الفصل الثالث
توقيت الظهور
من ناحية شرائطه وعلاماته .
إن اهم الفروق بين شرائط الظهور وعلاماته ، هو أن الشرائط عدة خصائص لها التأثير
الواقعي في ايجاد يوم الظهور والنصر فيه وانجاز الدولة العالمية ، ولولاها لا يمكن
أن يتحقق سواء وجدت أو لم توجد وانما هي أمور جعلت من قبل الله سبحانه وبلغت إلى
البشر من قبل الصادقين قادة الإسلام الأوائل . بصفتها دوالاً وكواشف عن قرب الظهور،
إذا كانت منم العلامات القريبة ، أو عن أصل حصوله ، لو كانت من العلامات البعيدة ،
وذلك : ليكون الأفراد المنتظرون لذلك اليوم المختارون للعمل فيه نتيجة لنجاحهم
التام في التمحيص ، بحالة التهيؤ النفسي الكامل لا ستقباله عند حدوث العلامات
القريبة .
وهذا هو الذي قلناه في التاريخ السابق وعرفنا فيه عدة فروق بين الشرائط والعلامات
بالنسبة إلى ما بعد الظهور .
عرفنا في الفصل الأول : أن المهم المتبقي مما لم يحدث إلى الآن من شرائط الظهور ،
ولم يتمخض التخطيط الإلهي عن ايجاده ، أمران :
الأمر الأول : تربية الأمة ككل من الناحية الفكرية ، حتى يكون لها القابلية
لاستيعاب وفهم وتطبيق القوانين الجديدة التي تعلن بعد الظهور.
الأمر الثاني : تربية العدد الكافي للنصر في يوم الظهور من الأفراد المخلصين
الكاملين الممحصين ، الذين يكونون على مستوى التضحية والفداء لتطبيق الأطروحة
العادلة الكاملة .
صفحة (51)
وهذان الأمران يحدثان تدريجاً نتيجة للتربية الطويلة البطيئة للأمة ، تحت الظروف
والخصائص التي سبق ان عرفناها . وسوف لن يتمخض التخطيط الإلهي لايجادهما الا قبيل
الظهور . وبتعبير آخر: انهما عندما يتحققان يكون اليوم الموعود نافذاً بجميع شرائطة
، ومعه لا يمكن أن يكون متخلفاً أو متأخراً عن ذلك .
واما الاطلاع على انهما تحققا فعلاً أو لم يتحققا ، فهو مما لا يمكن أن يعرفه الناس
الا عند الظهور ، لأنه يكون دالاً على تحققهما قبله لا محاله ولا يحصل هذا الاطلاع
عند البشر إلا للإمام المهدي نفسه ، على ما سنذكره في فصل قادم .
وهذان الشرطان يكونان مقترنين في تطورهما التدريجي ، والوصول إلى الغاية المطلوبة .
وبخاصة وهما لا يتضمنان في مفهومهما مقداراً محدداً غير قابل للزيادة . إذ في
الامكان تطور الأمة من الناحية الفكرية والإخلاص على الدوام . غير أن لهذين الأمرين
(حد ادنى) يصلح أن يقوم عليه اليوم الموعود ومع تحقق هذا الحد الأدنى لكلا الشرطين
معاً يكون اليوم الموعود واقعاً ونافذاً لا محالة . ويكون التطور الزائد في جوانب
الأمة الإسلامية موكولا ً إلى ما بعد الظهور .
وهذان الشرطان متشابهان في التطوير إلى حد كبير ، تبعاً لازياد الظلم والانحراف ،
المنتج لهما معاً . ولكن لو فرض أن أحدهما كان اسرع من الأخر ، فترة من الوقت ،
بحيث وصل إلى الحد الإدنى المطلوب قبل الآخر كما يتصور ـ عادة ـ في الجانب الفكري ،
فانه أسرع تطوراً من جانب الإخلاص وقوة الإرادة ، كما برهنا عليه في التاريخ
السابق(1) ... هو حصول الحد الأدنى من العدد الكافي من الجيش الفاتح للعالم ، مع
تعمق القابلية الفكرية للأمة أكثر دقة ورسوخاً . وكذلك لو فرض تطور الإخلاص أكثر من
القابلية الفكرية ، فإنه مما لا ضير فيه ، إن لم يكن أكثر نفعاً بالنسبة إلى يوم
الظهور .
___________
(1) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص265 .
صفحة (52)
وعندما يتكامل هذان الشرطان ، تكون كل الشرائط المطلوبة قد اجتمعت في زمن واحد .
فالأطروحة العادلة
الكاملة موجودة بين البشر ، متمثلة بتعاليم الإسلام كما برهنا عليه في التاريخ
السابق(1) .والأمة قد ترتب على فهمها بدقة واتقان ، وأصبحت قابلة لتفهم القوانين
الجديدة التي تكون على وشك الصدور في اليوم الوعود . والقائد موجود متمثل بالإمام
المهدي (ع) على كلا الفهمين الإمامي وغيره . والعدد الكافي من الجيش العقائدي
القيادي متوفر لفتح العالم ونشر العدل والسلام بين ربوعه مع وجود العامل المساعد
المهم وعو انكشاف نقاط الضعف لكل التجارب البشرية والمبادئ والقوانين الوضعية
السابقة على الظهور ، واليأس من حل بشري جديد ، كما سبق أن اوضحناه في التاريخ
السابق(2).
وإذا اجتمعت هذه الشرائط . كان تنفيذ الوعد الإلهي والغرض الأهم من الخلق ضرورياً
،لاستحالة تخلف الوعد والغرض في الحكمة الإلهية الأزلية .
ومن هنا نعرف أن وقت الظهور ، منوط باجتماع هذه الشرائط .
ومن أجل ذلك ، قد يخطر في الذهن منافات ذلك مع ماورد في اخبار المصادر الخاصة من
نفي التوقيت وتكذيب الوقاتين .
كرواية الفضيل ، قال : سألت أبا جعفر (ع) : هل لهذا الأمر وقت ؟ ... فقال : كذب
الوقاتون كذب الوقاتان ، كذب الوقاتون .
وعن أبي عبد الله الصادق (ع) : كذب الوقاتون وهلك المستعجلون ، ونجا المسلمون ،
وإلينا يصيرون .
وعنه (ع) : من وقت لك من الناس شيئاً ، فلا تهابن أن تكذبه فلسنا نوقت لأحد
وقتاً(3) .
وأخرج النعماني عن أبي بكر الحضرمي ، قال : سمعت أبا عبدالله ( ع) يقول : انا لا
نوقت هذا الأمر(4).
وهذه الأخبار بعدد قابل للإثبات التاريخي ، وواضحة الدلالة على نفي التوقيت . فلو
كان ما ذكرناه من اقتران اليوم الموعود بشرائطة توقيتاً له . إذا يجب تكذيبه جملة
وتفصيلاً .
____________
(1) المصدر ص 261. (2) تأريخ الغيبة الكبرى ص249 وغيرها. (3) الغيبة للشيخ الطوسي
ص262 ... الاخبار الثلاثة كله
(4) الغيبة للنعماني ص 155.
صفحة (53)
إلا أنه من حسن الحظ ! ان التوقيت المنفي ليس هو ذلك بل المراد به ـ بوضوح ـ تحديد
الوقت بتاريخ معين ، كما لو قيل ـ مثلا ـ إن الظهور أو اليوم الموعود ، يكون في سنة
الفين ميلادية أو في سنة الفين هجرية .
والقرينة على ذلك ، ما ورد من الأخبار التي تنفي توقيتاً معيناً : كالذي أخرجه
النعماني(1) باسناده عن عمار الصيرفي قال: سمعت ابا عبدالله (ع) يقول : قد كان لهذا
الأمر(2) وقت ، كان في سنة أربعين ومائة ، فحدثتم به وأذعتموه ، فأخره عزوجل .
وعن أبي الثمالي قال سمعت ابا جعفر (ع) يقول : يا ثابت ان الله كان قد وقت هذا
الأمر في سنة السبعين . فلما حدثناكم بذلك أذعتم وكشفتم قناع الستر ، فلم يجعل الله
لهذا الأمر بعد ذلك عندنا وقتاً ، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب .
وفي هذه الأخبار بعض المفاهيم وبعض المناقشات ، لا مجال للدخول فيها . ولكنها لا
تضر بما نريده الآن من انها دالة على أن المراد من التوقيت تحديد الوقت بتاريخ معين
، فإن الروايات الأخص تكون قرينة على الأعم .
وهذا النحو من التوقيت فيه عدد من نقاط الضعف :
النقطة الأولى : إنه جزاف بدون أي دليل . كيف وقد أجمع المسلمون على أن وقت اليوم
الموعود موكول إلى علم الله عزوجل . مع الغموض التام بالنسبة إلى الناس .. بل ظاهر
الرواية الأخيرة انه خفي حتى على المعصومين أنفسهم . ومن هنا يكون ذكر أي تاريخ
معين جزافاً محضاً وكذبأً صريحاً .
النقطة الثانية : ان تاريخ الظهور لو كان محدداً معروفاً ، لكان من أشد العوامل على
فشل الثورة العالمية وفناء الدولة العادلة ، فإنه يكفي أن يحتمل الأعداء ظهوره في
ذلك التاريخ ، ولو اعتبار المسلمين ذلك . فيجتمعوا على قتله في أول أمره وقبل اتساع
ملكه واستتباب أمره .
_______________
(1) المصدر ص 157 وكذلك الخبر الذي بليه.
(2) المراد من هذا الأمر ما يشمل ظهور المهدي(ع) وليس خاصاً بذلك. وفي بعض الروايات
ما هو خاص به كذلك أخرجه
النعماني عن أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال قلت له:جعلت فداك متى خروج القائم
عليه السلام . فقال: يا أبا محمد ، إنا
أهل بيت لا نوقت. وقد قال محمد (ص) كذب الوقاتون ... الحديث ( غيبة النعماني ص155
وما بعدها).
صفحة (54)
ولذا اقتضى التخطيط الإلهي ، من أجل إنجاح اليوم الموعود ، أن يكون الظهور فجائياً
، مثاله مثال الساعة لا يجليها لوقتها ، كما نطقت بذلك الأخبار وسنرى ما لعنصر
المفاجأة من أثر فعال في نصره .
النقطةالثالثة : ان الامة الاسلامية حين يكون التخطيط الالهي قد انتج نتيجته فيها ،
ولم يصبح بعد على مستوى مسؤولية اليوم الموعود ، فإنها تكون مقصرة بالنسبة إلى كل
حدود ومقدماته ... وتكون هذه الحدود والمقدمات فوق مستواها العقلي والثقافي والديني
. ومن هنا لم يتورع الناس عن افشاء التوقيت الذي كان فيما سبق ، ولو أعطوا وقتاً
جديداً لأفشوه أيضاً لا محالة . . . ومن هنا الغي التوقيت ، كما سمعنا من هذه
الأخبار .
وهذا أيضاً أحد الأسباب في تحريم تسمية الإمام المهدي (ع) خلال غيبته الصغرى ، كما
سمعنا في تاريخها(1) فإنهم ان عرفوا الاسم أذاعوه وإن علموا بالمكان دلوا عليه .
وهذا القصور العام في الأمة هو المشار إليه في بعض الأخبار ، كقول الإمام موسى بن
جعفر (ع) : يابني عقولكم تضعف عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله . ولكن إن تعيشوا
تدركوه(2) .
فإن المراد بالعقول ما نسمية بالمستوى الفكري والثقافي ، والمراد بالأحلام ما نسمية
بالإخلاص وقوة الإرادة وكون الأمة على مستوى المسؤلية . . . وكلاهما ضعيفان بمنطوق
الرواية .كما دل عليه البرهان أيضاً .
وليس المراد من هذه الرواية وأمثالها ما يفهمه بعض الناس ، من امتناع التعرف على
مصلحة الغيبة ، وخفاء مصلحة وجود الإمام خلالها . . . بعد كل الذي سبق أن عرضناه في
كتب هذه الموسوعة مستفاداً من القرآن الكريم والسنة الشريفة نفسها .
النقطة الرابعة : ان وقت الظهور وإن كان محددا في علم الله الأزلي ، لكنه بالنسبة
إلى علله وشرائطة ينبغي أن لا يفترض له وقت محدد .
______________
(1) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص277 وما بعدها.
(2) روته النعماني في غيبته ص78 ونقلناه في تأريخ الغيبة الكبرى ص11.
صفحة (55)
فإن تحديد التاريخ يمكن أن يكون على مستويين :
المستوى الأول : علم الله الأزلي بالأشياء منذ القدم ، المتعلق بكل الممكنات أو
المخلوقات بأسبابها ومسبباتها.
المستوى الثاني: وجود المعلول بالنسبة إلى وجود علته ، فإن المعلول يحدث متى حدثت
علته ، بلا دخل للزمان في ذلك أصلا ً .
مثاله : إننا لو نسبنا تاريخ اكمال بناء البيت بالنسبة إلى القوى المادية والبشرية
العاملة فيه ، كان تاريخه منوطاً بتحقيق هذه المكونات ، حتى ما إذا وضع البناء آخر
حجر في كيان الدار ، تكون هذه الدار قد انتهت ، بغض النظر عن طول زمن البناء وقصره
. . .فانه قابل للاختلاف حسب الظروف والطوارئ والقابليات والإمكانيات .
وحيث يبرهن فلسفياً بأن علم الله تعالى الأزلي المتعلق بالأشياء ليس علة لها ،
وانما يتعلق بها ويكشف عنها على ما هي عليه في الواقع ، إذا، ففي الإمكان قصر النظر
عن تعلق ذلك العلم به معه يكون المستوى الثاني للتوقيت صحيحاً ، ويكون وجود الشيء
منوطاً بوجود علته واجتماع شرائطة ومكوناته ، من دون أن يكون الزمن ملحوظاً في
تحديد حدوثة على الاطلاق . . . بل قد يكون قابلاً للزيادة والنقص ، كما قلنا .
ومن هذا القبيل ، يوم الظهور . فإننا لو غضضنا النظر عن علم الله الأزلي لم يبق
لدينا أي وقت محدد له ، وأنما هو منوط بحصول شرائطه وعلله . فمثلا ً نقول : متى
اجتمع العدد الكافي للغزو العالمي بالعدل الكامل . من المخلصين الممحصين ، كان يوم
الظهور ناجزاً ، سواء كان زمان وجودهم والفترة التي تحققهم طويلة جداً أو قصيرة .
وهذا دليل آخر على أن التوقيت بمعنى تحديد التاريخ المعين جزاف محض .
وهذا هو مرادنا من التوقيت الذي برهنا عليه . وهو توقيت إجمالي يخلو من التحديد
بالومان تماماً . فلا يكون قولاً جزافاً ولا واجب التكذيب . كما لا يكون تحديده
الإجمالي خطراً على الأمام المهدي وموجباً لفشل مهمته بعد الظهور .
هذا تمام الحديث في توقيت الظهور باعتبار شرائطة .
وأما توقيت الظهور باعتبار علاماته . فقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق جملة من
العلامات ، وفحصنا ادلتها ودقفنا في معانيها . . . ولنا موقف آخر معها في الباب
الثاني الآتي من هذا التأريخ.
صفحة (56)
والمهم هنا هو أن نعرف ان العلامات على قسمين :
القسم الأول : علامات واردة في الأخبار ، ولا على تقع قبل الظهور بزمن قليل بل على
ان تقع قبله ، ولو بزمان بعيد وأمد طويل .
وقد عرفنا في التاريخ السابق ان أغلب هذه العلامات قد تحققت وصدقت بها الأخبار .
إلا إنها في واقعها لا تحتوي على أي توقيت بالنسبة إلى الظهور. وإنما لها فوائد
أخرى . أهمها : أن الخبر الوارد إذا قرن الحادثة بالظهور وانها واقعه قبله في
الجملة .
ثم رأينا الحادثة قد حدثت ، فنعرف أن الخبر صادق في بإخباره عن الحادثه علامة على
الظهور .
القسم الثاني : من العلامات ما صرحت الأخبار بقرب حصوله من زمن الظهور .
وقد قلنا في التاريخ السابق(1) ان هذا النحو من العلامات وإن لم يكن له ارتباط سببي
بيوم الظهور ، إلا أنه مما جعله الله تعالى تنبيهاً لخاصة أوليائه المخلصين
الممحصين علامة على قرب الظهور ، ليكونوا على الأستعداد التام من الناحية النفسية
والعقائدية لاستقبال إمامهم وقائدهم ، وتلقي مهامهم ومسؤولياتهم عنه .
بل إن التهيؤ النفسي غير خاص بالممحصين ، بل شامل لكل مسلم مسبوق بوجود هذه
العلامات ، وخاصة بعد تحققها والتأكد من صدق الإخبار السابق عنها . غير أن تهيؤ
الأفراد لاستقبال الظهور يختلف باختلاف درجة ثقافتهم وايمانهم ووعيهم ويكون أحسن
أشكال التهيؤ صادراً ـ بطبيعة الحال ـ من المخلصين الممحصين . وسيكون لهذه الفكرة
نتائجها في مستقبل هذا البحث .
وهذا القسم من العلامات يتضمن التوقيت بوضوح ، ويشير إلى قرب حصول الظهور ومن هنا
أمكن التهيؤ لاستقباله .
إلا إنه قد يخطر في الذهن سؤالان حول ذلك :
السؤال الأول : إن هذه العلامات كما تنبه المخلصين الذين يعدون أنفسهم للفداء بين
يدي المهدي (ع) : كذلك تكون منبهة لاعداء المهدي (ع) ، فيعدون أنفسهم للقضاء عليه
وطمس حركته ، في أول حدوثها.
_____________
(1) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص530.
صفحة (57)
وهذا سؤال أثرناه في التاريخ السابق ، وأجبنا عنه مفصلاً(1). ومجمل الفكرة : أن
الأعداء سوف لن يلتفوا إلى حصول هذه العلامات ، ولو التفتوا فإنهم لن يعلموا انها
من قبيل العلامات إلى ظهور المهدي (ع) . ولو علموا فإنهم لن يستطيعوا التألب عليه .
لأنه يظهر في زمان غير مناسب لذلك ، على ما سنرى في فصل قادم .
ولو فرضنا أنهم التفتوا وتألبوا ، فلا يكون ذلك مجدياً أيضاَ ، لما سنعرفة في
المستقبل البحث من أن المهدي (ع) ، لن يعلن عن أهدافه الكاملة لأول وهله ، ومن هنا
فلن تلتفت الدول إلى خطره المباشر عليها ، إلا بعد أن تقوى شوكته ويتسع سلطانه .
إذاً ، فلو كانوا تألبوا فإنهم سوف لن يستعملوه ضده إلا بعد فوات الأوان .
السؤال الثاني : إن التوقيت بهذه العلامات ، مناف للأخبار النافية للتوقيت والآمرة
بتكذيب الوقاتين .
والجواب على ذلك ، يكون على مستويين :
المستوى الأول: أن ننظر إلى الزمان المتخلل بين وقوع هذه العلامات كزماننا هذا ...
ونقول : بأن هذه العلامات لو وقعت لدلت على قرب الظهور . وهذه قضية صادقة لا تشمل
على التوقيت المنهي عنه على الإطلاق وانما هي توقيت إجمالي ، كالذي قلناه في شرائط
الظهور تماماً من أنها : لو حصلت لظهر المهدي (ع) . فإن عدم الاطلاع على زمان وقوع
هذ العلامات مستلزم بطبيعة الحال لجهالة زمان الظهور وعدم تحديده ، ذلك التحديد
المنفي من الاخبار.
المستوى الثاني : أن ننظر إلى الزمان المتخلل بين وقوع هذه العلامات وبين الظهور
فإن كل فرد يشاهد إحدى العلامات القريبة ، من حقه أن يقول : أن المهدي (ع) سيظهر
بعد قليل . ويمكن أن نفهم هذا القول على شكلين :
الشكل الأول: إن هذا القول لا يحتوي على تحديد معين للوقت ، باعتبار أنه يبقى
مردداً بين اليوم والأيام ، بل بين العام والأعوام ، فإن تخلل عشرة أعوام مما بين
ظهور العلامة القريبة وظهور المهدي (ع) ، غير ضائر بكونها قريبة ، لضآلة هذه
الأعوام العشرة تجاه الزمان الطويل السابق عليها ومعه فلا تكون تحديداً ، ولا تندرج
في الأخبار النافيه للتحديد.
_______________
(1) المصدر السابق ص 532.
صفحة (58)
الشكل الثاني : ان نتنازل عما قلناه في الشكل الأول ، ونقول : إن هذا القول ، أعني
: أن المهدي سيظهر بعد قليل ... يتضمن التحديد والتوقيت إذاً ، فلا بد من الالتزام
بأن الأخبار الدالة على وقوع العلامات القريبة مخصصة لأخبار التكذيب وخارجة عن
مدلولها . وتكون النتيجة : ام كل تحديد لتاريخ يوم الظهور كذب وواجب الرفض إلا إذا
كان مستنداً إلى حدوث علامة من العلامات القريبة ، فإنه يكون صادقاً وجائز التلقي
بالقبول.
ولأجل ذلك ـ في الحقيقة ـ وضعت هذ العلامات ، وهو تأكد المخلصين الممحصين من قرب
الظهور . ومعه فمن غير المحتمل بقاء التحديد كاذباً ومحرماً إلى ذلك الحين .كما أنه
ليس جزافاً من القول بعد استناده إلى العلامة التي سمع بوقوعها في يالأخبار ، وقد
رآها متحققة في عالم الوجود .
مع العلم ، ان هذ العلامات لا تدل على أكثر من أقتراب اليوم الموعود وأما تحديده
باليوم والشهر ونحوه . فيبقى سراً في علم الله تعالى ، حتى يتحقق الظهور.
صفحة (59)
الفصل الرابع
الايديولوجية العامة التي يتبناها المهدي (ع)
تجاه الكون والحياة والتشريع
والذي نريد التعرف عليه في هذا الصدد ، هو الاطلاع الكامل على العمق الحقيقي للوعي
الذي ينشره الإمام المهدي في المجتمع ، ولا تفاصيل الأسس العامة التي تبتني عليها
الايديولوجية يومذاك . فإن ذلك مما يتعذر الإطلاع عليه قبل يوم الظهور ، كما ذكرنا
في التمهيد .
وانما الذي نثير التساؤل عنه ونحاول التعرف عليه الآن ، هو بعض العناوين العامة
التي يتصور اتجاه الايديولوجيه المهدوية نحوها أو التي قد يخطر في الذهن ذلك منها .
معه يكون التساؤل مثاراً عن أمور أربعة:
الامر الأول : الدين يعتنيه المهدي (ع) ، ويعلنه في العالم .
الأمر الثاني : المذهب الذي يتخذه (ع) .
الأمر الثالث : التساؤل عما إذا كان يتبنى بعض المفاهيم المحددة الضيقة كالعنصرية
والقومية والوطنية ونحوها .
الأمر الرابع : التساؤل عما إذا كان نظامه مشابهاً في المفهوم أو المدلول مع
الأنظمة السابقة على الظهور ، كالرأسمالية والإشتراكية ، أو لا ؟
ونتكلم عن كل من هذه التساؤلا ت الأربعة ، في ضمن جهة من الكلام .
الجهة الأولى : في الدين الذي يتبناه الإمام المهدي (ع) ويحكم العالم على أساسه .
وهو دين الإسلام بصفته الأطروحة الكامله التي تحقق العبادة الحقيقية العبادة
الحقيقية المستهدفه من خلق البشرية أساساً ، كما سبق أن عرفنا .
صفحة (61)
ويتم الاستدلال على ذلك بعدة أساليب ، نذكر منها ما يلي :
الأسلوب الأول : أن نستعرض بعض الظواهر المهمة لنتائج العدل السائدة في دولة المهدي
... فإذا عطفنا على ذلك انحصار العدل الكامل بالإسلام ، إذا ، فهذا الأسلوب متوفق
على مقدمتين :
المقدمة الأولى : استعراض بعض الظواهر المهمة والنتائج العظيمة للعدل السائد في
دولة المهدي العالمية .
وهذا بتفاصيله موكول إلى الباب الثالث من القسم الثاني من هذا التاريخ وإنما نقتصر
في المقام على ذكر بعض الأمثلة .
فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجه(1) عن أبي سعيد الخدري : أن النبي (ص) قال : يكون في
أمتي المهدي . . . فتنعم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط . تؤتي اكلها ولا تدخر
منهم شيئاً . والمال يومئذ كدوس ، فيقوم الرجل فيقول : يا مهدي عطني فيقول : خذ .
وما يرويه البخاري(2) عن ابي هريرة : أن رسول الله ( ص) قال ، ـ في حديث ـ : ومتى
يكثر فيكم المال فيفيض ،حتى يهم رب المال من يقبل صدقته ، ومتى يعرضة فيقول الذي
يعرض عليه لا أرب لي به .
وقد برهنا في التاريخ السابق(3) بانحصار حدوث هذه الكثرة من المال في دولة المهدي
(ع) دون ما قبلها . مضافاً إلى دلالة هذه الأخبار المروية هنا .
وما أخرجه مسلم في صحيحه(4) عن ابي سعيد وجابر بن عبدالله قالا : قال رسول الله (ص)
: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده .
وما أخرجه الشيخ المفيد في الإرشاد(5) عن المفضل بن عمر قال : سمعت أبا عبدالله (ع)
يقول : ان قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها . إلى أن قال : وتظهر الأرض من
كنوزها حتى يراها الأرض على وجهها . ويطلب الرجل منكم من يصله بماله ويأخذ منه
زكاته ، فلا يجد أحداص يقبل منه ذلك ، واستغنى الناس بما رزقهم الله من فضله .
____________
(1) أنظر السنن ج2 ص1367. (2) انظر الصحيح ج9 ص74 .
(3) انظر نـريخ الغيبة الصغرى ص 231 و ص335.
(4) ج8 ص 185 . (5) أنظر ص342.
صفحة (62)
ومثل ذلك ما ورد في كتاب العهدين في وصف دولة العدل المنتظرة ، كقوله(1) : وتنفتح
أبوابك دائماً(2) نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملكهم ، لأن
الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد ، وخراباً تخرب الأمم .
كقوله : بل يقضى بالعدل للمساكين ، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ، ويضرب الأرض
بقضيب فمه ،ويميت النافق بنفخة شفتيه ....فيسكن الذئب مع الخروف و يربض النمر مع
الجدي ... والبقر والدبة ترعيان ، تربض أولادهما معاً . والأسد كالبقر يأكل تبناً
.ويلعب الرضيع على سرب الصل .ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان ، لا يسوؤن ولا
يفسدون . في كل جبل قدسي .لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب (3).
إلى غير ذلك من النصوص في كتب العهدين . ولكل من هذه النصوص تحليله وتفسيره الذي
سيأتي في مستقبل البحث ... وإنما المراد الإلمام في الجملة بحالة السعادة والرفاه
التي يعيشها شعب المهدي (ع) – وهو كل البشرية – في دولته وتحت نظامه .
المقدمة الثانية : انحصار العدل الكامل في الإسلام .
وهذا يحتاج إلى بحث عقائدي لسنا الآن بصدده ، وإنما نشير الآن إلى خلاصة نتائجه :
وهي أننا بعد أن علمنا الإسلام هو آخر الشرائع السماوية ، وأن العقل البشري قاصر عن
إيجاد العدل الكامل في العالم .وأن الله تعالى وعد في كتابه الكريم بتطبيق العدل
الكامل والعبادة المحضة على وجه الارض، بل كان هذا هو الغرض الأساسي للخلق .
_____________
(1) أشعيا :60/ 13
(2) مرجع ضمير المؤنث المخاطب هو (اورشليم ) عاصمة بني اسرائيل في نظر اليهود
.ولكننا سنبرهن في الكتاب القادم على انحصار صحة هذه النبؤات بدولة المهدي (ع) ،
وإنما ذكرت اورشليم باعتبارها العاصمة الدينية المهمة في نظر اليهود .فإن انتقلت
الأهمية إل غيرها انتقلت النبؤات أيضاً ، لأنه تتبع الدين الحق حيث يكون.
(3) أشعيا : 11/ 4-8
صفحة (63)
إذن فينحصر أن يكون هذا العدل المشار إليه هو الإسلام لعدم إمكان حصوله من العقل
البشري وعدم إمكان نزول شريعة أخرى بعد الإسلام .
وإذا تم الأسلوب الأول وبكلا مقدمتيه ، عرفنا أن كل ما ذكر من أنحاء وأنواع السعادة
والرفاه الموجود في دولة المهدي (ع) ، دولة الحق والعدل المنتظرة ، هو في الحقيقة
نتيجة لتطبيق مفاهيم وقوانين ألإسلام فيها
إذاً فقد تبرهن : أن الدين الإسلامي الذي يعتنق والقانون الذي يتخذ في تلك الدولة
هو الإسلام ، بقيادة القائد العظيم الإمام المهدي (ع) .
الأسلوب الثاني : أن نستعرض نصوص الأخبار الدالة على أن الإمام المهدي (ع) يطبق
الإسلام بالخصوص . وهي على عدة أقسام :
القسم الأول : الأخبار الدالة على أن المهدي من النبي (ص) ومن عترته ومن أمته ومن
أهل البيت .وإذا كان المهدي متصفاً بهذه الصفات ، فهو على دين الإسلام بالضرورة .
أخرج أبو داوود(1) ونعيم بن حماد والحاكم عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله (ص) :
المهدي مني ... الحديث.
وأخرج أحمد والباوردي في المعرفة وأبو نعيم عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله (ص)
:أبشركم بالمهدي رجل من قريش من عترتي ... الحديث
وأخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أم سلمة : سمعت رسول الله (ص) يقول
: المهدي منا أهل البيت ، رجل من أمتي ...الحديث.
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حماد في الفتن عن علي قال: قال رسول
الله (ص) :المهدي منا أهل البيت ... الحديث .
وأخرج (2) ابن أبي شيبة و الطبراني والدارقطني في الإفراد وأبو نعيم والحاكم عن ابن
مسعود ، قال: قال رسول الله (ص) : لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله تعالى رجلاً من أهل
بيتي ... الحديث .
____________
(1) انظر الحاوي للفتاوي للسيوطي ج2 ص124 .وكذلك الأخبار الأربعة التي تليه .
(2) المصدر ص125 و كذلك الخبر الذي يليه .
صفحة (64)
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود عن النبي (ص) قال: لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لملك
فيه رجل من أهل بيتي.
إلى ذلك من الأخبار ، ودلالتها على المطلوب أوضح من أن تخفى .
القسم الثاني: الأخبار الدالة على أن المهدي (ع) يحكم الأمة الإسلامية على الأخص
.وهو حين يحكمها بصفتها الإسلامية ، فسوف لن يكون حكمه إلا بالإسلام .
أخرج الترمذي (1) وحسنه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) قال: إن في أمتي المهدي
يخرج الحديث. أقول : يخرج فيها يعني يحكمها .
وأخرج نعيم بن حماد وابن ماجة عن أبي سعيد ، أن النبي (ص) قال : يكون في أمتي
المهدي ... الحديث .
وأخرج (2) أحمد ومسلم عن جابر، قال: قال رسول الله (ص) يكون في أهر أمتي خليفة...
الحديث.
القسم الثالث : الأخبار الدالة على تطبيق المهدي (ع) للإسلام و سنة النبي (ص) .
أخرج الطبراني في الأوسط (3) وأبو نعيم عن أبي سعيد : سمعت رسول الله (ص) يقول :
يخرج رجل من أهل بيتي يقول بسنتي . الحديث .
وأخرج – يعني نعيم بن حماد -(4) عن علي عن النبي (ص ) ، قال :
المهدي رجل من عترتي يقاتل على سنتي ، كما قاتلت أنا على الوحي .
وأخرج ابن حجر في الصواعق (5) قال : وصح انه (ص) قال : يكون اختلاف عند موت خليفة
...إلى أن قال : ويعمل في الناس بسنة نبيهم (ص) ويلقى الإسلام بجرانه على الأرض .
________________
(1) المصدر ص126 وكذلك الخبر الذي يليه . (2) المصدر ص131.
(3) المصدر والصفحة (4) المصدر ص148. (5) انظر ص98.
صفحة (65)
وروى الشيخ الطوسي في الغيبة (1) عن أبي جعفر الباقر (ع) ، قال : ويقتل الناس حتى
لا يبقى إلا دين محمد (ص) .. الحديث .
واخرج أبو يعلى(2) عن أبي هريرة قال : حدثني خليلي أبو القاسم (ص) قال : لا تقوم
الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي ، فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق ... الحديث .
أقول : الحق في نظر رسول الله هو الإسلام .
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد(3) عن المفضل بن عمر الجعفي ، قال : سمعت أبا عبد
الله جعفر بن محمد (ع) يقول: إذا أذن الله تعالى للقائم في الخروج صعد المنبر فدعا
الناس إلى نفسه وناشدهم بالله ودعاهم لى حقه ، وأن يسير فيهم بسنة رسول الله (ص)
ويعمل فيهم بعمله .... الحديث .
القسم الرابع : من لأخبار ، ما دل على أن المهدي (ع) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد
ما ملئت ظلماً وجوراً .
وهي أخبار متوترة مروية عن النبي (ص) وقادة الإسلام الأوائل .وهم يرون أن القسط
والعدل هو الإسلام ليس إلا ، فيكون المعنى اعتناق وتطبيق الإمام المهدي (ع) للإسلام
عقيدة ونظاماً .
وقد أحصى الصافي في منتخب الأثر (4) لهذه العبارة الكريمة مائة وتسعة وعشرون حديثاً
، وقد روتها المصادر العامة بكثرة بما فيها الصحاح كأبي داود وابن ماجة والترمذي
إلى مصادر أخرى كثيرة ذكرناها في التاريخ السابق(5) مضافاً إلى مصادر علماء
الإمامية ومصنفيهم فإنها أكثرمن أن تحصى .
_____________
(1) انظر ص 283. (2) الحاوي للفتاوي ص131
(3) انظر ص 342 وما بعدها. (4) انظر ص478.
صفحة (65)
· (5) تاريخ الغيبة الكبرى ص281 وما بعدها .
وسيأتي في القسم الثاني من هذا الكتاب ما يزيد هذه الأخبار بأقسامها الأربعة
وضوحاً.
وهذها الأسلوبان من الإستدلال على حقيقة الدين الذي يتخذه المهدي (ع) ثابتان بغض
النظر عن الدليل القائم على أساس التخطيط الإلهي والقائل بأن الأطروحة العادلة
والكاملة المطبقة في اليوم الموعود في دولة المهدي (ع) هي الإسلام .وتصلح نتيجة
هذين الأسلوبين للإستدلال على هذه الحقيقة . بأن نقول:
إن المهدي (ع) يطبق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته العالمية ، كما ثبت في
التخطيط العام وهو يعتنق ويطبق الإسلام . كما ثبت بهذين الأسلوبين الأخيرين
.....إذاً فالإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة .
وكذلك يصح الإستدلال بالعكس ، بأن نغض النظر عن هذين الأسلوبين ونتساءل من جديد عن
حقيقة الدين الذي يعتنقه المهدي ( ع) فنقول : إن المهدي يطبق الأطروحة العادلة
الكاملة في دولته ، كما ثبت في التخطيط العام .والإسلام هو الأطروحة العادلة
الكاملة ، كما استدللنا في التاريخ السابق (1) وسيأتي الحديث عن ذلك في الكتاب
الآتي أيضاً ...إذاً ، يثبت أن الدين الذي يعتنقه المهدي (ع) ويطبقه هو الإسلام ،
إذ لا يحتمل أنه يطبق الإسلام وليس بمسلم ...فإن التطبيق الإسلامي سوف لن يكون
تاماً وعادلاً إلا إذا كان الرئيس الأعلى مسلماً ، كما ثبت في الفقه الإسلامي
.ويصلح أن يكون هذا أسلوباً ثالثاً إلى جنب الأسلوبين السابقين .
إذاً ، فهاتان الحقيقتان وهما :
1- إن دين المهدي (ع) هو الإسلام .
2- إن الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة يمكن الإستدلال بإحداهما على الأخرى ،
بعد أخذ إحداهما مسلمة والأخرى محلاً للإستلال ، وكلتاهما مدعمتان بأدلة أخرى غير
هذه .
وإذا تبرهن على أن المهدي (ع) يطبق الإسلام في اليوم الموعود .باعتبار النظام الذي
يتكفل العدل الكامل... فإنه يترتب على ذلك عدة نتائج فيما إذا قورنت دولته بالدولة
الحاضرة . وهذا ما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب ، ونذكر الآن بعضها على سبيل
المثال .
____________
(1) انظر ص 261 منه.
صفحة (67)
منها: توحيد المعتقد الديني في العالم بدين الإسلام ، طبقاً لقوله تعالى :
" من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " على أساس أن هذا الدين هو الذي ينظم
العالم ويحل مشاكله ويحقق له العدل الكامل . ويأتي هذا التوحيد تحت ظروف معينة
يهيؤها القائد المهدي ، نشير إليها في مستقبل البحث .
ومنها : أن العالم سوف يحكم بأطروحة قانونية واحدة ،لا يحق فيها التجزئة ولا يجوز
عليها الخروج .
ومنها اتحاد السياسة والدين في سير التطبيق و التاريخ ، كما كان عليه الحال في زمن
النبي (ص) والخلافة الأولى ، وإنهاء فكرة : فصل الدين عن الدولة .
ومنها : ابتناء الحكم ، ابتناء التكامل الفردي والإجتماعي على الأساس الإلهي .ويتم
القضاء تماماً على أي اتجاه مادي في العالم مهما كان نوعه .
ومنها : إنهاء فكرة كحق تقرير المصير . فإن مصير البشر قد تقرر من الأعلى ، من
التخطيط الإلهي العام ولن يكون منبثقاً من البشر أو ناتجاً عن آرائهم الناقصة .
إلى غير ذلك من النتائج ، التي سيأتي التعرض لأسبابها ونتائجها مفصلاً .
الجهة الثانية : المذهب الذي يتخذه المهدي (ع) من مذاهب الإسلام ، يمكنأن يراد من
المذهب أحد المعنيين :
المعنى الأول : أن يراد بالمذهب مجموع الأفكار المتبناة من العقائد والفقه السائد
بحيث يكون كلام شيوخ المذهب وعلمائه دخيلاً في بلورته وصقل فكرته .
المعنى الثاني : أن يراد بالمذهب العقائد الرئيسية التي تشكل حجر الزاوية فيه
والأساس الرئيس له ...كالقول بالعدل والإمامة الذين كانا محل الخلاف بين الإمامية
وغيرهم من المسلمين .
فإن أردنا المعنى الأول من المذهب، فينبغي لنا أن نجزم بأن المهدي (ع) سيغار في
تفاصيل تشريعه كل مذاهب المسلمين الموجودة قبل ظهوره ، ولايحتمل فيه أن يكون
منسوباً إلى أي من المذاهب السائدة . لأن الكثير من أفكار كل مذهب. ناتج عن أفكار
مفكريه واستنتاجات علمائه ، وهي– على أي حال - قابلة للخطأ والصواب. ما لم تكن من
ضروريات الدين أو واضحات العقل .
_______________
(1) آل عمران : 3/ 85.
صفحة (68)
والمهدي (ع) سيطبق عند ظهوره الإسلام الواقعي كما جاء به النبي (ص) سواء وافق
الأحكام المعروفة للمذاهب أو خالفها . وسيأتي بقوانين إسلامية جديدة لتنظيم العالم
. ليجعله كله على عتبة الرقي والتكامل .
ولذا صرح عدد من علماء العامة ومفكريهم في مناسبات مختلفة . بعد انطباق أحكام
المهدي مع شيء من المذاهب الأربعة . ولا غيرها .
قال ابن العربي في الفتوحات المكية (1) في كلامه عن المهدي : به يرفع المذاهب من
الأرض فلا يبقى إلا الدين الخالص .أعداؤه مقلدة العلماء أهل الإجتهاد لما يرونه من
الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمتهم ....
وقال السيوطي : (2) عن الحكم الذي سيمارسه عيسى بن مريم (ع) - وهو العضد الأيمن
للمهدي (ع) ، كما سنعرف -، في دولة الحق ، قال: وإذا قلتم أنه يحكم بشرع نبينا ،
فكيف طريق حكمه به المذهب من المذاهب الأربعة المقررة ، أو باجتهاد منه ؟! .
هذا السؤال أعجب من سائله !!!!! وأشد عجباً منه قوله فيه : بمذهب من المذاهب
الأربعة !!!! .فهل خطر ببال السائل : أن المذاهب في الملة الشريفة منحصرة قي أربعة
، والمجتهدون من الأمة لا يحصون كثرة ...فلأي شيء خصص السائل المذاهب الأربعة .
ثم كيف يظن بنبي أنه يقلد مذهباً من المذاهب ، والعلماء يقولون : إن المجتهد لا
يقلد مجتهداً ، فإذا كان المجتهد من آحاد الأمة لا يقلد ، فكيف يظن بالنبي أنه يقلد
.
إلى غير ذلك من الكلمات التي لا حاجة إلى استقصائها .
وأما موقف الإمامية من ذلك ، فواضح .فإنهم يعتبرون المهدي (ع) ، مصدراً من مصادر
التشريع الإسلامي ، بصفته الإمام الثاني عشر من ائمتهم (ع) . فمن غير المحتمل لديهم
رجوعه في التشريع أو غيره إلى أحد علمائهم أو إلى أكثر بل هو يستقيل ببيان التشريع
الإسلامي ، ويكون واجب الطاعة في غيبته .
وأما إذا أردنا بالمذهب ، ما يعود إلى المقومات الرئيسية كالإعتقاد بالعدل والإمامة
وعدمه ...
____________
(1) ج3 ص327. (2) انظر الحاوي للفتاوي، للسيوطي ج2 ص280.
صفحة (69)
فالملاحظ بالنسبة إلى المهدي (ع) سكوت الأخبار الواردة في مصادر العامة والجماعة عن
مذهبه ، سكوتاً تاماً، في حدود اطلاعنا . فلو أردنا الجواب على مثل هذا السؤال وهو
: ان المهدي من أهل السنة ، يؤمن بأصولهم الإعتقادية ، أو بالأهم منها على الأقل
... كان ذلك متعذراً عن طريق الأخبار .
ومن هنا سكتت كلمات محققيهم عن التعرض لذلك .. واكتفوا بالقول بأنه يطبق الدين
الحقيقي ، من دون اي إشارة إلى أنه ممن يوافقهم في المذهب أولاً .
نعم ، من يرى منهم بأن المهدي (ع) يعمل بفقه أحد المذاهب الأربعة يرى – بطبيعة
الحال - أنه ملتزم عقائدياً بما يعتقدونه ، غير أن محققيهم اعترضوا على هذا القول
واستنكروه ، كما سمعنا .
إذاً، فلم يتم الإثبات التاريخي الكافي لذلك .
نعم ، تبقى هناك فكرتان :
إحداهما أشمل من الأخرى ، لا بد من عرضهما في هذا الصدد:
الفكرة الأولى : فيما تقتضيه القواعد العامة ، من تعين مذهبه على وجه الإجمال .
من المسلم به بين المسلمين كون أحد المذاهب الموجودة بين مذاهبهم حقاً . وأن
المذاهب الأخرى باطلة غير مطابقة للعقائد الإسلامية الصحيحة .وسبق أن قلنا أن اصحاب
الإمام المهدي (ع) الممحصين في عصر الغيبة ، إنما يكونون من ذلك المذهب أياً كان –
دون غيرهم . ليتم تمحيصهم عل الحق وإخلاصهم له، لا على غيره، كما هو واضح .
ومعه فلا بد من الإلتزام بأن مذهب المهدي (ع) هو ذلك المذهب الحق الذي يختار له
الله تعالى عليه اصحابه. ولا يحتمل أن يكون مخالفاً لهم في المذهب لانه يلزم منه أن
لا يكون أحدهما على الحق وهو باطل بالضرورة.
واما تعيين هذا المذهب الحق وتسميته من دون المذاهب الأخرى ... فهذا راجع إلى وجدان
كل مسلم ، وما قام الدليل عنده من صحة أي مذهب من المذاهب . ستكون الفكرة الأولى
لدى الفرد المسلم أن يقول : إن المذهب الحق هم مذهبي ، والدليل على صحته قائم عندي،
إذا فالمهدي يكون عليه ، هكذا يقول أهل كل مذهب ...، يبقى مذهب المهدي – بعد ذلك –
مجملاً .
صفحة (70)
وقد لا يكون هذا ضائراً ، فإن التعرف الإجمالي على مذهبه ، بالشكل الذي قلناه ، كاف
على المستوى الذي يقنع سائر المسلمين . ويكون البحث فيه إسلامياً عاماً غير طائفي .
ويكون المهدي (ع) – في ذاته – مختاراً في تطبيق المذهب الذي يريده على العالم .
الفكرة الثانية : وهي اخص من سابفتها ، فإنه يمكن القول : بأن المهدي (ع) على
المذهب الإمامي الإثني عشري . وذلك باعتبار القرائن والمراجحات التالية :
المرجح الأول : ما ورد أن المهدي (ع) من أهل البيت ومن العترة وقد سمعنا عدداً من
هذه الأخبار فيما سبق .ومنها ما هو موجود في الصحاح الستة ، التي سنقتصر على النقل
عنها :
أخرج أبو داود(1) وابن ماجة (2) عن أم سلمة ، قالت : سمعت رسول الله (ص) قول إن
المهدي من عترتي من ولد فاطمة .
وأخرج أبو داود أيضاً(3) قوله (ص) : لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من
أهل بيتي ... الحديث .
وأخرج ابن ماجة (4) قوله (ص) : المهدي منا أهل البيت ... الحديث.
وأخرج الترمذي (5) قوله (ص) لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي .
إلى غير ذلك من الأخبار .
وإن أخص موارد انطباق مفهومي العترة وأهل البيت هم : بنت النبي (ص) الزهراء وزوجها
وولداها ، وقد يشمل سلمان الفارسي رضوان الله عليه الذي ورد في شأنه قول النبي (ص)
: سلمان منا أهل البيت(6) . فليكن الإمام المهدي (ع) على مذهبهم . وليس هو غامضاً
ولا مجملاً في التاريخ .
________________
(1) انظر السنن ج 2 ص 422. (2) انظر السنن ج2 ص 1368.
(3) انظر السنن ج2 ص 422. (4) انظر السنن ج2 ص 1367.
(5) انظر الجامع الصحيح ج 3 ص 343 . (6) انظر اسد الغابة في معرفة الصحابة لابن
الاثير 2 ص331 . ذكر من رواية ./*
صفحة (71)
المرجح الثاني : ما ورد من الأخبار في مصادر العامة من أن الأئمة اثنا عشر بعد
النبي (ص)... أما بالنص على أن المهدي (ع) هو آخرهم أو بدون ذلك . فإنها تنطبق على
الإتجاه الإمامي في فهم الإسلام بالتعيين ، دون غيره ، ومعه ، يتعين الإلتزام بأن
مذهب المهدي (ع) موافق لهذا الإتجاه .
أخرج البخاري(1) عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت النبي (ص) يقول : يكون اثنا عشر
أميراً . فقال كلمة لم أسمعها .فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش .وأخرج مسلم (2)
نحوه .وذكر له أسناد عديدة إلى جابر بن سمرة.
وأخرج الترمذي (3) عن جابر بن سمرة ، قال : قال رسول الله (ص) : يكون من بعدي اثنا
عشر أميراً .قال : ثم تكلم بشيء لم أفهمه .فسألت الذي يليني ، فقال : كلهم من قريش
. ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وقد روى من غير وجه عن جابر بن سمرة .
وأما ما رواه أحمد وغيره في خارج الصحاح .فكثير.
وإذا تعين صحة الإتجاه الإمامي ، بهذه الأخبار ، ثبت كون المهدي هو الثاني عشر من
هؤلاء الأمراء الذين يشير اليهم النبي (ص) .وهو المطلوب .
كالذي أخرجه القندوزي في ينابيع المودة (4) نقلاً عن فرائد السمطين للحمويني بسنده
عن مجاهد عن ابن عباس ، قال : قدم يهودي يقال له : نعثل فقال :يا محمد أسألك عن
أشياء تلجلج في صدري منذ حين ... إلى أن يقول : فما من نبي إلا وله وصي ، وأن نبينا
موسى بن عمران أوصى يوشع بن نون ، فقال : إن وصيي علي بن أبي طالب ، وبعده سبطاي
الحسن والحسين ، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين . قال :يا محمد قسمهم لي : قال :
إذا مضى الحسين فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، فإذا مضى محمد فإبنه جعفر .
فإذا مضى جعفر فإبنه موسى ، فإذا مضى موسى فإبنه علي ، فإذا مضى علي فإبنه محمد ،
فإذا مضى محمد فإبنه علي ، فإذا مضى علي فإبنه الحسن ، فإذا مضى الحسن فإبنه الحجة
محمد المهدي .
فهؤلاء اثنا عشر .
_________
(1) انظر الجامع الصحيح ج 9 ص 101. (2) انظر صحيح مسلم ج 6 ص 3-4 .
(3) انظر الجامع الصحيح ج3 ص 240 . (4) انظر ص 529 ط النجف . وص 369 ط الهند عام
1311 هـ .
صفحة (72)
وهذه النتيجة ، وهي صحة الإتجاه الإمامي في فهم المهدي (ع) ،ومن ثم القول : بأن
المهدي إمامي المذهب وأنه أحد الأئمة الإثنا عشر ....هذه النتيجة لازمة لكل من يقول
من علماء العامة : بأن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري ، كإبن عربي في الفتوحات
المكية على ما نقل عنه في إسعاف الراغبين (1) ، إذ نسمعه يقول: " وهو عترة رسول لله
(ص) من ولد فاطمة رضي الله عنها . جده الحسين بن علي بن أبي طالب. ووالده الإمام
حسن العسكري بن الإمام علي النقي بالنون ابن الإمام محمد (التقي بالتاء ابن الإمام
علي)(2) الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد ( التقي
بالتاء ابن الإمام علي ) الباقر بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن الإمام
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم . يواطىء اسمه اسم رسول الله (ص) ..."
وكذلك الشعراني في اليواقيت والجواهر(3)، إذ قال هناك : المهدي من ولد الإمام حسن
العسكري . وذكر موافقة الشيخ حسن العراقي وسيدي علي الخواص على ذلك .
وكذلك كمال الدين بن طلحة في مطالب السؤول(4) حيث قال : الباب الثاني عشر: في أبي
القاسم بن محمد الحسن الخالص بن علي المتوكل بن القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم
بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى
أمير المؤمنين ابن أبي طالب . المهدي الحجة الخلف الصالح المنتظر (ع) ورحمة الله و
بركاته .
_____________
(1) انظر ص 142
(2) ما بين القوسين عبارة نقلت من محله إلى المحل الذي اثبتناه بين القوسين فيما
يلي وهو خطأ مطبعي غريب . وهي في الاول صحيحة وفي الثاني خاطئة.
(3) انظر ص 288 ط 1306 وانظر اسعاف الراغبين ص141.
(4) انظر ص 79.
صفحة (73)
وكذلك الحافظ الكنجي في كتابه البيان(1) حيث قال : وأما بقاء المهدي (ع) : فقد جاء
في الكتاب والسنة ...ثم شرح ذلك إلى أن قال :وأما ألإمام المهدي (ع) : مذ غيبته عن
الأبصار إلى يومنا هذا لم يملا الأرض قسطاً وعدلاً ، كما تقدمت الأخبار في ذلك .
فلا بد أن يكون ذلك مشروطاً بآخر الزمان .فقد صارت هذه الأسباب لإستيفاء الأجل
المعلوم (2) .أقول : وهذا الكلام منه واضح في اختيار الإتجاه الإمامي في فهم المهدي
.
وكذلك ابن الصباغ في الفصول المهمة (3) إذ نجده يتحدث عن المهدي مفصلاً ، وقال-
فيما قال - :وأما نسبه أماً وأباً ، فهو ابو القاسم محمد الحجة بن الحسن الخالص بن
علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد
الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين
...وأما لقبه : فالحجة والمهدي والخلف الصالح والقائم النتظر وصاحب الزمان ... الخ
.
وذكر الحافظ القندوزي في ينابيع المودة ، عدداً من العلماء الذاهبين إلى ذلك : منهم
: الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح الدائرة(4) وشيخ الإسلام أحمد الجامي النامقي
والشيخ عطار النيشابوري وشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي والسيد نعمة الله
الولي والسيد النسيمي(5) والشيخ عزيز بن محمد النسفي(6) مضافاً إلى من ذكرناهم قبل
قليل .
المرجح الثالث : اعتراف الأئمة المعصومين السابقين عليه به عليه وعليهم السلام
.....بل تنويههم به والحث عى إطاعته وانتظاره في عدد من الأخبار تفوق حد التواتر .
وقد نقل عنهم بعض هذه الأخبار عدد من مصادر العامة كالبيان للكنجي ، وينابيع المودة
للقندوزي وغيرهما .
_____
(1) انظر ص 109. (2) انظر ص111 من البيان
(3) انظر ص310 . (4) انظر ينابيع المودة ص 565 ط النجف وص 293 ط الهند.
(5) المصدر ص 566 ط النجف وص 293 ط الهند . (6) المصدر ص 569 ط النجف وص 359 ط
الهند .
صفحة (74)
أما علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع) :
فأخرج عنه الكنجي(1) وابن ماجة (2) وغيرهما ، قال : قال رسول الله (ص) : المهدي منا
أهل البيت يصلحه الله في ليلة .
وأما فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص) فقد قال لها أبوها .
كما أخرجه عنه للكنجي في البيان (3) وابن الصباغ في الفصول المهمة (4) وغيرهما ،
واللفظ للكنجي –: أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على الله وأحب المخلوقين إلى الله
، وأنا أبوك ، ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله وهو بعلك ... ومنا سبطا هذه
الأمة وهما ابناك الحسن والحسين ، وهما سيدا شباب أهل الجنة . وأبوهما – والذي بعثن
بالحق – خير منهما . يا فاطمة والذي بعثني بالحق وإن منهما مهدي هذه الأمة ، إذا
صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن .... الحديث .
والإمام الحسن الزكي بن علي (ع) نظر إليه النبي (ص) – فيما رواه السيوطي -(5) فقال:
إن ابني هذا سيد ، كما سماه النبي (ص) ، سيخرج من صلبه رجل يسمى اسم نبيكم يشبهه في
الخلق ولا يشبه في الخلق .
واخرج السيوطي (6) عن ابن عساكر عن الحسين (ع) أن رسول الله (ص ) قال : أبشري يا
فاطمة ، المهدي منك.
وأخرج أيضاً (7) عن الدار قطني في سنته عن محمد بن علي (وهو الإمام الباقر عليه
السلام) قال: إن لمهدينا آيتين لم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض : ينكسف القمر
لأول ليلة من رمضان ، وتنكسف الشمس في النصف منه ... الحديث .
وأخرج عنه (ع) أيضاً بكنيته : أبي جعفر(8) بعض الأخبار .
_____________
(1)انظر البيان ص 65 . (2) انظر السنن ج2 ص 1367 .
(3) انظر ص 56 . (4) انظر ص 314 وما بعدها.
(5) انظر الحاوي للفتاوي ص 125 ج 2 . (6) نفس المصدر ص 137 .
(7) المصدر ص 136. (8)المصدر ص 141.
صفحة (75)
واما الإمام أبو عبد الله الصادق (ع) ، فقد كان له في ذكر الإمام المهدي (ع) موقف
عاطفي عظيم ...أخرج القندوزي(1) عن المناقب عن سدير الصيرفي قال دخلت أنا والمفضل
بن عمر وأبو بصير وإبان بن تغلب على مولانا ابي عبد الله جعفر الصادق(رضي الله عنه)
فرأيناه جالساً على التراب وهو يبكي بكاءً شديداً ويقول : سيدي غيبتك نفت رقادي
وسلبت مني راحة فؤادي .قال سدير : تصدعت قلوبنا جزعاً . فقلنا : لا ابكى الله يا
ابن خير الورى عينيك . فزفر زفرة انتفخ منها جوفه . فقال : نظرت في كتاب الجعفر
الجامع صبيحة هذا اليوم ...وتأملت فيه مولد قائمنا المهدي وطول غيبته وطول عمره
وبلوى المؤمنين في زمان غيبته ... الخ الحديث وهو مطول .
والإمام الرضا علي بن موسى (ع) بشر بالمهدي (ع) أيضاً :
أخلرج القندوزي(2) عن الحمويني الشافعي في فرائد السمطين بإسناده عن دعبل بن علي
الخزاعي قال :أنشدت قصيدة لمولاي الإمام علي الرضا ، رضي الله عنه . أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
إلى أن قال دعبل : ثم قرأت باقي القصيدة عنده فلما انتهيت إلى قولي :
خروج الإمام لا محالة واقع يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرضا بكاء شديداً . ثم قال : يا دعبل نطق روح القدس بلسانك .أتعرف هذا الإمام
؟ قلت : لا . الا أني سمعت خروج إمام منكم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . فقال : إن
الإمام بعدي ابني محمد وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه
الحجة القائم .وهو المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً
كما ملئت جوراً وظلماً . الحديث .
_________
(1) انظر ينابيع المودة ص 454 ط النجف وص 379 ط الهند.
(2) المصدر ص 544 ط النجف وص 379 ط النجف
صفحة (76)
وروى القندوزي في الينابيع(1) حادثة ولادة المهدي (ع) . وفيها بشارة أبيه الإمام
الحسن العسكري (ع) بولادته ... منها قوله عن أمه رضي الله عنها :أنه سيخرج منها ولد
كريم على الله عز وجل يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
فهذا ما روته المصادر العامة عن الأئمة المعصومين (ع) ، وقد أخرجت عن كل منهم عدداً
من الأحاديث ، ذكرنا قسماً منها كنموذج .واما المصادر الإمامية فقد روت عن جميع
المعصومين عدداً وافراً من الأخبار في التبشير بالمهدي (ع) ، لا حاجة إلى نقلها .
والأئمة المعصومين عليهم السلام ، بغض النظر عن المفهوم الإمامي عنهم ، أناس أتقياء
علماء صالحون ، لا يوجد لهم في المصادر العامة إلا الذكر الجميل ومذهبهم الإسلامي
أشهر من أن يذكر . فإنهم جميعاً إماميون اثنا عشريون يؤمن كل منهم بإمامة نفسه
وإمامة الباقين من آبائه وأولاده .
ومن هنا ينبثق عندنا تقريبان لتعيين مذهب الإمام المهدي على هذا الضوء :
التقريب الأول : إنه من غير المحتمل أن يقوم الأئمة المعصومون بهذا التأييد للإمام
المهدي (ع) وينوهوا به هذا التنويه المتواصل الشديد ، وهو شخص يختلف عنهم في المذهب
، ويغايرهم في الفهم والمعتقد الإسلامي إذاً فيتعين ان يكون الإمام المهدي على
مذهبهم واتجاههم واعتقادهم ، وهو المطلوب .
التقريب الثاني : إننا لو قلنا بأن المهدي (ع) يختلف عنهم في المذهب ، للزم
الإلتزام ببطلان مذهبه أو مذهبهم ... باعتبار وضوح أن المذهب الحق واحد في الإسلام
بالضرورة والإجماع ، وهذا مما لا يمكن التفوه به تجاه الأئمة المعصومين ولا تجاه
المهدي .إذاً فهم جميعاً على مذهب واحد .
____________
(1) المصدر ص450 ط النجف وص376 ط الهند . وانظر ص464 ط النجف.
صفحة (77)
المرجح الرابع : ما اعترف به عدد من علماء العامة والجماعة ، من أن المهدي (ع) لا
يفضل عليه أبو بكر وعمر .
روى السيوطي في العرف الوردي(1) بسنده عن محمد بن سيرين أنه ذكر فتنة تكون. فقال:
إذا كان ذلك فاجلسوا في بيوتكم حتى تسمعوا على الناس بخير من أبي بكر وعمر . قيل :
أفيأتي خير من أبي بكر وعمر. قيل أفيأتي خير من أبي بكر وعمر ؟!
قال : قد كان يفضل على بعض .
قال السيوطي: قلت : في هذا ما فيه . وقال ابن أبي شيبة في المصنف في باب المهدي :
حدثنا أبو أسامة عن عوف بن محمد – هو ابن سيرن - قال : يكون علي هذه الأمة خليفة لا
يفضل عليه أبو بكر ولا عمر.
قال السيوطي : قلت هذا اسناد صحيح ، وهذا اللفظ أخف من الأول ... إلى آخر كلامه.
وظاهر اللفظ أنه خبر عن ابن سيرين نفسه لا عن النبي (ص) . إذاً فابن سيرين يرى عدم
أفضلية الشيخين على المهدي .ووافقه البرزنجي في الإشاعة ، حيث قال بعد نقل مل ذكره
السيوطي(2) :وتقدم عن الشيخ في الفتوحات أنه معصوم في حكمه مقتف أثر النبي(ص) لا
يخطىء أبداً ، ولا شك أن هذا لم يكن في الشيخين وأن الأمور التسعة التي مرت لم
تجتمع كلها في إمام من أئمة الدين قبله. فمن هذه الجهات يجوز تفضيله عليهما. وإن
كان لهما فضل الصحبة ومشاهدة الوحي والسابقة ، وغير ذلك .والله اعلم .
قال الشيخ علي القاري في المشرب الوردي في مذهب المهدي ومما يدل على أفضليته : أن
النبي (ص) سماه خليفة الله ، وأبو بكر لا قال له إلا خليفة رسول الله .انتهى كلام
البرزنجي .
وإذا تم ذلك ، فمن البعيد جداً، إن لم يكن من القبيح عقلاً واتباع الأفضل للمفضول
ومسايرته في فهمه واتجاهه ... مع أن سر فضله كامن في الأطلاع على الحقائق والإتساع
في النظر والعمل بشكل غير موجود لدى المفضول .
إذاً ، فكل واحد من هذه القرائن ، يبرهن على أن مذهب الإمام المهدي (ع) من حيث
الأصول الرئيسية ، هو المذهب الإمامي الإثنا عشري ، بحسب الأدلة التي ينبغي أن
يعترف بها سائر المسلمين .
________
(1) أنظر الحاوي للفتاوي ج2 ص 153.
(2) أنظر الإشاعة في اشراط الساعة ص 113.
صفحة (78)
وأما عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، فهذا من الضروريات القطعيات ، التي لا
يمكن أن يرقى إليها الشك. وتدل عليه أعداد غفيرة من أخبارهم في المهدي ، مما لا
حاجة إلى الإفاضة فيه . يكفي في ذلك أن نعرف أنهم يرون أن المهدي إمامهم الثاني عشر
، وأنهم يرون وجوب طاعته ولزوم انتظاره .
وفي أخبار المصادر العامة ما يدل على ذلك ، وقد سمعنا قبل قليل بعضها وفيها تعبير
الأئمة المعصومين عنه (ع) بقائمنا ومهدينا ونحو ذلك فليرجع القارىء إليها .
الجهة الثالثة : موقف الإمام المهدي (ع) من العنصرية وأمثالها .
وهي عدة مفاهيم ذات مدلول أناني ضيق يتضمن تفضيل عنصر على عنصر من البشر على أساس
الدم أو اللغة أو اللون أو الوطن أو القبيلة أو نحو ذلك . ولنصطلح عليها جميعاً
بالعنصرية ، من أجل تخفيف التعبير .
والرأي الذي لا بد من الجزم به ، باعتبار الأدلة الآتية ، هو أن موقف الإمام المهدي
(ع) من العنصرية دائماً موقف سلبي ومعارض ...بل دعوته ودولته عالمية تصل إلى كل
البشر على حد سواء بدون تفضيل لجماعة على أخرى .
ويمكن إقامة الدليل على ذلك على عدة مستويات :
المستوى الأول: أن دعوة المهدي (ع) قائمة على ألإسلام ، كما برهنا فإنه إنما يطبق
الإسلام على وجه الأرض ، ويرفض أي عنصرغريب عنه أو أجنبي .
ونحن نعرف أن الإسلام نص بكل صراحة على إلغاء العنصرية ، بمثل قوله تعالى :
" يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن
أكرمكم عند الله اتقاكم .إن الله عليم خبير"(1) .وقول النبي (ص) المشهور عنه : " لا
فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"
والإسلام دين الناس أجمعين وليس خاصاً بأحد ، قال الله تعالى : " قل: يا أيها الناس
أني رسول الله إليكم جميعاً "(2) .
__________
(1) الحجرات : 49/ 13. (2) الأعراف : 7/ 158.
صفحة (79)
وقال عزوجل : " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن اكثر الناس لا
يعلمون "(1).
وقد أعطى الإسلام للتفاضل أسساً جديدة ، لا تمت إلى أي شكل من أشكال العنصرية بصلة
. وهي ثلاثة :
الأساس الأول : العلم . قال الله سبحانه :" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا
يعلمون .إنما يتذكر أولوا الألباب "(2) .
الأساس الثاني : التقوى : قال تعالى " إن أكرمكم عند الله اتقاكم "(3) ويدل عليه
الحديث النبوي الشريف السابق أيضاً .
الأساس الثالث : الجهاد : قال الله تعالى :" لايستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي
الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم
وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين
أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة ،وكان الله غفوراً رحيماً"(4) .
هذا بعد التساوي بالإسلام وحسن العقيدة والتطبيق بطبيعة الحال. ولا يبقى ذلك في
الإسلام أي تفاضل. وإنما الناس سواسية كأسنان المشط ، تجاه عدله الكامل ... يكون
العظيم عنده صغيراً حتى يأخذ منه الحق ، والحقير عنده عظيماً حتى يؤخذ له الحق .
فإذا كان هذا هو الرأي الصريح للإسلام ، وهو الأمر العادل بحكم العقل أيضاً وفطرة
الفكر ، كما أشار إليه سبحانه حين قال :" إنما يتذكر أولوا الألباب ".إذاً ،
فالمهدي (ع) سوف يسير على ذلك أيدولوجيته العامة ، وتفاصيل تشريعه وقضائه ، وكيف لا
، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويطبق الأطروحة العادلة الكاملة.
وقد يخطر في الذهن هذا السؤال :إن الإسلام مهما شجب العنصرية ، فإننا نعرف إلى جنب
ذلك: أن الإمام المهدي (ع) سيأتي بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء جديد. فلعل فيما يأتي
به من الأمور انفاذ العنصرية والإعتراف ببعض حدودها ومعه لا يكون الدليل تاماً.
____________
(1) سبأ : 24/ 28 . (2) الزمر: 39 /9.
(3) الحجرات :49/13 .(4) النساء :4/95-96 .
صفحة (80)
وجواب ذلك :انه سيأتي في مستقبل البحث –أيضاً – أن ما يعلنه المهدي في دولته ، مهما
كان جديداً وعميقاً ومفصلاً ، إلا أنه يتعدى مستوى التطبيقات والتنظيمات للمجتمع
الذي يحكمه ، بالشكل الذي لا يكون خارجاً بأي حال على التشريعات والمفاهيم الرئيسية
في الإسلام ولا مضاداً لها .ومن الواضح أن شجب العنصرية بكل أشكالها من واضحات
الأسلام ونص الكتاب والسنة .إذاً ، فمن غير المحتمل أن يقوم الإمام المهدي (ع)
بتغيير ذلك .
المستوى الثاني :إن دعوة المهدي (ع) ودولته عالمية ، كما هو ضروري الوضوح لكل معترف
به من المسلمين ، وسيأتي التعرض للنصوص الدالة على ذلك بصراحة .
والدعوة العالمية على طول الخط منافية مع العنصرية .ولذا نرى سائر المبادىء في
التاريخ :ممن طمعت بالإستيلاء العقائدي على العالم ، تقف من العنصرية موقفاً ،
سلبياً ، وتعتبرها نظرة ضيقة لا ترقى إلى اسلوبها الواسع وأفقها الرحب .
وحيث كانت دعوة المهدي (ع) عالمية ، إذاً ، فهي تنافي العنصرية كأي دعوة عالمية
أخرى .بمعنى أنه بمجرد أن يتخذ بعض شعارات العنصرية فإن دائرة دعوته ستكون ضيقة ،
وسيتعذر عليه بأي حال ، أن تبقى دعوته عالمية ، وهذا خلاف الضرورة والتواتر عن دعوة
المهدي (ع) .وسيخل بتأسيس الدولة العالمية ،وهو خلاف ما استهدفه هذا القائد العظيم
في ظهوره والغرض الأساسي الذي وجد التخطيط الإلهي من أجله .
وقد يخطر في الذهن : أن ما دل عليه الدليل القطعي . بالضرورة والتواتر هو استيلاء
المهدي (ع) على العالم بأجمعه واتساع رقعته ،وهذا لا ينافي الإعتراف من قبله ببعض
أشكال العنصرية .
والجواب على ذلك :أن استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ، إن كان غزواً عسكرياً
مجرداً ، فهذا الذي قاله السائل صحيح .فإن الغزو العسكري المجرد لأجل الحصول على
السلطة ، يناسب مع الإعتقاد بالعنصرية ومع رفضها فلا يكون مجرد الإستيلاء على
العالم دليلاً على شجب العنصرية .
إلا أن استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ليس مجرد غزو عسكري بل هو دعوة
عقائدية وأطروحة عادلة يريد نشرها وتطبيقها على البشرية أجمعين و تربية البشر على
أساسها تربية صالحة . لتتحقق العبادة المحضة لله عز وجل على وجه الأرض ،كما هو
الغرض الأساسي من الخلق ومن اليوم الموعود .
صفحة (81)
والدعوة إذا كانت عالمية هذا الشكل ، فإنها تكون منافية للعنصرية بالمرة وذلك بعد
الإلتفات إلى مجموع أمرين :
الأمرالأول : إن التطبيق الحقيقي للعدل والتربية العادلة ، لا يمكن إتمامه إلا بجو
من الإنسجام والتقبل النفسي للفرد والجماعة ، لكي تترسخ القواعد الأساسية والسلوك
الصالح في عالم الحياة .وأما مع جو الإنزجار والتأفف والتباعد ، فلا يمكن أن تنال
البشرية مثل تلك النتائج الصالحة ، ومن ثم لا يمكن تطبيق العبادة الكاملة على تلك
الجماعة فيكون مخلاً بالغرض الأساسي لخلق البشرية .
الأمر الثاني :إن الإعتراف بالعنصرية بأي شكل من أشكالها ، يعني أن العنصر الآخر ،
الذي لم يعترف به من البشر ، وقام النظام على الإلتزم بتسافله وخسته أمام العنصر
المفضل، إن هذا العنصر سوف يشعر بالغربة في ذلك النظام وبالتعقيد النفسي والإنزجار
والتأفف تجاهه. بطبيعة الحال.
ونحن إذا لاحظنا العالم ككل لم نجد أي عنصر من العناصر التي يتبناها العنصريون يشكل
أكرية في العالم ، وإنما يشكل الأقلية على طول الخط . وهذا يعني بكل وضوح ، أن
الدولة العالمية لو تبنب أي عنصر من العناصر، وفضلته على غيره ، فإنها تتبنى مصالح
الأقلية من شعبها وتعتبر أكثريتهم من الجنس الأخس الأدنى إذاً فستحس الأكثرية
بالتعقد والإنزجار تجاه تلك الدولة بحكم كونهم محكومين بالخساسة والتسافل في
نظامها. و بالتالي ستتعذر تربيتهم الالحة المطلوبة ، ويكون الغرض من أصل الخليقة
متخلفاً وفاشلاً .
وباستحالة تخلف هذا الغرض ، نعرف لزوم كون الدولة العالمية المهدوية سلبية تجاه
العناصر البشرية ، وحيادية تجاه التفاضل بينها ، وملغية لها كأساس للتفاضل تماماً
...توصلاً إلى التربية العادلة للبشرية اجمعين
وقد يخطر في الذهن كان الفكر الحديث قد طور مفهوم العنصرية ، فقد أصبحت لا تعني
تفضيل عنصر على عنصر ،وإنما كل ما تعنيه هو الإهتمام بمصالح مجموعة معينة مشتركة في
اللغة أو الوطن ـ وغير ذلك ، انطلاقاً من اشتراكها بالمصالح والتاريخ والآمال، وهذا
لا يتضمن تفضيلاً لأحد .
وجواب ذلك : إنه بغض النظر عن أن هذا التطوير لا يخرج بالفكرة عن التحديد والأنانية
، ومن ثم عن العناصر نفسها ... بغض النظر عن ذلك ، فإنها أوضح بعداً عن الفكرة
العالمية المهدوية من العنصرية نفسها ، لأن المفروض فها أفهتمام بمجموعة معينة لا
بمجموع البشر ..ومن الواضح إلى حد الضرورة أن الدولة العالمية تهتم بمصالح و تربية
وآمال مجموع البشرلا بمجموعة معينة مهما كانت صفتها .
صفحة (82)
وقد يخطر في الذهن: أن هذا الإتجاه لا يصح في الدولة العالمية ، ولكنها قد تعطي
للشعوب أو العناصر المختلفة الإهتمام بصفاتها تلك . من دون أن يكون للحكم المركزي
نفسه تركيز على جهة دون جهة .
وجواب ذلك إن هذا غير محتمل أيضاً ، لمخالفة هذا الإتجاه مع العدل الكامل من عدة
جهات ، أوضحها ما يحدث بين العناصر المختلفة من التشاحن والتعاقد نتيجة لحرية
التفاخر والتركيز العنصري ..الأمر الذي ينافي كل المنافات مع العدل الكامل .
نعم . قد تبقى اتجاهات فردية متفرقة ، ناشئة من (لا شعور ما قبل الظهور) تتضمن
الإحساس بأهمية العنصر أو الطبقة ... ولكنها تذوب تدريجياً تحت التربية المركزة
والمستمرة التي تقوم بها الدولة العالمية طبقاً للأطروحة العادلة الكاملة .
المستوى الثالث : الإستدلال بما وردنا من الأخبار الدالة على نفي العنصرية وعلى
وجود الفكرة المنفتحة والمتعادلة من هذه الناحية في دولة المهدي (ع) .
وهي على أنحاء :
النحو الأول : ما دل على أن حكم المهدي (ع) يكون قاسياً وشديدا على العرب
...باعتبار فشل أكثرهم في التمحيص الإلهي حال الغيبة ، وتقصيرهم تجاه الشريعة
الإسلامية . فلو كان الإمام المهدي (ع) عنصرياً لكان يميل إلى أبناء لغته ، على كل
حال .
والأخبار بذلك متظافرة لدى الفريقين : فمنها : ما أخرجه البخاري(1) عن زينب بنت
جحش، أنها قالت: استيقظ النبي (ص) من النوم محمراً وجهه يقول كلا إله إلا الله ،
ويل للعرب من شر قد اقترب ... الحديث .
وتأسف النبي (ص) وتحذيره منصب على انحراف
العرب وخروجهم على شريعته بقرينة الحديث الذي يليه ، والذي يقول فيه ___________
(1) انظر صحيح البخاري ج9 ص60
صفحة (83)
فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر(1). ورواه الترمذي(2) وقال :هذا حديث
حسن صحيح .وأخرجه ابن ماجة في سنته (3).
وأخرج ابن ماجة(4) عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله (ص) : تكون فتنة
تستنظف العرب .قتلاها في النار .اللسان فيها أشد من وقع السيف .
وفيه دلالة واضحة على فشل العرب في التمحيص في عصر الفتن والإنحراف خلال الغيبة
الكبرى ، وهو ما حدث فعلاً ،وحيث نعلم موقف الإمام المهدي (ع) من كل فاشل في
التمحيص .كما سيأتي مفصلاً ، نعرف موقفه من هؤلاء العرب الفاشلين ،
ومنها : ما أخرجه النعماني في الغيبة (5) :
عن أبي بصير ، قال ك قال أبو جعفر(ع) : يقوم القائم بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء
جديد . على العرب شديد ، ليس شأنه إلا السيف ... ولا يأخذه في الله لومة لائم .
وفي حديث آخر (6) عن أبي عبد الله (ع) ، انه قال :
إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف ... الحديث .
إلى غير ذلك من الأحاديث ، الدالة على أن الميزان الصحيح في نظر القائد المهدي (ع)
هو الإيمان والنجاح في التمحيص ، وليس هو اللغة ولا القبلية .فهو لا يميل إلى أهل
لغته : العرب ، ولا إلى قبيلته : قريش . بل يأخذهم أخذاً شديداً نحو طاعة الله
تعالى ، ويعاقبهم على ما سلف منهم من الذنوب.
_________
(1) المصدر والصفحة . (2) انظر الجامع الصحيح للترمذي ج3 ص325
(3) انظر ج2 ص1305منه. (4) المصدر ص1312
(5) ص122 (6) المصدر والصفحة.
صفحة (84)
وفي هذه احاديث عديدة ، اقتصرنا منها على مقدار النموذج .
النحو الثاني : ما دل من الأخبار على أن أصحابه الممحصين الخاصين الذين يجتمعون
إليه ويحاربون بين يديه . ليسوا من عنصر واحد و بل هم من مختلف بلدان العالم .
فمن ذلك :
ما أخرجه الشيخ في الغيبة(1) عن أبي بصير عن عبد الله يقول فيه عن أبي عبد الله (ع)
يقول فيه عن أصحاب القائم (ع ) : فيتوافون من الآفاق ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً وعدة
أهل بدر .
اقول : وفيه دلالة على ورودهم إليه من مختلف البلدان في العالم .
وما أخرجه النعماني في غيته(2) بإسناده عن علي (ع) يقول فيه :
ثم يجتمعون قزعاً كقزع الخريف من القبائل ،ما بين الواحد والإثنين والثلاثة
والأربعة والخمسة والستة والثمانية والتسعة والعشرة .
أقول : وهو نص في عدم التمييز بين القبائل والأنساب في أصحابه ، وإنما الميزان هو
عمق الإخلاص وقوة الإيمان والإرادة .
وأخرج(3)في خبر آخر عن الإمام الباقر (ع) وقال :
أصحاب القائم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً . من أولاد العجم بعضهم .
أقول : والمراد بالعجم غير العرب لا خصوص الفرس ، كما هو معروف في اللغة .
فليس الميزان هو اللغة أو الدم أو العنصر، وإلا لا يقبل المهدي (ع) القائم في
أصحابه إلا العرب ، بل الميزان أمور أخرى اوسع واعمق .
النحو الثالث : ما دل من الأخبار على مشاركة غير العرب في حكم العالم وهداية الناس
تحت ظل دولة المهدي (ع) .
_______________-
(1) ص284 وما بعدها . (2) غيبة النعماني ص168.
(3) المصدر ص170.
صفحة (85)
فمن ذلك : ما رواه النعماني في غيبته بسنده عن الإصبغ بن نباته قال:
سمعت علياً (ع) يقول : كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلمون الناس القرآن ،
كما أنزل :
اقول : وهذا إما يحدث في دولة المهدي (ع) لأنهم إنما يعلمون القرآن على أساس معانيه
الواقعية ، مأخوذة من الإمام المهدي (ع ) نفسه . واما قبل ذلك فهو متعذر بطبيعة
الحال .
المستوى الرابع : في الإستدلال على موقف المهدي (ع) من العنصرية إننا نضم فكرتين
اثنتين واضحتين ، تنتجان نتيجة واضحة .
الفكرة الأولى :إن الإمام المهدي (ع) يسير بسيرة النبي (ص) ويطبق منهجه على المجتمع
والحياة. وهو ما سبق أن أقمنا عليه الدليل .
الفكرة الثانية : إن سيرة النبي (ص) في أصحابه ومجتمعه ، كانت بالضرورة على نفي
العنصرية وشجبها بكل أشكالها ، وإعلان عقيدة الإسلام ونظامه عاماً عالمياً لكل
الناس .وقد جمع في اصحابه بين عبيد المجتمع وأحراره وبين عربه وعجمه وبين مختلف
القبائل، وراسل ملوك العالم في عصره دعوهم إلى الإسلام ، وكلهم لم يكونوا عرباً
.وإن أشهر أصحابه من غير العرب سلمان الفارسي وبلال وصهيب الحبشيان ...وهناك الكثير
وغيرهم .
وأود بهذه المناسبة أن أروي ما أخرجه الترمذي (1) عن أبي هريرة ، قال :
كنا عند رسول الله (ص) حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها .فلما بلغ (وآخرين منهم لما
يلحقوا بهم)(2) قال له رجل : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا .فلم
يكلمه .قال : وسلمان الفارسي فينا .
قال: فوضع رسول الله (ص) يده على سلمان ، فقال:والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان
بالثريا لتناوله رجل من هؤلاء .
قال الترمذي : هذا حديث حسن . وقد روى من غير وجه عن النبي (ص) .
صفحة (86)
(1) انظر الجامع الصحيح: ج5 ص383.
(2) الجمعة : 62/ 3.
أقول: وهو يدل بوضوح على مشاركة غير العرب بالإيمان العميق، عقيدة وتطبيقاً ... إذا
كان المراد جعل سلمان الفارسي (رض) ممثلاً لهم .مع احتمال أن يكون المراد جعله
ممثلاً لمستوى معين في الإخلاص و التفكير ويكون قوله (ص): رجال من هولاء ... يعني
من كان متصفاً بذلك المستوى .
وعلى أي حال، فإن الملاحظ أن هذا الخبر غير دال بالمرة على أن سلمان الفارسي من
الآخرين الذين لم يلحقوا بهم ، المذكورين في الآية الكريمة ، بل هو دال على العكس
،كما هو واضح لمن يفكر. وأما السؤال عن معنى الآية فقد أعرض النبي (ص) عن جوابه .
وعلى أي حال :فما دامت دولة النبي (ص) خالية من العنصرية . إذاً فستكون دولة المهدي
(ع) كذلك ، لأنه يستن بسنته ويسير بسيرته .
الجهة الرابعة : نظام الدولة المهدوية، هل هو مشابه لبعض الأنظمة السابقة عليه ،
كالرأسمالية أو الإشتراكية أو غيرهما ، أولا ؟ .
والذي ينبغي الجزم به أساساً هو النفي المطلق ، وأن شيئاً من الأنظمة الاسبقة على
الظهور، لا تصدق على نظام المهدي ولا تشمله .
و الدليل الحسي التطبيقي ، سوف لن يظهر ، إلا بعد الظهور، حين يتم تطبيق نظام
الإمام المهدي (ع) ودولته العالمية ،ويكون في الإمكان مقارنته بالأنظمة السابقة
عليه مقارنة حسية . وهذا لا يتم في العصر الحاضر بطبيعة الحال .
ولكننا نستطيع طبقاً للأدلة التالية ، الجزم بأن نظام المهدي (ع) مباين ومغاير
تماماً مع أي نظام سابق عليه. وذلك : باعتبار الأدلة التالية :
الدليل الأول: أننا عرفنا أن ألإمام المهدي (ع ) سوف يطبق الإسلام وبصفته الأطروحة
العادلة الكاملة ....وقد تم البرهان في بحوث الفكر الإسلامي على مغايرة نظام
الإسلام لسائر الإنظمة الأخرى .وأنه أطروحة مستقلة لحل مشاكل البشرية لا تمت إلى
الحلول الأخرى بصلة .
ولا مجال لسرد تلك الأدلة في هذا التاريخ ، بطبيعة الحال ، إلا أنها تنتج بعد
التسليم بصحتها مغايرة نظام الإمام المهدي (ع) للأنظمة السابقة عليه ... لأن نظامه
هو الإسلام المغاير لتلك الأنظمة .
صفحة (87)
الدليل الثاني: إننا ننطلق من فكرة الحديث النبوي المتواتر ، القائل :إن المهدي
يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ....ننطلق منه إلى النتيجة المطلوبة
. فإننا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) أن البشرية عامة والأمة الإسلامية خاصة ،
لا بد أن تمر بظروف صعبة وقاسية من الظلم والجور والإنحراف ... لكي تتمخض في نهاية
المطاف عن عدد من المخلصين الممحصين يكفي للقيام بمسؤولية الدولة المهدوية ،ونتيجة
لتلك الظروف (تمتلىء الأرض ظلماً وجوراً) وبجهود هؤلاء المخلصين تحت قيادة الإمام
المهدي (ع) تمتلىء الأرض قسطاً وعدلاً) .
وإذا تساءلنا عن أسباب هذه الظروف ، تكشفت لنا خلال التاريخ المعاصر والسابق ، عن
سلسلة متصلة ومتواصلة من الأسباب الكبيرة ... التي من أهمها أساليب الحكم الفردي
الدكتاتوري التي مورست خلال التاريخ، وجود الكيان الرأسمالي الأوروبي – الأمريكي
وما تبعه من الاستعمار بشكليه القديم والحديث .وما لاقى منه العالم بشكل عام والأمة
الإسلامية بشكل خاص من بلايا وأضرار وكذلك محاولة فرض الحلول المدعاة لمشاكل العالم
على الشعوب عن طريق الغزو الفكري للعالم (2) كما قامت به الشيوعية ، وهي تعلن
إيمانها بحق تقريرالمصير للشعوب ، فيبدو موقفها متهافتاً غريباً .
ولئن كان الرأي العام العالمي ، قد أحيط علماً بحسب التجربة التاريخية القاسية التي
عاشوها بالأضرار الناتجة عن الحكم الفردي والإستعمار الرأسمالي ،فإن الأعوام الآتية
كفيلة بكشف ما في النظام الشيوعي من هنات ونقاط ضعف ومنطلقاً من ذلك نستطيع أن نعمم
ونقول إن أي نظام وضعي بشري المولد ، موجود قبل الظهور ، يمثل في واقعه أهم أسباب
الظلم والإنحراف في العالم ، إن كان بدوره ناتجاً عن ظلم وانحراف سابقيين .... ومعه
فستكون المهمة الرئيسية للإمام المهدي (ع) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، أن يقوم
بتغيير هذه الأنظمة والقضاء على جذورها وتفاصيلها .
الدليل الثالث: إن سائر الأنظمة والقوانين الوضعية قائمة على المادية .وإسقاط
العنصر الإلهي عن نظر الإعتبار، إما بالصراحة كالشيوعية والوجودية ، أو بالخفاء
كالرأسمالية والفاشية والنازية والقوانين الرومانية والجرمانية ، ومتفرعاتها
الحديثة ، فأنها قائمة على أساس دنيوي مادي صرف لا أثرللروح أو لله تعالى فيه .
_________
(1) انظر ص246 وما بعدها .
(2) بل قامت الشيوعية بالغزو العسكري المباشر ، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا عام 1969
وفي انغولا هذا العام أعني 1976.
صفحة (88)
وقد علمنا أن نظام المهدي (ع) سيقوم على ربط الإنسان بربه وتربيته لجسمه وروحه .
والربط بين هذه العناصر ربطاً عادلاً وعميقاً . وستكون كل القوانين المطبقة قوانين
إلهية إسلامية . حتى إن المهدي (ع) نفسه إنما يكون واجب الإطاعة باعتباره أحد أئمة
المسلمين المخولين من قبل الله تعالى للحكم والتقنين والتطبيق .
إذا فسوف لن يكون في دولة المهدي مجال للمادية بشكليها الصريح والخفي وسوف يتم
القضاء عليها قضاء تاما ً.
الدليل الرابع: الإنطلاق من زاوية أخرى من القواعد التي فهمناها عن فكرة المهدي ...
وقد أشرنا إليها في التاريخ السابق .(1)
وهي : أن التخطيط الإلهي قائم على اكتساح التمحيص الدقيق للأفراد والمبادىء ، وبذلك
ينكشف بشكل حسي مبرهن ومدعم بالتجارب الكثيرة والمريرة، عن فشل كل دعوة تدعي لنفسها
حل مشاكل العالم وتذليل مصاعبه، حتى ما إذا انكشفت وبان زيفها ونقاط الضعف فيها
وأيست البشرية من أن تضع حلها لنفسها ...انبثق الأمل في أنفسها من جديد إلى حل جديد
ونظام جديد ينقذها من وهدتها و يخرجها من ورطتها ،وهذا الأمل إحساس نفسي مجمل لازال
في طريق التربية في نفوس البشر، كما هو المحسوس الآن بالوجدان ولا زالت الحوادث وما
ينكشف من مساوىء الأنظمة والفلسفات الوضعية تؤيده وتدعمه .
وهو أمل مجمل ، لا يشيرعلى التعيين إلى الإسلام أو إلى نظام المهدي (ع) .ولكن الله
تعالى يكون قد أعد لخلقه الإنقاذ الحقيقي والعدل الكامل على يد القائد المهدي (ع)
ومخلصيه ،فإذا رأت البشرية نظامه وعدله ، فإنها ستؤمن بكل وضوح أفضليته على كل
التجارب والمدعيات السابقة التي مرت بها ،وانه الحل الأساسي الذي ينقذها من ورطتها
، وبالتالي هو الصورة الحقيقية لذلك الأمل المجمل .وقد أشير إلى هذا التخطيط في
المصادر الخاصة ، في بعض الأخبار ، كالخبر الذي رواه الشيخ المفيد في الإرشاد (2)
والطبرسي في أعلام الورى (3) .و الذي يقول فيه :
إن دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا ، لئلا يقولوا إذا
راوا سيرتنا : إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء .وهو قوله تعالى : والعاقبة للمتقين
.
_________________
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص249 وما بعدها .
(2) انظر ص 344.
(3) انظر ص 432.
صفحة (89)
وليس المراد بحكم (أهل بيت لهم دولة) حكم(الأسر) أو القبائل بل المراد بهم الجماعة
الذين يتخذون أيدولوجية معينة في دولتهم. بقرينة قوله في الحديث : (إذا ملكنا سرنا
بمثل سيرة هؤلاء) فإن من يقول ذلك إنما هم مثل تلك الجماعة ، لا الحاكم القبلي وهو
يخلو حكمه من أي هدف اجتماعي أو عادل ، بحيث لا يكون قابلاً للمقارنة أساساً .
وإنما عبر الحديث الشريف بهذا التعبير بقانون (كلم الناس على قدر عقولهم ) .
وفي رواية أخرى(1) عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (ع) وانه قال :ما يكون هذا الأمر
" يعني دولة المهدي (ع) " حتى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوا من الناس " يعني
باشروا الحكم فيهم" حتى لا يقول قائل :إنا لو ولينا لعدلنا . ثم يقوم القائم بالحق
والعدل .أقول: لأنهم لو قالوا ذلك بعد ظهور القائم المهدي (ع) فإن جوابهم يكون
واضحاً ، وهو أنكم حكمتم وفضلتم في حل مشاكل العالم ، بل كان حكمكم وظلمكم من جملة
مشاكله وويلاته .
إذاً فالتخطيط قائم على كشف الحلول المدعاة للعالم أمام الرأي العام العالمي ، قبل
تولي دولة العدل للحكم وممارستها إياه في الخارج ...وإعطاء روح اليأس من تلك الحلول
عالمياً ، بشكل لا يؤمل معه وجود حل بشري جديد ..كما هو المفهوم من الحصر الموجود
في هذه الأخبار " حتى لا يبقى صنف من الناس إلا قد ولوا من الناس" المستفاد من
الإستثناء بعد النفي .
وهذا معناه بكل بساطة وصراحة تنافي نظام دولة المهدي (ع) مع النظم السابقة وقيامها
على انقاضها وبعد انكشاف زيفها وبطلانها .وهل من المحتمل أن يتبع القائد المهدي في
دولة العدل المطلق ، إحدى النظم التي بان زيفها وفشلها .
إذاً . فقد تبرهن عدم أخذ الإمام المهدي (ع) في دولته بشيء من النظم الاسبقة على
ظهوره .واستغنائه . بالعدل الإلهي المعد لتطبيقه في دولته .
_________
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ً389 نقلاً عن غيبة النعماني .
صفحة (90)
وسوف يشعر الرأي العام العالمي ، بكل وضوح ، بهذا الإستغناء ، فإن من يتخذ أحد هذه
المبادىء الحاضرة مذهباً له وطريقة في الحياة ، يستهدف لا محالة أما الهدف الشخصي
في الحصول على المال والشهرة و السعادة ، أو الهدف العام في الدفاع عن الفقراء
والمضطهدين باعتقاده .وكلا هذين الهدفين يتحقق بأجلى مظاهره في دولة المهدي (ع) ،
على ما سمعناه مجملاً من كثرة المال لدى كل الأفراد في عصره ، وما سنسمعه من سائر
التفاصل في مستقبل البحث .إذاً و يكون بإمكان الهادفين في العالم أن يحققوا النتائج
الجيدة التي يعتقدونها لأهدافهم نظام المهدي (ع) ، ويتخلصوا- في نفس الوقت – من
نقاط الضعف التي كانت فيها .
وبالنتيجة ، فالعنوان العام لأيدولوجية دولة المهدي (ع) وهو الإسلام بصفته النظام
العادل الكامل كما جاء به النبي الأعظم (ص) ولا يمت إلى النظم السابقة عليه ، بصلة
.
صفحة (91)
الفصل الخامس
التخطيط الإلهي لما بعد الظهور
كما يوجد لعصر ما قبل الظهور تخطيطه العام ، وهو الذي شرحناه مفصلاً في التاريخ
السابق ، يوجد لعصر ما بعد الظهور تخطيطه أيضاً .
وهذا القسم هو محل الحديث الآن ، فأن التخطيط الإلهي العام لتكامل البشرية ، لا
يكون منقطعاً بحصول نتيجة التخطيط السابق ، بل يكون مواكباً مع البشرية إلى نهايتها
بمقدار استحقاقها في وضعها العادل الجديد .... وسيهدف عندئذ نتيجة أبعد تمت إلى
عميق العدل والتربية البشرية بصلة .
فهذا التخطيط وهو الإمتداد الطبيعي السابق ، والموافق – أيضاً – للموازين الثايتة
في الفلسفة الإسلامية القائلة : بأن الله تعالى يفيض نعمة الكمال على كل موجود بقدر
استحقاقه ،فإذا كانت درجته من الكمال دانية كان استحقاقه منحصراً في الرتبة
الكمالية التي فوقها مباشرة .وإذا كانت درجة الموجود عالية في الكمال ، كان
استحقاقه لدرجة أعلى من الكمال متحققاً ، والله تعالى كريم مطلق فيفيض عليه الكمال
الجديد .فإنه سيستحق رتبة أخرى ، وهكذا يسير في طريق الكمال اللانهائي .
وإذا طبقنا ذلك محل الكلام ، نقول : إن البشرية بعد اجتماع شرائط الظهور ، طبقاً
للتخطيط السابق . تكون مستحقة لدرجة جديدة من الكمال وهو تطبيق العدل الكامل فيها ،
بواسطة ظهور المهدي (ع) .
وبتطبيق العدل تكون البشرية قد بلغت درجة أعلى من الكمال تستحق بعدها درجة أعلى وهو
عمق هذا العدل وترسخه ، إلى أن تصل إلى استحقاق صفة " العصمة " حيث يوجد المجتمع
المعصوم كما سوف نشير في مستقبل البحث .
صفحة (93)
وبهذا يتبرهن فلسفياً ما بعد الظهور ....
إلا أن انتاج هذا التخطيط لنتائجه النهائية منوط ببقاء البشرية مدة كافية من الدهر
لكي تتربى على عمق العدل ورسوخه ولكي نصل في نهاية المطاف إلى الكمال الإنساني
الأعلى .وأما إذا انتهت حياة البشرية جميعها وقامت القيامة خلال زمن قصير ينسد باب
الترقي و التكامل بطبيعة الحال .
ومن هنا ينفتح احتمالان :
الإحتمال الأول : قصرعمر البشرية بعد الظهور ، وتحقق اليوم الموعود .
الإحتمال الثاني : بقاء البشرية لفترة طويلة من الدهر بعد ذلك .
ولكل من الإحتمالين مرجحاته، على ما سنذكر – على حين لم يكن للإحتمال الأول وجود في
التخطيط السابق. باعتبار ضرورة انتاجه لليوم الموعود . وذلك لأكثر من دليل :
الدليل الأول : كونه وعداً إلهياً . والله لا يخلف الميعاد .وذلك في قوله عز وجل :"
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين
من قبلهم ،وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم..."(1)
الدليل الثاني: كونه غرضاً أصلياً في خلق البشرية ، ومن المستحيل أن يزول الشيء من
الكون قبل أن يستوفي غرضه . وقد سبق في التاريخ السابق(2) أن برهنا على كونه غرضاً
.وسيأتي في الكتاب الآتي تركيزه بشكل أوسع وأعمق .
وهذا هو الذي اشارت إليه الأخبار من الفريقين . فمنها :
ما أخرجه النعماني في الغيبة(3) بسنده إلى أبي هاشم الجعفري ، قال : كنا عند أبي
جعفر محمد بن علي الرضا (ع) ، فجرى ذكر السفياني ، وما جاء في الرواية من أن أمره
المحتوم . فقلت لأبي جعفر (ع) : هل يبدو لله في المحتوم . قال : نعم .قلنا له :
فنخاف أن بدو في القائم . فقال : إن القائم من الميعاد ، والله لا يخالف الميعاد .
__________________-
(1) النور: 24/55. (2) تأريخ الغيبة الكبرى ص225.
(3) ص142.
صفحة (94)
ومنها : ما أخرجه أبو داود (1) عن زر عن عبد الله عن النبي (ص) قال:
لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني – أو من
أهل بيتي - يواطىء اسمه اسمي ... الحديث .
وأخرج أيضاً (2) عن علي (ع) عن النبي (ص) : قال:
لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي ... الحديث .
وهذه التأكيدات في الأخبار كثيرة ومتضافرة ، وكلها دالة على ضرورة تمخض التخطيط
الإلهي السابق عن وجود اليوم الموعود . وعدم فناء البشرية قبله.
وأما بالنسبة إلى التخطيط الموجود بعد الظهور . حيث يكون الوعد قد تحقق والغرض
الأساسي من خلق البشرية قد انجز ، فقد يبدو أنه لا حاجة لبقاء البشرية بعد ذلك ،ولا
دليل عليه .
وستأتي مناقشة ذلك مفصلة في القسم الثالث من هذا التاريخ ، غير أن الصحيح هو طول
عمر البشرية ، لأجل دليلين رئيسين :
الدليل الأول : أننا فهمنا في التاريخ السابق(3) من قوله تعالى "وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون "(4)، فهمنا : أن الغرض الأساسي من خلق البشرية هو إيجاد
العبادة الكاملة في ربوعها .وفهمنا هناك (5) من العبادة الكاملة وجود المجتمع
الصالح والدولة العالمية الصالحة .
فلو أننا اقتصرنا على هذا المقدار من الفهم ، لكان الغرض من خلق البشرية متحققاً
بمجرد تأسيس المهدي (ع) لدولته العالمية العادلة .ومعه فقد يخطر في الذهن :أن
المقصود هو إيجاد هذا النوع العالي من العبادة ولو في فترة قصيرة من الزمن . فلا
بقى أي دليل على استمرار البشرية بعد ذلك ردحاً طويلاً من الزمن ، إن لم يكن ذلك
مستحيلاً ، لأن بقاء الشيء بعد استيفاء لأغراضه محال في الحكمة المطلقة .
__________
(1) ج2 ص42. (2) المصدر والصفحة .
(3) تاريخ الغيبة الكبرى ص235. (4) الذاريات : 51/56.
(5) ص224.
صفحة (95)
لكننا نريد في هذا الدليل أن نخطو خطوة جديدة في فهم هذه الآية .وهي :إن المعنى
الذي ذكرناه للعبادة وإن كان مهماً ورئيسيأ جداً ...إلا أنه ليس نهائياً بحال . بل
هناك مراتب أعلى من العبادة تكون تلك المرتبة الأولى مقدمة لها وإعداداً لإيجادها ،
وكلها ممكنة الحصول من البشرية واتصفاها بها في المدى الطويل ، كما سيتضح عند
استعراضها .
وبطبيعة الحال، كما تصورنا مرتبة من العبادة ممكنة للبشرية ، كانت مندرجة في مدلول
الآية الكريمة ، لعدم وضع الآية أي تحديد على مفهوم العبادة فيكون إيرادها مطلقة ،
دليلاً على إيراد العبادة المطلقة .
إذاً ، فالغرض الأساسي من خلق البشرية أبعد بكثير من مجرد وجود الدولة العالمية ،
وإنما وجدت هذه الدولة العظيمة .وخططلها في تاريخ البشرية الطويل من أجل هدف أعلى
وأمامها . ويكفينا الآن أن نعبر عنه بـ(العبادة المطلقة) لخالق الكون ، حتى يأتي في
مستقبل البحث ما يلقي الأضواء الكافية على هذا المفهوم .
إذاً، فوجود الدولة العالمية ، لا يعني نجاز الغرض الأقصى من خلق البشرية وتحققه في
عالم الوجود ، بل هو لم يوجد بتأسيس هذه الدولة ، ولازال أمام البشرية الكثير لكي
تصل إليه .
إذاً ، فلا معنى لقصر عمر البشرية بعد تأسيس هذه الدولة ، بل لا بد أن تبقى حتى
تستوفي لغرضها الأعمق ، إذ يستحيل تخلف الأغراض في الحكمة الإلهية الأزلية .
الدليل الثاني : أنه يستبعد ان يكون زمان النتيجة اقصر بكثير من زمان المقدمات .
فإننا عرفنا كم من الزمان يستغرق إعداد البشرية لليوم الموعود ...وهو كل عمرها منذ
أول وجودها إلى حين نجاز ذلك اليوم العظيم .وهو ما لا يقل عن عدة الآف من السنين ،
إن لم يكن أكثرمن ذلك ، كما عليه أنصار الفكر الحديث .وقد استوعبت هذه المدة ملايين
الحوادث من تضحيات البشرية وآلامها ومظالمها . ومن جهود الأنبياء والأولياء
والمصلحين والشهداء ، ومن ظروف التمحيص الإلهي ، وما أدته البشرية من خيرات وما
ارتكبته من جرائم ، فإن كل ذلك ، كان مقدمة لليوم الموعود ، وإعداداً لحصول شرائطه
المطلوبة التي لا يمكن تحققه بدونه ، كما عرفنا من التخطيط الإلهي السابق على
الظهور .
وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق مفصلاً .
_________
(1) انظر الفصل الخاص بالتخطيط الإهي ص233.
صفحة (96)
فهل من المعقول أن تستمر المقدمات آلافاً من السنين ، ثم لا تكون النتيجة غير تسع
سنوات أو أقل، كما تدعي الفكرة التقليدية .إن هذا في غاية البعد بحكم العقل .فإنه
يعني بكل وضوح استخدام الأجيال البشرية المتطاولة في سبيل إسعاد جيل أونصف جيل !!
إن هذا قبيح عقلاً ومستحيل في الحكمة المطلقة الأزلية .
وتبقى هذه الإستحالة سارية المفعول ما لم تصل النتائج أعني أجيال ما بعد الظهور .
إلى حد من الكثرة بحيث تكون التضحية بالأجيال السابقة في سبيلها من قبيل التضحية
بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة ، أو بالمصلحة القليلة في سبيل المصلحة
الكبيرة فليكن القارىء متذكراً لذلك .حتى يأتي موضع الحاجة منه وإيضاحه .
وإذا تم البرهان على طول عمر البشرية بعد الظهور ، وعدم وصولها إلى هدفها الأسمى
بمجرد حصوله: إذاً، فمن اللازم التخطيط لهذا الهدف خلال هذا العمر إذ لا يوجد شيء
مهمل في هذا الكون .ولا بد من إعداد البشرية بالشكل الذي يمكنها الوصول إلى ذلك
الهدف ، كما كانت قد أعدت للتشرف بلقاء اليوم الموعود .
ومعه يكون قد تبرهن هذا التخطيط وثبت ثبوتاً كاملاً . ولا بد لنا فيما يلي أن نعطي
المؤدى العام لهذا التخطيط. فنتعرف على صياغته وخطواته ، كما تعرفنا على صياغة
وخطوات التخطيط السابق عليه .
ما بين التخطيطن :
إذا كان المقصود من التخطيط الإلهي السابق ، هو التوصل إلى ظهور المهدي (ع) وحسب ،
إذا ً، يكون هذا التخطيط منتهياً في لحظة الظهور.
إلا أن التخطيط الجديد سوف لن يبدأ بلحظة الظهور بطبيعة الحال، لأن تخطيط للعالم
الذ يتم فيه تطبيق العدل للسير باتجاه (العبادة المطلقة) . وهذا التطبيق لا يتم في
اللحظة الأولى ...بل يحتاج إلى جهود عميقة وواسعة من قبل القائد المهدي (ع) وأصحابه
المخلصين . في غزو العالم عسكرياً وثقافياً والسيطرة عليه تماماً .فإذا تمت وأثمرت
هذه الجهود . يكون التخطيط قد بدأ .
ومن ثم نواجه في فهم الموقف ثلاث اطروحات محتملة :
الأطروحة الأولى :أن هناك ما بين التخطيطين ، فترة من الزمن محدودة ، ذات تخطيط خاص
بها ، يستهدف سيطرة القائد المهدي (ع) على العالم واستتباب الدولة العالمية العادلة
...
صفحة (97)
حتى ما إذا أثمرت جهوده ، وتم تطبيق العدل الكامل على العالم ، كان اول يوم لذلك ،
وأول يوم لتطبيق العام الجديد .
الأطروحة الثانية :إن الأطروحة الاولى لا تخلو من تسامح في التصور .فإن ظهور الإمام
المهدي (ع) لم يخطط لإيجاده بمجرده ، بل خطط له من أجل تأسيس الدولة العالمية
العادلة ، وقد كانت شرائط الظهور التي عرفناها ، وبرهنا عليها في التاريخ السابق
(1).
شرائط لهذا الهدف ... وإنما كانت شرائط للظهور نفسه ، باعتبار كونه المقدمة
الرئيسية الأخيرة له أيضاً .
إذاً فإنتاج التخطيط الاسبق كاملاً لا يكون إلا بتأسيس الدولة العالمية ، ومعه تكون
جهود الإمام المهدي (ع) وأصحابه للسيطرة على العالم داخلة في التخطيط السابق نفسه ،
باعتبارها الحلقة الأخيرة لهذه النتيجة الكبيرة
فإذا تم تطبيق العدل وتأسيس الدولة العادلة ، يكون التخطيط السابق قد انتهى .
وبلحظة البدء بتطبيق العدل تكون بداية التخطيط الثاني ، ولا يكون التخطيطين فاصل
زماني ملموس .
الأطروحة الثالثة : إن فترة السيطرة على العالم بالعدل والجهود المبذولة في هذا
السبيل ، داخلة في التخطيط الجديد ، لافي التخطيط السابق .
وذلك: بأن نفترض ان الهدف من التخطيط السابق هو الظهور نفسه ، بصفته كاشفاً عن
القائد العالمي المؤسس لدولة العدل الكبرى . بهذا ينتهي هذا التخطيط عند الظهور .
ولا معنى لبقائه بعد تحقق نتيجته .
ويبدأ التخطيط الجديد من حين الظهور فصاعداً ، وتكون فترة السيطرة على العالم
بالعدل مندرجة فيه، باعتبارها مقدمة لهدفه ،فإنه يستهدف إيجاد (العبادة المطلقة) في
ربوع البشرية ، وهذا الهدف يحتاج إلى مقدمته الرئيسية وهي إيجاد الدولة العالمية
العادلة ، وهذه الدولة تحتاج إلى السيطرة على العالم بطبيعة الحال في أو لتأسيسها .
ومن هنا تكون الجهود المبذولة في هذه السيطرة واقعة في هدف التخطيط الثاني ، فتكون
مندرجة فيه
.________
(1) تأريخ الغيبة الكبرى ص476 وما بعدها.
صفحة (98)
وبالرغم من أن ما عرضناه خلال الأطروحة الثانية كاف للقول بأنها هي الصحيحة وإلا أن
نتيجة هذا البحث تبدو وكانها مجرد اصطلاح ، فإنه سواء كانت فترة السيطرة على العالم
بالعدل مندرجة في التخطيط السابق أو في التخططي اللاحق ، فإنها واقعة في خط تكامل
البشرية العام الذي لا بد منه باستمرار . وإنما عقدنا هذا البحث لأجل إيضاح جوانب
الفكرة لا أكثر.
صفحة (99)
الأسس العامة
لتخطيط ما بعد الظهور
إذا أردنا التعرف على أسس وتفاصيل التخطيط العام لما بعد الظهور ، لا بد لنا من
التفاتة إلى ما سبق أن قلناه في التمهيد ، من أنه يتعذرعلى الباحث الذي يعيش الفترة
السابقة على الظهور أن يدرك العمق الحقيقي الإتجاهات القانونية والفكرية العميقة
التي تكون سائدة بعد الظهور ، وعند تطبيق العدل الكامل على العالم .
ومن هنا ينبغي أن تبقى التفاصيل والتفريعات مصونة في الغيب إلى حين تحققها ، وإنما
غاية جهد الباحث أن يدرك الخطوط العريضة والقضايا العامة المهمة التي يمكن الإطلاع
عليها في حدود الثقافة الإسلامية الموجودة في العصر الحاضر .
وبذلك نعرف إحدى نقاط الإختلاف بين التخطيطين .فإن التخطيط الإلهي السابق متخذ
للسير بالبشرية الماضية والحاضرة إلى نتائجها المطلوبة ....
وبتعبير أوضح أننا بحسب وجودنا في هذا الزمن نعيش التخطيط الساري المفعول فيه .
ومن هنا يكون اطلاعنا على تفاصيل هذا التخطيط ممكناً ومتيسراً إلى حد كبير ، عن
طريق القواعد العامة المعروفة وعن طريق ما هو مشاهد بالوجدان مما قد تحقق من حلقاته
وتفاصيله . كما سبق أن عرضنا ذلم مفصلاً في التاريخ السابق .
وإما تخطيط ما بعد الظهور ، فيحتوي على عدة نقاط ضعف في التعرف عليه :
أولاً : بعدنا الزماني عنه ، بحيث لا يمكن مشاهدته بالوجدان ،ولا أن يصل منه شاهد
عيان .
ثانياً : أننا نقتصر في الغالب - في التعرف عليه القواعد العامة ، وهي لا تعطي إلا
العموميات ، ولا يمكنها الوصول إلى التفاصيل.
ثالثاً : أننا نجهل القوانين الجديدة والنظم التي ستكون معلنة في ذلك العصر، الأمر
الذي يوفر لنا طريقاً سهلاً، في معرف ة التخطيط لو كان متوفراً ،
إلى غير ذلك ، مما يحدونا إلى الكفكفة من غلواء البحث ، والإقتصار في النتائج على
مقدار الإمكان .
صفحة (100)
والكلام في ذلك يقع ضمن جهات ثلاث :
الجهة الأولى : في الخصائص العامة للمجتمع الذي ينطلق منه التخطيط ، وهو المجتمع
العالمي الذي يتم فيه حكم الإمام المهدي (ع) وتطبيق العدل الكامل لأول مرة .
وإزالة العوائق التي يمكن أن تشكل خطراً عليه . وليس معناه صياغة كل نفوس الأفراد
صياغة إسلامية عادلة كاملة لأول وهلة .
إن المهدي (ع) سيقتل عدداً كبيراً من الأفراد ممن فشل في التمحيص الموجود في
التخطيط الإلهي السابق ، وأصبح يشكل خطراً على العدل الكامل في المجتمع الجديد، على
ما سيأتي تفصيله... ولكن سيبقى – مع ذلك– عدة فجوات ونقاط ضعف في العالم ، يكون على
التخطيط الجديد بشكل عام ، وعلى المهدي (ع) بشكل خاص، ملؤها وتذليل مصاعبها مما لا
يؤثر فيه الفتح العسكري عادة .
النقطة الأولى : وجود أهل الذمة ، وهم الشعوب التي تؤمن بالأنبياء السابقين على
الإسلام .وسيسمح لها – بمقتضى القواعد الإسلامية المعروفة الآن – البقاء على دينها
مع دفع الجزية ... ويكون لها أن تدخل في دين الإسلام طواعية .
النقطة الثانية : وجود المذاهب المتعددة من معتنقي الإسلام ، ممن لا يظهرون معارضة
للنظام الجديد .
النقطة الثالثة : نقص الثقافة الإسلامية العامة ، بالنسبة إلى العالم الذي يواجه
قوانين الإسلام لأول مرة ، وهي الشعوب التي كانت كافرة قبل الظهور ، ورضيت بالإسلام
ديناً بعده .
النقطة الرابعة : نقص الثقافة الإسلامية العامة ، في الأمة الإسلامية نفسها ، نتيجة
لبعدها عن الإسلام في عصور الفتن والإنحراف .
النقطة الخامسة : نقص الثقافة الإسلامية في الأمة خاصة وفي البشرية عامة ، بالنسبة
إلى القوانين الجديدة التي يصدرها القائد المهدي (ع) والأفكار العميقة التي يعلنها
، ريثما يتم إعلانها وتوضيحها للناس .
صفحة (101)
النقطة السادسة : نقص الإخلاص وقوة الإرادة لدى الأعم الأغلب من المسلمن فإن غاية
ما تمخض عنه التخطيط الإلهي الأول ، هو وجود الإخلاص العميق لدى جماعة من المسلمين
، ولم يؤثر – بطبيعة الحال- نفس الأثر في مجموعهم كيف وإن الأرض امتلأت ظلماً
وجوراً .
فهذه أهم نقاط الضعف من الناحية الدينية ، التي يزخر بها المجتمع الدي يواجهه
المهدي (ع ) لأول وهلة . وهي النقاط الأهم تأثيراً في بناء الدولة العالمية ،
باعتبار ما عرفناه ، من أن الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة التي يقوم الإمام
المهدي (ع) بتطبيقها ، والأمة الإسلامية هي الأمة الرائدة في خضم تلك الجهود
البانية للدولة . فأي صعوبة في هذه الأمة تعني الصعوبة في نيل الهدف أيضاً .
وأما الصعوبات (الدنيوية) لو صح هذا التعبير ، وأعني بها الصعوبات ونقاط الضعف
الموجودة في الإتجاهات غير الدينية ، وما انتجته النادية والعلمانية من ويلات في
العالم فهي أكثر من أن تذكر او تحصر.
وإذ يواجه نظام الإمام المهدي (ع) كل هذه المصاعب ، سيكون مسؤولاً عن اتخاذ الخطوات
الحاسمة اللازمة لحل كل مشكلة وتذليل كل عقبة ، وسيكون على مستوى المسؤولية بعد أن
كان متدرعاً بالسلاح ومتذرعاً بالإخلاص ، ومنطلقاً من الأطروحة العادلة الكاملة ،
ومتصفاً بصفات شخصية عليا ، حاولنا أن نحمل عنها فكرة في التاريخ السابق (1) الأمر
الذي قلنا أنه ييسر له القيادة والتطبيق العادل في اليوم الموعود .
الجهة الثانية : يستهدف هذا التخطيط الثاني ، الكمال الإنساني الأعلى للبشر، في
الحدود الممكنة له على هذه الأرض ، فهو يوفر الأرضية الكافية لتكامل الإنسان إلى
غاية ما يمكن أن يحصل عليه من الكمال ... حتى يكون بالتدريج البطيء في إمكان الفرد
أن يكون معصوماً ، وأن يتكامل في عصمته(2).
______
(1) انظر : من صفحة 504 إلى ص520.
(2) أعني من العصمة ما يسمى ب(العصمة غير الواجبة) وهي التي ينعدم فيها احتمال
الظلم والعصيان دون الخطأ والنسيان . وسيأتي إيضاحه في الكتاب الآتي ،وأما التكامل
فيما بعد العصمة فقد برهنا ممن التاريخ السابق على إمكانه .
صفحة (102)
وليس معنى ذلك أن البشر جميعاً يكونون لأول وهلة ، على هذا المستوى العالي .بل
معناه توفير الطريق لأن ينال كل فرد من هذا الهدف بمقدار قابلياته الشخصية ،
وبمقدار ما يؤدي من إطاعة وتضحيات في سبيل الحق والعدل .
وهو من هذه الناحية يشبه ما رايناه في التخطيط السابق على الظهور .فإنه كان يستهدف
– فيما يستهدف إليه - تعميق الثقافة الإسلامية في الأمة(1) وتقوية الإرادة
الإيمانية تجاه المشاكل .وقد راينا كيف يأخذ الناس من هذه الأهداف بمقدار قابلياتهم
ومقدار ما يؤدونه من تضحيات ، وكيف ينتج هذا التخطيط تكاملهم التدريجي البطيء.
غير أن هذا التخطيط الجديد يختلف عن سابقه في نتيجته ، فإنه بينما رأينا في التخطيط
السابق أنه لم يتصف بالنجاح الحقيقي خلاله إلا عدد قليل نسبياً . فإن هذا التخطيط
الجديد سيشمل بالنجاح أكثر الأفراد ، وسيصل في المدى البعيد كل الأفراد إلى المستوى
المطلوب ، بالتدريج البطيء.
وسيأتي في مستقبل هذا البحث أن المجتمع البشري ، نتيجة للتدابير الآتية التي تضعها
الدولة العالمية ، سيمر بمرحلتين من العصمة :
المرحلة الأولى : أن يكون الأفراد غير معصومين ولكن الرأي العام المتفق عليه بينهم
معصوماً .وقد أشرنا في التاريخ السابق(2) إلى ذلك مختصراً . وسيأتي في مستقبل البحث
ما يزيده أيضاحاً .
المرحلة الثانية :أن يكون كل الأفراد معصومين ... بتلك العصمة القائمة على أساس
العدل الكامل مفاهيمياً وتشريعياً ، الذي كان ولا زال - في تلك الفترة - مطبقاً منذ
عهد بعيد . وسيأتي ما يوضح ذلك أيضاً .
الجهة الثالثة : في التعرف على تفاصيل التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور وأسسه
العامة بمقدار الإمكان. تلك التفاصيل والأسس التي يمكنها أن تحول المجتمع الذي
عرفنا نقاط ضعفه في الجهة الأولى ، إلى الصفات الكبرى التي حملنا عنها فكرة كافية
في الجهة الثانية .
_____
(1) يسير هذا العمق إلى جنب الشعور الديني ..ومن هنا لم يكن وجود هذا العمق في
الثقافة الإسلامية لدى عدد كبيرفي الأمة ، منافياً مع وجود الضحالة من هذه الجهة
لدى عدد كبير أيضاً ، كما أشرنا غير بعيد ، في النقطة الثالثة من نقاط الضعف .
(2) تاريخ الغيبة الكبرى ص481
.صفحة (103)
ونحن إذ نتحدث عن هذه الأسس ، إنما نتحدث عما يمكن أن يكون كذلك في الفترة الأولى
للدولة العالمية ، وهي التي تسبق المجتكع المعصوم بكلا قسميه ، فإن هذا أقرب إلى
إمكان التعرف عليه من تلك المجتمعات العليا المتأخرة . فإننا سبق أن أكدنا عجز
الباحث عن إدراك العمق الحقيقي للفكر والتشريع لما بعد الظهور، وهذا ثابت منذ تأسيس
الدولة العالمية ، فضلاً عن المجتمعات المعصومة .إذاً فليس لنا أن نعرف عن
المجتمعات المعصومة شيئاً مفصلاً.
وما يمكن لنا الآن تصوره ولإثباته بالقواعد العامة ، من الأسس لتلك الفترة . ما يلي
:
الأساس الأول : تربية العالم ثقافياً من جهة الإسلام الواقعي أو العدل الكامل الذي
يقوم عليه نظام المهدي (ع) في دولته العالمية .
ويعطي من ذلك لكل فرد ولكل شعب ما يحتاجه من اساليب التثقيف ومقداره ، بشكل تدريجي
وعلى مراحل . وكلما طويت مرحلة ، استحق الفرد أو الجماعة مرحلة جديدة من القافة .
فالشعوب غير المسلمة ، سوف تدعى إلى الإسلام . وسوف يعتنقونه باقتناع وسهولة ،
نتيجة لأسباب التي سوف نذكرها بعد ذلك . وكل من اسلم من جديد أو هو مسلم سلفاً سوف
يربى على الثقافى الإسلامية العامة الضروية لوجود الطاعة والإبتعاد عن المعصية . إن
لم يكن قد نال ذلك نتيجة للتخطيط الإلهي السابق .
وكل من تربى إلى هذه الدرجة ، فإنه يعطي الثقافة التي تؤهله إستيعاب الأفكار
والمفاهيم والقوانين الجديدة التي تعلن في ذلك العهد . طبقاً للمصالح الموجودة
يومئذ.
ثم يبدأ التصاعد والتكامل الثقافي من هذه الدرجة أيضاً ، ويأخذ كل فرد من البشر من
ذلك بقدر قابلياته وجهوده أيضاً.
ولئن كانت المراحل الأولى والاسس الرئيسية من هذا التثقيف ، سينجزها الإمام المهدي
(ع) بسهولة وسرعة، على ما سوف نسمع في هذا التاريخ إلا أن المراحل المتأخرة التي
تعتبر تفريعاً وتطبيقاً للأسس وسوف تكون تدريجية وبطيئة ، طبقاً تربية كل أمة .
الأساس الثاني : تربية البشرية من حيث الإخلاص وقوة الإرادة تجاه المسؤوليات
الجديدة في دولة العدل.
ويكون الأسلوب العام في ذلك مشابهاً في الفكرة للأسلوب الذي كان متخذاً في التخطيط
الأول .وهو مرور الفرد بمصاعب وعقبات تجاه العدل ، ليرى موقفه منها ورد فعله تجاهها
، فإن وقف موقفاً إسلامياً عادلاً كان ناجحاً في هذا التمحيص وإلا كان فاشلاً .
صفحة (104)
لكن يختلف سبب التمحيص في التخطيط السابق عنه في هذا التخطيط الجديد ، فإننا قلنا
في التخطيط الأول أن ظروف الظلم والإنحراف كافية في التمحيص ، من حيث رد الفعل
الإسلامي الصحيح من الفرد تجاهها .واما التخطيط الثاني . فسوف لن يكون لعصور الظلم
وظروف الفساد اي أثر وإنما ينبثق التمحيص في العهد الجديد من المسؤوليات التي
يفرضها التمسك بالعدل الكامل وتطبيقه ، والمحافظة على بقائه في علاقة الفرد مع نفسه
ومع ربه ومع الآخرين ومع النظام القائم ... تلك العلاقات التي يتوقع من الفرد
خلالها رد فعل إسلامي عادل كامل .
وسوف يكون التمحيص شاملاً لكل فرد بمقدار قابلياته وثقافته ، لأنه يتناسب دائماً مع
ارتفاع القافة تناسباً طردياً مطرداً ... إذ يقبح على الله عز وجل أن يوفر للفرد
امتحاناً وتمحيصاً يكون الفرد فيه فاشلاً باليقين، فإن ذلك خلاف العدل الإلهي ،
وإنما يكون التمحيص على مقدار الثقافة والقابلية دائماً ، حتى ما إذا وصلت الثقافة
قمة عالية . كان التمحيص في غاية الدقة والصعوبة ، وكان النجاح المتوقع منها نجاحاً
مناسباً لتلك المرتبة ، والفشل الصادر فيها مسجلاً بأدق الموازين وبأهون العثرات .
وقد وردت في أخبار المصادر الخاصة ، نماذج التمحيصات التي يقوم بها المهدي (ع) في
الفترة الأولى من عهده ، تجاه الأمة عامة وتجاه وتجاه أصحابه الخاصين ممن نجحوا في
تمحيص التخطيط الأول – خاصة . على ما سوف نعرف تفصيله في ما يأتي .
وقد يخطر في الذهن :انه ما الحاجة إلى التمحيص في التخطيط الإلهي الجديد ، وإنما
كانت الحاجة في التخطيط الابق إلى التمحيص ، لإيجاد العدد الكافي من أفراد الجيس
الفاتح للعالم بين يدي المهدي (ع) .وقد أنجز هذا الجيش عمله وانتفت الحاجة إلى مثله
،فلماذا يستمر التمحيص ساري المفعول في البشر .وجواب ذلك : أن ناموس الله في خلقه
هو تربيتهم عن طريق التمحيص .كما دل عليه الكتاب الكريم في عدد من آياته ،والسنة
الشريفة ، منها ، قوله تعالى :"ما كان الله ليذر المؤمين على ما أنت عليه ،حتى يميز
الخبيث من الطيب"(1)
______
(1) آل عمران : 3/179.
صفحة (105)
فإنه قانون عام لإختبار طاعة الأفراد في عصر ما قبل التمحيص ... وهو كل عصر يواجه
فيه الناس دعوة جديدة وتربية جديدة لم تختبر مواقفهم تجاهها ، ولم تعرف ردود فعلهم
حيال المشاكل التي تعترضها فلا بد أن تمر الأمة المسلمة خلال هذا القانون ، ليكون
له الأثر الفعال في تربية الأفراد وتعميق إخلاصهم وتقوية إرادتهم تجاه المشاكل
.وبذلك يتميز الخبيث من الطيب ، ويعرف من يكون له موقف إسلامي صحيح تجاه المصاعب
والعقبات . ومن يكون ذا موقف منحرف باطل .وهذا ميز واقعي بين الأفراد يمت إلى
اختلاف قابلياتهم ومسبقاتهم الفكرية والعقلية والنفسية بصلة ... قبل أن يكون مجرد
انكشاف لدى الآخرين .
وقد سمعنا كيف أن هذا القانون ، كان شاملاً لدعوات الأنبياء السابقين على الإسلام ،
ومشاركاً في تربيتهم مشاركة فعالة ، وقد شرحناه في التاريخ السابق(1) وقلنا(2) أن
الحاجة – مع ذلك – تعن إلى سريان قانون التمحيص إلى ما بعد الإسلام لتتربى البشرية
طبقاً لمفاهيم وتشريع الأطروحة العادلة الكاملة .
وكما واجه المجتمع المؤمن دعوة جديدة في صدر الإسلام ، فكان مقتضى هذا القانون
تمحيص الأفراد على أساسه خلال تربية الأجيال تربية بطيئة وطويلة وهذا هو التمحيص
الساري في تخطيط ما قبل الظهور .كذلك سوف يواجه المجتمع المؤمن والبشرية جمعاء دعوة
إسلامية جديدة بعد اندراس الإسلام وعوده غريباً أو نسيان وعصيان الكثير من أحكامه
.وسيواجه في هذه الدعوة الجديدة نظاماً وقوانين ومفاهيم ، لم يكن له بها ساق عهد
إلى القواعد الإسلامية السابقة .
ومن هنا يكون المجتمع بالنسبة إلى هذه الدعوة الجديدة ، مجتمع ما قبل التمحيص.
ويحتاج بمقتضى هذا القانون الشامل إلى أن يمر بعصر التمحيص خلال تربية طويلة وبطيئة
، لتتميز مواقف الناس تجاه النظام الجديد والدعوات الجديدة .ويأخذ كل فرد على قدر
قابلياته وجهوده من النجاح والتكامل خلال التمحيص ،ما يستطيع .
وبينما كان التمحيص السابق ، ينتج فشل الأعم الأغلب من البشر ، كما عرفنا فإن هذا
التمحيص وبصفته مدعماً بالأسس ، التي سنعرفها ، ينتج نجاح الأعم الأغلب من البشر ،
وسيكون النجاح مطرداً ، حتى تصل البشرية في النتيجة إلى المجتمع المعصوم .
______
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص255 وما بعدها .
(2) المصدر السابق ص266
صفحة (106)
الأساس الثالث للتخطيط الجديد: توفير جو من السعادة والرفاه المادي المتزايد ، تحت
جو من الأخوة والتضامن والعدل الكامل . بأساليب معينة ستأتي في القسم الثاني الآتي
من الكتاب .
والأساس النظري لإيجاد هذا الرفاه ، ليس هو مجرد نيل اللذة لأنها مهما كانت مهمة ،
فإنها لا تكفي وحدها للسير بالبشرية نحو هدفها المقصود النهائي ... وإنما يلاحظ
الرفاه المادي بمقدار مايستطيع أن يؤثر في ذلك الهدف البعيد ويربي البشرية باتجاهه.
وذلك : من زاوية أن الرفاه المادي متناسباً مطرداً ، مع توفير الجو الكافي لذلك،
ولايمكن أن يكون عائقاً عنه ، بعد أن يتشرب الناس ذلك الأساس النظري ، وهو ملاحظة
الرفاه بصفته طريقاً نحو الهدف ، لا أنه بنفسه الهدف .ومن ثم ستكون زيادة الرفاه
مؤيدة لتركيز التربية وترسيخ العدل ، ومن ثم المشاركة في بناء ذلك الهدف .
وهذا هو المؤدي الحقيقي لما سمعناه من الأخبار في فصل سابق من كثرة المال فيعهد
الإمام المهدي (ع) وأنه يقسم المال ولا يعده ... تلك الأخبار المروية من قبل
الفريقين ، وقد سمعنا ما ورد منها في الصحيحين .
وقد يخطر في الذهن : أن توفيرالمال والرفاه ، إنما يكون من زيادة العمل . فيكون
متناسباً عكسياً مع الهدف، لأن زيادة العمل في سبيل الرفاه سوف يمتص الجهد الذي
يمكن أن يبذل في الجانب الأخلاقي والعبادي. ولاتكون زيادة الرفاه مؤيدة لتركيز
التربية ، كما قلنا .
والجواب على ذلك واضح جداً ، لمن استطاع استيعاب المفهوم الصحيح للعبادة مع المفهوم
الصحيح للعمل ، فإنه سيستغرب كيف تكون العبادة عائقاً عن العمل مع أنه الأسلوب
المهم في حصول الرفاه الأفتصادي المطلوب من أجل العبادة نفسها .وكيف يكون العمل
عائقاً عن العبادة ، وهي الهدف الرئيسي للحياة . وبالنتيجة هم معاً واقعين في طريق
الهدف البشري الأعلى .
صفحة (107)
ومن هنا يمكن أن ننطلق إلى الجواب على مستويين :
المستوى الأول: أننا إذا فهمنا من العبادة معنى لا ينطبق على العمل ، واصبح العمل
المتزايد عائقاً عن العبادة ،فإن ذلك لايمكن أن يحدث تحت ظل النظام العالمي العادل
، إذ يمكن التوفيق بين العبادة والعمل ، وتنظمها تنظيماً عادلاً يكفل إيفاء كل
منهما للحاجة التربوية ، وتحصيله لنتيجته المطلوبة ، تحت إشراف القانون والدولة .
المستوى الثاني: أننا نفهم من العبادة معنى ينطبق على العمل ، ولا يتنافى معه .فإن
العمل نفسه يمكن أن يصبح عبادة .إذا كان واقعاً في طريق العبادة ومطابقاً للنظام
العادل الكامل ، فإنه يصبح آنئذ من أفضل العبادات في علاقة الفرد مع الآخرين
،ولانريد بالعبادة خصوص الطقوس الفردية التي تربط الفرد بربه .وقد أعطينا في هذا
الكتاب والكتاب السابق فكرة كافية عن ذلك.
... لكن بشرط أن يشعر الفرد العامل بهذا الترابط ، وهذا الإستهداف فإن شعوره بذلك
يجعله متصفاً من خلال عمله بالعبادة ، وهو في معمله او متجره أو منجمه .
وهذا الشعور متوفر بطبيعة الحال تحت الإشراف التربوي للدولة العادلة .
لكن العمل إذا انطلق من المفهوم ، فلن يكون مستهدفاً لذاته ، أو لمجرد الحصول على
المال ،فإن العمل ما دام في سبيل المصالح العامة وتحقيق العبادة التامة ...إذاً ،
قلته .ولا معنى لأن يكون العمل معيقاً عن تحقيق المصالح والأهداف .
الأساس الرابع للتخطيط الثاني: الإشراف العام لدولة على تفاصيل التطبق من
الناحيتيتن القانونية والإجتماعية .
حيث تشرف الدولة العادلة على نشر الثقافة العامة ، وتقوم ببعض التمحيصات على ما
سنسمع ،ونراقب الأفراد من حيث رقيهم في الدرجات المطلوبة من الكمال ، وتساعدهم على
النجاح والتكامل بالمقدار اللازم ، وتسجل فيسجل ضميرها من نجح من الأفراد ومن فشل
منهم في التمحيص ، ومن له قابلية الرقي ممن ليس له ذلك.
وسنرى كيف يكون للدولة من أثر مباشر في تربية الأفراد في العالم . والتدخل في
حياتهم الروحية والعاطفية والعقلية والإجتماعية .وهذا مما يؤكد نجاح الدعوة
المهدوية والتطبيق الكامل للعدل ، كما يؤكد اجتياز الأفراد للمراحل الأولى من
الكمال بنجاح وسرعة وسهولة وهذا الأساس مما يفترق به هذا التخطيط عن سابقه ، نتيجة
لإختلافهما في الأهداف ، فقد كان الهدف من التخطيط السابق . تمييز الخبيث من الطيب
وتكريس جهود
الطيبين و تعميق اخلاصهم ليكونوا الطليعة الأولى لدولة العدل العالمية في اليوم
الموعود .ولم يكن هناك أي تاكيد على إنجاح الراسبين أو توفير فرص النجاح .بل إن
الفرد إذا رسب في التمحيص وعصى الأحكام الإلهة الإسلامية ، فقد جنى بنفسه عل نفسه
وسعى بظلفه إلى حتفه ، فليس وراءه إلا استحقاق العقاب .
صفحة (108)
ولذلك لم يكن هناك حاجة للإشراف المركزي عل التثقيف أو التمحيص وإن كان هذا راجحاً
، إلا أنه في إمكان التخطيط العام أن يصل إلى نتيجته وصولاً تلقائاً وفي كل الظروف.
ولكن التخطيط الثاني يختلف عن الأول ، في هذه النقطة .وذلك لأنه لا يستهدف مجرد
التمحيص ، بل الوصول إلى الهدف الأعلى للإنسانية على الصعيد العالمي كله .وهذا
يستدعي القيام بأمرين مقترنين :
الأمرالأول : تعميق التمحيصات تبعاً لتعميق الثقافة الإسلامية المعلنة في العالم
يومئذ ، وتشديد النكيرعل الراسبين في هذا التمحيص ، إلى حد قد يؤدي بهم إلى القتل ،
لعدم انسجام الفرد الراسب في التمحيص مع مجتمع العدل المطلق .
الأمر الثاني : توفير الفرص الكافية للأفراد ، ممن لا يتصف بالقابلية العليا
والثقافة العميقة ، إلى النجاح ، تحت إشراف الدولة العادلة ، ليكون الوصول إلى
نتيجة التخطيط أسرع وأسهل وأوسع .
وليس بين هذين الأمرين تناف ، بل هما متفقان في الإيصال المطلوب إلى النتائج
المتوخاة ، وسوف يكون الأمر الأول أشد وضوحاً وأهمية مع وجود الأمر الثاني ، فإن من
يرسب في التمحيص ، بالرغم من وجود الفرص الكافية للنجاح ، يكون أشد إجراماً وابعد
عن الحق والعدل ، ممن يرسب بدون هذه الفرص ،كما هو واضح .
وهذا يشكل إحدى الفروق في النتائج بين هذا التخطيط وسابقه ، فبينما نجد أن التخطيط
السابق يتمخض عن ضعف المسؤولية ، كما سبق أن برهنا في التاريخ السابق(1) نرى هذا
التخطيط مساوقاً مع عمق المسؤواية ودقتها .
ويرجع ذلك لعدة أسباب، لعل من أوسعها وأوضحها ، كون تطبيق العدل في التخطيط السابق
مخالفاً للإتجاه العام المملوء بالظلم والجور ، حتى يكون القابض على دينه كالقابض
على جمرة من النار ، كما ورد في بعض الأخبار .ومن الواضح أن القبض على الجمر يحتاج
إل قوة إرادة عليا ، وإن عدم القبض عليه لا يتضمن المسؤولية العليا والإجرام الكبير
.بخلاف الحال في التخطيط الجديد ، فإن تطبيق العدل موافق للإتجاه العام المملوء
قسطاً وعدلاً ، ومن هذه الجهة يكون موافقاً للهوى ، ويكون الإنحراف مخالفاً للإتجاه
العام فتكون مسؤوليته ذات درجة عليا من الأهمية ومناستحقاق العقاب .
فهذه هي الأسس الرئيسية التي يمكن التوصل إليها الآن ، وبها وأشباهها يستطيع القائد
المهدي(ع ) تربية الأمة ألإسلامية بسرعة وبسهولة .وأما بالنسبة إلى سائرأجزاء
العالم فهذه الأسس سوفتشارك في تربيته بعد استتباب اسيطرة عليه ، وأما حصول هذه
السيطرة فلا وكيفيتها ، فهو ما سنذكره مفصلاً في فصل قادم.
_______
(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص 451 وما بعدها إلى عدة صفحات .
صفحة (109)