بلوغ الغرض ،وذاق صاحباه الغرق والعذاب ،اضطر إلى الانصياع للتحدي
والاعتراف بالعجز .انه لم يكن يتوقع شيئاً مما رآه فضلاً عن كل ما رآه ولم يعلم إلا
أن المعتضد أرسله على شخص ما ليقبض عليه ويأخذ برأسه ،وأما مثل هذا التدبير الحاسم
فهو لم يواجه مثله من قبل أي شخص آخر حاول القبض عليه ،أنه يواجه الهول والتحدي
الصريح لأول مرة في حياته ، بشكل لا يجد له حيلة ،ولا يعرف إلى تذليله طريقاً.
إذن ، فلصاحب هذا البيت شأن غير اعتيادي شأن أعلى من القوى الإعتيادية التي يعرفها
رشيق ،والمعتضد إنما أغمض له الشك لسبب في نفسه ، إذن لعله يعرف شأن صاحب هذا البيت
على الإجمال ،إنه هو الذي أوقعه في هذا الهول والتحدي .بالرغم ان التحدي في واقعه
متوجه إلى المعتضد نفسه أكثر مما هو متوجه إليه.
وعلى أي حال، فينبغي التملص من المسألة ، وإلقاء المسؤولية كلها على كاهل المعتضد،
والإعتذار من صاحب الدار ، ذي الشأن المجهول الرهيب .
ولكن ماذا يجدي لديه الإعتذار، إنه اعتذار المتلبس بالجرم، إنه قبل لحظات ،بل وحتى
بعد الإعتذار ، لو استطاع أن يقبض عليه ويقطع رأسه لفعل ،إذن فليس لاعتذاره أي قيمة
ولا أهمية ... ولا ينبغي الاعتناء به بحال .
صفحة (556)
وصحب هؤلاء الجلاوزة هو لهم في داخل قلوبهم ، وتوجهوا تواً إلى بغداد ، ليحملوا هذا
الخبر العجيب الرهيب إلى المعتضد ، وكان المعتضد ينتظرهم ، وقد أمر الحجاب والحرس
على ان يدخل هذا الوفد عليه في أي وقت كان ، ليلاً او نهاراً فان مهمتهم اعمق واعقد
من ان تحتمل التأجيل .
ودخل عليه الوفد يحمل هولة بين جنبيه ،وصب امامه الحكاية كما وقعت فقال: ويحكم
لقيكم احد قبلي وجرى منكم إلى أحد سبب او قول .فقالوا :لا فقال انا نفى من جدي - أي
ليس من بني العباس وحلف بأشد الإيمان له انه رجل ان بلغه انهم اخبروا بهذين الخبر
ليضربن اعناقهم. قال رشيق: فما جسرنا ان نحدث به الا بعد موته.
ان المعتضد ، لم يجد فيما رووه له ،هولاً او أمرا غريباً فانه يعرف أن من حاول
القبض عليه من العمق والسمو بحيث لا يكون مثل هذا الأمر غريباً منه. وقد سبقت من
آبائه عليه السلام إلى أسلاف المعتضد أمور كثيرة من هذا القبيل .
إنه يعرف ذلك جيداً ،ولكنه يخاف منه على قواعده الشعبية وأساس ملكه ،إن هؤلاء
الثلاثة بالرغم من أنه حاول الإغماض لهم في كلامه .قد اطلعوا على الحقيقة وواجهوا
الحق ،حتى اضطر رشيق إلى التنازل والتوبة ، إلا أنه لا ينبغي أن يكون الناس الآخرون
كرشيق عارفين بالحق أو منصاعين له، ومن ثم نراه يحلف لهم بأغلظ الأيمان ويهددهم
بالقتل ،أن بلغه أنهم أخبروا أحدا بذلك، فلم يجسروا أن يخبروا به إلا بعد موته ،فإن
إيمانه وتهديده إنما يكون رسمياً في حال حياته وبطشه لا بعد موته وفوته.
صفحة (557)
يبقى احتمال واحد ، وهو أن لا يكون هذا الذي وجدوه هو المهدي بل شخص آخر غيره ، فإن
اسمه لم يرد في الرواية ، بل لعل رشيق قائد الحملة لم يعين في ذهنه ، من بعد رجوعه
أنه المهدي (ع) بالتعيين.
ولكننا نستطيع الجزم بكونه هو المهدي بعدة قرائن :
الأولى : إقامة الحجة بالمعجزة أمام أعضاء الحملة والسلطات المتمثلة بالخليفة نفسه.
فان الحادثة تحتوي على عنصر غيبي لا محالة، فلإن استطعنا أن نفهم الماء الذي شاهدوه
وغرقوا فيه والحصير الذي عليه بنحو طبيعي اعتيادي .. فلا يمكن أن نفهم علمه بموعد
مجيئهم ونوع سلاحهم على الطريق الاعتيادي .مع انصرافه عن المجتمع في تلك الأيام
وسرية هذه الحملة سرية تامة ، يهتم المعتضد بإخفائها اهتماماً بالغاً .
وقد التفت المعتضد نفسه إلى هذه الحجة الواضحة ،ومن هنا زاد اهتمامه بالإخفاء
حفاظاً على الخط العام للدولة بين قواعدها الشعبية.
وقد علمنا بالبرهان الدال على إمامة المهدي عليه السلام ،انه ليس هناك في ذلك العصر
،من يقيم المعجزة بإعداد من الله عز وجل سواه.
تعين القول بأن هذا الشخص الذي وجدوه هو المهدي (ع) لا سواه.
صفحة (558)
الثانية : أنه مع غض النظر عن الجانب الإعجازي ، تستطيع الجزم بأنه لم يكن في
العالم في ذلك العصر، فضلاً عن سامراء التي كانت مهجورة وغامرة بعد انتقاله الخلافة
عنها إلى بغداد ..ليس هناك من يستطيع القيام بهذا التدبير الدقيق لتحدي السلطات
والتخطيط لإرعابهم غير الإمام المهدي (ع) . فإنه لم يكن التكتيك دقيقاً على أي
المستويات الاعتيادية في ذلك العصر ، حتى لدى السلطات نفسه، ما عدا ما كان من
المهدي نفسه من إنقاذ سفرائه وقيادة قواعده الشعبية كما عرفنا مفصلاً ، فليس عجيباً
أن يضع مثل هذا التخطيط ، مثل هذا العقل القيادي.
الثالثة: قول المعتضد - برواية الرواندي(1) - حين أمرهم بالتوجه إلى سامراء :الحقوا
واكبسوا على دار الحسن بن علي ، فانه توفي ، ومن رأيتم في داره فأتوني برأسه .
ومن يكون في تلك الدار يومئذ إلا ابنه الإمام المهدي عليه السلام ؟
ومن يمكن ان يخطر في ذهن المعتضد ممن يحتمل أن يسكن في تلك الدار أو يستجير بها
ويكون خطراً على الدولة والكيان القائم غيره؟
وظن المعتضد ،أن هذه الحملة ،إنما فشلت باعتبار قلة العدد وسرية التوجيه والتنفيذ.
ولا أقل من احتمال نجاح الحملة او كثر العدد وانكشف الغرض. ولم يستطع أو لم يرد أن
يفهم أن هذا العقل الذي تحداه مرة واحدة ، يمكنه أن يتحداه عشرات المرات.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الخرايج والجرايج ص67
صفحة (559)
ولن تستطيع أي قوة في البشر أن تستطيع أن تسيطر عليه أو أن تقضي عليه .
ومن هنا جرد حملة أكبر، وبعث عدداً أكثر، وأتبعه بجيش كبير، فانظر إلى هذا الجبن من
الفرد الواحد ،والفزع الذي تتصف به الدولة تجاه هذا الأمر العظيم .
وأود في هذا الصدد أن أذكر بالرواية بنصها(1) قال الراوي : ثم بعثوا عسكراً أكثر ،
فلما دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن فاجتمعوا على بابه وحفظوه حتى لا
يصعد ولا يخرج .وأميرهم - يعني قائد الحملة - قائم حتى يصل(2) العسكر كلهم ، فخرج
من السكة التي على باب السرداب ،ومر عليهم ، فلما غاب ، قال الأمير: انزلوا عليه .
فقال: أليس هو مر عليك. فقال: ما رأيت. قال: ولم تركتموه .
قالوا: إنا حسبنا أنك تراه .
انظر لهذا التحدي الجديد من قبل المهدي عليه السلام للسلطات أنه تحد أبسط، ولكنه
أعمق وأعقد في نفس الوقت. فإن ذلك التحدي على تعقيده، لم يكن إلا لدفع ثلاثة أنفار.
وأما هذا التحدي على بساطته ، فهو لدفع جيش كبير من جلاوزة السلطان، وتسجيل الفشل
على مهمتهم.
ــــــــــــــــ
(1) انظر البحار ص118 ج13
(2) في المصدر : يصلي . وهو غلط مطبعي لا محالة.
صفحة (560)
إنه يقرأ القرآن ، وهل في قراءة القرآن أي ضير حتى في نظر السلطات ؟ إن القرآن
الكريم هو حلقة الوصل بين جميع الفئات الإسلامية ،والعلامة الرئيسية لتمسك الفرد
بالإسلام. فالمهدي يريد أن يفهم ضمناً - لو كانوا يفهمون - حرمة الاعتداء عليه
وقتله ، باعتباره مؤمناً بالقرآن الذي تعترف السلطات بقدسيته .
وهو في حين الوقت يتحداهم بقراءته .إنه لا يخافهم ولا يخشاهم .
فإنه يعلم بوجودهم ويسمع ضوضاءهم ولكنه لا يسكت عن القراءة ولا يخفي نفسه ،بل إنه
ليغرق في التحدي فيخرج أمامهم ،بحيث يراهم ويرونه ، ولكنهم لا يقبضون عليه ، مع
أنهم قادمون لأجل ذلك بالذات.
وهو يقرأ القرآن بالسرداب ،والسرداب دائماً هو المقر الطبيعي للفارين، الذين لا
ينسجمون مع الحياة الاجتماعية ، إما لانحرافها أو لحصول حرب أو غير ذلك.
ومن طريف حال هؤلاء الجلاوزة ،أنهم لم يبادروا للقبض عليه .
بل وقفوا على باب السرداب يحافظون عليه، ويتجنبون عن اقتحامه.
إنهم يخافون مواجهة المهدي (ع) ويحتاجون إلى مدد أكبر وعدد أكثر .فهم منتظرون لوصول
المدد من بغداد إلى سامراء .
وفي هذه الأثناء استغل المهدي أروع لحظة من لحظات ذلك الحصار ، لحظة اقترنت بالدقة
بالتوقيت والضبط في التدبير والعناية الإلهية ، إنها لحظة غفلة قائد الحملة عن
الترصد والانتباه .
لحظة لم يأت فيها المدد ، ولم تصدر الأوامر بعد إلى اقتحام المكان.
ولو كان المهدي (ع) قد تأخر لحظة أخرى لقبضوا عليه لا محالة.
استغل المهدي تلك الفرصة السامحة ، وخرج أمامهم من السرداب .
واختفى حيث لا يمكن أن يصل إليه وهم هذا الجيش المهاجم.
صفحة (561)
ولم يلتفت قائدهم إلى خروجه ، كان ذهنه سارحاً إلى الخارج حيث يقبل المدد الكبير
،كان في حالة انتظار، وهي حالة تحطم الأعصاب وتأخذ بالأفكار ، وخاصة في مثل ذلك
الموقف الصعب الدقيق.
ثم كأنه يستبطئ مجيء المدد فيفكر بالاقتحام بما لديه من الرجال لعله يستطيع تحقيق
الهدف ، فتتدحرج الكلمات على شفتيه :انزلوا إليه .ودهش الحاضرون أن يأمرهم قائدهم
باقتحام السرداب الفارغ !
بعد أن شاهدوا المهدي (ع ) يخرج أمامهم ويختفي .
ثم فكر قليلاً ! كان ينبغي أن يقبضوا عليه .. فلئن كان هو غافلاً فإنهم انتبهوا له،
وكلهم يعلمون أن مهمتهم هي القبض عليه، فلماذا لم يقبضوا عليه حين رأوه ،ومن هنا
توجه إليهم معاتباً :ولم تركتموه.
وكان جوابهم واضحاً صريحاً .أنا حسبنا ،أنك تراه .فإن الجيش ليس له أن يتصرف قبل
قائده ومن دون أمره ، هكذا اعتادت الجيوش على مدى التاريخ ، وبالأولى حين يرون
القائد ملتفتاً إلى الشخص المطلوب .ويأمر بشيء بصدده.
إنهم حسبوه ملتفتاً- ولم يكن لحسن القدر وجمال التوفيق - ملتفتاً .
وهكذا تظافرت هذه الأمور الصغيرة لكي تنتج النتيجة الكبيرة لكي ينفذ المخطط الإلهي
العظيم لإنقاذ مستقبل البشرية بالمهدي من الظلم والجور إلى القسط والعدل .
صفحة (562)
أريد ، في هذا الصدد ، أن أهمس لك بكلمة قليلة المؤنة كبيرة الأهمية.
وهو أن هذا السرداب الذي عرفناه ، بنص هذه الرواية ، في دار الإمام العسكري (ع)
التي يسكنها الإمام المهدي (ع) في الفترة الأولى من غيبته الصغرى.
هذا السرداب ، هو الذي أصبح سبباً للحملات الضخمة المركزة عل مذهب الاعتقاد بالغيبة
،من قبل عدد ليس بالقليل من علماء الإسلام ومفكريهم . باعتبار تصوير المسألة على أن
المهدي غائب في السرداب ،وقد أضافوا على ذلك إضافات غريبة ،رواياتنا منها براء .فمن
ذلك :أنه دخل السرداب وأمه تنظر إليه ،وإنه يسكن السرداب طيلة مدة غيبته .
إذن فكيف يأكل ويشرب حتى أصبح اسم المهدي عندهم : صاحب السرداب .وزعم ابن جبير أن
هذا السرداب كان في الحلة ولم يكن في سامراء ،ونظم آخر من ذلك شعراً :
ما آن للسرداب أن يلد الذي غيبتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنكـم تلثم العنقاء والغيلانا(1)
ــــــــــــــــ
(1) انظر بهذا الصدد المصادر التالية : الصواعق المحرقة ص100 ووفيات الأعيان ج1
ص372 والكامل ج5 ص373 وتاريخ ابن الوردي ج1ص 232 وشذرات الذهب ج2 ص141 والعبر في
خبر من غير ج3 ص30 وتاريخ أبي الفداء ج1 ص47
ومصادر أخرى عقائدية وتاريخية .
صفحة (563)
حتى إن أمثلهم طريقة، وهو الكنجي في البيان(1) حاول الاعتذار عن ذلك وتقريب إمكان
بقائه في السرداب هذه المدة الطويلة بدون طعام وشراب بقدرة الله تعالى .
وتصبح هذه الحملة المركزة هواء في شبك. بعد كل الذي قدمناه وبسطناه وحللناه من
روايتنا وتاريخنا الخاص، ويتضح أن هذه الكلمات إنما قيلت نتيجة للجهل المطلق
برواياتنا والبعد الكبير عن مصادرنا وكتبنا ،وإمساكهم للقلم والقرطاس دون مراجعة
وتثبيت وتدقيق .
فالمركز الأول ،كان هو سامراء بلد الإمامين العسكريين عليهما السلام ،وليس هو الحلة
،كما زعم ابن جبير . وليس المهدي محبوساً في السرداب .وليس هناك على وجه الأرض من
يعتقد ذلك بحق .بل هو يحضر الحج ويكلم الناس وينصب السفراء ويقبض الأموال ويكتب
التوقيعات، ويواكب الأحداث عن كثب، ويقف بوجه الانحراف والتزوير ، ولديه فرص كبير ،
لأن يعيش كما يعيش أي فرد من الناس .
وأما هذه الرواية التي ورد فيها ذكر السرداب فقد عرفنا تفاصيل مدلولها ، فالسرداب
مكان طبيعي للاختفاء من الهجوم أو الحرب أو الوباء أو نحو ذلك على مدى التاريخ ،
وليس أمراً خاصاً بالمهدي (ع) .وقد كان المهدي (طبقاً لذلك)، يتخذ سرداب داره مخبأ
للطوارئ أثناء الفترة الأولى من غيبته الصغرى ، التي تمثل اصعب الفترات بالنسبة
إليه.
ــــــــــــــــ
(1) انظر ص112 وما بعدها.
صفحة (564)
وليس لأمه ذكر في الرواية ، على أنها تنص كما سمعنا أنه لم يبق في السرداب بل خرج
أمام أعين المهاجمين فمن أين عرفوا بقاءه في السرداب وأمه تنظر إليه فكأنه غاب منذ
ذلك الحين ،وكما يظهر أيضاً من كتاب هامش البحار ، حيث أضاف الكاتب عبارة تدل على
ذلك (1).
إلا أن هذا في غاية السخف والافتراء ،فقد أوضحنا فيما سبق أن الغيبة ليس لها مبدأ
معين ،بل كان المهدي (ع) مختفياً من أول ولادته ،وقد زاد اختفاؤه شيئاً فشيئا ،وقد
مثلت الغيبة الصغرى وتعيين السفراء مرحلة من مراحل غيبته ،وحيث بدأت إمامته ونصب
السفراء بوفاة أبيه كانت الغيبة الصغرى بادئة منذ ذلك الحين ومنتهية بوفاة السفير
الرابع .
ومعنى ذلك: إن الغيبة الصغرى بدأت قبل خلافة المعتضد بتسعة عشر عاماً ،إذ توفي
الإمام العسكري عام 260 واستخلف الإمام المعتضد عام 279 .فلو كان قد جرد هذه
الحملات في العام الأول من خلافته ،كانت هذه الحملات متأخرة عن مبدأ الغيبة بنفس
هذا المقدار من الأعوام .
ــــــــــــــــ
(1) قال في الهامش ما لفظه : في بيان أول الغيبة ص118 ج13
صفحة (565)
وصاحب البحار قدس الله روحه ، لا يرضى بأي حال عن العنوان الذي كتبه كاتب النسخة
الحجرية من كتابه، حيث نراه قدس سره أن يؤكد أن ابتداء الغيبة الصغرى مع وفاة
الإمام العسكري ،ويستنتج أنها أقل من سبعين عاماً بقليل، ثم يذكر احتمال أن يكون
مبدؤها ولادة الإمام المهدي (ع) نفسها(1) ،ومعه تزيد مدتها على السبعين عاماً بقليل
، ولم يذكر أي احتمال أو وهم في أنها تبدأ عند حدوث حملة المعتضد في القبض عليه.
وليس في أي شيء من روايتنا ما يدل على ذلك ، ونسبته إلى المذهب زور وبهتان .
على انه على هذا التقدير ، تكون مدة الغيبة الصغرى ، ستون عاماً .
وهو مما لم يحتمله أحد ، وغير مناسب مع شيء من تواريخ السفراء التي ذكرناها .
يكفينا من ذلك أنه في ذلك العام الذي حدثت فيه حملة المعتضد، كان السفير الأول قد
توفي وقد مضت من سفارة السفير الثاني حوالي الأربعة عشر سنة . كما يظهر من التواريخ
التي ضبطناها فيما سبق.
ــــــــــــــــ
(1) انظر ج13 ص100
صفحة (566)
الحقل الثالث
مقابلته للآخرين
خلال غيبته الصغرى وأسلوبه وأهدافه من ذلك.
كانت المقابلات مع المهدي ، تجري مع العديدين اللذين يعلم من درجة من درجة إخلاصهم
وإيمانهم أو من ظروفهم وأسلوب مقابلتهم أنهم لم يصلوا إلى ما يضر الإمام المهدي وأن
يدلوا السلطات عليه.
وكانت المقابلات تجري في الغالب بطلب من الآخرين ،يكونون مدة من الزمن بصدد البحث
عن المهدي (ع) وتمني مقابلته. فيوفر لهم هذه الفرصة بنحو سري بالغ في التكتم
والحيطة، ويوصيهم في الغالب أن لا يصرحوا بما شاهدوا ويجعلوا ذلك مكتوماً إلا عن
الخواص الذين يعلم الفرد بوثاقتهم وإخلاصهم .
وتجري غالب المقابلات، بعيداً عن السفراء الأربعة، في الديار المقدسة أثناء موسم
الحج .إما في المسجد الحرام نفسه، أو في بعض الأطراف على ما سيأتي ، وقلما تتم
المقابلات في مكان آخر إلا نادراً خاصة في بغداد ، حيث وجود السفراء ، وحيث لعاصمة
بسلطانها وعيونها وأضوائها .على حين أن الفرد في الحج ، يحس بالتوجه إلى الله
والإنقطاع عن علائق الدنيا ، خاصة في السفر على وسائط النقل القديمة ، التي كان
الحاج عليها يحسب للموت حسابه ويوصي بوصيته قبل خروجه .هذا .. إلا في بعض الموارد
الإستثنائية التي تقتضي المصلحة وجودها في بغداد أو سامراء أو في أي محل آخر.
ومن الطريف في بعض المقابلات، التي يوفرها المهدي (ع)، مع البعض، يقضي حوائجهم
ويوجه إليهم تعليماته، إلا أنهم لا يبقون غافلين عن كونه هو المهدي (ع) غير ملتفتين
إلى ذلك، حتى ما إذا فارقهم وعملوا بتعاليمه ، وأنتج عملهم شيئاً كبيراً مثيراً
للعجب والإعجاب ،عرفوا ان ذاك هو اللإمام المهدي (ع) .
صفحة (567)
وهذا النحو من المقابلات تتم حين يعلم المهدي عليه السلام أن الغاية التي يتوختها
والمصلحة التي يريد تحقيقها ، تتم بدون الكشف عن شخصيته وحقيقته. وأما لو كانت
المصلحة المتوخاة لا تتحقق إلا بألإفصاح عن هذا الواقع وكإقامة الحجة وعرض الأطروحة
التامة الحقة عن غيبته ومستقبله، على ما سنسمع تفصيله. فعندئذ لا بد أن تتم
المقابلة مع التعارف بين الطرفين ، وقد تستمر المقابلة يوماً أو عدة أيام.
ونحن فيما يلي لا نتوخى سرد جميع المقابلات مع الإمام المهدي (ع) وإلا لطال بنا
المقام .فإنها عديدة كثيرة في تاريخنا. وإنما نتوخى حصر الأهداف المتعددة من
المقابلات بحسب الإمكان، ونمثل لكل هدف بمثال واحد على الاقل.
فإن المهدي "ع" كان يتوخى بحسب ما وردنا في التاريخ الخاص عدة غايات ومصالح من وراء
توفير الفرص للآخرين لمقابلته. وهي تكاد تنحصر بالأمور التالية :
أولاً : إثبات وجوده بنحو حسي مباشر .
ثانياً : إقامة الحجة على الإمامية وقيادة الحاضر والمستقبل .
ثالثاً : إعطاء وعرض الأطروحة التامة والبيان الكامل الحق لفلسفة غيبته وأهدافه في
مستقبله.
رابعاً : قضاء حوائج المحتاجين من الناحية المالية .
خامساً : ممازجة الناس ، وإعطاؤهم بعض التعليمات وتعليمهم بعض الأدعية والأذكار.
صفحة (568)
سادساً: قبض المال ممن حمله إليه ،وإن كان الأغلب فيه جريانه عن طريق غيره ،إذا لم
يكن عن طريق أحد السفراء الأربعة، على ما سوف يأتي، كما أن ذلك لم يكن هو الهدف
الأساسي أو الوحيد من أي مقابلة معروفة ، ولكنه قد يقترن بغيره من الأهداف .
والمهم من هذه الأهداف، من الناحية الإسلامية ، هي الثلاثة الأولى وتليها الثلاثة
الأخيرة ، فلا بد من التعرض إلى كل واحد من هذه الأهداف، وعرض بعض الأمثلة لكل واحد
، معتمدين نفس هذا الترتيب الذي ذكرناه، مع العلم أن المقابلة قد تحقق اكثر من هدف
واحد على ما سنرى ،وسنحمل فكرة خلال ذلك ،عن الأساليب العامة التي كان المهدي (ع)
يتخذها للمقابلة ، وسلامة أمره خلالها وبعدها.
الهدف الأول : إثبات وجوده بنحو حسي مباشر .
لكي يرجع المشاهد فيروي مشاهدته لمن يثق بإيمانه وإخلاصه ،وهذا الهدف يتوفر في كل
مقابلة ، لا يستثنى منها شيء. حتى تلك المقابلات التي يكون الإطلاع على حقيقة
المهدي (ع) بعد فراقه ،فإنه بعد معرفة حقيقته عليه السلام ، ينفتح مجال كبير
للأخبار الحسي برؤيته ومقابلته.
وهذا هو مراده عليه السلام ، حين قال لبعض من رآه - عام 168- : يا عيسى ما كان لك
أن تراني لولا المكذبون القائلون بأين هو .
صفحة (569)
ومتى كان. وأين ولد، ومن رآه، وما الذي خرج إليكم منه، وبأي شيء نبأكم . وأي
معجزاتكم ...يا عيسى فخبر أولياءنا ما رأيت .
وإياك أن تخبر عدونا فتسلبه . قال : فقلت : يا مولاي ادع لي بالثبات .فقال : لو لم
يثبتك الله ما رأيتني(1).
وواضح جداً من هذا الهدف الأساسي الذي أراده المهدي (ع) من هذه المقابلة ،هو إقامة
الدليل الحسي على وجوده. ضد الشبهات التي كانت ولا زالت تثأر من قبل الآخرين من أهل
الإسلام بما فيها السلطات والمنتفعين منها.
والمهم أن لا يسري التشكيك إلى قلوب المؤمنين به والموالين له .
فتكون هذه المقابلة، والخبر الذي يحمله كل من رآه عليه السلام دليلاً حسياً مباشراً
على وجوده، خاصة بالنسبة إلى أؤلئك الذين يعيشون في أطراف البلاد الإسلامية، ولا
يمكنهم أن يصلوا إلى السفراء أو يحصلوا على طريقهم على التوقيعات .
ويمكننا أن نلاحظ في هذا النص أمرين :
أحدهما : كيف أن المهدي (ع) يعيش على مستوى معرفة الأحداث الإجتماعية والإطلاع
عليها، والتجاوب مع آمالها وآلامها .إنه يحمل هم المستوى العقائدي لمواليه ، بكل جد
واهتمام ،من حيث التعرف عليه والإعتراف بوجوده وإمامته.
ــــــــــــــــ
(1) أنظر إكمال الدين المخطوط .
صفحة (570)
ثانيهما : إن كل من يفوز بلقائه ،لا بد أن يكون من أعلى مستويات الإخلاص والإيمان
.وهو المستفاد من قوله (ع) : لو لم يثبتك الله ما رأيتني. وليس ذلك مما يتوفر للفرد
العادي الخائض بالشبهات والراكض وراء المصالح، فإنه مضافاً إلى أنه ليس أهلاً لذلك
، فإنه يشكل نقطة خطر في الكشف عن الإمام المهدي (ع) والدلالة عليه.
الهدف الثاني: إقامة الحجة على وجوده.
وأنه هو المهدي القائم صاحب الأمر ، وصاحب الزمان، المنتظر الذي ذخره الله تعالى
ليومه الموعود ، يوم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وهذا المعنى موجود في أكثر مقابلته عليه السلام إن لم يكن كلها .
والسر في ذلك واضح: فإن شكله غير معروف للقاصدين ،ومجرد دعوى أنه المهدي غير قابلة
للتصديق ،وإنما يحتاج كل من يقابله بغير معرفة سابقة ،إلى دليل يشهد للمهدي عليه
السلام، على ثبوت حقيقته وصدق مدعاه ،شأنه في ذلك - إلى حد كبير - شأن النبي (ص)
حين كان يستدل على نبوته بالجج والمعجزات .بل إن حال المهدي عليه السلام لأشد
تعقيداً ،فإن كل نبي حين يقيم بعض المعجزات ،فإنه يظهرها للناس، ويكشفها للمجتمع،
فتأتي أمام الملأ صريحة واضحة يؤمن بها كل من يراها، إذا كان له قلب وألقى السمع
وهو شهيد .. وتكون علنية تنتقل إلى غير المشاهدين بالتواتر .أما الإمام المهدي (ع)
فهم مضطر بالنسبة إلى كل فرد يقابله إلى ان يقيم الحجة على إثبات شخصيته وحقيقته
..على إنفراد .ولا مجال له بطبيعة الحال الإكتفاء بالمعجزات التي أقامها تجاه فرد
،إن يعتبهرها سارية المفعول تجاه فرد آخر كما هو واضح.
صفحة (571)
والحجج التي يقيمها المهدي عليه السلام لمن يقابله من الناس ، على قسمين، إما أن
تكون من قبيل علم الغيب، بالمعنى الذي نؤمن بإمكانه بالنسبة إلى الإمام، كما سبق أن
بيناه. وإما أن تكون شيئاً آخر من قبيل التصرف في بعض الأمور التكوينية ، كجعل
الحصاة ذهباً ونحو ذلك، وهذا أيضاً نقول بإمكانه للنبي والإمام عند لزوم إقامة لحجة
على اثبات الحق ،على بحث وتفصيل موكول الى محله من بحوث العقائد الاسلامية.
وبمثل هذه الحجج ، يعرف الفرد ان الذي قد قابله هو الامام المهدي عليه السلام لو لم
يكن قد عرفه اثناء مقابلته. ومن هنا يقع الكلام في ثلاث نقاط:
النقطة الاولى: اقامة الحجة عن طريق اظهار علم الغيب لمن يقابله عليه السلام.
فمن ذلك: ما ورد في خبر عيسى بن مهدي الجوهري الذي قصد الفحص عن الامام المهدي(ع)
وأراد مقابلته. وكان هذا الرجل مسبوقاً بمرض اشتهى فيه السمك والتمر .فلما ورد
المدينة عام 268 في سفره للحج ، دعاه خادم إلى مقابلة الإمام المهدي (ع) وسماه
باسمه الكامل .
قال الرازوي : فكبرت وهللت وأكثرت من حمد الله عز وجل والثناء عليه ، فلما صرت في
صحن القصر رأيت مائدة منصوبة ، فمر بي الخادم إليه فأجلسني عليها.
وقال لي : مولاك يأمرك أن تأكل ما اشتهيت في علتك وأنت خارج من "فيد".
صفحة (572)
فقلت: حسبي بهذا برهاناً . فكيف آكل ولم أر سيدي ومولاي .
فصاح بي - يعني الإمام المهدي (ع) -: يا عيسى! كل من طعامك فإنك تراني. فجلست على
المائدة فنظرت فإذا عليها سمك حار يفور. وتمر إلى جانبه أشبه التمور بتمورنا ،
وبجانب التمر لبن. فقلت في نفسي:
عليل وسمك وتمر ولبن؟ فصاح بي: يا عيسى! أتشك في أمرنا؟ أفأنت أعلم بما ينفعك
ويضرك؟ فبكيت واستغفرت الله تعالى واكلت من الجميع. وكلما رفعت يدي منه لم يتبين
موضعها فيه .فوجته اطيب ما ذقته في الدنيا.
فاكلت منه كثيراً ، حتى استحييت، فصاح بي: لا تستح يا عيسى فإنه من طعام الجنة لم
تصنعه يد مخلوق فاكلت فرايت نفسي لا ينتهي عنه من اكله فقلت: يا مولاي حسبي، فصاح
بي: اقبل إليّ . فقلت في نفسي : آتي مولاي ولم أغسل يدي! فصاح بي يا عيسى وهل أكلت
غمر. فشممت يدي فإذا هي أعطر من المسك والكافور ..إلى آخر االحديث (1).
ومن ذلك: ما روي عن الحسن بن الوجناء النصيبي. قال: كنت ساجداً تحت الميزاب في رابع
أربع وخمسين حجة بعد العتمة. وأنا أتضرع في الدعاء ،إذ حركني محرك. فقال: قم يا حسن
بن الوجناء قال: فقمت، فاذا جارية صفراء نحيفة البدن ، اقول انها من ابناء الاربعين
، فما فوقها، فمشت بين يدي وأنا لا أسألها عن شيء ، حتى أتت بي دار خديجة صلوات
الله عليها ، وفيها بيت - يعني غرفة - بابه وسط الحائط .وله درجة ساج يرتقي إليه ،
فصعدت الجارية .
ــــــــــــــــ
(1) البحار ج13 ص123
صفحة (573)
وجاء في النداء ، اصعد يا حسن ، فصعدت ، فوقف بالباب .
وقال لي صاحب الزمان (ع): يا حسن أتراك خفيت عليّ ؟ والله ما من وقت في حجك إلا
وأنا معك فيه ،ثم جعل يعد علي أوقاتي.
فوقعت على وجهي ، فحسست بيده قد وقعت علي فقمت ..إلى آخر الحديث (1).
وهنا يمكن أن يقال: إن إخبار المهدي (ع) لإبن الوجناء ، بأوقات حجه، كان عن مشاهدة
لا عن غيب، باعتبار أنه كان موجوداً معه فعلاً ، وإن لم يعرفه الرجل، إلا أن دلالة
الجارية على مكانه وإعلامها باسمه يكفي في إقامة الحجة لا محالة، إلا أن ابن
الوجناء نفسه اقتنع بأن كلام الإمام المهدي (ع) معه، لم يكن بالأمر الطبيعي، بل كان
علماً ميتافيزيقياً غيبياً ،واعترف بكونه حجة كافية عليه ، كما يدل عليه وقوعه على
وجهه.
ويبقى سؤال جانبي، وهو ان الخبر دال على ان ابن الوجناء رأى الجارية ، بحيث استطاع
أن يصفها بنحو لا يخلو من دقة، فكيف جاز له بحسب الشرع الإسلامي، والمفروض أنه من
الأشخاص الخيار القابلين لمقابلة المهدي (ع).
ــــــــــــــــ
(1) البحار ج13 ص112
صفحة (574)
وجواب ذلك يكون من وجوه أهمها اثنان :
أولاً: أن هذا الوصف يكفي فيه رؤية الوجه، وهيئة الجسد العامة، وكشف الوجه جائز في
الإسلام بمقتضى فتاوى كثير من الفقهاء .وتكون هذه الرواية دليلاً عليه . لو صحت
مستنداً للحكم الشرعي.
ثانياً: اننا لة تنزلنا جدلاً عن الوجه الأول، فيمكن افتراض كون هذه الجارية مملوكة
للإمام المهدي ،من الواضحات في الشرع جواز النظر إلى الجارية مع إذن مالكها ،ومجرد
الإحتمال بهذا المصدر يكفينا لتبرير العمل من الناحية الشرعية .
النقطة الثانية: إقامة الحجة ، عن طريق إظهار المعجزة ، بالتصرف ببعض الأمور
التكوينية .
فمن ذلك: أن رجلاً يدعى بالآودي أو ألأزدي ،كان عند أدائه الطواف، وكان قد طاف ستاً
وبقي عليه الطواف السابع،رأى عن يمين الكعبة شاباً حسن الوجه طيب الرائحة هيوباً
ومع هيبته متقرب إلى الناس . قال الراوي: فتكلم فلم أر أحسن من كلامه ولا أعذب من
منطقه، في جلوسه ، فذهبت أكلمه ،فزيرني الناس ،فسألت بعضهم: من هذا ؟ فقال : ابن
رسول الله يظهر للناس في كل سنة يوماً لخواص شيعته ، فيحدثهم ويحدثونه ، فقلت :
مسترشد أتاك فأرشدني هداك الله.
صفحة (575)
قال: فناولني حصاة ، فحولت وجهي ، فقال لي بعض جلسائه : ما الذي دفع إليك ابن رسول
الله .فقلت: حصاة، فكشفت عن يدي فإذا أنا بسبيكة من ذهب .وإذا أنا به قد لحقني
فقال: ثبتت عليك الحجة وظهر لك الحق وذهب عنك العمى، أتعرفني ! فقلت: اللهم لا ؟
فقال المهدي (ع) أنا قائم الزمان ..إلى آخر الحديث (1)، حيث يعطيه البيان الحق
والأطروحة الصحيحة لغيبته باختصار ،كما يأتي في الهدف الثالث من مقابلته(ع).
يتضح من هذا الخبر بجلاء ،أنه كان من عادة الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى قبل
عام الثلاثمائة ،أنه حين كان يحج يجتمع بالخاصة الحجاج ويمازحهم ويتكلم معهم
،ويعطيهم ما أراد من التعاليم والتوجيهات إلا انه لا دليل على معرفتهم له على
حقيقته، وإنما كانوا يعرفونه باعتباره ابن رسول الله ومعه قد يعرف بعضهم حقيقته وقد
لا يعرفون.
وقد خص عليه السلام ، هذا الرجل بكشف حقيقته له، لكي يظهر الحق له ويبلغه إلى
إخوانه الآخرين.
النقطة الثالثة: إقامة الحجة لمن لا يعرفه عند المقابلة ،لا يلتفت إليه الفرد إلا
بعد مفارقته .
فمن ذلك: الرسالة الشفوية التي أرسلها المهدي (ع)، مع أبي سورة بعد أن رافقه في
السفر من دون أن يعرفه. ثم قال له: إمض إلى أبي الحسن علي بن يحيى فأقرأ عليه
السلام ، وقل له: يقول لك الرجل ادفع إلى أبي سورة من السبع مائة دينار التي مدفونة
في موقع كذا وكذا مئة دينار.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص152
صفحة (576)
فمضى أبو سورة من توه وساعته ، إلى دارعلي بن يحيى ، فدق الباب ، فسمعه يقول :ما لي
ولأبي سورة.
قال الرواي : ثم خرج إليّ فسلمت عليه وقصصت عليه الخبر .
فدخل وأخرج إليّ مئة دينار، فقبضتها: فقال لي: صافحته؟ فقلت: نعم : فأخذ بيدي ،
فوضعها على عينه ومسح بها وجهه(1).
انظر لهذه الرسالة الشفوية التي أقام فيها المهدي (ع) الحجة بدون أن يعلم أبو سورة
،وإنما ينكشف صدقها عند إيصالها .وقد عرف ابن يحيى ذلك، حتى أنه تبرك باليد التي
لامست يد الإمام المهدي (ع) وسيندرج هذا الخبر أيضاً في توزيع المهدي (ع) للمال
وقضائه لحوائج الناس .
فهذه هي النقاط الثلاث التي ينقسم إليها الهدف الثاني .
الهدف الثالث: من مقابلة المهدي (ع) للآخرين :
إعطاؤهم الأطروحة الصحيحة الكاملة لفلسفة غيبته والبيان الحق لأهداف مستقبله لكي
يحملها الفرد إلى أبناء عقيدته وإخوانه ويثقفهم بما سمعه من الإمام المهدي (ع) من
تعاليم .
ـــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص163
صفحة (577)
وقد سبق أن سمعنا في القسم الأول من هذا التاريخ ،من الإمام العسكري عليه السلام ،
حين كان يعرض ولده المهدي (ع) على الآخرين ، إنه بين مثل هذا البيان عدة مرات
،أهمها بيانه المفصل لأحمد بن اسحق الأشعري. إلا أن المرة والمرات القليلة ، لا
تكفي في توجيه القواعد الشعبية الموسعة ، بل لا بد من تكرار ذلك وتأكيده.
وبخاصة حين يقترن الموضوع بأمور توجب غرابته في الأذهان وبعده عنها ، فلا بد أن
يتصدى المهدي (ع) بنفسه في اثناء مقابلاته لبيان ذلك ، بنحو مختصر حيناً ومفصل
أحياناً.
ولو تعمقنا قليلاً ، لرأينا أن نفس عرض هذا البيان، من قبل الإمام المهدي (ع) كاف
في إقامة الحجة على صدقه بأنه هو المهدي .بل إنه ليربو في الأثر على المعجزات التي
سبق أن أشرنا إليه، من حيث التأثير المنطقي الدقيق، فإن العرض الحقيقي الكامل
لمسألة الإمام المهدي .بما تكتنفه من مشكلات وعوائق ،وتذليل جميع ذلك بالبينة
والبرهان ، لهو أقوى دليل على صدقه وخلاصه، على حين لم يكن مسبوقاً ببيانه من أحد
إلا من قبل الأئمة الماضين آبائه عليهم السلام.
فالمهدي (ع) حين كان يبين اطروحته الكاملة، لم يكن أبداً في مستوى أقل من مستوى
المعجزات التي يقيمها في الموارد الأخرى.
فمن ذلك ما بينه الإمام (ع) ، للآودي حين أعطاه حصاة فتحولت في يده إلى ذهب، كما
سبق، قال له: أنا قائم الزمان، أنا الذي أملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ،إن هذه الأرض
لا تخلو من حجة ،ولا يبقى الناس في فترة ، فهذه أمانة في رقبتك فحدث بها اشقائك من
أهل الحق(1).
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص152 وإكمال الدين المخطوط.
صفحة (578)
ومنه ما بينه (ع) ،لإبراهيم بن مهزيار حين قابله في بعض أطراف مكة ، وقال له فيما
قال : إعلم يا أبا اسحق ! إنه - يعني الإمام العسكري - (ع) - قال صلوات الله عليه
:يا بني، إن الله جل ثناؤه لم يكن ليخلي اطباق ارضه وأهل الجد من طاعته وعبادته ،
بلا حجة يستعلي بها وإمام يؤتم به ويقتدى بسبيل سنته ومنهاج قصده.
وأرجو يا بني أن تكون أحد من أعده الله لنشر الحق وطي الباطل وإعلاء الدين وإطفاء
الضلال ، فعليك يا بني ، بلزوم خوافي الأرض وتتبع أقاصيها ،فإن لكل ولي من أولياء
الله مقارعاً وضداً منازعاً ،افتراضاً لثواب مجاهدة أهل نفاقه ، وخلافة أولي
الإلحاد والفساد ،فلا يوحشنك ذلك(1).
ومنه: مل بينه (ع) في الدعاء ،وما أكثر ما في الدعاء من حكم وفوائد .حيث قال: اللهم
صل على وليك المحبي لسنتك والقائم بأمرك الداعي إليك الدليل عليك ، وحجتك على خلقك
،وخليفتك على أرضك وشاهدك على عبادك.
اللهم أعز نصره ومد في عمره ، وزين الأرض بطول بقائه .اللهم أكفه بغي الحاسدين
وأعزه من شر الكائدين وادحر عنه إرادة الظالمين وتخلصه من الجبارين .
اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا
،وما تقربه عينه وتسر به نفسه ،وبلغه أفضل أمله في الدنيا والآخرة ،إنك على كل شيء
قدير .
ــــــــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين (المخطوط)
صفحة (579)
اللهم جدد بهما محي من دينك ، وأحي به ما بدل من كتابك .
وأظهر به ما غير من حكمك ، حتى يعود دينك به وعلى يديه ،غضاً جديداً خالصاً مخلصاً
لا شك فيه ولا شبهة معه . ولا باطل عنده لا بدعة لديه.
اللهم نوره بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، واهدم بعزته كل ضلالة ،وأقصم به كل
جبار واخمد بسيفه كل نار، واهلك بعدله كل جبار، وأجر حكمه علة كل حكم ،وأذل لسلطانه
كل سلطان .
أللهم أذل كل من ناواه وأهلك كل من عاداه ،وامكر بمن كاده واستأصل من جحد حقه
واستهان بأمره وسعى في إطفاء نوره وأراد إخماد ذكره(1).
فنرى من هذه البيانات ،أن المهدي (ع) يؤكد على عدة أمور :
الأمر الأول :
الإشارة إلى الحديث النبوي الشريف المتواتر ، بأن المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً
كما ملئت ظلماً وجوراً .
الأمر الثاني: القاعدة الإلهية العامة التي تقتضي نصب الإمام الذي يكون حجة على
عباده في كل زمان ومكان، وهي أن الأرض لا تخلو من حجة ، ولا يبقى الفاسد في فترة ،
يعني من دون إمام ،إذن فلا يمكن أن يمر الزمان من دون أن يكون لله عز وجل حجة على
خلقه .
ومعه فيتعين أم يكون الإمام موجوداً في كل زمان .إذن فيتعين وجود الإمام المهدي (ع)
أثناء غيبته ،إذ لو لم يكن موجوداً انقطعت الحجة وحصلت الفترة .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي
صفحة (580)
الأمر الثالث: أنه (ع) ذخر الله عز وجل لمستقبل الإسلام وأعده لنشر الحق وطي الباطل
وإعلاء الدين وإطفاء الضلال، وهذه هي الأطروحة الحقة لمستقبل المجتمع المسلم عند
ظهور المهدي .وهو المراد من الحديث النبوي (ع): أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما
ملئت ظلماً وجوراً.
الأمر الرابع : الإشارة إلى أنه يعيش أمداً طويلاً ، يقدره الله عز وجل لأجل تنفيذ
الوعد الكبير.
الأمر الخامس: الدعاء له بأن ينجيه الله عز وجل من كيد الأعداء ، وشر المعتدين ،
وذلك لغرضين:
أولهما استجابة الله تعالى لهذا الدعاء ، وتحقق هذا المطلوب الكبير ، لأجل ادخاره
ليومه الموعود .
ثانيهما: إعطاء التوجيه للقارئ أو الداعي، بأن يتمنى سلامة الإمام المهدي (ع) من
الأعداء وبغي الظالمين وشر الكائدين ، فيدعو الله تعالى بذلك ، وهو لا شك يجيب
دعاه.
الأمر السادس: إن للمهدي (ع) القابلية الكاملة لقيادة المجتمع الإسلامي ودحر
الأعداء وإقامة العدل الإلهي الكامل ، وهو المستفاد من قوله: اللهم نور بنوره كل
ظلمة وهد بركنه كل بدعة ، واهدم بعزته كل ضلالة .
صفحة (581)
الأمر السابع: أنه عليه السلام بعد ظهوره يجدد ما محي من الدين بفعل طول الزمن أو
تبديل المنحرفين والظالمين، وما غير من احكام القرآن حتى يعود العدل الإسلامي
الصحيح والدين الإلهي على يديه غضاً جديداً خالصاً مخلصاً ، لا شك فيه ولا شبهة معه
، ولا باطل عنده ولا بدعة لديه.
الأمر الثامن : إظهار أقصى الحرمة والعقوبة ، في معاداته أو إنكار حقه أو مناوأته.
سواء في حال غيبته أو بعد ظهوره، ويشمل ذلك: الخروج على تعاليم دينه وعصيان أوامر
شريعته، فإن مخالفة الدين مخالفة له، ومناوأته مناوأة له ، بطبيعة الحال.
فهذه هي الأمور الأساسية في دعوته الكبرى أثناء غيبته وبعد ظهوره ، عجل الله فرجه.
يبقى أمران آخران واردان فيما ورد ، من كلماته عليه السلام ، لا بد من ذكرهما
ومعرفة الوجه فيهما :
الأمر الأول: ما ورد في كلامه عليه السلام مع إبراهيم بن مهزيار وكلامه (ع) مع علي
بن إبراهيم بن مهزيار، من أن أباه الإمام العسكري (ع) أمره بلزوم خوافي الأرض وتتبع
أقاصيها، وأن لا يسكن من الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها.
صفحة (582)
وعلل ذلك في حديثه مع إبراهيم بن مهزيار: بأن لكل ولي من أولياء الله عدواً مقارعاً
وضداً منازعاً. وفي حديثه مع علي بن إبراهيم بقوله: والله مولاكم أظهر التقية
فوكلها بي . فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي بالخروج (1) . وكلاهما يعني الحذر من
الأعداء والاتقاء من شرهم والابتعاد من كيدهم أثناء غيبته، توصلاً لحفظه لأجل تنفيذ
اليوم الموعود.
وقد سبق أن قلنا أن للإمام المهدي (ع) غنى عن ذلك ، بجهل الناس بشكله ونوعية حياته
وعمله ومكانه ، وقد أصبح هذا الأمر في الأزمة الأخيرة واضحاً ، لوضوح استحالة تعرف
أي شخص على حقيقته ما لم يشأ هو ذلك.
إن أفضل أسلوب للاختفاء هو جعل الحياة بسيطة واضحة عادية ليس فيها أي شيء ملفت
للنظر ، تسير كما تسير حياة أي فرد آخر، وإما تعقيد الهارب الحياة على نفسه، وتضييق
السبل والدخول في مواقف صعبة والأماكن الحرجة، فإنها لا تزيده إلا خطراً ولا تقربه
إلا من الشر فإن عيون السلطات والأعداء تحوم دائماً حول الأماكن الشاذة التي قد
يسكنها الهاربون، والحياة المعقدة التي قد يتخذها الفارون. فتخليص النفس من هيئة
الهارب وحياته ، وإسباغ الحياة الطبيعية عليها ، أفضل طريق للنجاة في أغلب الأحيان.
ولكننا - على أي حال - إذا التفتنا إلى العلة لمذكورة لذلك وهو الحذر من الأعداء
والاتقاء من كيد المعاندين والمنحرفين .عرفنا أن هذا الحذر متى توقف عن ذلك ، كان
ذلك ضرورياً لا محالة.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص161
صفحة (583)
أعني أن الحياة الطبيعية ، وإن كانت في الغالب هي السبيل الأفضل لنجاة الهارب ،إلا
أنها ليست دائماً كذلك ، لا محالة . فإذا واجه الهارب ظرفاً لا تكتب فيه النجاة إلا
بالفرار إلي البراري والشعاب، كان ذلك ضرورياً جزماً.
ومن هنا يمكن أن يكون أمر الإمام العسكري لولده باختيار أقاصي الأرض ،وعرها مكاناً
له ، مقيداً بقرينة التعليل، بما إذا كان هناك حاجة إلى ذلك. وأما إذا لم يحتج إلى
ذلك ولم يكن حضوره المواسم والحواضر والاتصال بالسفراء والإختلاط بالناس خطر، كان
ذلك ممكناً له لا محالة، إن لم يكن ضرورياً له لممارسة نشاطه الإعتيادي الذي
عرفناه.
الأمر الثاني :
ما قاله (ع) برواية الشيخ بسنده عن الآودي ، الذي عرفناه فيما سبق: أن الأرض لا
تخلو من حجة، ولا يقى الناس في فترة ، أكثر من تيه بني اسرائيل ، وقد ظهر أيام
خروجي.(1)
ونحوه قال لبعض مواليه : وإن تحبس نفسك على طاعة ربك.
فإن الأمر قريب إن شاء الله تعالى (2).
وهذا المعنى بظاهره مقطوع العدم، بعد أن مضى على ذلك التاريخ ما يزيد على الألف
عام، ولم يظهر الإمام المهدي (ع) .ومعه لا بد من المصير إلى رفض هذه الأخبار أو إلى
تأويلها.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص152
(2) الغيبة ص154
صفحة (584)
أما الرفض فله مجال واسع ، وذلك: بان ندعي : أن العبارات التي تدل على قرب الظهور ،
مدسوسة في هذه الأحاديث سهواً أو عمداً .
وهذا - كما قلنا - في مقدمة هذا التاريخ لا يعني طرح مجموع الخبر- .
ويقرّب ذلك :أن خبر الآودي رواه الشيخ الصدوق في إكمال الدين بدون هذه الزيادة (1).
على أن هذين الخبرين في أنفسهما ليسا صحيحين . بحسب القواعد ، وفيهما رواة مجاهيل.
واما التاويل ، فله أيضاً بعض المجال .وذلك بأن يقال: بأن المهدي (ع) استعمل المجاز
في كلامه ، لأجل رفع معنويات أصحابه ومواليه. وإشعارهم بضرورة الإنتظار في كل وقت،
خاصة في مثل قوله (ع): وإن تحبس نفسك عل طاعة ربك فإن الأمر قريب. ووجه المجاز هو
أن يكون الزمان من حين صدور هذا الكلام إلى حين الظهور قيامه (ع) بدولة الحق يعتبر
قليلاً ، تجاه ما قاسته البشرية خلال عمرها المديد من آلام الظلم والحيف
والإستبداد.
وعلى أي حال ، فهذه هي الخطوط العامة للأطروحة الكاملة التي يذكرها الإمام المهدي
(ع) لبعض من يقابله من الناس.
وقد عرفنا مفصلاً، أن الإمام المهدي، كان يقضي حوائج الناس، ويحل مشاكلهم ويدبر
أمرهم عن طريق سفرائه الموكلين بهذا الأمر. ومن هنا لم تكن هناك حاجة واضحة وكبيرة
، لأن يتصدى لقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم بنفسه عند مقابلته ، ما عدانا قد يراه
من المصلحة أحياناً.
ــــــــــــــــ
(1) انظر المصدر المخطوط
صفحة (585)
وما يتصور تعلق المصلحة فيه من ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
أحدها : حلال مشاكل الفكرية والعقائدي .
ثانيهما: حل المشاكل المالية وبذل العطايا لبعض الموالين.
ثالثها : حل المشاكل الأخرى كالعائلية والإجتماعية وغيرها.
واما القسم الأول فالمهم فيه ما سمعناه قبل قليل من عرض الأطروحة الحقة على الآخرين
.وحيث يكون الهدف الأساسي من المقابلة مكرساً حول ذلك ،لا يبقى بعده أمر ذي بال.
وأما القسم الثاني : فسيأتي الحديث عنه ، في حقل قادم عند عرض الشؤون المالية
للإمام المهدي (ع).
وأما القسم الثالث: فلم نجد له نقلاً تاريخياً يطابقه،إذن فحل المهدي (ع) للمشاكل
العائلية والإجتماعية وغيرها، كان مكرساً عن طريق السفراء ، بما فيه الكفاية ولا
حاجة للقيام به أثناء المقابلة ، التي ينبغي أن تكرس لغرض آخر أعمق وأهم.
الهدف الخامس : ممازجة الناس ومحادثتهم وتزريق التعليمات والتوجيهات إليهم ، بحسب
ما هو المصلحة في كل وقت. وتعليمهم بعض الأدعية والأذكار.
فمن ذلك: ما سمعناه من رواية الآودي أنه كان يظهر في كل سنة يوماً لخواصه ، فيحدثهم
ويحدثونه. وذلك في حدود عام الثلثمائة كما سبق.
صفحة (586)
ومن ذلك: أنه عليه السلام في عام 293 بعد طوافه حول الكعبة ، خرج إلى جماعة ، لم
يكن فيهم مخلص غير محمد بن القاسم على ما سنسمع ، فانهم بينما هم جلوس إذا قاموا له
هيبة له ، وجلس متوسطاً فيهم.
ثم التفت يميناً وشمالاً ثم قال :أتدرون ما كان أبو عبد الله عليه السلام يقول في
دعاء الإلحاح؟ قال: كان يقول: اللهم إني أسألك باسمك الذي به تقوم السماء وبه تقوم
الأرض وبه تفرق بين الحق والباطل وبه تجمع المتفرق وتفرق بين المجتمع .وبه أحصيت
عدد الرمال وزنة الجبال وكيل البحار. أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل لي من
أمري فرجاً.
ثم نهض ودخل الطواف. قال الراوي: فقمنا لقيامه، حتى إذا انصرف وأنسينا أن نذكر أمره
وأن نقول من هو وأي شيء هو؟ إلى الغد في ذلك الوقت ، فخرج علينا من الطواف، فقمنا
له كقيامنا بالأمس، وجلس في مجلسه متوسطاً، فنظر يميناً وشمالاً، وقال: أتدرون ما
كان يقوله أمير المؤمنين عليه السلام بعد صلاة الفريضة، فقلنا:وما كان يقول: قال:
كان يقول: إليك رفعت الأصوات وعنت الوجوه وضعت الرقاب واليك التحاكم في الأعمال
...إلى آخر الدعاء.
ثم نظر بعد هذا الدعاء يميناً وشمالاً فقال :أتدرون ما كان أمير المؤمنين عليه
السلام يقول في سجدة الشكر ؟ فقلنا : وما كان يقول ؟ فذكر لهم نص دعاء آخر .ثم قام
ودخل الطواف .فقاموا لقيامه.
صفحة (587)