مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب تاريخ ما بعد الظهور للسيد الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

وصاحب المغرب هو – على الأرجح – أبو عبد الله الشيعي الذي مهد بقتاله الواسع في شمال افريقيا لحكم المهدي الإفريقي (محمد بن عبد الله) (1) جد الفاطميين الذين حكموا بعدئذ مصر ردحاً من الزمن .
وهذه الحوادث وردت في الحديث على عكس حدوثها التاريخي تماماً كما يتضح بمراجعة التاريخ الإسلامي. وإذا كانت حوادث الماضي فيه غير مرتبة فلعل حوادث المستقبل فيه كذلك .
النقطة الثالثة : أن هناك تهافتاً بين بعض مضامين هذه الأخبار .
فمن ذلك : مدة بقاء حكم السفياني ، فينما يصرح أحد الأخبار أنه يملك قدر حمل امرأة تسعة أشهر ، نرى خبراً آخر ينفي ذلك بصراحة ، وأنه لا يملك إلا ثمانية .
ومن ذلك : موعد وجود حركة السفياني ، فينما يظهر من بعض هذه الأخبار أن زوال دولة بني العباس يكون على يده ، إذا فهمنا من بني فلان وذلك كما هو الظاهر .ومعنى ذلك أن حركة السفياني قد وجدت وانتهت منذ أمد بعيد .
نجد – إلى جنب ذلك – ارتباط حركة السفياني بالخسف ، وأن المهدي (ع) نفسه هو الذي يقتله .ومعنى ذلك أن حركته لم تحدث لحد الآن .وكم بين هذين الموعدين من بعد شاسع .
غير اننا في التاريخ السابق(2) ناقشنا الخبر الدال على إزالته لدولة بني العباس .ومعه يكون هذا الموعد منتفياً، ويتعين الموعد الآخر .
ومن ذلك : تعين دين السفياني .فبينما نسمع من احد الأخبار أنه مسيحي بشكل وآخر ( في عنقه الصليب ) نجد في خبر آخر أنه من المسلمين المهتمين باستئصال شيعة على (ع) . مع الإلتفات إلى أن المسيحي قلما يكون له اهتمام خاص بذلك .
ومن ذلك : أن هناك تشويشاً وتضارباً في تسمية القادة الموجودين قبل الظهور .فإن ظاهر الأخبار تعاصر هذه الحركات تقريب، وكلها ذات أهمية في المجتمع ، إلى درجة يكون إهمال الخبر لذكر بعض قرينة على عدمه أساساً ، لعدم إمكان الإغراض عن ذكره – عادة – مع وجوده .
ـــــــــــــــــ
(1) انظر تاريخ الغبة الصغرى ص354.
(2) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص624.


صفحة (164)



ففي بعض الأخبار لا نجد غير السفياني ، وفي بعضها نجد الخراساني والسفياني دون غيرهما ، وفي اخبار أخرى نسمع بوجود عدة قواد : أبقع واصهب وسفياني ويماني .
وقل مثل ذلك في المنطقة التي يحكمها السفياني .فإن المقدار الواضح من الأخبار اطلاقة من دمشق وسيطرته عليها ، إلى جنب عدم وصوله إلى مكة والمدينة المشرفتين .
وأما بالنسبة إلى باقي البلدان ، فالأمر لا يخلو من تشويش .
ولعل من اوضح موارد التشويش هذه : الكوفة . حيث نسمع من بعض الأخبار ارتكازه فيها وسيطرته عليها . نجد في بعضها الآخر أن (الخراساني) يحتلها معه أيضاً .
بل أن انطلاقه من دمشق أيضاً لا يخلو من ظلال، نظراً إلى الخبر القائل: بأن السفياني يقبل من بلاد الروم .
غير أن الذي يهون الخطب ، أن أكثر منطلقات هذه النقطة قابلة للتذليل مع شيء من التفكير ، كما سوف نطبق بعضه فيما يلي :
الناحية الثالثة : من الحديث عن السفياني : في محاولة فهم الحوادث التي تدل عليها هذه الأخبار ، ومحاولة ضبطها وترتيبها وانطلاقاً من ظاهرها على المستوى (الصريح) دون (الرمزي) ... ما لم تعن الحاجة إلى الحمل على الرمز أحياناً .
إن منطلق السفياني سيكون هو الشام دون بلاد الروم .وأما الخبر الدال على إقباله من هناك .فسنذكر له فهماً خاصاً في حديثنا عن علاقة السفياني بالدجال .
إن دمشق ستكون في يوم من الأيام مسرحاً لحروب داخلية وصدام مسلح بين فئات ثلاث كلها منحرفة عن الحق ،وكل منها يريد الحكم لنفسه .ولا تعبر لنا الأخبار عن اتجاهات هؤلاء وعقائدهم بوضوح ، غير أنها توضح وجود الإختلاف بينها عن طريق اختلاف الوانها ... وهي تعبرعن ألوان الأمراء باعتبارهم مركز الثقل في التوجيه الفكري والعسكري لقواعدهم الشعبية ، فأحدهم ابقع. والآخرأصهب. والآخر احمر أصفر أزرق، وهو السفياني .وهو الذي يكتب له النصر في المعمعة ، ويستطيع السيطرة على الموقف في الشام ،ويتبعه أهلها ، إلا أن عدد قليل من الناس و يعصمهم الله تعالى عن اتباعه ، وهم جماعة من المخلصين الممحصين الكاملين ، المعبر عنهم في بعض الأخبار بالأولياء والأبدال وكما اسلفنا ، ويحكم السفياني الكور الخمس : دمشق ، وحمص وفلسطين والأردن وقنسرين(1) إلى جنب ما سوف يملكه من مدن العراق .
ـــــــــــــــــ
(1) الكور جمع كورة ، وهي المدية والبقعة (انظر أقرب الموارد ج2 ص1112) .وقنسرين كورة بالشام بالقرب من حلب ،وهي إحدى أجناد الشام ، قال ابن الأثير :وكان الجند ينزلها في ابتداء الإسلام ولم يكن لحلب معها ذكر ( تاج العروس ج3 ص508 مادة : قنسر ) .


صفحة (165)



وحين يستتب له الأمر يطمع بالسيطرة على العراق ، ويفكر في غزوها عسكرياً ، فيوجه إليها جيشاً يكون هو قائده .فيلتقي في طريقه جيش أرسله حكام العراق من أجل دفعه ، فيقتتل الجيشان في منطقة تسمى بقرقيسيا(1) ويكون قتالهم ضارباً ، يقتل فيه من الجبارين حوالي مئة ألف .والجبار العنيد هو كل حاكم منحرف ... وهو كناية عن أن كل من يقتل يومئذ من أي الجشين هو من الفاسقين المنحرفين .وبذلك تتخلص المنطقة من أهم القواد العسكريين الذين يحتمل أن يجابهوا المهدي (ع) عند ظهوره .
وعلى أي حال ، فالنصر سوف يكون للسفياني أيضاً ، فيدخل العراق ، ويضطر إلى منازلة (اليماني) في ارض الجزيرة(2) فيسيطر عليه أيضا ويحوز من جيش اليماني ما كان قد جمعه من المنطقة خلال عملياته العسكرية .
ثم يسير إلى الكوفة ، فيمعن فيها قتلاً وصلباً وسبياً ... ويقتل أعوان آل محمد (ص) ورجلاً من مسميهم يعني المحبوسين عليهم .وقد سمعت ما في أحد الأخبار من أنه ينادي مناديه في الكوفة : من جاء برأس من شيعة علي ، فله ألف درهم ، فيثب الجار على جاره ،وهما على مذهبين مختلفين في الإسلام ، ويقول : هذا منهم ، فيضرب عنقه ، ويسلم رأسه إلى سلطات السفياني ، فيأخذ منها ألف درهم .
ولا تستطيع حركة ضعيفة وتمرد صغير يحدث في الكوفة من قبل مؤيدي اتجاه أهلها ... لا تستطيع التخلص من سلطة السفياني ، بل سوف يفشل وسيتمكن السفياني من قتل قائد الحركة بين الحيرة والكوفة ، وكأنه يكون قد انهزم بعد فشل حركته ، فيلقي السفياني عليه القبض في الطريق فيقتله .
وفي بعض الأخبار أنه تراق بين الحيرة والكوفة دماء كثيرة ،وهو إشارة إلى هذه الحادثة ... فيها الدلالة على أن لقائد الحركة مركزاً مهماً هناك ، لن يستطيع السفياني السيطرة عليه بسهولة .
ـــــــــــــــــ
(1) في مراصد الإطلاع بالمد : بلد على الخابور عند مصبه ، وهي على الفرات ، جانب منها عل الخابور وجانب على الفرات ، انظر ج3ص1080 .أقول : وهي منطقة واقعة في سوريا الآن قريبة من الحدود العراقية .
(2) وهي أرض ما بين النهرين في العراق .


صفحة (166)



وحين يستتب له الأمر في العراق أيضاً ، يطمع في غزو الأراضي المقدسة في الحجاز .فيرسل جيشاً ضخماً إلى المدينة لإحتلالها .وظاهر اغلب الأخبار أن السفياني نفسه ليس فيه . فيسير هذا الجيش بعدته وسلاحه متوجهاً نحو المدينة المنورة : ويكون الإمام المهدي ( ع) يومئذ في المدينة . فيهرب منها إلى مكة فيعرف السفياني ذلك عن طريق استخباراته ، فيرسل جيشاً في أثره متوجهاً نحو مكة . محاولاً قتله والإجهاز عليه وعلى أصحابه ،وظاهر سياق الأخبار أن الجيش المتوجه إلى مكة هو جزء من الجيش الذي كان متوجهاً إلى المدينة المنورة .
إلا أن مكة حرم آمن بنص القرآن الكريم ، لايمكن أن يخاف فيه المستجير كما أن الإمام المهدي (ع) قائد مذخور لليوم الموعود وهداية العالم . لايمكن أن يقتل .ولا بد من حمايته ... ومن هنا تقتضي الضرورة إفناء هذا الجيش ، والقضاء عليه بفعل إعجازي إلهي ، فيخسف به في البيداء .ولا ينجو منه إلا نفر قليل: اثنين أو ثلاثة . يخبرون الناس عما حصل لرفاقهم .
إلا أن ذلك لا يعني الكفكفة من غلواء السفياني ، بعد أن ملك سوريا والعراق والأردن وفلسطين ومنطقة واسعة من شبه الجزيرة العربية ، وهدد الإمام المهدي وحاربه ... بل سيبقى حكمه ريثما يظهر المهدي (ع) بعد الخسف بقليل ويرد جيشه إلى العراق ، ويناجزه القتال فسيطر عليه ويقتله ، كما سنذكر .
هذا وقد اعتبرنا في هذا الفهم لتسلسل الحوادث ، أن كل ما ورد في شيء من الأخبار من دون أن يكون له ناف أو معارض في خبر آخر ، فهو ثابت .وهذا صحيح في سائر الأخبار ، غير الخبرين اللذين عرفنا ورودهما من غير المعصومين (ع) ووهما من نقاط الضعف في هذا الفهم .
كما أنها قد تواجه نقاط ضعف أخرى ، ينبغي عرضها ونقدها :
النقطة الأولى : أنه قد يخطر في الذهن : أن هذه التحركات العسكرية وما رافقها من الملابسات ، صيغت على غرار تحركات الجيوش القديمة التي كانت تحارب خلال العصر العباسي – مثلاً - حيث لا يوجد قانون دولي ولا أمم متحدة ولا حدود معترف بها . وأما بعد أن تقدمت الحضارة وأسست هذه الأسس فمن غير المحتمل أن تحدث مثل هذه التحركات .


صفحة (167)


ويمكن عرض عدة أجوبة على هذه الأجوبة على النقطة ، نذكر منها جوابين :
الجواب الأول: أن قيمة القانون وما يستتبعه من الإعتراف بالأمم المتحدة والحدود الآمنة المعترف بها ، إنما تنطلق من المصلحة الخاصة ليس إلا ، لأن الفرد أو الدولة إذا تنازلت عن شيء من المصلحة أمكن تبادل هذا التنازل مع الآخرين ، وبذلك تنحفظ مصالح خاصة أهم وأشمل .
وأما في الوقت الذي حرز الفرد أو الحاكم إمكان سيطرته على الآخرين وحصوله على الربح مع إحراز دفع الضرر عن نفسه ، فسيكون هو وبنود القانون على طرفي نقيض .
ومن هنا لم يكن وجود القانون ولا الأمم المتحدة ، ولا محكمة العدل الدولية مانعاً عن أنواع الإعتداءات وأشكال الغزو والسيطرة على الشعوب الضعيفة من قبل مختلف الأنظمة ، كما نشاهده باستمرار .وليست حركة السفياني بأفضل من أي واحد من هذه الإعتداءات .
الجواب الثاني : أنه من المحتمل – على الأقل – أن تكون تحركات السفيناي ذات طابع ( قانوني) مشروع في حدود الفهم الحديث لهذه المشروعية ، كما لو كانت نتيجة لإتفاقيات بين الدول أو إتحاد في شكل الأنظمة فيما بينها .أو إعلان شكل من الإتحاد بين اثنين أو أكثرمنها . وغير ذلك مما لا حاجة إلى الدخول في الحديث عن تطبيقاته في عالم اليوم .
وبهذا يرتفع الإشكال الذي قد يرد إلى الذهن ، من حيث أن ظاهر الأخبار عدم وجود أية مقاومة ضد جيش السفياني حين يدخل الحجاز ... فإن ذلك يكون نتيجة لإتفاقات معينة ، أو لضعف الحكم القائم هناك يومئذ تجاه الجيش المحتل ضعفاً شديداً .
النقطة الثانية : إن ظاهر بعض الأخبار التي سمعناها ، كون الإمام المهدي (ع) قبل ظهوره معروفاً للسفياني، ويبدو أن الهدف الرئيسي للجيش الذاهب إلى الحجاز هو قتل المهدي (ع) ،ومن هنا يخاف (ع) ويهرب من المدينة إلى مكة على سنة موسى بن عمران (ع) حين هرب إلى مدين ... ويكون الخسف بالجيش إنقاذاً له. ويفهم السفياني بهرب المهدي (ع) فيرسل خلفه جيشاً فيخسف به .
وهذا – بظاهره – مناف لمسلك الغيبة الذي يتخذه الإمام (ع) إلى حين ظهوره ، وخاصة من الأعداء الذين يحتمل فيهم أن يقتلوه أو يشكلون خطراً عليه ولو انحصر الأمر بذلك ، وجب رفض دلالة الخبر للجزم بثبوت الغيبة قبل الظهور .


صفحة (168)


لكننا يمكن الإستغناء عن هذه النقطة أيضاً ، لو التفتنا إلى (أطروحة خفاء العنوان) التي عرضناها في التاريخ السابق، والتي تقول: إن المهدي (ع) خلال غيبته يرى الناس ويرونه ولا يعرفونه. وإنما تكون غيبته باعتبار غفلة الناس مطلقة عن حقيقته ... ويعرفونه بعنوان مستعار وشخصية (ثانوية) يتخذها المهدي (ع) في المجتمع .
ومعه ، فمن الممكن أن السفياني يعرف تلك (الشخصية الثانوية) أعني ما أتخذه المهدي من عنوان مستعار في ذلك العصر .ويتابع أخباره بتلك الصفة .ويرسل جيشاً لقتله بتلك الصفة أيضاً .وإنما عبر عنه في الأخبار بالمهدي باعتبار حقيقته ، وإنما يخسف بالجيش المعادي له باعتبار ذلك أيضاً .إلا أن السفياني لن يشعر أنه قاصد لقتل المهدي (ع) نفسه ، ولن يشعر الناس بذلك أيضاً لأنه والناس ، إنما يعرفونه بشخصيته الثانوية دون الحقيقية .
النقطة الثالثة : أنه تبقى عدة فجوات في تسلسل الحوادث لم تنطق بها الأخبار بوضوح ... ومن الصعب استدراكها بطبيعة الحال ، نذكر لها بعض الأمثلة .
منها : دور الجماعة المقبلة من خراسان ، وفيها بعض أصحاب القائم (ع) بقيادة الخراساني .ما هو دورها في العراق هل هو عسكري أو فكري أو ليس لها دور .ما هو موقف السفياني منها حين يسيطر على البلاد .
ومنها : دور اليماني عسكرياً وفكرياً وعقائدياً .وإن كان المظنون أنه هو المشار إليه في بعض الأخبار بأن رايته راية هدى ، كما سمعنا في التاريخ السابق(1) والسفياني سيجهز عليه و سيخلي الساحة العراقية منه .إلا أن فجوات أخرى سوف تبقى غير قابلة للجواب .
ومنها : عدد أفراد الجيش الذين يتجهون إلى مكة المكرمة للقبض على المهدي (ع) .فهل هو جماعة كبيرة أو صغيرة ، فبينما يعبر عنه في عدد من الأخبار بالجيش ، وهو يوحي بالعدد . ويؤيده ما في بعض الأخبار من أنهم ثمانون ألفاً (2).
إلا أن بعض الأخبار تقول : فيبعث إليه بعث(3) وهو يوحي بالإرسالية الصغيرة نسبياً . إلا أن الأغلب على التعبير بالجيش على أي حال .
الناحية الرابعة : أننا فهمنا في التاريخ السابق(4) من الأخبار التي تذكر خروج الرايات السود من خراسان ... فهمنا الإشارة إلى حركة أبي مسلم الخراساني ، التي أجهزت على حكم بني أمية ومهدت لحكم العباسيين ... ومعه فقد يخطر في الذهن أن الخراساني امذكور في الأخبار التي ذكرناها هنا هو أبو مسلم ايضاً
ـــــــــــــــــ
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص632.
(2) المصدر ص602. غير أن الخبر مروي عن ابن عباس لا عن أحد المعصومين (ع) .* المصدر ص599.
(3) المصدرص 599. (4) المصدرص 547.


صفحة (169)



وهذا احتمال معقول لو استطعنا أن نفهم من (بني فلان) في الخبر الذي نقلنا عن النعماني في (الغيبة) ... بني أمية دون بني العباس . فكأنه قال : لابد لبني أمية أن يملكوا .فإذا ملكوا خرج عليهم الخراساني فأهلكهم. فيكون واضح الإنطباق على أبي مسلم دون شك .
غير أن هذا الفهم مروي عن الإمام محمد بن علي الباقر (ع) .وهو معاصر لدولة بني أمية ... فلا يكون قوله (لا بد لبني أمية أن يملكوا) معنى واضح . بل يتعين حمله الدولة التي لم تحدث في زمانه .وهي دولة بني العباس .ومن المعلوم أن أبا مسلم أسس دولة العباسيين لا أنه أهلكها .
ثانياً : إن الخبر كالصريح في تعاصر حركة الخراساني والسفياني ، ومن المعلوم عدم تحقق حركة السفياني لحد الآن !!!، إذاً فحركة الخراساني لم تتحقق ...إذاً ، فهي ليست منطبقة على حركة أبي مسلم على أي حال .
ومعه ، تكون الحركة المشار إليها في أخبار الرايات السود غير الحركة المشار عليها في هذه الأخبار بقيادة الخراساني غير أننا نخسر بذلك شيئاً ذا بال ، وهو : إن الحادثة المشار إليها لو كانت واحدة ، لاستطعنا ضم أخبار الرايات السود إلى أخبار (الخراساني) ، فتصبح كثيرة ومستفيضة ، إن لم تكن متواترة وهذا غير ممكن مع تعدد الحادثة المقصودة .
ولكن هذا لا يعني سقوط كلا الطائفتين من الأخبار عن إمكان الإثبات التاريخي ، كل بمقدار قابليته .
الناحية الخامسة : قد ثبت بهذه الأخبار وغيرها ، كون الخسف الذي استفاضت به الأخبار في مصادر الفريقين ....إنما يكون بجيش السفياني ، حين يقصد قتل الإمام المهدي (ع) وهو مستجير بمكة .
وبذلك نحصل على شيء ذي بال – على عكس الناحية السابقة – وهو انضمام أخبار الخسف المستفيضى إلى أخبار السفياني ، وإن لم تذكر السفياني بالصراحة .فإذا علمنا أن اخبار السفياني مستفيضة ، كان ضم المستفيض إلى المستفيض منتجاً للتواتر لا محالة .


صفحة (170)


الناحية السادسة : بقي علينا التعرض إلى مقتل السفياني على يد الإمام المهدي (ع) .ولا زلنا نتكلم طبقاً للفهم (الصريح) دون الرمزي لمفهوم السفياني ، لنتوفر في الناحية الآتية على عرض الفهم الرمزي له .
وقد وردت في ذلك عدة أخبار :
قال في إسعاف الراغبين(1) وهو يعدد ما ورد في الروايات من حوادث ظهور المهدي (ع) ....قال :
وإن السفياني يبعث إليه من الشام جيشاً ، فيخسف بهم البيداء فلا ينجو منهم إلا المخبر . فيسير إليه السفياني بمن معه ، فتكون النصرة للمهدي ، ويذبح السفياني .
وروي في البحار(2) حديثاً طويلاً عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر (ع) ، يتحدث فيه عن المهدي (ع) وظهوره وما يحدث بعد ذلك ، إلى ان قال :
ثم يأتي الكوفة فيطيل فيها المكث ما شاء الله أن يمكث ، حتى يظهر عليها ، ثم يسير حتى يأتي العذرا (3) هو ومن معه ، وقد الحق به ناس كثير والسفياني يومئذ بوادي الرملة .حتى التقوا وهم ، يوم الأبدال ، يخرج أناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمد (ص) ، ويخرج ناس كانوا مع آل محمد إلى السفياني ، فهم من شيعته حتى يلحقوا بهم .ويخرج كل ناس إلى رايتهم ،وهو يوم الأبدال .قال أمير المؤمنين (ع) : يقتل يومئذ السفياني ومن معه حتى لا يدرك منهم مخبر ، والخائب يومئذ من خاب من غنيمة كلب(4) .. الحديث .
وفي خبر مطول آخر أخرجه المجلسي في البحار أيضاً (5) عن عبد الأعلى الحلبي قال :
قال ابو جعفر (ع) : يكون لصاحب هذا الأمر غيبة ... إلى أن يقول لأصحابه سيروا إلى هذا الطاغية ، فيدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه (ص) ، فيعطيه السفياني من البيعة سلماً ، فيقول له كلب – وهو أخواله – ما هذا ؟ ما صنعت ؟ والله ما نبايعك على هذا أبداً ...فيقول :ما أصنع فيقولون : ! ... استقبله ! فيستقبله .
ثم يقول له القائم صلى الله عليه : خذ حذرك ، فإنني اديت إليك ، وأنا مقاتلك ، فيصبح فيقاتلهم ، فيمنحه الله أكتافهم . ويأخذ السفياني أسيراً ، فينطلق به يذبحه بيده ...الخبر .
ـــــــــــــــــ
(1) انظر ص138.
(2) ص160-161ج13.
(3) في مراصد الإطلاع بالمد : قرية بغوطة دمشق معروفة إليها ينسب مرج عذراء ج2 ص924.
(4) أخوال السفياني والمحاربين معه ، كما يظهر من الخبر الآتي وغيره .
(5) انظر ج13 ص189.


صفحة (171)



ولا نجد في هذه الأخبار تنافياً يذكر ، مع الأخبار السابقة والفهم العام الذي فهمناه عنها .فإن الجو العام لها واحد .فينبغي الآن قصر الكلام على الحوادث الزائدة التي تعرب عنها هذه الأخبار ، مما لم يكن موجوداً في الأخبار السابقة. ويكون فهمنا الآن تتمة للفهم العام السابق .
إن مركز حكم السفياني سيكون هو العراق بعد انتقاله عن الشام ، ولن يوجب الجيش الذي تفشل مهمته في الحجاز ، انتقال مركز حكمه إلى هناك .
ومن هنا سوف يواجه المهدي عند دخوله إلى العراق حكم السفياني بكل جبروته . غير أن السفياني – على ما يبدو – سوف يكره مناجزته القتال ، لأن ذلك سوف يثير ضده مشاكل لا تطاق .ومن هنا يدخل المهدي (ع) العراق سلماً ويمكث في الكوفة ما شاء الله له ذلك كزعيم شعبي ، حتى ما إذا اجتمع له من الرجال و السلاح ما يكفي للسيطرة على الحكم استطاع مواجهة السفياني بصراحة .
وطبقاً للقواعد الإسلامية سيبدأ المهدي (ع) بعرض العقائد الإسلامية الحقة على السفياني ،فإن قبل بذلك وصار معه فهو ... وإلا ناجزه القتال .
وطبقاً للإتجاه النفسي لدى السفياني لمجاملة المهدي (ع) ، سيعطي للمهدي ما يطلبه من الشهادة ،إلا أن بطانته سوف تحتج على ذلك وتشجب موقفه ، وتلزمه بأن يواجه المهدي (ع) مواجهة كاملة .
ولعل هذا الإتجاه النفسي ، هو الذي يفسح المجال لتسرب كل المؤمنين المشتغلين في جيش السفياني إلى جيش المهدي (ع) ، وفي نفس الوقت يميل الفساق الفاشلين في التمحيص من سكان الكوفة قبل الظهور ، إلى الإلتحاق بجيش السفياني ، وهو يوم الإبدال .. أي تبادل الأصحاب .ويتم ذلك في الفترة الأولى قبل مناجزة القتال


صفحة (172)


وإذ يخضع السفياني لإقتراح بطانته ، ينكمش ضد المهدي (ع) ويتحداه فينذره المهدي (ع) بالقتال ، فيضطر السفياني إلى الصمود ضده ، فتحدث المعركة بين المعسكرين ، ويكون الفوز للقائد المهدي ، وينتهي حكم السفياني ،ويؤخذ اسيراً ويقتله المهدي في الأسر. وبذلك تتم سيطرة المهدي على العراق .
بل سوف تتم سيطرة المهدي (ع) على كل المنطقة التي عرفناها محكومة للسفياني ، وهي العراق والشام والأردن وفلسطين .ومن هنا سوف تنفتح الفرصة المؤاتية للغزو العالمي . كما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب .
الناحية السابعة : في محاولة إعطاء الفهم الرمزي عن السفياني ، مع الإلماع إلى علاقة السفياني بالدجال .
ويحتاج الفهم الرمزي إلى شرطين أساسين ، لا يصح إلا من خلالهما ، فإن فقد أحد الشرطين ، فضلاً عنهما معاً ، كان الفهم الرمزي مما لا لزوم له .
الشرط الأول : أن يكون العمل بظاهر الأخبارا متعذراً ، والفهم (الصريح) منها ممتنعاً ...باعتبار قيام القرائن على عدم صحته او اقتضاء القواعد العامة لنفيه .
وهذا ما كنا نوجهه في مفهوم : الدجال أو مفهوم يأجوج ومأجوج .من حيث أن ظاهر الأخبار نسبة الخوارق والمعجزات إلى المنتسبين إلى الباطل، وهو مستحيل ، هو يعطي لهذين المفهومين صورة مخالفة للبشر الإعتياديين ومما يوثق بعد صدقه . فيكون ذلك سببا ً للإنطلاق إلى الفهم الرمزي الذي يذلل هذه المصاعب ، مع أخذ الشرط الثاني بنظر الإعتبار .
الشرط الثاني : أن يكون الفهم الرمزي أقرب ما يمكن إلى الظواهر ، معطياً صورة شاملة ومتكاملة ومتساندة لمجموع الظواهر والمفاهيم الواردة في الأخبار ... بحيث لا يند عن ذلك إلا الخبر الشاذ غير القابل للإثبات التاريخي أساساً .
وهذا ما حاولنا تطبيقه في فهمنا الرمزي لمفهوم الدجال ومفهوم يأجوج ومأجوج .
غير أن مفهوم : السفياني فاقد للشرط الأول . إذ من الواضح بعد استعراض الأخبار السابقة وغيرها مما ورد في السفياني ، أنها خالية من أية معجزات وخوارق منسوبة إليه أو إلى غيره من المبطلين . بل هي تخلو من أية معجزة سوى الخسف بالبيداء الذي يحدث دفاعاً عن الحق لا عن الباطل ،وقد عرفنا مبرره الكامل فيما سبق .
كما أن هذه الأخبار تعرض البشر على حالهم فيعصر التمحيص والفتن ، فهناك الآراء المتعارضة والجيوش المتحاربة والحكام الظالمون ، والقلة المدافعة عن الحق .وكل هذه الأمور صفات أساسية للمجتمع المعاصر. وبالتالي فهي لا تعطي صورة مخالفة للبشر الإعتياديين ليكون الوثوق بعدم صدقها موجوداً. ليكون ذلك منطلقاً إلى الفهم الرمزي .


صفحة (173)


إذاً ، فالفهم الرمزي الكامل مما لا لزوم له .وإنما الشيء الممكن هو ملاحظة الخصائص والصفات حول هذا المفهوم ، وإسقاط ما يمكن إسقاطه منها .
فإذا اسقطناها جميعاً أو الأعم الأغلب منها ، كان (الفهم) الذي ذكرناه في التاريخ السابق(1) صحيحاً وهو ان السفياني يمثل خط الإنحراف داخل المعسكر الإسلامي ككل ، فتندرج تحته كل الحركات والعقائد التي تدعي الإنتساب إلى الإسلام ، مما كان (بعد زوال الدولة العباسية) أو يكون إلى يوم الظهور الموعود .وأما إذا أخذنا عدداً من الصفات بنظر الإعتبار ، مما تسالمت الروايات على صحته ، فإن هذا المفهوم الواسع سوف يضيق، وسوف ينحصر في تطبيق واحد من تطبيقاته ، فإنني أود أن أقول : أن مفهوم السفياني يعبر عن آخر حكم منحرف للمنطقة قبل ظهور المهدي (ع) ويمكننا أن نصف هذا الحكم مما ثبت له من الصفات ، كدخول سوريا والعراق تحت حكم واحد أو متشابه ، وحقده على أهل الحق ، وإرساله الجيش ضد المهدي ( أو ضد جماعة من أهل الحق المخلصين يكون المهدي (ع) موجوداً فيهم بعنوان آخر غير حقيقته) ، وحدوث الخسف على هذا الجيش.
وأما الصفات الأخرى ، كتسميته بعثمان بن عنبسة ، وخروجه من الوادي اليابس ،وصفات جسمه وسيطرته على الأردن وفلسطين ، وتفاصيل مواقفه العسكرية ، فهي مما ينبغي اسقاطها تحت وطأة الفهم الرمزي ، وإيكال علمها إلى أهله .وإن كان الوارد من الأخبار في بعض هذه الصفات صالح للإثبات التاريخي ، وإن لم يكن أكيداً .
ـــــــــــــــــ
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص647.


صفحة (174)



وانطلاقاً من فهمنا هذا ، تتضح علاقة السفياني بالدجال بالمعنى الذي فهناك أيضاً . بعد أن برهنا في التاريخ السابق (1) على أن هذين المفهومين يعبران عن شيئين لا عن شيء واحد .
فإن للفهمين (الصريحين) التقليدين للسفياني والدجال ، إتجاه إلى عزل أحدهما عن الآخر عزلاً تاماً ، طبقاً للظهور الأولي للأخبار ... فالمسيح ينزل فيقتل الدجال في دمشق بدون أن يكون السفياني موجوداً في العالم . والمهدي (ع) يظهر فيحارب السفياني بدون أن يكون الدجال موجوداً في العالم .
ولكننا إذا علمنا أن زمن ظهور المهدي (ع) ونزول المسيح واحد ، حتى أن المسيح يصلي وراء المهدي (ع) تكرمة لهذه الأمة كما وردت بذلك الأخبار، وسنرويها فيما يلي : إذاً ، سيكون هذا الإتجاه التقليدي مبرهن البطلان .ولا بد من أن يكون الدجال والسفياني متعاصرين ، ولابد من وجود العلاقة بينهما بشكل من الأشكال.
وإذا كان الدجال عبارة عن الحضارة المادية الحديثة بخطها الطويل ، وكان السفياني آخر الحكام المنحرفين في الشرق ، فسوف لا يصعب علينا تصور العلاقة يبنهما .بعد أن أصبحنا نعيش بكل حواسنا تطبيقات الدجال والسفياني بكل وضوح ....ونعلم الأشكال الصريحة والمبطنة لعلاقة أحدهما بالآخر بشكل نكون في غنى عن عرضه .
وهذا التحديد للعلاقة ، منطلق من فهمنا لذينك المفهومين ، بغض النظر عما اكتسبه مفهوم الدجال من رتوش محتملة عند الحديث عن علاقته بيأجوج ومأجوج .إذ مع الأخذ ببعض الأطروحات التي ذكرناها هناك ، سوف نحتاج إلى بعض التغيير في تصور العلاقة ...وهذا ما نوكله إل القارىء الذكي .
النفس الزكية
وهو إنسان قرنت حركته ومقتله بظهور الإمام المهدي (ع) ، في أخبار المصادر الخاصة على الأغلب .
وقد سبق في التاريخ السابق(2) أن بحثنا ذلك وعرضنا الأخبار التي تصرح بأن مقتل النفس الزكية من المحتوم، وغيرها .
ـــــــــــــــــ
(1) تاريخ الغيبة الكبرى ص630وما بعدها
(2) انظر ص604وما بعدها إلى عدة صفحات .


صفحة (175)




ولكننا لم نستطع هناك – بما كان لنا من منهج في الإثبات التاريخي – ان ندفع احتمالاً معيناً ، هو أن تكون النفس الزكية هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) .وحيث ان مقتله قد حصل في العهد العباسي الأول ، فلا ينبغي انتظار حادثة أخرى لمقتل النفس الزكية في مستقبل الدهر .
ولكننا نحاول الآن أن نبحث المطلب بشكل جديد ، انطلاقاً من المنهج الذي اتخذناه في هذا التاريخ ، وهو التنزل عن التشدد السندي وقبول الخبر الموثوق، وإن لم تقم القرائن على صدقه من الخارج .وهذه هي نقطة الإختلاف بين المنهجين ، كما أشرنا في أول الكتاب .
وينبغي أن نتكلم عن (النفس الزكية) ضمن عدة نواحي :
الناحية الأولى : في سرد الأخبار الواردة في هذا الموضوع ، غير ما نقلناه في التاريخ السابق ، إلا القليل الذي نحتاجه فنكرره .
روينا في التاريخ السابق(1) عن المفيد في الإرشاد (2) عن أبي جعفر الباقر (ع) والشيخ في الغيبة(3) والصدوق في إكمال الدين(4) عن أبي عبد الله الصادق (ع) بلفظ متقارب – واللفظ للمفيد - : أنه قال : ليس بين قيام القائم (ع) وقتل النفس الزكية ، أكثرمن خمس عشرة ليلة .
وقال في الإرشاد (5) : قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (ع) ... وعد منها : ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام .
وأخرج في البحار(6) عن السيد علي بن عبد الحميد بالإسناد إلى أبي بصير عن أبي جعفر (ع) ، في حديث طويل ، يقول فيه : يقول القائم (ع) لأصحابه : يا قوم . إن أهل مكة لا يريدونني ، ولكني مرسل إليهم لأحتج عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتج عليهم .
ـــــــــــــــــ
(1) المصدر ص605. (2) ص339.
(3) ص271. (4) انظر المصدر المخطوط .
(5) ص336. (6) ج13 ص180.


صفحة (176)




فيدعو رجلاً من أصحابه ، فيقول له : إمض إلى أهل مكة ! أنا رسول فلان إليكم ، وهو يقول :إنا أهل بيت الرحمة ومعدن الرسالة والخلافة ، ونحن ذرية محمد وسلالة النبيين . وإنا قد ظلمنا واضطهدنا وقهرنا وابتز منا حقنا ، منذ قبض نبينا إلى يومنا هذا ،فنحن نستنصركم فانصرونا .
فإذا تكلم هذا الفتى بهذا الكلام ، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام ، وهو النفس الزكية ... الحديث .
وأخرج أيضاً(1) عن الكافي بسنده عن يعقوب السراج عن أبي عبد الله (ع) في حديث عن المهدي (ع) يقول فيه:
ويستأذن الله في ظهوره :فيطلع على ذلك بعض مواليه .فيأتي الحسني فيخبره الخبر ، فيبتدر الحسني إلى الخروج ، فيشب عليه أهل مكة ، فيقتلونه ، ويبعثون برأسه إلى الشام ، فيظهر عند ذلك صاحب الأمر .. الخبر.
وقال الرواندي في الخرايج والجرايج(2): وروي أن النفس الزكية هو غلام من آل محمد اسمه محمد بن الحسن يقتل بلا جرم .فإذا قتل فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد .
أقول : وأرسل الصافي في منخب الأثر(3) هذا المعنى ارسال المسلمات .
وأخرج الصافي(4) عن غيبة الشيخ بسنده عن سفيان بن ابراهيم الحريري أنه سمع أباه يقول :
النفس الزكية غلام من آل محمد ، اسمه محمد بن الحسن ، يقتل بلا جرم ولا ذنب .فإذا قتلوه لم يبق لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر .فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد .. الحديث .
فهذا هو كل ما وجدناه من الأخبار بهذا الصدد . وسنمحصها بعد إعطاء الفهم المتكامل عنها .
ـــــــــــــــــ
(1) البحار ج13ص178. (2) ص196.
(3) انظر ص454. (4) ص455.


صفحة (177)



الناحية الثانية : في محاولة فهم هذه الأخبار ككل ، على تقدير صحتها وكفايتها للإثبات التاريخي .ويكون فهمنا هذا تتمة – بشكل أو آخر – للفهم العام الذي ذكرناه للسفياني.
إن المهدي (ع) مع خاصة أصحابه حين يهربون من وجه جيش السفياني لمبعوث ضدهم .من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، يصبح من الواجب على أهل مكة نصرته ، بحسب تكليفهم في نصرة المؤمنين المظلومين ضد الظالمين ممن كان على شاكلة السفياني .
ولكن لن يكون لأهل مكة استعداد للنصرة ، اما لأجل اختلاف مذهبهم عن مذهب المهدي (ع) في الإسلام، وإما لأجل خوفهم من سطوة السفياني وسلطته ،وحسبنا أننا سمعنا أن السفياني دخل الحجاز من دون مقاومة عسكرية ، لمدى الرهبة والخوف الذي زرعه في النفوس .ومن هنا يحافظ أهل مكة على مصالحهم الخاصة وينكمشون ضد المهدي (ع) .أعني : بعنوانه المعلن وإن جهلوا حقيقته .
ويعلم الإمام المهدي (ع) بعدم استعدادهم لنصرته .فيقول لخاصته : يا قوم ، إن أهل مكة لا يريدونني .ولكني مرسل إليهم لأحتج عليهم ، بما ينبغي لمثلي أن يحتج عليهم .
ويكون هذا الإحتجاج اتماماً للحجة عليهم ، ومواجهة صريحة لهم بالموقف حتى لا يبقى منهم غافل أو مماطل .
ومن هنا يفكر المهدي (ع) بأن يرسل شخصاً من قبله إلى أهل مكة ليقوم بهذا الإحتجاج. فيدعو بعض أصحابه ، وهو من الهاشميين ومن المخلصين الممحصين ، على ما سنعرف في الوجه فيه... ويحمله رسالة شفوية معينة ، ويأمره بأن يخطب بها في المسجد الحرام بين الركن والمقام وقد سمعنا نص الخطبة في الأخبار .
وينبغي هنا أن نلاحظ أنه حين يقول : أنا رسول فلان إليكم ... لا دليل على أنه يورد اسم المهدي (ع) بحقيقته ويعرف المخاطبين أنه هو المهدي الموعود ، بل لعله يورد الإسم أو العنوان المعلن اجتماعياً له (ع) في ذلك الحين .
وما أن يسمع أهل مكة هذه الخطبة ، حتى يجتمعون عليه ويقتلونه بين الركن والمقام قرب الكعبة المشرفة في بيت الله الحرام .ولعلهم يقطعون رأسه ويرسلونه إلى السفياني ، ليكون لهم الزلفى لديه .


صفحة (178)


هكذا تقول إحدى الروايات السابقة ، ولكننا عرفنا أن مركز السفياني يومئذ لن يكون هو الشام بل هو العراق، وإن كان كلا القطرين تحت سيطرته وهذا له عدة توجيهات ، أوضحها : احتمال أن يكون السفياني في ذلك الوقت قد ترك مركزه وسافر إلى الشام لإنجاز بعض المصالح المعينة ، ريثما يعود مرة أخرى .
وعلى أي حال ، فإنهم حين يفعلون ذلك ، يكونون قد عصوا العديد من أهم أحكام الإسلام وضروريات الدين .منها : المحافظة على حرمة البيت الحرام الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً .ومنها : قتل النفس المؤمنة بدون جرم وبغير نفس ومنها : رفض نصرة المستنصرين بالحق .فيشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض ، فيأمرالإمام المهدي (ع) بالظهور لأخذ الحق ودحر الظالمين .
ويكون رسول المهدي (ع) هذا هو النفس الزكية الموعود قتلها بين الركن والمقام ، وسوف لن يكون بين مقتلها وبين الظهور أكثر من خمس عشرة ليلة .
وهذا هو التصور العام الذي تعكسه هذه الأخبار ولتاريخ تلك الفترة .وهو تصور سليم إلى حد كبير.لا يكاد يرد عليه إلا المناقشات القليلة الآتية التي لا تغير من جوهره شيئاً . ومعه لا حاجة إلى الحمل على الرمز ، لما قلناه من أنه يتعين ذلك عند قيام الدليل على بطلان المعنى (الصريح) .
إلا أن ارتفاع هذا الفهم إلى مستوى الإثبات التاريخي ، منوط بصحة تلك الأخبار وصلاحيتها للإثبات ، وهذا ما سنبحثه غير بعيد.
الناحية الثالثة : في نقد بعض الإعتراضات التي تورد على هذا الفهم العام :
الإعتراض الأول : أنه كيف تيسر لرجل واحد أن يخاطب أهل بلدة بكاملها ، بشكل طبيعي غير إعجازي .
إلا أن هذا السؤال يحتوي على سذاجة واضحة ، لوضوح كفاية قيام الفرد خطيباً في المسجد الحرام المحتشد بأهل مكة ، مستعملاً الأجهزة الحديثة لبث الصوت وتكبيره .لكي يستطيع الفرد أن يخاطب لأهل مكة جميعاً ، ويبلغ الحاضر منهم الغائب في أقل من ساعة من نهار .
وقد يخطر في الذهن أنه من اين للنفس الزكية حصول مثل هذا الجمع ،واستعمال المكبرات .


صفحة (179)



وجوابه : أننا لم نلاحظ إلى الآن في (النفس الزكية) إلا جهته الخفية وهو أنه من خاصة الإمام المهدي (ع) في أواخر عصر الغيبة . ولم يتيسر لنا ملاحظة الجهة الإجتماعية المعلنة له عادة .
إن اختيار المهدي (ع) له لينوب عنه بالتبليغ ، ليس جزافياً ، إلا بعد إحراز النجاح في ذلك ، أعني التبليغ ، وله القابلية الفكرية والإجتماعية المعلنة له دخيلة لا محالة في ترجيح اختياره .
فقد يكون هذا الرجل خطيباً معروفاً أو وجيهاً أو له درجة من المسؤولية والسلطة في المجتمع ، ومن الممكن له أن يجمع الناس ويخطب بهم بواسطة اجهزة التكبير .
وخاصة إذا عرفنا أنه سيقول قولته والناس لا زالت مجتمعة بعد الحج .فقد وردت روايات سنسمعها تعرب عن أن الظهور سيتم في اليوم العاشر من محرم الحرام ، فإذا استثنينا من ذلك خمس عشرة ليلة ، كان موعد الخطاب النفس الزكية هو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام . أي بعد انتهاء اعمال الحج بحوالي عشرة أيام.
الإعتراض الثاني : أنه كيف أمكن للنفس الزكية أن يطلع على حقيقة الإمام المهدي (ع) خلال عصر غيبته ، ويحمل منه الرسالة إلى أهل مكة .مع أن ذلك متعذر بالنسبة إلى كل أحد، إلى حين حصول الظهور .
والجواب الأولي الواضح لذلك، هو ان الإرسال كان من قبل الإمام المهدي (ع) نفسه ، وهو العالم بالمصالح، ويستطيع أن يكشف حقيقته للفرد ، اياً كان ، في حدود ما يعرفه من ملابسات وحقائق .
لكننا لو عبرنا عن الإعتراض بتعبير آخر من زاوية ما عرفناه في التاريخ السابق(1) من أن مصلحة الغيبة مقدمة على كل مصلحة ، فكيف جاز للإمام (ع) أن يكشف حقيقته أمام هذا الرجل ، مهما كان صالحاً .
يمكن الجواب على ذلك من عدة وجوه نلخصها فيما يلي : الجواب الأول :أن ما عرفناه من تقديم مصلحة الغيبة على كل مصلحة ، وإن كان صحيحاً ،إلا أن السر الأساسي فيه هو : أن كشف الغيبة وارتفاعها مناف مع حفظ المهدي (ع) لليوم الموعود . ومن ثم تكون مصلحة الغيبة هي مصلحة اليوم الموعود .
ومصلحة ذلك اليوم مقدمة على كل مصلحة .
ـــــــــــــــــ
(1) تاريخ الغيبة ص49.


صفحة (180)



وهذا البرهان لايرد في واقعة إرسال النفس الزكية ، لأن مصلحة الظهور واليوم الموعود نفسه ، أصبحت متوقفة على انكشاف الغيبة النسبة إلى هذا الشخص ، وتعرفه على حقيقة المهدي (ع) . بغض النظر عن الأجوبة الآتية . فيكون مقتضى تقديم مصلحة .هو هذا الإنكشاف لا الغيبة .
الجواب الثاني: أننا قلنا في التاريخ السابق(1) أيضاً :أن كل ناجح نجاحاً تاماً في التمحيص الإلهي ، بحيث يكون مؤهلاً للمشاركة في مهام عصر الظهور ، يكون في إمكانه رؤية المهدي(ع) خلال عصر غيبته ، إذ لا يحتمل أن يكون مورد خطر بالنسبة إليه .وقد دلت كثير من الروايات وعدد من أخبار المشاهدة ، بأن المجتمعين به (ع) في عصر الغيبة متعددون ، ممن يعرف هويته وصفته . وأنه يجمع إليه أنصاره ممن بلغ في التمحيص غايته ، ونجح فيه النجاح المطلوب .وإن في ذلك من المصالح التي تمت إلى ممارسة هؤلاء للقيادة في اليوم الموعود ، ما لا يخفى .
ويبدو من سياق الرواية التي تعرب عن إرسال النفس الزكية ،أن هذا الرجل إنما هو من هؤلاء الخاصة الذين يجمعهم المهدي (ع) ويعرفهم بحقيقته ومن هنا لا يكون في إطلاع النفس الزكية على حقيقة الإمام المهدي (ع) أي إشكال .
وينبغي أن نلاحظ هنا : أ ن النفس الزكية حتى لو كان مطلعاً على حقيقة المهدي (ع) حين إرساله ، فإنه ليس من الضروري أن يسميه في خطبته . بل قد يذكر العنوان المعلن للمهدي (ع) ويتجنب ذكر الحقيقة بالرغم من معرفته لها ، تبعاً لأمر إمامه وقائده (ع) .
الجواب الثالث : أن ننطلق من الزاوية التي تصورنا بها تعرف السفياني ، على تحركات الإمام المهدي (ع) ، وهي اطلاعه عليه بعنوانه المعلن لا بحقيقته .
فمن المحتمل ، أن لا يكون (النفس الزكية) مطلعاً على حقيقة الإمام المهدي (ع) الذي أرسله ...بل يذهب لتبليغ الرسالة وهو لا يعلم أكثر من كونها صادرة عن (فلان) الذي يسميه في خطبته .وهذا كاف في إقامة الحجة على الناس .
ـــــــــــــــــ
(1) ص150 وما بعدها .


صفحة (181)




كما أنه كاف لتفسير مقتله ، إذ لا دليل على أنهم يقتلونه باعتبار رسالته عن المهدي (ع) بالذات ، بل باعتبار مضمون خطبته ، وقد يكون المهدي بعنوانه العلني مبغوضاً لديهم أيضاً ، فينزعجون من تجاوب (النفس الزكية) معه وقبوله لتحمل رسالته .
الإعتراض الثالث : إن هذا التسلسل التاريخي الذي عرفناه في ( الفهم العام) مناف مع ما برهنا عليه من أن شرائط الظهور هي الحكم الفصل في إنجازه عند تحققها ، وهذه الأخبار تدل على أن سبب الظهور هو تهديد السفياني للمهدي (ع) بالقتل ، وقتل النفس الزكية فأيهم نأخذ؟
والجواب : إن كلا الفكرتين صادقتان وكلا السببين سبب صحيح في نفسه ،وليس مقتل النفس الزكية وتهديد المهدي (ع) إلا نتيجة من نتائج شرائط الظهور .
فإن التخطيط العام السابق على الظهور ، بما له من خصائص وصفات ، عرفناها في التاريخ السابق ، منتج لعدة نتائج يهمنا الآن منها اثنتان :
النتيجة الأولى :وجود العدد الكافي من الأفراد المخلصين الممحصين ، لغزو العالم بالعدل بين يدي المهدي (ع) وهذا هو الشرط الأخير المتبقي من شرائط اليوم الموعود الثلاثة التي عرفناها في التاريخ السابق(1). وبمجرد نجازه يتم الظهور وينجز اليوم الموعود . النتيجة الثانية : تطرف العدد الأكبر من أفراد المسلمين ، فضلاً عن غيرهم ، إلى جانب الإنحراف والضلال ، وأخذهم بالأفكار اللا إسلامية ، وعصيانهم أحكام الإسلام .
وكلما ازداد الزمان ، ازدادت نتائج التمحيص تركيزاً ...وحصلت كلتا النتيجتين بشكل أوسع وأوضح . فيتكاثر في أحد الجانبين قوى الحق والإخلاص ، ويتكاثر في الجانب الآخر انحراف المنحرفين وظلم الظالمين ، على مختلف المستويات الإجتماعية .
حتى يصبح جانب الإنحراف والفساد في المجتمع عاصياً لأوضح احكام الإسلام ، ومنكراً لضروريات الدين ، ومهدداً لحرمات الشريعة من أجل مصالحه وشهواته ...الأمر الذي ينتج أفظع النتائج لدى احتكاك اجتماعي بين الجانبين .
ـــــــــــــــــ
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص475 وما بعدها إلى عدة صفحات .


صفحة (182)




ومعه تكون كلتا النتيجتين اللتين سمعناهما من الأخبار ، طبيعية وواضحة . فموقف المهدي (ع) من السفياني سوف لن يكون إلا الشجب والإستنكار ، في حدود المقدار الممكن له حال غيبته ...الأمر الذي يولد رد الفعل لدى السفياني بإرسال الجيش وتهديده بالقتل .وأما موقف النفس الزكية فواضح من خطبته ، وإن هو إلا صورة أخرى من صور الشجب والإستنكار ؟ ، وسيكون رد الفعل هو قتله من داخل بيت الله الحرام .
وستكون ردود الفعل هذه متطرفة إلى درجة إهدارها للأحكام الضرورية في الدين ، الأمر الذي يكشف عن تمخض التخطيط والتمحيص الإلهيين عن نتائجهما المطلوبة ....فيكون موعد اليوم الموعود قد تحقق.
الإعتراض الرابع :أنه قد يخطر في الذهن :أن المستفاد من سباق الأخبار ، أن سبب الظهور هو إثارة غضب المهدي (ع) من الحادثتين المشار إليهما ، وهذا غيرصحيح ، بعد أن قامت الضرورة القطعية لدى كل مؤمن بالمهدي كونه مذخوراً لإصلاح العالم برمته ،وأنه ممن لا تهمه مصالحه الشخصية على الإطلاق .فكيف يصح أن يكون ظهوره ثأراً لهاتين الحادثتين ؟!!.
والجواب على ذلك واضح مما سبق ،وواضح في ضمير كل مؤمن بعد وجود الضرورة القطعية المشار إليها .
إن هاتين الحادثتين ستغضبان الله تعالى ، لا المهدي وحده ...بما يستنبطان من إهدار لضروريات الدين . ولكن الظهور سوف لن يكون ثأراً لأي منهما ...فإن مهمة المهدي (ع) الموعود أوسع وأعمق من هذا المجال الضيق ، بالرغم من أهميته .كلما في الأمر أن ظهوره سيكون قريباً منهما زماناً ، باعتبار تحقق شرائط الظهور .وليس لهاتين الحادثتين من صلة بالظهور إلا ما قلناه من الكشف عن تحقق الشرائط ، إلى جانب جعلها علامة عليه في الأخبار ...الأمر الذي ينبه المخلصين الممحصين إلى قرب الظهور .
وهذا في واقعه ، يمثل إحدى الفروق الجوهرية بين شرائط الظهور وعلاماته ، تلك الفروق التي أنهيناها في التاريخ السابق(1) إلى سبعة .
الناحية الرابعة : في محاولة تمحيص تلك الأخبار التي ذكرناها في الناحية الأولى ، من حيث قابليتها للإثبات التاريخي وعدمه .
وفي هذا الصدد نواجه عدة نقاط :
النقطة الأولى : أنها روايات قليلة وغير مستفيضة ، بخلاف ما جاء في السفياني أو الدجال، فإنه كثير، منها ما ذكرناه ومنها ما تركناه .
ـــــــــــــــــ
(1) انظر ص470 وما بعدها إلى عدة صفحات


صفحة (183)



إلا أن هذه النقطة غير مضرة ، تمشياً مع ميزان الإثبات التاريخي الذي سرنا عليه ...لو كانت الروايات متفقة في المضمون . أو كان بعضها موثوقاً سنداً ... ولم نكن نتوخى في الإثبات حصول الإستفاضة في الأخبار .
وقد يخطر في الذهن : أن أخبار (النفس الزكية) الموعودة ، كثيرة العدد ، ومستفيضة ،كما هو معلوم لمن استعرضها ..وليست قليلة كما قلناه.
والحق ،أننا إذا نظرنا إلى مجموع أخبار (النفس الزكية) بما فيها من الأخبار الدالة على أن مقتل النفس الزكية من المحتوم وأنه من علامات القائم ، كانت الأخبار مستفيضة حتماً .
إلا أن هذا المجموع ، لا يثبت إلا مقتل النفس الزكية إجمالاً ، وهذا لا يفيدنا في صدد كلامنا الحاضر ، لإحتمال انطباقها على محمد بن عبد الله الحسني الملقب بالنفس الزكية .وأما الأخبار التي تتحدث عن التفاصيل، والتي توضح أن هناك شخصاً آخر بهذا اللقب سوف يقتل في المستقبل ، وهي ما سمعناه في أول الفصل، فليس مستفيضاً ،وإن لم يكن عدم الإستفاضة مضراً ، كما أشرنا .
النقطة الثانية :إن في هذه الأخبار عدداً من جوانب الضعف :
الجانب الأول : ما كان رواية عن غير المعصوم ، كالخبر الذي نقله الشيخ عن سفيان أبن ابراهيم الحريري عن أبيه ... وكلام الصافي في منتخب الأخبار .
الجانب الثاني : ما كان مرسلاً ، بدون ذكر أي راوٍ على الإطلاق ، كخبر الإرشاد ، وخبر الخرايج والجرايح.
الجانب الثالث : ما كان مرفوعاً مع وجود جزء من السند ، أعني بعض الرواة وجهالة الباقي .وهو رواية البحار المتضمنة لخطبة النفس الزكية ... حيث رواها المجلسي عن السيد علي بن عبد الحميد بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي يرفعه إلى أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام .
الجانب الرابع : ما كان قاصراً في دلالته أساساً على ما فهمناه .مثل خبر الإرشاد الذي يذكر من العلامات : ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام .فإنه لا يتعين أن يكون هو النفس الزكية .المسمى بمحمد بن الحسن في الأخبار الأخرى ،وإن كان المظنون هو ذلك ، لإستبعاد أن يقتل قبل الظهور بين الركن والمقام شخصان ...مع قدسية بيت الله الحرام لدى المسلمين ووضوح حرمته .


صفحة (184)


وكذلك الخبر الثاني للبحار . فإنه يصرح باسم النفس الزكية ، وإنما قال : فيبتدر الحسني إلى الخروج ، وهو أيضاً غير متعين الإنطباق عليه .
الجانب الخامس: وجود التعارض في دلالات بعض هذه الأخبار.
فلو حاولنا أن نعرف أن النفس الزكية هل هو مرسل من قبل المهدي (ع) أو لا ؟
نجد أن الخبر المطول الذي نقلناه عن البحار .يصرح بالإيجاب .ونجد الخبر الثاني ينفيه بقوله : فيبتدر الحسني للخروج .وهو واضح في عدم استئذانه من المهدي (ع) فضلاً عن تحمل الرسالة عنه – مع افتراض أنه هو النفس الزكية والغض عما سبق – .
النقطة الثالثة : وفي هذه الأخبار بعض جوانب القوة ، وإن لم تكن تعدل جميع جوانب الضغف السابقة .
الجانب الأول : إن الخبر القائل: ليس بين القائم وبين قتل النفس الزكية إلا خمس عشرة ليلة ، خبر موثوق قابل للإثبات التاريخي ، بحسب منهج هذا الكتاب .
فقد رواه الشيخ المفيد في الإرشاد(1) عن ثعلبة بن ميمون عن شعيب الحداد عن صالح بن ميثم (الجمال) ، قال: سمعت أبا جعغر عليه السلام :
وكل هؤلاء الرجال موثقون أجلاء .وكان بودي أن أشير إلى تصريحات العلماء لولا أنه يطول به المقام ، فنوكله إلى القارىء الباحث .
ورواه الشيخ الطيوسي في الغيبة(2) عن الفضل بن شاذان عن الحسن بن علي بن فضال عن ثعلبة إلى آخر السند .وكلاهما من العلماء الثقات.
وعليه ، فما ذكرناه في التاريخ السابق(3) من المناقشة في سند هذا الحديث مبني على التشدد السندي الذي التزمناه هناك ... وقد رفعنا اليد عن الإلتزام به هنا .
الجانب الثاني : أن الخبر الثاني الذي نقله عن البحار موثوق أيضاً .فقد نقله (4) عن الكافي لثقة الإسلام الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن يعقوب السراج عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام ،وكلهم ثقات أجلاء .
ـــــــــــــــــ
(1) ص339. (2)ص271.
(3) ص613. (4) ص178.


صفحة (185)




الجانب الثالث : أننا يمكن أن نستفيد من مجموع هذه الأخبار، ومن كلمات من سمعنا تصريحاتهم كالراوندي والصافي وابراهيم الحريري ، الذين اعتبروا الأمر في عداد المسلمات . فنستفيد وجود التسالم أو الشهرة الواسعة على ان مقتل النفس الزكية يكون قبل الظهور بقليل بين الركن والمقام .وأنه غير مقتل الثائر الحسني الملقب بهذا اللقب .
غير أن هذا الجانب لا يخلو من المناقشة :
أولاً : لأنه لم يثبت وجود شهرة وتسالم أوسع من الأخبار الموجودة لتكون قرينة عليها .وكلمات الراواندي والصافي وغيرهما قد تكون اعتماداً على هذه الأخبار فقط.
ثانياً إن الشهرة – لو ثبتت- تدفع احتمال انطباق مقتل النفس الزكية على الثائر الحسني السابق .إلا أنها لا تثبت كل الخصائص المطلوبة ، ككونه رسول المهدي (ع) إلى الناس وخطبته فيهم ، ويكون سبب مقتله بين الركن والمقام مجهولاً .
غير ان الأخذ بهذا الجانب الثالث قريب من النفس ، وإن لم يصل إلى درجات الإثبات التاريخي .
فهذه هي النخبة من الحوادث الإجتماعية المروية ، لما قبل الظهور ، وهناك أمور متفرقة مروية أيضاً أعرضنا عنها ، لقصورها عن الإثبات التاريخي فيكون الدخول في تفاصيليها تطويلاً بلا طائل .
كما أن هناك تفاصيل في تحديد الوضع العالمي قبل الظهور ، مما يمت إلى إيجاد الظرف المناسب للنصر بعد الظهور بصلة .وهي تفاصيل مهمة ، سنعرض إلى محتملاتها والإستدلال عليها في القسم الثاني الآتي عند عرض ضمانات النصر للمهدي عليه السلام .


صفحة (186)


القسم الأول

في إرهاصات الظهور ومقدماته
بما فيها من أسس عامة وظواهر خاصة .
وفيه بابان :

الباب الأول
في الاسس العامة لظهور المهدي (ع)


ونعني بها القضايا الرئيسية التي يبتني عليها اليوم الموعد ، بما يحتويه من ظهور المهدي (ع) ودولته العالمية العادلة . ويتكون هذا الباب من عدة فصول :

الفصل الأول
ارتباط الظهور بالتخطيط الإلهي العام

يكون التخطيط الإلهي العام المنتج لشرائط الظهور، قد انتهى ، وتكلل بنتيجه الكبرى ، وهو حصول اليوم الموعد .
وحاصل الفكرة التي فصلناها في التاريخ السابق(1) : اننا انطلاقاً من قوله تعالى : ( وما خلقتُ الجن وَالإنسَ إلا ليَعْبُدُون)(2) نفهم : ان الغرض الإلهي الاسمى من ايجاد الخليقة . وامدادها بالادراك والاختيار ، هو التوصل بها إلى الكمال ، وهو تمحيض العبادة الحقيقة لله تعالى ، والغرض الإلهي لا يمكن ان يتختلف .
وقد ذكرنا هناك معنى العبادة الحقيقية(3) ... وبرهنا(4) على ان وجود هذا الهدف يتوفق على عدة شرائط ، هي كما يلي :
أولاً : وجود الاطروحة العادلة الكاملة المبلغة إلى البشر من قبل الله تعالى. لتكون هي القانون السائد في المجتمع .
ثانياً : وجود القيادة الحكيمة التي يقوم بتطبيق تلك الاطروحة في اليوم الموعود .
ثالثاً : وجود العدد الكافي من المخلصين المؤازرين للقائد بتطبيقه العالمي المنشود .
أما الشرط الأول : فقد خطط الله تعالى لا يجاده وتربية البشرية عليه . ضمن خط الانبياء الطويل ، حتى تكلل هذا التخطيط بالنجاح بانجاز هذا الشرط ضمن الاطروحة الاسلامية المبلغة من قبل خاتم الانبياء (ع) .
________________
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 233 وما بعدها الى عدة صفحات. (2) الذاريات:51/65. (3) تأريخ الغيبة الكبرى ص234
(4) المصدر 476 وما بعدها.


صفحة (33)



وقد سبق هناك ان برهنا ان الاطروحة العادلة الكاملة هي الاسلام(1) .
وأما الشرط الثاني : فقد وفره الله تعالى في المهدي (ع) كقائد امثل للبشرية ليكون هو المطبق لتلك الاطروحة الكاملة في اليوم الموعود . . . واكد على بقائه الطويل خلال اجيال عديده من البشر . ذلك البقاء الذي سنرى في الفصل الآتي ، كونه ضرورياً لتولية القيادة المألولة في اليوم الموعود ، وقد اعطينا طرفا ً مختصراً عن ذلك في التاريخ السابق(2) .
وأما الشرط الثالث : فقد خطط الله تعالى لايجاده بعد الاسلام . فإن تربية الفرد على تفهم وتطبيق مناهج سابقة غير الاطروحة العادلة الكاملة . والتي سبق(3) ان برهنا على مرحليتها وضيق مضمونها باعتبار ان الذهن البشري لم يكن قابلاً لأكثر من ذلك . ان التربية على تفهم وتطبيق هذه المناهج مما لا يكون مجديا ً في تحقيق العدل في اليوم الموعود .
وانما لا بد من تربية الامة الاسلامية على الاطروحة الكاملة نفسها . من حيث تفهمها واستيعاب مضمونها ـ من ناحية ـ والكفاءة لتطبيقها واطاعة مواد قانونها من ناحية ثانية . . . ليكون اللافذاذ الممحصين من هذه الامة شرف المشاركة في انجاز اليوم الموعود ، وتوطيد دعائم الدولة العالمية العادلة .
ومن هنا كان لا بد ان تمر الامة الاسلامية بخط طويل من التربية ، وبظروف معينة من الامتحان والتمحيص ، من الناحيتين الفكرية والعاطفية .
أما من الناحية الفكرية ، فتتربى الامة ، وبشكل غير مباشر كل البشرية . بما يقدمه لها المفكرون الاسلاميون من بحوث وتدقيقات لدينهم الحنيف ، لكي تكون الأمة ، ومن ثم : البشرية كلها ، على مستوى تفهم الافكار والتشريعات الجديدة التي تعلن في اليوم الموعود .
وأما التربية من الناحية العاطفية ، أي من جهة تعميق الايمان والاخلاص فالاسلوب الرئيسي لذلك : هو ان تمر الامة بظروف صعبة من الظلم والمصاعب والانحراف ، ويكون رد فعلهم تجاه هذا الظلم والانحراف ، ويكون لدى النخبة الصالحة منها من الاخلاص والايمان وقوة الارادة ، بحيث يكون رد فعلهم تجاه هذا الظلم والانحراف رد فعل مخلص متضمن للتطبيق الكامل للاطروحة الكاملة ، او الإطاعة التامة للاسلام .
______________
(1) المصدر ص 261. (2) المصدر ص 501 وما بعدها. (3) المصدر ص 255 وما بعدها و ص 258 وما بعدها.


صفحة (34)



وتستمر التربية جيلا بعد جيل على هذا الاساس ، يتزايد خلالها هؤلاء الخلصون ، كما يتطرف العديدون إلى جانب الظلم والانحراف ، حتى يأتي اليوم الذي يتوفر العدد الكافي من هؤلاء المخلصين لقيادة اليوم الموعود وتنفيذه . وعندئذ يكون الوعد الإلهي ضروري التطبيق . بعد توفر شرائطة الثلاثة .
ومعه نستطيع ان نفهم بكل وضوح ، مدى ارتباط يوم الظهور الموعود بالتخطيط العام للبشرية ، فانه في الحقيقة هو اليوم الذي يتحقق فيه السبب الرئيسي لايجاد العبادة الكاملة لله تعالى في خلقة . . . وبايجاده يتحقق الهدف الاسمى لخلق البشرية ككل .
إذاً فيوم الظهور ، ليس يوماً ولا عرضاً عارضاً ، ولا ظاهرة موقتة ، وانما هو النتيجة الطبيعة المقصودة لله عز وجل من خلقة . وعلى طريقة كانت جهود الانبياء والأولياء والشهداء . اولئك الاعاظم الذين لم تتكمل جهودهم بالنتيجة الاساسية المأمولة في عصورهم ، بل بقيت مذخورة ومخططة لليوم الموعود .
وعلى طريقة كانت تضحيات البشر والآمهم ، وما قاسوه من المصاعب والمصائب على مر التاريخ . وما مروا فيه من ظروف الظلم والعسف والنحراف . فهو غياث المستغيثين وامل الآملين ورافع كرب المكربين وظلم المظلومين ، ومحقق العدل العظيم .
وسيأتي فيما يلي من البحث، المزيد من التفضيل والايضاح لهذه الفكرة .


صفحة (35)


الفصل الثاني
في نتائج الغيبة الكبرى على ما بعد الظهور
بالنسبة إلى كل من الإمام المهدي (ع) نفسه ،
وبالنسبة إلى أصحابه وخاصته ،
وإلى الامة الإسلامية بشكل عام ، بل إلى البشر أجمعين

تنقسم الغيبة الكبرى في مفهومها الضخم الذي حققناه في التاريخ السابق غلى ثلاثة مداليل :
المدلول الأول : تأجيل اليوم الموعود إلى امد بعيد ، وإلى موعد مجهول .
المدلول الثاني : طول عمر الامام القائد المذخور للمهمة ، ومعاصرة العالمية في اليوم الموعود . . . كما يقتضية الفهم الامامي للمهدوية ، معاصرة هذا القائد لتاريخ طويل واجيال كثيرة للامة الاسلامية .
المدلول الثالث : غيبة هذا القائد خلال ذلك ، وعدم اطلاع الناس على شخصه، ومكانه واسلوب حياته . . . بالمعنى الذي ذكرناه من الغيبة في التاريخ السابق(1). ولكل من هذه المداليل تأثيره الحقيقي الفعال في اليوم الموعود .
أما المدلول الأول : فهو مدلول ثابت ومنتج سواء على الفهم الامامي للمهدي او على الفهم الآخر . لان قضية التأجيل امر واضح للمسلمين عموماً من صدر الاسلام وإلى المستقبل . . . لا يختلف الحال فيه بين ان يكون القائد المهدي (ع) موجوداً خلال هذا الاجل الطويل او لم يكن ، او غائباً او ليس بغائب .
_____________
(1) أنظر تأريخ الغيبة الكبرى ص34


صفحة (37)




ولهذا المدلول ، اعني التأجيل الطويل ، فوائد المهمة وآثارة العميقة على اليوم الموعود والدولة العالمية، من عدة نواحٍ :
الناحية الأولى : مرور الامة الاسلامية بظروف التمحيص والاختيار . التي توضح حقيقة افرادها وتكشف عن ايمان المؤمنين فيها . وتجعلها على طريق تعميق الاخلاص والوعي .
الناحية الثانية : ان ظروف التمحيص الطويل تنتج العدد الكافي من الافراد المخلصين الكاملين لغزو العالم بالعدل ، الذين يكون لهم شرف القيادة في اليوم الموعود . الأمر الذي عرفنا اهميته في التاريخ السابق مفصلاً.
الناحية الثالثة : ان هذه المدة الطويلة كفيلة باكمال تربية الاجيال من الناحية الفكرية والعاطفية او - بتعبير آخر : على فهم الاطروحة العادلة الكاملة ، أولاً ، والتدرب على اطاعتها والتضحية في سبيلها .
وقد سبق ان عرفنا في تاريخ الغيبة الكبرى فكرة مفصلة عن ذلك ـ وهذه التربية لا تختص بخصوص الممحصين الكاملين ، بل هي عامة تشمل سائر الأفراد على مختلف المستويات ، كما برهنا ، وهي تؤثر في الامة من زاوية جعلها على مستوى فهم القوانين والافكار والمفاهيم التي تعلن في الدولة العالمية والتي يكون اعلانها ضرورياً لاستتباب العدل الكامل في الارض .
وهذه النواحي الثلاث ، كما قلنا ، لا ترتبط بوجود الامام الغائب ، بل يمكن تصور انتاجها لفوائدها بدون الايمان بذلك ، طبقاً للتصور غير الامامي للمهدي . . . حتى ما إذا علم الله تعالى إكماله للنتيجة بحسب ما هو المقصود في تخطيطه الطويل ، اوجد الامام المهدي في عصره ، فأخذ بقيادة الامة الاسلامية والبشرية إلى شاطئ العدل والسلام .
الا ان هذا مما لا ينبغي المبالغة في نتيجته ، وان كان صحيحاً على أي حال ...وذلك بعد ان نلتفت إلى مجموعة امرين :
الامر الأول : ما تسالمت عليه مذاهب المسلمين على اختلافها ، من ان الحق منحصر في مذهب واحد على الاجمال ، وام المذاهب الاسلامية الاخرى بعيدة عن واقع الاسلام بقليل او بكثير غاية الامر ان كل مذهب يدعي هذه المزية لنفسه .
الأمر الثاني : ان التمحيص الإلهي الضروري لايجاد اليوم الموعود ، لا يكون الا على الحق ، والتجارب والمحن لا تنطلق الا من طاعته والاخلاص له . واما المذهب او المذاهب التي يكون في واقعها بعيدة عن الاسلام ، فالتربية على اساسها والتدريب على طاعتها تدريب على الباطل وان اتخذ صفة الاسلام .


صفحة (38)


اذاً ، فالتمحيص ينحصر في المذهب الواحد الحق المطابق للاسلام والمرضي لله تعالى من المذاهب المتعددة في الاسلام ، وهو ـ على اجماله ـ الذي يقوم فيه المخلصون الكاملون بقيادة البشرية بين يدي الامام المهدي في اليوم الوعود .
ومعه ، فالفوائد المبينه على أساس المدلول الأول والناتجة عنه ، لا تترتب الا على ذلك المذهب الحق ، ولا يمكن ان يترتب على مجموع مذاهب المسلمين .
وأما المدلول الثاني : وهو عمر الامام المهدي (ع) ومعاصرته لتاريخ طويل للامة الاسلامية خاصة وللبشرية عامة . . . فما يترتب عليه من الفوائد يختص بالفهم الامامي للمهدي (ع) ولا يعم فهم المذاهب الاخرى له . فإذا عرفنا ما لهذا المدلول من فوائد في تكميل وترسيخ العدل في عصر الظهور ، امكننا ان نعرف افضلية التصور الامامي على غيره من هذه الجهة . وان الله تعالى حين يريد افضل اشكال العدل للدولة العالمية ، فهو يختار التخطيط للغيبة . وبذلك نستكشف صحة التصور الامامي وتعين الاخذ به في التخطيط الإلهي .
وقد بحثنا ذلك في التاريخ السابق(1) طبقاً لمنهج معين ، ونريد ان نبحثه الآن طبقا لمنهج آخر ، قد يكون اكثر تحليلاً :
وخلاصة القول في ذلك : ان الاطروحة الامامية لفهم المهدي (ع) في حدودها الصحيحة المبرهنه التي عرضناها في التاريخ السابق : تتضمن ـ في حدود المدلول الثاني الذي نحن بصدده ـ عدة خصائص مهمة .
الخصيصة الاولى : الايمان بعصمة الامام المهدي (ع) ، باهتباره الثاني عشر من الائمة المعصومين.
الخصيصة الثانية : الايمان بكونه القائد الشرعي الوحيد للعالم عامة ولقواعده الشعبية خاصة ، طيلة زمان وجوده ، سواء كان غائباً أو حاضراً .
الخصيصة الثالثة : معاصرته لاجيال متطاولة من الامة الاسلامية خاصة والبشرية عامة .
الخصيصة الرابعة : كونه على مستوى الاطلاع على الاحداث يوماً فيوماً وعاماً فعاماً عارفاً باسبابها ونتائجها وخصائصها .
_______________
(1) أنظر : التخطيط الخاص بايجاد القائد ص497 وما بعدها.


صفحة (39)



الخصيصة الخامسة : كونه على ارتباط مباشر بالناس خلال غيبتة ، يراهم ويرونه ويتفاعل معهم ويتفاعلون معه ، لا انهم لا يعرفون بحقيقة الا نادراً جداً ، وذلك طبقاً لـ ( اطروحة خفاء العنوان ) التي اخترناها وبرهنا عليها في تاريخ الغيبة الكبرى(1) .
وكل هذ الخصائص مما يفقدها الفهم غير الامامي للمهدي ، بكل وضوح . وانما المهدي بحسب تلك الاطروحة شخص يولد في زمانه ، وييسر له الله عز وجل ظروف الثورة العالمية . فهل هذا العمل الكبير ممكن التنفيذ من قبل شخص غير معصوم ، احسن ما فيه انه يمثل ثقافة عصره ودرجة وعيه من الناحية الاسلامية ؟ ! ..
الحق ، اننا ينبغي ان نذعن بان مثل هذا الانسان ، لا يمكن ان يؤهل للقيادة العالمية بأي حال ، وان خصائص المهدي في التصور الامامي ليست بالخصائص الطارئة أو الثانوية ، وانما هي اساسية في تكوين قيادته وتمكنه من تحقيق المجتمع العادل ، كما أراده الله تعالى وكما وعد به .
أما الخصيصة الأولى : وهي عصمة الامام المهدي (ع) فتترتب عليها عدة فوائد ، يمكن ان نشير إلى اربعة منها :
الفائدة الأولى : كونه وارثاً علم الامامة المتضمن للاسس الرئيسية للفكر القيادي العالمي . . . عن آبائه المعصومين عن رسول الله (ص) عن الله عز وجل . وأنى لمن يوجد في العصور المتأخرة الحصول على ذلك، الا بوحي جديد من الله عز وجل، وهو ما حصل الاجماع من قبل سائر المسلمين على عدم حصوله للمهدي(ع).
ولا يخفى ما في الاطلاع على هذه الاسس الرئيسية من زيادة في القدرة على القيادة العالمية ، ان لم تكن ـ في واقعهاـ الطريق الرئيسي الوحيد لذلك وتعذر القيادة العالمية بدونها ، وكلما تعين شيء للقيادة العالمية او كان افضل لها . كان الله تعالى من منجزاً له لا محالة ، لكونه واقعا في طريق الهدف البشري الأعلى ، وكون اختيار عكسه ظلم للبشرية وموجب لتخلف الهدف وكلاهما محال على الله عز وجل ؟
الفائدة الثانية : الشعور بالابوة للبشر اجمعين ، فهو حين يحارب الكافرين والمنحرفين ويقتل العاصين ، لا يشعر تجاههم بحقد او ضغينة وانما يحاربهم من اجل مصالحهم انفسهم ونشر العدل والسعادة في ربوعهم . وايصال الحق إلى اذهانهم .
_____
(1) أنظر ص34 وما بعدها.


صفحة (40)



واجتماع هاتين العاطفتين ، اعني الشعور بالابوة مع قصد القتل ، لا تتوفر لدى أي أحد في التجربة الفعلية للفتح الاسلامي الا اذا كان معصوماً .
ومن هنا رأينا الفتح الاسلامي بعد انحسار القيادة المعصومة عنه ، قد تحول إلى مقاصد اخرى لا تمت إلى الشعور بالعطف الابوي على الشعب المغلوب ، بأي صلة ... وانما اصبح الفتح تجارياً محضاً، كما سمعنا طرفاً منه في (تأريخ الغيبة الصغرى)(1).
فإذا كان هذا الشعور متعذراً لغير المعصوم في الفتح الاسلامي العالمي ذو النطاق المحدود ،فكيف بالفتح الاسلامي العالمي، بما تزهق فيه من نفوس ، وماتحصل فيه من اموال ، وما يتسع فيه من سلطان .
الفائدة الثالثة : عدم الانحراف بالقيادة عن مفهومها الاسلامي الصحيح الذي يشجب استغلالها في سبيل ترسيخ الكرسي والتمسك بدفة الحكم والجشع الشخصي . . . هذه الآثار السيئة والعواطف المنحرفة التي لا يكاد تنفك عن كل من يحكم رقعة من الأرض، او دولة معينة ، فكيف إذا أصبح الحكم عالمياً واصبحت السيطرة والنفوذ في القمة من السعة والشمول .ان الفرد مهما كان صالحا ونقيا قبل هذه القيادة ، سيكون مثل هذه القيادة محكا لانحرافه وطمعه ، لمدى ضغط الدافع الشخصي والمصلحي على الفرد الحاكم ، مالم يكن معصوما بالفعل عن ارتكاب كل قبيح ومعصية في التشريع الاسلامي .

الفائدة الرابعة: الدقة الكاملة في التطبيق العالمي للاطروحة العادلة الكاملة ومن ثم الأخد بزمام المجتممع للعبادة المحضة لله عز وجل ، التي هي الهدف الأساسي من ايجاد الخليفة .
وهذه الدقة يمكن ان تتوفر للمعصوم بكل سهولة ، بناء على الفهم الامامي للعصمة . وهو ان المعصوم ممتنع عليه الخطأ والنسيان مضافاً إلى عصمته من الذنوب ، وان الامام ( متى أراد ان يعلم شيئا اعلمه الله تعالى ذلك) كما نطقت به الاخبار(2) . فان المشاكل العالمية مهما كثرت وتعقدت ، يمكن للامام التصف بهذه الصفات ، ان يهيء لحلها اقرب الاسباب.
____________
(1) أنظر ص96 وما بعدها. (2) أنظر: الكافي (الاصول) لثقة الإسلام الكليني (مخطوط) في باب بعنوان: أن الائمة إذا شاءوا بعلموا علموا .


صفحة (41)




ولعل هذا هو السر الأساسي في جعل هذه الصفات للمعصوم واتصافه بها مع انه لا تترتب عليها مصالح الدعوة الإلهية بالمعنى الشخصي .
وذلك: انه قد يستشكل في الدليل العقلي التقليدي على العصمة ، بان : غاية ما دل عليه ذلك الدليل هو وجوب عصمته عن الذنوب وعن الكذب في التبليغ والدعوة ، لكي يكون كلامه مؤثراً في الآخرين ومقنعاً لهم . بخلاف ما لو عرفوه محتمل الكذب في حياته السابقة ، فان هذا التأثير لا يحصل لا محالة ، اما عصمته عن الخطأ والنسيان فهو مما لا يشمله ذلك الدليل لإمكان تدراك ما فات بعد الالتفات .
والجواب عن ذلك ، على ضوء النتائج السابقة ، ان العصمة عن الخطأ والنسيان مما يتوقف عليه التطبيق العالمي للعدل الكامل(1) . وخاصة في مهمته الأولى، وتحويل العالم الفاسد إلى عالم صالح عادل ، والمفروض في كل معصوم ان يكون على مستوى القيادة الثابتة له نظرياً . اعني ان يكون له من القابليات ما يمنعه من التقصير في تنفيذها . باعتبار ان ايكال الدعوة إلى شخص قاصر عن تطبيقها مستحيل على الله عز وجل ، بل لا بد ان تنسجم دائما مدعيات الدعوة الالهية من الناحية النظرية مع امكان التطبيق على طول الخط .
هذا حال المعصوم ، ام الغير المعصوم ، فيتعذر عليه تماما قيادة العالم بالعدل ، وخاصة في تحويل لأول مرة من الظلم إلى العدل ، الأمر المملوء بالمشاكل والعقبات .
ولعل أطرف ما يبرر ذلك ، ما روي عن ذي القرنين حين اوكل إليه الله تعالى قيادة العالم ، ولم يكن حاكماً من الناحية العملية إلا على بعض العالم . . . وقد أوحى الله تعالى ، ( يا ذا القرنين انت حجتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين من مطلع الشمس الى مغربها . وهذا تأويل رؤياك .
_____________
(1) ولا ينافي هذا ما قلناه في التاريخ السابق عن القاعدة القائلة: اذا أراد الامام أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك. فاننا حددناها هناك (ص517) ببعض القبود. ولكنها في ضمن تلك الحدود تكون كافية للقيادة العالمية ، ولا يقتضي الدليل الذي ذكرناه هنا ما هو أوسع من ذلك.


صفحة (42)




فقال ذو القرنين : ياإلهي انك ندبتني لأمر عظيم ، لا يقدر قدره غيرك . فأخبرني عن هذه الأمة ، بأية قوة اكابرهم ، وبأي عدد أغلبهم وبأي حيلة أكيدهم ، وبأي صبر أقاسيهم ، وبأي لسان أكلمهم . وكيف لي بأن اعرف لغاتهم ، وبأي سمع أعي قولهم ، وبأي بصر انقدهم ، وبأي حجة اخاصمهم ، وبأي قلب أعقل عنهم ، وبأي حكمة أدبر أمرهم . وبأي علم اتقن امرهم ، وبأي حلم اصابرهم ، وبأي معرفة أفضل بينهم ، وبأي عقل احصيهم. وبأي جند أقاتلهم ، فإنه ليس عندي مما ذكرت يارب شيء ! فقوّني عليهم ، فانك الرب الرحيم الذي لا تكلف نفساً إلا وسعها ، ولا تحملها إلا طاقتها ) (1).

فهذه الرواية تبرز بوضوح صعوبة ممارسة الحكم العالمي . ولئن ذللت المدينة الحديثة بعض هذه المصاعب إلى حد ما ، فانها اضافت إليها مصاعب وتعقيدات جديدة . تزيد في الطين بلة . ولولا ان الله عز وجل وعده بعد ذلك ـ لو صحت الرواية ـ بالتوفيق والتسديد ، لكان من الحق تعذر بل استحالة القيادة الشخصية غير المعصومة للعالم ، بل لبعض العالم ، فان ذا القرنين لم يكن حاكما للعالم ، بل لبعض العالم ، فان ذا القرنين لم يكن حاكما للعالم كله.

نعم ، ترتفع هذه الاستحالة ويقل التعذر ، مع وجود القيادة الجماعية الا اننا سبق ان ناقشناها بالتفصيل في التاريخ السابق(2) ، وسيأتي تطبيق ذلك في مستقبل هذا التاريخ . وسيتضح انه لا يمكن للمهدي ان يأخذ بالقيادة الجماعية الا بعد ان تمر البشرية بتربية طويلة طبقا للمناهج التي يضعها بنفسه .
وعلى أي حال ، فقد كان المقصود البرهنه على أهمية الخصيصة الأولى للمهدي (ع) وهي صفة العصمة ، وانه لا يمكن لأي شخص غير معصوم الاضطلاع بمهمة القيادة العالمية.
وأما الخصيصة الثانية للامام المهدي (ع) في الفهم الامامي ، وهي كونه القائد الشرعي والوحيد للعالم عامة ولقواعده الشعبية خاصة ، حتى في حال غيبته . . . فتترتب عليها عدة فوائد بالنسبة إلى من يؤمن بقيادته . فان اثرها الكبير في تعميق التمحيص الإلهي وتوسيعه .
___________
(1) انظر إكمال الدين للشيخ الصدوق ( نسخة مخطوطة). (2) أنظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 477 وما بعدها.


صفحة (43)




فإن الفرد المؤمن بقيادته حال غيبته ، حين يكون على محك التمحيص الإلهي ، الساري المفعول لاجل صقل ايمانه وتعميق اخلاصه وتكميل نفسه . . . إذا اخذ الفرد مفهوم القيادة المهدوي في ذهنه ، فانه سوف ينعكس على سلوكه بكل وضوح . وسيتجه إلى العمل والتضحية اكثر من الفرد الخالي من هذه الفكرة بطبيعة الحال ، وذلك ، لا قتران مفهوم القيادة المهدوية في ذهنه بعدة حقائق .
الحقيقة الأولى : كونه جندياً مأمورا موجها بالفعل للعمل في سبيل الله واطاعة احكامه . وان أوامر قائده المهدي (ع) موجودة ومتوفرة لدية متمثلة بالاحكام الاسلامية ، فان المهدي هو المثل الحقيقي للاسلام ، فأوامر الاسلام أوامره ، ورغبات النبي (ص) في امته رغباته .
الحقيقة الثانية: كونه مسوؤلا ومحاسبا امام هذا القائد ، ولو بشكل غير مباشر .
كيف وأن صوت القائد موجود في ضميره الاسلامي يحمله على الخير ويردعه عن الشر . وهذا الفرد يعلم ان قائده حي مطلع على ما يصدر منه من اعمال ويقيم ما يقوم به من حسنات او سيئات ، فأحرى به ان يدخل السرور عليه بحسناته وان لا يخجل امامه بسيئاته وانحرافه .
الحقيقة الثالثة : الشعور بمظلومية هذا القائد حال غيبته ، وبمظلومية البشر البائسة التي اوجبت لها غيبة امامها ومرورها بعصور الظلم والانحراف ، كثيرا من القمع والاضطهاد .
الحقيقة الرابعة : الشعور باتنظار هذا القائد ، واحتمال ظهوره وقيامه بدولة الحق في اي لحظة من الزمن . وهذا يستدعي ، بطبيعة الحال ، ان يرعي الفرد تعميق اخلاصه وايمانه وتضحياته في سيبل دينه . . . ليكون له الزلفة لدي امامه وقائده عند ظهور واهلية شرف المشاركة بين يديه في اصلاح العالم وقيادته .
إلى غير ذلك من الحقائق التي تكون كل واحدة منها فضلا عن مجموعها من اكبر المحفزات للفرد المؤمن على مزيد العمل والتضحية في الخط الاسلامي الصحيح . وهذا نفسه يوجب النجاح في التمحيص الإلهي بشكل اعمق واسرع بطبيعة الحال . ولا يمكن ان يترتب شيء من هذه الفوائد مع عدم الايمان بقيادة الامام المهدي (ع) وغيبته .
وهناك فوائد اخرى تترتب على ذلك ، تكون مشتركة مع الخصائص الآتية بحسب التطيبق والوجود ، ومن هنا كان الأفضل ذكرها مع تلك الخصائص .


صفحة (44)


الخصيصة الثالثة : وهي عبارة عن معاصرة الامام المهدي (ع) لاجيال طويلة من البشرية . . . ولها عدة فوائد نقتصر منها على فائدتين تعود احداهما على الامام نفسه وتعود الأخرى على البشرية :
أما الفائدة التي تعود الى الامام ، فهي ما عرضناه في التاريخ السابق(1) وأقمنا عليه القرائن من ان معاصرة الامام للأجيال توجب اطلاعه المباشر على قوانين تطور التاريخ وتسلسل حوادثه ، الأمر الذي يؤثر تأثيراً كبيراً في عمق قيادته بعد ظهوره.
وأما الفائدة التي تعود الى البشر ، فهي باعتبار ما ورد في اخبار المصادر الخاصة من الحاجة إلى وجود الامام حاجة كونية قهرية مضافاً إلى الحاجة القيادية .
منها : ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني في الكافي(2) بإسناده عن أبي حمزة ، قال : قلت لأبي عبدالله ـ الصادق ـ (ع) : تبقى الأرض بغير إمام؟
قال: لو بقيت الأرص يغير إمام لساخت .
وما أخرجة بسنده عن أبي هراسة عن أبي جعفر الباقر ـ(ع) ، قال : لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لما بأهلها كما يموج البحر بأهله .
وهي تدل بظاهرها ـ بغض النظر عن إمكان حملها على الرمزية ـ بأن بقاء الإمام ضروري لحفظ بقاء الأرض ومن عليها ، حتى يكون لها وجود ونظام كوني كامل يمكن تنفيذ الوعد الإلهي وإنتاج التخطيط العام من خلاله . وهذا إنما يتم مع وجود الإمام معاصراً لكل الأعوام والأجيال البشرية . . . وخاصة بعد الاعتقاد الإمامي المؤيد باخبار العامة(3) بأن الأئمة اثنا عشر للحصول على هذه الفائدة .
وقد يكون هذا هوالمراد من قوله امام المهدي (ع) ، فيما روي عنه : واني لأمان لأهل الأرض ، كما أن النجوم امان لأهل السماء (4).\
________________
(1) أنظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 514 وما بعدها. (2) انظرباب:ان الارض لا تخلو من حجة اصول الكافي ، (نسخة مخطوطة).
وكذلك ما بعده . وانظر أيضاً: الغيبة للشيخ الطوسي ص 92 ط النجف.
(3) أخرجها البخاري: انظر ج9 ص101 ومسلم انظر ج 6 ج 3-4 وغيرهما من الصحاح وكتب الحديث.
(4) انظر ناريخ الغيبة الكبرى ص 54 عن الاحتجاج للطبرسي.


صفحة (43)



الخصيصة الرابعة : كون الأمام المهدي (ع) على مستوى الاطلاع على الاحداث ، يوماً فيوماً وعاماً فعاماً ، عارفاً بأسبابها ونتائجها .
وتحتوي على عدد من الفوائد مضافاً إلى الفائدة الأولى من الخصيصة الثالثة ، أهمها : الحفاظ على المجتمع المسلم ودفع البلاء الواقع عليه من أعدائه عليه .
فإن الإمام المهدي (ع) حين يعلم يجريان الأحداث وأسبابها ومسبباتها ، وما قد تؤول إليه من مضاعفات ، وحين يكون مكلفاً إسلامياً برفع الأضرار والدواهي عن المجتمع المسلم ، في بعض الحدود التي ذكرناها في التاريخ السابق(1) ... وقد وعد هو (ع) بذلك فيما وري عنه(2) ... حين يكون كذلك ، فانه لا محالة يقوم بوظيفة المقدسة خير قيام . وقد عرضنا(3) الأسلوب الذي يمكنه (ع) به أن يقوم بالأعمال النافعة خلال غيبتة.
هذا مضافا إلى تقييمه للناس والمجتمعات ، طبقا للميزان العميق الذي يحمله ويعرفه ، الأمر الذي يوفر عدة نتائج : منها : اطلاعه على درجة إيمان المؤمنين وإخلاص المخلصين ، واتجاهاتهم السلوكية والعقائدية في الحياة .
ومنها : اطلاعه على سلوك المنحرفين والكافرين ، ومحتملات نتائجة على الإسلا م والمسلمين ، لأجل التوصل من ذلك إلى محاولة الحد من تأثيره.
ومنها : معرفته بتحقيق شرط اليوم الموعود ، الذي هو يوم ظهوره ، وهو وجود العدد الكافي من الناصرين والمؤازرين له على فتح العالم ومباشرة حكمه بالعدل طبقاً لاحد المحتملات في أسلوب تعرفه على يوم ظهوره، مما سوف يأتي عرضه واختيار الصحيح منه.
الخصيصة الخامسة : وهي اتصال الإمام المهدي (ع) بالناس ومحادثته لهم وتفاعله معهم ... ولها ـ على الاقل ـ فائدتان ، إحداهما خاصة بالإمام المهدي (ع) والأخرى عامة للمجتمع المسلم كله.
_____________
(1) أنظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 53 وما بعدها. (2) المصدر ص 167 و ص175.
(3) المصدر ص 176.


صفحة (46)



أما الفائدة الخاصة به (ع) ، فهو اختلاطه بالناس وارتفاع الوحشة عنه ، تلك الوحشة المشار إليها في بعض
الأخبار(1) والثابته له على تقدير بعده عن الناس وسكناه في الصحارى والقفار ، كما ورد في رواية ناقشناها في التاريخ السابق(2) . هذا ،مضافاً إلى قضاء حوائجة الشخصية الضرورية لكل إنسان ، بشكل أسهل من أي أسلوب آخر يتخذه في الحياة .
وأما الفائدة التي تعم المجتمع كله ، بانصال المهدي (ع) بأفراده ، فهي انه (ع) ، حين يتصل بالناس ، يقوم بوظيفة الإسلامية تجاههم من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقريبهم من الطاعة وإبعادهم عن المعصية وحثهم على الأعمال العامة النافعة وبذور الصلاح في الأفراد والمجتمع ... في الحدود وبالشكل الذي سبق ان حولناه على التاريخ السابق .
ومن ثم السير قدماً بتحقيق الشرط الثالث من شرائط الظهور، باعتبار أن الناس كلما ازداد إيمانهم واخلاصهم ، كلما كان احتمال تحقق العدد الكافي لغزو العالم أقرب وأوضح .
وهذا وينبغي أن نعرف في نهاية الحديث عن خصائص الإمام المهدي (ع) في غيبته : انها خصائص متساندة ومتعاضدة ، باعتبار أن المتصف بها شخص واحد ، فمن المنطقي أن تكون الفوائد المشار إليها منطلقة من مجموع الخصائص وإن كانت بواحدة الصق ونحوها أقرب .
وبهذا يتم الكلام عن المدلول الكبرى.
وأما المدلول الثالث للغيبة الكبرى ، وهو استتار الامام القائد وخفاء شخصه وعمله ومكانه على الناس ، اعني بصفته الحقيقية .
. . . ففائدته الكبرى بالنسبة إلى اليوم الموعود ، هو حفظه (ع) من شر الأعداء للقيام ليبقى مذخوراً بالمهام الكبرى في ذلك اليوم المجيد .
_____________-
(1) عن الامام الباقر(ع) انه قال: لا بد لصاحب هذا الامر من عزلة،ن ولا بد في عزلته من قوة، وما بثلاثين من وحشة...الحديث.
أنظر تأريخ الغيبة الكبرى ص 47 عن غيبة الشيخ الطوسي.
(2) وهو ما ورد عن المهدي(ع) نفسه يقول عن أبيه (ع): وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها..الحديث.


صفحة (47)



المصدر ص 72.
وهذا ما أشرنا إليه في الأخبار :
أخرج الشيخ الطوسي في الغيبة(1) بإسناده عن زرارة ، قال : ان للقائم غيبة قبل ظهوره ، قلت : ولم ؟ قال : يخاف القتل .
وفي حديث آخر(2) عن زرارة بن أعين أيضاً ، قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول : إن للغلام غيبة قبل أن يقوم ، قلت : ولم ؟ قال : يخاف . وأوما بيده إلى بطنه .
وأخرج الشيخ الصدوق في إكمال الدين(3) بإسناده عن سعيد بن جبير قال : سمعت سيد العابدين علي بن الحسين يقول : في القائم منا سنن من سنة الأنبياء (ع) . . . إلى أن قال : وأما موسى فالخوف والغيبة ... الحديث .
وفي حديث آخر(4) عن محمد بن مسلم الثقفي الطحان ، قال : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وعلى آله فقال لي ، مبتدئاً : يامحمد بن مسلم ان في القائم من آل محمد (ص) شبهاً من خمسة من الرسل . . . إلى أن يقول : واما شبهه من موسى فدوام خوفه وطول غيبته وخفاء ولادته . . . الحديث
ولعل هذه الفائدة ، هي المصلحة الوحيدة التي بينتها الأخبار للغيبة الكبرى . باعتبارها المصلحة الوحيدة المناسبة مع المستوى الفكري والثقافي الذي كان موجوداً في عصر صدور هذه الأخبار.
وثبوت هذه الفائدة واضح ، بعد التسليم بأمرين :
الأمر الأول : الفهم الإمامي القائل : بأن المهدي هو الإمام الثاني عشر من الأئمة المعصومين (ع) . الذي هو الفهم الذي ننطلق منه في إثبات أكثر مداليل الغيبة الكبرى كما عرفنا .
_________________
(1) ص201 . (2) نفس المصدر ص202 . (3)نسخة مخطوطة غير مرقمة الصفحات.
(4) نفس المصدر.


صفحة (48)



الأمر الثاني: ان الإمام المهدي (ع) لو كان ظاهراً معروفاً بحقيقته ، قبل اليوم الموعود ، لقتله الظالمون لا محالة... بعد التسالم الواضح على أن هدفه الأساسي هو تطهير الأرض من الظلم وتبديل أوضاع الظالمين . إذاً ، فكل من لا يرضى بهذا التبديل ، انطلاقاً من انحرافه ومصالحة الشخصية ، سيكون ضده.
وسيكون القضاء على المهدي (ع) متيسراً بأسهل طريق . لأنه ليس له من ينصره أو يدافع عنه ، أو ويوجد من لا يكفي لذلك ، لما عرفناه مفصلاً من أن نصره متوقف على تمخض التخطيط العام عن وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل . وان هذا لا يتم الا قبيل ظهوره . واما خلال المدة المتخللة قبله فان التخطيط لم ينته بعد ولم ينتج هذا العدد الكافي . إذا فقيامه بالثورة العالمية متعذر تماماً ، ودفاعه عن نفسه بدون ذلك متعذراً أيضاً ، لاقتران وجوده في اذهان الناس بالثورة العالمية . . . إذا فتعين أن يكون غائباً غير معروف وان لا تنكشف حقيقته إلا يوم ظهوره في اليوم الموعود . وذلك من أجل جل أن يبقى مذخوراً لتلك المهمة الأخرى. ومن الواضح أن مقتله يفقد اليوم الموعود قائدة ، الذي لا يوجد غيره . بحسب الفهم الإمامي ، ومن ثم يخل بالدولة العالمية ، وبالهدف العام من خلق البشرية.

وقد يخطر في الذهن : ان المهدي (ع) يمكن أن يكون معروفاً ، الا ان الله تعالى يحفظة عن طريق المعجزة ، لأجل تنفيذ اليوم الموعود والهدف العام ... بعد أن عرفنا(1) من قانون المعجزات ، كالطريق الطبيعي غير الاعجازي، متعيناً ، ولا تحدث فيه معجزة .
وجواب ذلك : اننا عرفنا إلى حنب ذلك من قانون المعجزات انه متى أمكن السير نحو الهدف بدون معجزة ، كان الطريق الطبيعي غير الاعجازي ،متعيناً ، ولا تحدث فيه معجزة .
فبالنسبة إلى المهدي (ع) حين كان هو الامام الثاني عشر من المعصومين (ع) ، ولا إمام بعده ، كان حفظه لليوم الموعود واطالة عمره متعينا بالمعجزات ، ولا بديل لذلك . ومن أجل هذا حدثت المعجزة وطال عمره . وأما حفظه لذلك اليوم بمعنى دفع القتل عنه ، فهذا يتعين عن طريق المعجزة . بل يمكن أن يكون عن طريق الغيبة أيضاً ، وهي طريق طبيعي واضح ، كما سبق أن برهنا في التاريخ السابق(1) لا يتضمن في أساسه الا غفلة كل أفراد البشر عن حقيقته وعدم العلم بكونه هو المهدي ، ومن ثم لا يوجد عند أحد القصد إلى قتله . بصفته مهدياً . وقلنا انه إذا أمكن الطريق الطبيعي ، ولا تقوم المعجزة بتنفيذه.
__________________
(1) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص38 .


صفحة (49)




وبمعرفتنا مداليل الغيبة الكبرى ونتائجها الكبرى بالنسبة إلى الأمة الاسلامية خاصة والبشرية عامة . وبالنسبة
إلى الإمام المهدي (ع) خاصة وتنفيذ اليوم الموعود عامة ... يتبرهن لدينا بوضوح أهمية الغيبة الكبرى ، وكونها رئيسياً في التخطيط الإلهي العام لا يمكن الإستغناء عنه .
واما مع الأخذ بالفهم غير الإمامي للمهدي وكونه شخصاً يولد في زمانه وسيوقف للثورة العادلة في حينه . ان مثل هذه القائد لن يستطيع بأي حال قيادة العالم قيادة عادلة عادة ، ولو فرضنا ـ جدلاً ـ انه استطاع ذلك لفترة، فهو لا يستطيع ضمان بقاء التطيبق الإسلامي على الدوام ، كما هو المفروض في دولة المهدي وسيأتي الإستدلال عليه .
وينطلق الحكم بعدم استطاعة مثل هذا الإنسان القيام بهذه المهمة ، من حقيقة عدم لياقته لذلك ، وقصوره عنه قصوراً تاماً ، بعد كونه فاقداً لكل النتائج التي عرفناها للغيبة الكبرى . وبخاصة صفة العصمة التي يكون فاقداً لها ولكل خصائصها المهمة . وأما المدلول الأول الذي يشمل الفهم غير الإمامي للمهدي ، فنتائجه تظهر في الأمة أو البشرية ، وليس لها نتائج خاصة بالمهدي كما مر.


صفحة (50)


الفصل الثالث
توقيت الظهور
من ناحية شرائطه وعلاماته .

إن اهم الفروق بين شرائط الظهور وعلاماته ، هو أن الشرائط عدة خصائص لها التأثير الواقعي في ايجاد يوم الظهور والنصر فيه وانجاز الدولة العالمية ، ولولاها لا يمكن أن يتحقق سواء وجدت أو لم توجد وانما هي أمور جعلت من قبل الله سبحانه وبلغت إلى البشر من قبل الصادقين قادة الإسلام الأوائل . بصفتها دوالاً وكواشف عن قرب الظهور، إذا كانت منم العلامات القريبة ، أو عن أصل حصوله ، لو كانت من العلامات البعيدة ، وذلك : ليكون الأفراد المنتظرون لذلك اليوم المختارون للعمل فيه نتيجة لنجاحهم التام في التمحيص ، بحالة التهيؤ النفسي الكامل لا ستقباله عند حدوث العلامات القريبة .
وهذا هو الذي قلناه في التاريخ السابق وعرفنا فيه عدة فروق بين الشرائط والعلامات بالنسبة إلى ما بعد الظهور .
عرفنا في الفصل الأول : أن المهم المتبقي مما لم يحدث إلى الآن من شرائط الظهور ، ولم يتمخض التخطيط الإلهي عن ايجاده ، أمران :
الأمر الأول : تربية الأمة ككل من الناحية الفكرية ، حتى يكون لها القابلية لاستيعاب وفهم وتطبيق القوانين الجديدة التي تعلن بعد الظهور.
الأمر الثاني : تربية العدد الكافي للنصر في يوم الظهور من الأفراد المخلصين الكاملين الممحصين ، الذين يكونون على مستوى التضحية والفداء لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة .


صفحة (51)


وهذان الأمران يحدثان تدريجاً نتيجة للتربية الطويلة البطيئة للأمة ، تحت الظروف والخصائص التي سبق ان عرفناها . وسوف لن يتمخض التخطيط الإلهي لايجادهما الا قبيل الظهور . وبتعبير آخر: انهما عندما يتحققان يكون اليوم الموعود نافذاً بجميع شرائطة ، ومعه لا يمكن أن يكون متخلفاً أو متأخراً عن ذلك .
واما الاطلاع على انهما تحققا فعلاً أو لم يتحققا ، فهو مما لا يمكن أن يعرفه الناس الا عند الظهور ، لأنه يكون دالاً على تحققهما قبله لا محاله ولا يحصل هذا الاطلاع عند البشر إلا للإمام المهدي نفسه ، على ما سنذكره في فصل قادم .
وهذان الشرطان يكونان مقترنين في تطورهما التدريجي ، والوصول إلى الغاية المطلوبة . وبخاصة وهما لا يتضمنان في مفهومهما مقداراً محدداً غير قابل للزيادة . إذ في الامكان تطور الأمة من الناحية الفكرية والإخلاص على الدوام . غير أن لهذين الأمرين (حد ادنى) يصلح أن يقوم عليه اليوم الموعود ومع تحقق هذا الحد الأدنى لكلا الشرطين معاً يكون اليوم الموعود واقعاً ونافذاً لا محالة . ويكون التطور الزائد في جوانب الأمة الإسلامية موكولا ً إلى ما بعد الظهور .
وهذان الشرطان متشابهان في التطوير إلى حد كبير ، تبعاً لازياد الظلم والانحراف ، المنتج لهما معاً . ولكن لو فرض أن أحدهما كان اسرع من الأخر ، فترة من الوقت ، بحيث وصل إلى الحد الإدنى المطلوب قبل الآخر كما يتصور ـ عادة ـ في الجانب الفكري ، فانه أسرع تطوراً من جانب الإخلاص وقوة الإرادة ، كما برهنا عليه في التاريخ السابق(1) ... هو حصول الحد الأدنى من العدد الكافي من الجيش الفاتح للعالم ، مع تعمق القابلية الفكرية للأمة أكثر دقة ورسوخاً . وكذلك لو فرض تطور الإخلاص أكثر من القابلية الفكرية ، فإنه مما لا ضير فيه ، إن لم يكن أكثر نفعاً بالنسبة إلى يوم الظهور .
_______________
(1) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص265 .


صفحة (52)




وعندما يتكامل هذان الشرطان ، تكون كل الشرائط المطلوبة قد اجتمعت في زمن واحد . فالأطروحة العادلة
الكاملة موجودة بين البشر ، متمثلة بتعاليم الإسلام كما برهنا عليه في التاريخ السابق(1) .والأمة قد ترتب على فهمها بدقة واتقان ، وأصبحت قابلة لتفهم القوانين الجديدة التي تكون على وشك الصدور في اليوم الوعود . والقائد موجود متمثل بالإمام المهدي (ع) على كلا الفهمين الإمامي وغيره . والعدد الكافي من الجيش العقائدي القيادي متوفر لفتح العالم ونشر العدل والسلام بين ربوعه مع وجود العامل المساعد المهم وعو انكشاف نقاط الضعف لكل التجارب البشرية والمبادئ والقوانين الوضعية السابقة على الظهور ، واليأس من حل بشري جديد ، كما سبق أن اوضحناه في التاريخ السابق(2).
وإذا اجتمعت هذه الشرائط . كان تنفيذ الوعد الإلهي والغرض الأهم من الخلق ضرورياً ،لاستحالة تخلف الوعد والغرض في الحكمة الإلهية الأزلية .
ومن هنا نعرف أن وقت الظهور ، منوط باجتماع هذه الشرائط .
ومن أجل ذلك ، قد يخطر في الذهن منافات ذلك مع ماورد في اخبار المصادر الخاصة من نفي التوقيت وتكذيب الوقاتين .
كرواية الفضيل ، قال : سألت أبا جعفر (ع) : هل لهذا الأمر وقت ؟ ... فقال : كذب الوقاتون كذب الوقاتان ، كذب الوقاتون .
وعن أبي عبد الله الصادق (ع) : كذب الوقاتون وهلك المستعجلون ، ونجا المسلمون ، وإلينا يصيرون .
وعنه (ع) : من وقت لك من الناس شيئاً ، فلا تهابن أن تكذبه فلسنا نوقت لأحد وقتاً(3) .
وأخرج النعماني عن أبي بكر الحضرمي ، قال : سمعت أبا عبدالله ( ع) يقول : انا لا نوقت هذا الأمر(4).
وهذه الأخبار بعدد قابل للإثبات التاريخي ، وواضحة الدلالة على نفي التوقيت . فلو كان ما ذكرناه من اقتران اليوم الموعود بشرائطة توقيتاً له . إذا يجب تكذيبه جملة وتفصيلاً .
_________________
(1) المصدر ص 261. (2) تأريخ الغيبة الكبرى ص249 وغيرها. (3) الغيبة للشيخ الطوسي ص262 ... الاخبار الثلاثة كله
(4) الغيبة للنعماني ص 155.


صفحة (53)



إلا أنه من حسن الحظ ! ان التوقيت المنفي ليس هو ذلك بل المراد به ـ بوضوح ـ تحديد الوقت بتاريخ معين ، كما لو قيل ـ مثلا ـ إن الظهور أو اليوم الموعود ، يكون في سنة الفين ميلادية أو في سنة الفين هجرية .
والقرينة على ذلك ، ما ورد من الأخبار التي تنفي توقيتاً معيناً : كالذي أخرجه النعماني(1) باسناده عن عمار الصيرفي قال: سمعت ابا عبدالله (ع) يقول : قد كان لهذا الأمر(2) وقت ، كان في سنة أربعين ومائة ، فحدثتم به وأذعتموه ، فأخره عزوجل .
وعن أبي الثمالي قال سمعت ابا جعفر (ع) يقول : يا ثابت ان الله كان قد وقت هذا الأمر في سنة السبعين . فلما حدثناكم بذلك أذعتم وكشفتم قناع الستر ، فلم يجعل الله لهذا الأمر بعد ذلك عندنا وقتاً ، يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب .
وفي هذه الأخبار بعض المفاهيم وبعض المناقشات ، لا مجال للدخول فيها . ولكنها لا تضر بما نريده الآن من انها دالة على أن المراد من التوقيت تحديد الوقت بتاريخ معين ، فإن الروايات الأخص تكون قرينة على الأعم .
وهذا النحو من التوقيت فيه عدد من نقاط الضعف :
النقطة الأولى : إنه جزاف بدون أي دليل . كيف وقد أجمع المسلمون على أن وقت اليوم الموعود موكول إلى علم الله عزوجل . مع الغموض التام بالنسبة إلى الناس .. بل ظاهر الرواية الأخيرة انه خفي حتى على المعصومين أنفسهم . ومن هنا يكون ذكر أي تاريخ معين جزافاً محضاً وكذبأً صريحاً .
النقطة الثانية : ان تاريخ الظهور لو كان محدداً معروفاً ، لكان من أشد العوامل على فشل الثورة العالمية وفناء الدولة العادلة ، فإنه يكفي أن يحتمل الأعداء ظهوره في ذلك التاريخ ، ولو اعتبار المسلمين ذلك . فيجتمعوا على قتله في أول أمره وقبل اتساع ملكه واستتباب أمره .
__________
(1) المصدر ص 157 وكذلك الخبر الذي بليه.
(2) المراد من هذا الأمر ما يشمل ظهور المهدي(ع) وليس خاصاً بذلك. وفي بعض الروايات ما هو خاص به كذلك أخرجه
النعماني عن أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال قلت له:جعلت فداك متى خروج القائم عليه السلام . فقال: يا أبا محمد ، إنا
أهل بيت لا نوقت. وقد قال محمد (ص) كذب الوقاتون ... الحديث ( غيبة النعماني ص155 وما بعدها).


صفحة (54)




ولذا اقتضى التخطيط الإلهي ، من أجل إنجاح اليوم الموعود ، أن يكون الظهور فجائياً ، مثاله مثال الساعة لا يجليها لوقتها ، كما نطقت بذلك الأخبار وسنرى ما لعنصر المفاجأة من أثر فعال في نصره .
النقطةالثالثة : ان الامة الاسلامية حين يكون التخطيط الالهي قد انتج نتيجته فيها ، ولم يصبح بعد على مستوى مسؤولية اليوم الموعود ، فإنها تكون مقصرة بالنسبة إلى كل حدود ومقدماته ... وتكون هذه الحدود والمقدمات فوق مستواها العقلي والثقافي والديني . ومن هنا لم يتورع الناس عن افشاء التوقيت الذي كان فيما سبق ، ولو أعطوا وقتاً جديداً لأفشوه أيضاً لا محالة . . . ومن هنا الغي التوقيت ، كما سمعنا من هذه الأخبار .
وهذا أيضاً أحد الأسباب في تحريم تسمية الإمام المهدي (ع) خلال غيبته الصغرى ، كما سمعنا في تاريخها(1) فإنهم ان عرفوا الاسم أذاعوه وإن علموا بالمكان دلوا عليه .
وهذا القصور العام في الأمة هو المشار إليه في بعض الأخبار ، كقول الإمام موسى بن جعفر (ع) : يابني عقولكم تضعف عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله . ولكن إن تعيشوا تدركوه(2) .
فإن المراد بالعقول ما نسمية بالمستوى الفكري والثقافي ، والمراد بالأحلام ما نسمية بالإخلاص وقوة الإرادة وكون الأمة على مستوى المسؤلية . . . وكلاهما ضعيفان بمنطوق الرواية .كما دل عليه البرهان أيضاً .
وليس المراد من هذه الرواية وأمثالها ما يفهمه بعض الناس ، من امتناع التعرف على مصلحة الغيبة ، وخفاء مصلحة وجود الإمام خلالها . . . بعد كل الذي سبق أن عرضناه في كتب هذه الموسوعة مستفاداً من القرآن الكريم والسنة الشريفة نفسها .
النقطة الرابعة : ان وقت الظهور وإن كان محددا في علم الله الأزلي ، لكنه بالنسبة إلى علله وشرائطة ينبغي أن لا يفترض له وقت محدد .
__________
(1) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص277 وما بعدها.
(2) روته النعماني في غيبته ص78 ونقلناه في تأريخ الغيبة الكبرى ص11.


صفحة (55)




فإن تحديد التاريخ يمكن أن يكون على مستويين :
المستوى الأول : علم الله الأزلي بالأشياء منذ القدم ، المتعلق بكل الممكنات أو المخلوقات بأسبابها ومسبباتها.
المستوى الثاني: وجود المعلول بالنسبة إلى وجود علته ، فإن المعلول يحدث متى حدثت علته ، بلا دخل للزمان في ذلك أصلا ً .
مثاله : إننا لو نسبنا تاريخ اكمال بناء البيت بالنسبة إلى القوى المادية والبشرية العاملة فيه ، كان تاريخه منوطاً بتحقيق هذه المكونات ، حتى ما إذا وضع البناء آخر حجر في كيان الدار ، تكون هذه الدار قد انتهت ، بغض النظر عن طول زمن البناء وقصره . . .فانه قابل للاختلاف حسب الظروف والطوارئ والقابليات والإمكانيات .
وحيث يبرهن فلسفياً بأن علم الله تعالى الأزلي المتعلق بالأشياء ليس علة لها ، وانما يتعلق بها ويكشف عنها على ما هي عليه في الواقع ، إذا، ففي الإمكان قصر النظر عن تعلق ذلك العلم به معه يكون المستوى الثاني للتوقيت صحيحاً ، ويكون وجود الشيء منوطاً بوجود علته واجتماع شرائطة ومكوناته ، من دون أن يكون الزمن ملحوظاً في تحديد حدوثة على الاطلاق . . . بل قد يكون قابلاً للزيادة والنقص ، كما قلنا .
ومن هذا القبيل ، يوم الظهور . فإننا لو غضضنا النظر عن علم الله الأزلي لم يبق لدينا أي وقت محدد له ، وأنما هو منوط بحصول شرائطه وعلله . فمثلا ً نقول : متى اجتمع العدد الكافي للغزو العالمي بالعدل الكامل . من المخلصين الممحصين ، كان يوم الظهور ناجزاً ، سواء كان زمان وجودهم والفترة التي تحققهم طويلة جداً أو قصيرة .
وهذا دليل آخر على أن التوقيت بمعنى تحديد التاريخ المعين جزاف محض .
وهذا هو مرادنا من التوقيت الذي برهنا عليه . وهو توقيت إجمالي يخلو من التحديد بالومان تماماً . فلا يكون قولاً جزافاً ولا واجب التكذيب . كما لا يكون تحديده الإجمالي خطراً على الأمام المهدي وموجباً لفشل مهمته بعد الظهور .
هذا تمام الحديث في توقيت الظهور باعتبار شرائطة .
وأما توقيت الظهور باعتبار علاماته . فقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق جملة من العلامات ، وفحصنا ادلتها ودقفنا في معانيها . . . ولنا موقف آخر معها في الباب الثاني الآتي من هذا التأريخ.


صفحة (56)


والمهم هنا هو أن نعرف ان العلامات على قسمين :

القسم الأول : علامات واردة في الأخبار ، ولا على تقع قبل الظهور بزمن قليل بل على ان تقع قبله ، ولو بزمان بعيد وأمد طويل .
وقد عرفنا في التاريخ السابق ان أغلب هذه العلامات قد تحققت وصدقت بها الأخبار . إلا إنها في واقعها لا تحتوي على أي توقيت بالنسبة إلى الظهور. وإنما لها فوائد أخرى . أهمها : أن الخبر الوارد إذا قرن الحادثة بالظهور وانها واقعه قبله في الجملة .
ثم رأينا الحادثة قد حدثت ، فنعرف أن الخبر صادق في بإخباره عن الحادثه علامة على الظهور .
القسم الثاني : من العلامات ما صرحت الأخبار بقرب حصوله من زمن الظهور .
وقد قلنا في التاريخ السابق(1) ان هذا النحو من العلامات وإن لم يكن له ارتباط سببي بيوم الظهور ، إلا أنه مما جعله الله تعالى تنبيهاً لخاصة أوليائه المخلصين الممحصين علامة على قرب الظهور ، ليكونوا على الأستعداد التام من الناحية النفسية والعقائدية لاستقبال إمامهم وقائدهم ، وتلقي مهامهم ومسؤولياتهم عنه .
بل إن التهيؤ النفسي غير خاص بالممحصين ، بل شامل لكل مسلم مسبوق بوجود هذه العلامات ، وخاصة بعد تحققها والتأكد من صدق الإخبار السابق عنها . غير أن تهيؤ الأفراد لاستقبال الظهور يختلف باختلاف درجة ثقافتهم وايمانهم ووعيهم ويكون أحسن أشكال التهيؤ صادراً ـ بطبيعة الحال ـ من المخلصين الممحصين . وسيكون لهذه الفكرة نتائجها في مستقبل هذا البحث .
وهذا القسم من العلامات يتضمن التوقيت بوضوح ، ويشير إلى قرب حصول الظهور ومن هنا أمكن التهيؤ لاستقباله .
إلا إنه قد يخطر في الذهن سؤالان حول ذلك :
السؤال الأول : إن هذه العلامات كما تنبه المخلصين الذين يعدون أنفسهم للفداء بين يدي المهدي (ع) : كذلك تكون منبهة لاعداء المهدي (ع) ، فيعدون أنفسهم للقضاء عليه وطمس حركته ، في أول حدوثها.
_____________
(1) انظر تأريخ الغيبة الصغرى ص530.


صفحة (57)




وهذا سؤال أثرناه في التاريخ السابق ، وأجبنا عنه مفصلاً(1). ومجمل الفكرة : أن الأعداء سوف لن يلتفوا إلى حصول هذه العلامات ، ولو التفتوا فإنهم لن يعلموا انها من قبيل العلامات إلى ظهور المهدي (ع) . ولو علموا فإنهم لن يستطيعوا التألب عليه . لأنه يظهر في زمان غير مناسب لذلك ، على ما سنرى في فصل قادم .
ولو فرضنا أنهم التفتوا وتألبوا ، فلا يكون ذلك مجدياً أيضاَ ، لما سنعرفة في المستقبل البحث من أن المهدي (ع) ، لن يعلن عن أهدافه الكاملة لأول وهله ، ومن هنا فلن تلتفت الدول إلى خطره المباشر عليها ، إلا بعد أن تقوى شوكته ويتسع سلطانه . إذاً ، فلو كانوا تألبوا فإنهم سوف لن يستعملوه ضده إلا بعد فوات الأوان .
السؤال الثاني : إن التوقيت بهذه العلامات ، مناف للأخبار النافية للتوقيت والآمرة بتكذيب الوقاتين .
والجواب على ذلك ، يكون على مستويين :
المستوى الأول: أن ننظر إلى الزمان المتخلل بين وقوع هذه العلامات كزماننا هذا ... ونقول : بأن هذه العلامات لو وقعت لدلت على قرب الظهور . وهذه قضية صادقة لا تشمل على التوقيت المنهي عنه على الإطلاق وانما هي توقيت إجمالي ، كالذي قلناه في شرائط الظهور تماماً من أنها : لو حصلت لظهر المهدي (ع) . فإن عدم الاطلاع على زمان وقوع هذ العلامات مستلزم بطبيعة الحال لجهالة زمان الظهور وعدم تحديده ، ذلك التحديد المنفي من الاخبار.
المستوى الثاني : أن ننظر إلى الزمان المتخلل بين وقوع هذه العلامات وبين الظهور فإن كل فرد يشاهد إحدى العلامات القريبة ، من حقه أن يقول : أن المهدي (ع) سيظهر بعد قليل . ويمكن أن نفهم هذا القول على شكلين :
الشكل الأول: إن هذا القول لا يحتوي على تحديد معين للوقت ، باعتبار أنه يبقى مردداً بين اليوم والأيام ، بل بين العام والأعوام ، فإن تخلل عشرة أعوام مما بين ظهور العلامة القريبة وظهور المهدي (ع) ، غير ضائر بكونها قريبة ، لضآلة هذه الأعوام العشرة تجاه الزمان الطويل السابق عليها ومعه فلا تكون تحديداً ، ولا تندرج في الأخبار النافيه للتحديد.
____________
(1) المصدر السابق ص 532.


صفحة (58)



الشكل الثاني : ان نتنازل عما قلناه في الشكل الأول ، ونقول : إن هذا القول ، أعني : أن المهدي سيظهر بعد قليل ... يتضمن التحديد والتوقيت إذاً ، فلا بد من الالتزام بأن الأخبار الدالة على وقوع العلامات القريبة مخصصة لأخبار التكذيب وخارجة عن مدلولها . وتكون النتيجة : ام كل تحديد لتاريخ يوم الظهور كذب وواجب الرفض إلا إذا كان مستنداً إلى حدوث علامة من العلامات القريبة ، فإنه يكون صادقاً وجائز التلقي بالقبول.
ولأجل ذلك ـ في الحقيقة ـ وضعت هذ العلامات ، وهو تأكد المخلصين الممحصين من قرب الظهور . ومعه فمن غير المحتمل بقاء التحديد كاذباً ومحرماً إلى ذلك الحين .كما أنه ليس جزافاً من القول بعد استناده إلى العلامة التي سمع بوقوعها في يالأخبار ، وقد رآها متحققة في عالم الوجود .
مع العلم ، ان هذ العلامات لا تدل على أكثر من أقتراب اليوم الموعود وأما تحديده باليوم والشهر ونحوه . فيبقى سراً في علم الله تعالى ، حتى يتحقق الظهور.


صفحة (59)


الفصل الرابع
الايديولوجية العامة التي يتبناها المهدي (ع)


تجاه الكون والحياة والتشريع


والذي نريد التعرف عليه في هذا الصدد ، هو الاطلاع الكامل على العمق الحقيقي للوعي الذي ينشره الإمام المهدي في المجتمع ، ولا تفاصيل الأسس العامة التي تبتني عليها الايديولوجية يومذاك . فإن ذلك مما يتعذر الإطلاع عليه قبل يوم الظهور ، كما ذكرنا في التمهيد .
وانما الذي نثير التساؤل عنه ونحاول التعرف عليه الآن ، هو بعض العناوين العامة التي يتصور اتجاه الايديولوجيه المهدوية نحوها أو التي قد يخطر في الذهن ذلك منها . معه يكون التساؤل مثاراً عن أمور أربعة:
الامر الأول : الدين يعتنيه المهدي (ع) ، ويعلنه في العالم .
الأمر الثاني : المذهب الذي يتخذه (ع) .
الأمر الثالث : التساؤل عما إذا كان يتبنى بعض المفاهيم المحددة الضيقة كالعنصرية والقومية والوطنية ونحوها .
الأمر الرابع : التساؤل عما إذا كان نظامه مشابهاً في المفهوم أو المدلول مع الأنظمة السابقة على الظهور ، كالرأسمالية والإشتراكية ، أو لا ؟
ونتكلم عن كل من هذه التساؤلا ت الأربعة ، في ضمن جهة من الكلام .
الجهة الأولى : في الدين الذي يتبناه الإمام المهدي (ع) ويحكم العالم على أساسه .
وهو دين الإسلام بصفته الأطروحة الكامله التي تحقق العبادة الحقيقية العبادة الحقيقية المستهدفه من خلق البشرية أساساً ، كما سبق أن عرفنا .


صفحة (61)



ويتم الاستدلال على ذلك بعدة أساليب ، نذكر منها ما يلي :
الأسلوب الأول : أن نستعرض بعض الظواهر المهمة لنتائج العدل السائدة في دولة المهدي ... فإذا عطفنا على ذلك انحصار العدل الكامل بالإسلام ، إذا ، فهذا الأسلوب متوفق على مقدمتين :
المقدمة الأولى : استعراض بعض الظواهر المهمة والنتائج العظيمة للعدل السائد في دولة المهدي العالمية .
وهذا بتفاصيله موكول إلى الباب الثالث من القسم الثاني من هذا التاريخ وإنما نقتصر في المقام على ذكر بعض الأمثلة .
فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجه(1) عن أبي سعيد الخدري : أن النبي (ص) قال : يكون في أمتي المهدي . . . فتنعم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط . تؤتي اكلها ولا تدخر منهم شيئاً . والمال يومئذ كدوس ، فيقوم الرجل فيقول : يا مهدي عطني فيقول : خذ .
وما يرويه البخاري(2) عن ابي هريرة : أن رسول الله ( ص) قال ، ـ في حديث ـ : ومتى يكثر فيكم المال فيفيض ،حتى يهم رب المال من يقبل صدقته ، ومتى يعرضة فيقول الذي يعرض عليه لا أرب لي به .
وقد برهنا في التاريخ السابق(3) بانحصار حدوث هذه الكثرة من المال في دولة المهدي (ع) دون ما قبلها . مضافاً إلى دلالة هذه الأخبار المروية هنا .
وما أخرجه مسلم في صحيحه(4) عن ابي سعيد وجابر بن عبدالله قالا : قال رسول الله (ص) : يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده .
وما أخرجه الشيخ المفيد في الإرشاد(5) عن المفضل بن عمر قال : سمعت أبا عبدالله (ع) يقول : ان قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها . إلى أن قال : وتظهر الأرض من كنوزها حتى يراها الأرض على وجهها . ويطلب الرجل منكم من يصله بماله ويأخذ منه زكاته ، فلا يجد أحداص يقبل منه ذلك ، واستغنى الناس بما رزقهم الله من فضله .
_____________
(1) أنظر السنن ج2 ص1367. (2) انظر الصحيح ج9 ص74 .
(3) انظر نـريخ الغيبة الصغرى ص 231 و ص335.
(4) ج8 ص 185 . (5) أنظر ص342.


صفحة (62)




ومثل ذلك ما ورد في كتاب العهدين في وصف دولة العدل المنتظرة ، كقوله(1) : وتنفتح أبوابك دائماً(2) نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملكهم ، لأن الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد ، وخراباً تخرب الأمم .
كقوله : بل يقضى بالعدل للمساكين ، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ، ويضرب الأرض بقضيب فمه ،ويميت النافق بنفخة شفتيه ....فيسكن الذئب مع الخروف و يربض النمر مع الجدي ... والبقر والدبة ترعيان ، تربض أولادهما معاً . والأسد كالبقر يأكل تبناً .ويلعب الرضيع على سرب الصل .ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان ، لا يسوؤن ولا يفسدون . في كل جبل قدسي .لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب (1).
إلى غير ذلك من النصوص في كتب العهدين . ولكل من هذه النصوص تحليله وتفسيره الذي سيأتي في مستقبل البحث ... وإنما المراد الإلمام في الجملة بحالة السعادة والرفاه التي يعيشها شعب المهدي (ع) – وهو كل البشرية – في دولته وتحت نظامه .
المقدمة الثانية : انحصار العدل الكامل في الإسلام .
وهذا يحتاج إلى بحث عقائدي لسنا الآن بصدده ، وإنما نشير الآن إلى خلاصة نتائجه : وهي أننا بعد أن علمنا الإسلام هو آخر الشرائع السماوية ، وأن العقل البشري قاصر عن إيجاد العدل الكامل في العالم .وأن الله تعالى وعد في كتابه الكريم بتطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة على وجه الارض، بل كان هذا هو الغرض الأساسي للخلق .
____________
(1) أشعيا :60/ 13


صفحة (63)


(2) مرجع ضمير المؤنث المخاطب هو (اورشليم ) عاصمة بني اسرائيل في نظر اليهود .ولكننا سنبرهن في الكتاب القادم على انحصار صحة هذه النبؤات بدولة المهدي (ع) ، وإنما ذكرت اورشليم باعتبارها العاصمة الدينية المهمة في نظر اليهود .فإن انتقلت الأهمية إل غيرها انتقلت النبؤات أيضاً ، لأنه تتبع الدين الحق حيث يكون.
(3) أشعيا : 11/ 4-8

إذن فينحصر أن يكون هذا العدل المشار إليه هو الإسلام لعدم إمكان حصوله من العقل البشري وعدم إمكان نزول شريعة أخرى بعد الإسلام .
وإذا تم الأسلوب الأول وبكلا مقدمتيه ، عرفنا أن كل ما ذكر من أنحاء وأنواع السعادة والرفاه الموجود في دولة المهدي (ع) ، دولة الحق والعدل المنتظرة ، هو في الحقيقة نتيجة لتطبيق مفاهيم وقوانين ألإسلام فيها
إذاً فقد تبرهن : أن الدين الإسلامي الذي يعتنق والقانون الذي يتخذ في تلك الدولة هو الإسلام ، بقيادة القائد العظيم الإمام المهدي (ع) .
الأسلوب الثاني : أن نستعرض نصوص الأخبار الدالة على أن الإمام المهدي (ع) يطبق الإسلام بالخصوص . وهي على عدة أقسام :
القسم الأول : الأخبار الدالة على أن المهدي من النبي (ص) ومن عترته ومن أمته ومن أهل البيت .وإذا كان المهدي متصفاً بهذه الصفات ، فهو على دين الإسلام بالضرورة .
أخرج أبو داوود(1) ونعيم بن حماد والحاكم عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله (ص) : المهدي مني ... الحديث.
وأخرج أحمد والباوردي في المعرفة وأبو نعيم عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله (ص) :أبشركم بالمهدي رجل من قريش من عترتي ... الحديث
وأخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أم سلمة : سمعت رسول الله (ص) يقول : المهدي منا أهل البيت ، رجل من أمتي ...الحديث.
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حماد في الفتن عن علي قال: قال رسول الله (ص) :المهدي منا أهل البيت ... الحديث .
وأخرج (2) ابن أبي شيبة و الطبراني والدارقطني في الإفراد وأبو نعيم والحاكم عن ابن مسعود ، قال: قال رسول الله (ص) : لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي ... الحديث .
___________
(1) انظر الحاوي للفتاوي للسيوطي ج2 ص124 .وكذلك الأخبار الأربعة التي تليه .
(2) المصدر ص125 و كذلك الخبر الذي يليه .


صفحة (64)



وأخرج الطبراني عن ابن مسعود عن النبي (ص) قال: لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لملك فيه رجل من أهل بيتي.
إلى ذلك من الأخبار ، ودلالتها على المطلوب أوضح من أن تخفى .
القسم الثاني: الأخبار الدالة على أن المهدي (ع) يحكم الأمة الإسلامية على الأخص .وهو حين يحكمها بصفتها الإسلامية ، فسوف لن يكون حكمه إلا بالإسلام .
أخرج الترمذي (1) وحسنه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) قال: إن في أمتي المهدي يخرج الحديث. أقول : يخرج فيها يعني يحكمها .
وأخرج نعيم بن حماد وابن ماجة عن أبي سعيد ، أن النبي (ص) قال : يكون في أمتي المهدي ... الحديث .
وأخرج (2) أحمد ومسلم عن جابر، قال: قال رسول الله (ص) يكون في أهر أمتي خليفة... الحديث.
القسم الثالث : الأخبار الدالة على تطبيق المهدي (ع) للإسلام و سنة النبي (ص) .
أخرج الطبراني في الأوسط (3) وأبو نعيم عن أبي سعيد : سمعت رسول الله (ص) يقول : يخرج رجل من أهل بيتي يقول بسنتي . الحديث .
وأخرج – يعني نعيم بن حماد -(4) عن علي عن النبي (ص ) ، قال :
المهدي رجل من عترتي يقاتل على سنتي ، كما قاتلت أنا على الوحي .
وأخرج ابن حجر في الصواعق (5) قال : وصح انه (ص) قال : يكون اختلاف عند موت خليفة ...إلى أن قال : ويعمل في الناس بسنة نبيهم (ص) ويلقى الإسلام بجرانه على الأرض .
_____________
(1) المصدر ص126 وكذلك الخبر الذي يليه . (2) المصدر ص131.
(3) المصدر والصفحة (4) المصدر ص148. (5) انظر ص98.


صفحة (65)




وروى الشيخ الطوسي في الغيبة (1) عن أبي جعفر الباقر (ع) ، قال : ويقتل الناس حتى لا يبقى إلا دين محمد (ص) .. الحديث .
واخرج أبو يعلى(2) عن أبي هريرة قال : حدثني خليلي أبو القاسم (ص) قال : لا تقوم الساعة حتى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي ، فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق ... الحديث . أقول : الحق في نظر رسول الله هو الإسلام .
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد(3) عن المفضل بن عمر الجعفي ، قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (ع) يقول: إذا أذن الله تعالى للقائم في الخروج صعد المنبر فدعا الناس إلى نفسه وناشدهم بالله ودعاهم لى حقه ، وأن يسير فيهم بسنة رسول الله (ص) ويعمل فيهم بعمله .... الحديث .

القسم الرابع : من لأخبار ، ما دل على أن المهدي (ع) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً .
وهي أخبار متوترة مروية عن النبي (ص) وقادة الإسلام الأوائل .وهم يرون أن القسط والعدل هو الإسلام ليس إلا ، فيكون المعنى اعتناق وتطبيق الإمام المهدي (ع) للإسلام عقيدة ونظاماً .
وقد أحصى الصافي في منتخب الأثر (4) لهذه العبارة الكريمة مائة وتسعة وعشرون حديثاً ، وقد روتها المصادر العامة بكثرة بما فيها الصحاح كأبي داود وابن ماجة والترمذي إلى مصادر أخرى كثيرة ذكرناها في التاريخ السابق(5) مضافاً إلى مصادر علماء الإمامية ومصنفيهم فإنها أكثرمن أن تحصى .
_____________
(1) انظر ص 283. (2) الحاوي للفتاوي ص131
(3) انظر ص 342 وما بعدها. (4) انظر ص478.
· (5) تاريخ الغيبة الكبرى ص281 وما بعدها .


صفحة (65)


وسيأتي في القسم الثاني من هذا الكتاب ما يزيد هذه الأخبار بأقسامها الأربعة وضوحاً.
وهذها الأسلوبان من الإستدلال على حقيقة الدين الذي يتخذه المهدي (ع) ثابتان بغض النظر عن الدليل القائم على أساس التخطيط الإلهي والقائل بأن الأطروحة العادلة والكاملة المطبقة في اليوم الموعود في دولة المهدي (ع) هي الإسلام .وتصلح نتيجة هذين الأسلوبين للإستدلال على هذه الحقيقة . بأن نقول:
إن المهدي (ع) يطبق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته العالمية ، كما ثبت في التخطيط العام وهو يعتنق ويطبق الإسلام . كما ثبت بهذين الأسلوبين الأخيرين .....إذاً فالإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة .
وكذلك يصح الإستدلال بالعكس ، بأن نغض النظر عن هذين الأسلوبين ونتساءل من جديد عن حقيقة الدين الذي يعتنقه المهدي ( ع) فنقول : إن المهدي يطبق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته ، كما ثبت في التخطيط العام .والإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة ، كما استدللنا في التاريخ السابق (1) وسيأتي الحديث عن ذلك في الكتاب الآتي أيضاً ...إذاً ، يثبت أن الدين الذي يعتنقه المهدي (ع) ويطبقه هو الإسلام ، إذ لا يحتمل أنه يطبق الإسلام وليس بمسلم ...فإن التطبيق الإسلامي سوف لن يكون تاماً وعادلاً إلا إذا كان الرئيس الأعلى مسلماً ، كما ثبت في الفقه الإسلامي .ويصلح أن يكون هذا أسلوباً ثالثاً إلى جنب الأسلوبين السابقين .
إذاً ، فهاتان الحقيقتان وهما :
1- إن دين المهدي (ع) هو الإسلام .
2- إن الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة يمكن الإستدلال بإحداهما على الأخرى ، بعد أخذ إحداهما مسلمة والأخرى محلاً للإستلال ، وكلتاهما مدعمتان بأدلة أخرى غير هذه .
وإذا تبرهن على أن المهدي (ع) يطبق الإسلام في اليوم الموعود .باعتبار النظام الذي يتكفل العدل الكامل... فإنه يترتب على ذلك عدة نتائج فيما إذا قورنت دولته بالدولة الحاضرة . وهذا ما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب ، ونذكر الآن بعضها على سبيل المثال .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر ص 261 منه.


صفحة (67)



منها: توحيد المعتقد الديني في العالم بدين الإسلام ، طبقاً لقوله تعالى :
" من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " على أساس أن هذا الدين هو الذي ينظم العالم ويحل مشاكله ويحقق له العدل الكامل . ويأتي هذا التوحيد تحت ظروف معينة يهيؤها القائد المهدي ، نشير إليها في مستقبل البحث .
ومنها : أن العالم سوف يحكم بأطروحة قانونية واحدة ،لا يحق فيها التجزئة ولا يجوز عليها الخروج .
ومنها اتحاد السياسة والدين في سير التطبيق و التاريخ ، كما كان عليه الحال في زمن النبي (ص) والخلافة الأولى ، وإنهاء فكرة : فصل الدين عن الدولة .
ومنها : ابتناء الحكم ، ابتناء التكامل الفردي والإجتماعي على الأساس الإلهي .ويتم القضاء تماماً على أي اتجاه مادي في العالم مهما كان نوعه .
ومنها : إنهاء فكرة كحق تقرير المصير . فإن مصير البشر قد تقرر من الأعلى ، من التخطيط الإلهي العام ولن يكون منبثقاً من البشر أو ناتجاً عن آرائهم الناقصة .

إلى غير ذلك من النتائج ، التي سيأتي التعرض لأسبابها ونتائجها مفصلاً .
الجهة الثانية : المذهب الذي يتخذه المهدي (ع) من مذاهب الإسلام ، يمكنأن يراد من المذهب أحد المعنيين :
المعنى الأول : أن يراد بالمذهب مجموع الأفكار المتبناة من العقائد والفقه السائد بحيث يكون كلام شيوخ المذهب وعلمائه دخيلاً في بلورته وصقل فكرته .
المعنى الثاني : أن يراد بالمذهب العقائد الرئيسية التي تشكل حجر الزاوية فيه والأساس الرئيس له ...كالقول بالعدل والإمامة الذين كانا محل الخلاف بين الإمامية وغيرهم من المسلمين .
فإن أردنا المعنى الأول من المذهب، فينبغي لنا أن نجزم بأن المهدي (ع) سيغار في تفاصيل تشريعه كل مذاهب المسلمين الموجودة قبل ظهوره ، ولايحتمل فيه أن يكون منسوباً إلى أي من المذاهب السائدة . لأن الكثير من أفكار كل مذهب. ناتج عن أفكار مفكريه واستنتاجات علمائه ، وهي– على أي حال - قابلة للخطأ والصواب. ما لم تكن من ضروريات الدين أو واضحات العقل .
___________
(1) آل عمران : 3/ 85.


صفحة (68)


والمهدي (ع) سيطبق عند ظهوره الإسلام الواقعي كما جاء به النبي (ص) سواء وافق الأحكام المعروفة للمذاهب أو خالفها . وسيأتي بقوانين إسلامية جديدة لتنظيم العالم . ليجعله كله على عتبة الرقي والتكامل .
ولذا صرح عدد من علماء العامة ومفكريهم في مناسبات مختلفة . بعد انطباق أحكام المهدي مع شيء من المذاهب الأربعة . ولا غيرها .
قال ابن العربي في الفتوحات المكية (1) في كلامه عن المهدي : به يرفع المذاهب من الأرض فلا يبقى إلا الدين الخالص .أعداؤه مقلدة العلماء أهل الإجتهاد لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أئمتهم ....
وقال السيوطي : (2) عن الحكم الذي سيمارسه عيسى بن مريم (ع) - وهو العضد الأيمن للمهدي (ع) ، كما سنعرف -، في دولة الحق ، قال: وإذا قلتم أنه يحكم بشرع نبينا ، فكيف طريق حكمه به المذهب من المذاهب الأربعة المقررة ، أو باجتهاد منه ؟! .
هذا السؤال أعجب من سائله !!!!! وأشد عجباً منه قوله فيه : بمذهب من المذاهب الأربعة !!!! .فهل خطر ببال السائل : أن المذاهب في الملة الشريفة منحصرة قي أربعة ، والمجتهدون من الأمة لا يحصون كثرة ...فلأي شيء خصص السائل المذاهب الأربعة .
ثم كيف يظن بنبي أنه يقلد مذهباً من المذاهب ، والعلماء يقولون : إن المجتهد لا يقلد مجتهداً ، فإذا كان المجتهد من آحاد الأمة لا يقلد ، فكيف يظن بالنبي أنه يقلد .
إلى غير ذلك من الكلمات التي لا حاجة إلى استقصائها .
وأما موقف الإمامية من ذلك ، فواضح .فإنهم يعتبرون المهدي (ع) ، مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي ، بصفته الإمام الثاني عشر من ائمتهم (ع) . فمن غير المحتمل لديهم رجوعه في التشريع أو غيره إلى أحد علمائهم أو إلى أكثر بل هو يستقيل ببيان التشريع الإسلامي ، ويكون واجب الطاعة في غيبته .
وأما إذا أردنا بالمذهب ، ما يعود إلى المقومات الرئيسية كالإعتقاد بالعدل والإمامة وعدمه ...
___________
(1) ج3 ص327. (2) انظر الحاوي للفتاوي، للسيوطي ج2 ص280.


صفحة (69)



فالملاحظ بالنسبة إلى المهدي (ع) سكوت الأخبار الواردة في مصادر العامة والجماعة عن مذهبه ، سكوتاً تاماً، في حدود اطلاعنا . فلو أردنا الجواب على مثل هذا السؤال وهو : ان المهدي من أهل السنة ، يؤمن بأصولهم الإعتقادية ، أو بالأهم منها على الأقل ... كان ذلك متعذراً عن طريق الأخبار .
ومن هنا سكتت كلمات محققيهم عن التعرض لذلك .. واكتفوا بالقول بأنه يطبق الدين الحقيقي ، من دون اي إشارة إلى أنه ممن يوافقهم في المذهب أولاً .
نعم ، من يرى منهم بأن المهدي (ع) يعمل بفقه أحد المذاهب الأربعة يرى – بطبيعة الحال - أنه ملتزم عقائدياً بما يعتقدونه ، غير أن محققيهم اعترضوا على هذا القول واستنكروه ، كما سمعنا .
إذاً، فلم يتم الإثبات التاريخي الكافي لذلك .
نعم ، تبقى هناك فكرتان :
إحداهما أشمل من الأخرى ، لا بد من عرضهما في هذا الصدد:
الفكرة الأولى : فيما تقتضيه القواعد العامة ، من تعين مذهبه على وجه الإجمال .
من المسلم به بين المسلمين كون أحد المذاهب الموجودة بين مذاهبهم حقاً . وأن المذاهب الأخرى باطلة غير مطابقة للعقائد الإسلامية الصحيحة .وسبق أن قلنا أن اصحاب الإمام المهدي (ع) الممحصين في عصر الغيبة ، إنما يكونون من ذلك المذهب أياً كان – دون غيرهم . ليتم تمحيصهم عل الحق وإخلاصهم له، لا على غيره، كما هو واضح .
ومعه فلا بد من الإلتزام بأن مذهب المهدي (ع) هو ذلك المذهب الحق الذي يختار له الله تعالى عليه اصحابه. ولا يحتمل أن يكون مخالفاً لهم في المذهب لانه يلزم منه أن لا يكون أحدهما على الحق وهو باطل بالضرورة.
واما تعيين هذا المذهب الحق وتسميته من دون المذاهب الأخرى ... فهذا راجع إلى وجدان كل مسلم ، وما قام الدليل عنده من صحة أي مذهب من المذاهب . ستكون الفكرة الأولى لدى الفرد المسلم أن يقول : إن المذهب الحق هم مذهبي ، والدليل على صحته قائم عندي، إذا فالمهدي يكون عليه ، هكذا يقول أهل كل مذهب ...، يبقى مذهب المهدي – بعد ذلك – مجملاً .


صفحة (70)



وقد لا يكون هذا ضائراً ، فإن التعرف الإجمالي على مذهبه ، بالشكل الذي قلناه ، كاف على المستوى الذي يقنع سائر المسلمين . ويكون البحث فيه إسلامياً عاماً غير طائفي . ويكون المهدي (ع) – في ذاته – مختاراً في تطبيق المذهب الذي يريده على العالم .
الفكرة الثانية : وهي اخص من سابفتها ، فإنه يمكن القول : بأن المهدي (ع) على المذهب الإمامي الإثني عشري . وذلك باعتبار القرائن والمراجحات التالية :
المرجح الأول : ما ورد أن المهدي (ع) من أهل البيت ومن العترة وقد سمعنا عدداً من هذه الأخبار فيما سبق .ومنها ما هو موجود في الصحاح الستة ، التي سنقتصر على النقل عنها :
أخرج أبو داود(1) وابن ماجة (2) عن أم سلمة ، قالت : سمعت رسول الله (ص) قول إن المهدي من عترتي من ولد فاطمة .
وأخرج أبو داود أيضاً(3) قوله (ص) : لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي ... الحديث .
وأخرج ابن ماجة (4) قوله (ص) : المهدي منا أهل البيت ... الحديث.
وأخرج الترمذي (5) قوله (ص) لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي .
إلى غير ذلك من الأخبار .
وإن أخص موارد انطباق مفهومي العترة وأهل البيت هم : بنت النبي (ص) الزهراء وزوجها وولداها ، وقد يشمل سلمان الفارسي رضوان الله عليه الذي ورد في شأنه قول النبي (ص) : سلمان منا أهل البيت(6) . فليكن الإمام المهدي (ع) على مذهبهم . وليس هو غامضاً ولا مجملاً في التاريخ .
· _______________
(1) انظر السنن ج 2 ص 422. (2) انظر السنن ج2 ص 1368.
(3) انظر السنن ج2 ص 422. (4) انظر السنن ج2 ص 1367.
(5) انظر الجامع الصحيح ج 3 ص 343 . (6) انظر اسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الاثير 2 ص331 . ذكر من رواية ./*


صفحة (71)


المرجح الثاني : ما ورد من الأخبار في مصادر العامة من أن الأئمة اثنا عشر بعد النبي (ص)... أما بالنص على أن المهدي (ع) هو آخرهم أو بدون ذلك . فإنها تنطبق على الإتجاه الإمامي في فهم الإسلام بالتعيين ، دون غيره ، ومعه ، يتعين الإلتزام بأن مذهب المهدي (ع) موافق لهذا الإتجاه .
أخرج البخاري(1) عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت النبي (ص) يقول : يكون اثنا عشر أميراً . فقال كلمة لم أسمعها .فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش .وأخرج مسلم (2) نحوه .وذكر له أسناد عديدة إلى جابر بن سمرة.
وأخرج الترمذي (3) عن جابر بن سمرة ، قال : قال رسول الله (ص) : يكون من بعدي اثنا عشر أميراً .قال : ثم تكلم بشيء لم أفهمه .فسألت الذي يليني ، فقال : كلهم من قريش . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وقد روى من غير وجه عن جابر بن سمرة .
وأما ما رواه أحمد وغيره في خارج الصحاح .فكثير.
وإذا تعين صحة الإتجاه الإمامي ، بهذه الأخبار ، ثبت كون المهدي هو الثاني عشر من هؤلاء الأمراء الذين يشير اليهم النبي (ص) .وهو المطلوب .
كالذي أخرجه القندوزي في ينابيع المودة (4) نقلاً عن فرائد السمطين للحمويني بسنده عن مجاهد عن ابن عباس ، قال : قدم يهودي يقال له : نعثل فقال :يا محمد أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين ... إلى أن يقول : فما من نبي إلا وله وصي ، وأن نبينا موسى بن عمران أوصى يوشع بن نون ، فقال : إن وصيي علي بن أبي طالب ، وبعده سبطاي الحسن والحسين ، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين . قال :يا محمد قسمهم لي : قال : إذا مضى الحسين فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، فإذا مضى محمد فإبنه جعفر . فإذا مضى جعفر فإبنه موسى ، فإذا مضى موسى فإبنه علي ، فإذا مضى علي فإبنه محمد ، فإذا مضى محمد فإبنه علي ، فإذا مضى علي فإبنه الحسن ، فإذا مضى الحسن فإبنه الحجة محمد المهدي .
فهؤلاء اثنا عشر .
_________________
(1) انظر الجامع الصحيح ج 9 ص 101. (2) انظر صحيح مسلم ج 6 ص 3-4 .
(3) انظر الجامع الصحيح ج3 ص 240 . (4) انظر ص 529 ط النجف . وص 369 ط الهند عام 1311 هـ .


صفحة (72)



وهذه النتيجة ، وهي صحة الإتجاه الإمامي في فهم المهدي (ع) ،ومن ثم القول : بأن المهدي إمامي المذهب وأنه أحد الأئمة الإثنا عشر ....هذه النتيجة لازمة لكل من يقول من علماء العامة : بأن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري ، كإبن عربي في الفتوحات المكية على ما نقل عنه في إسعاف الراغبين (1) ، إذ نسمعه يقول: " وهو عترة رسول لله (ص) من ولد فاطمة رضي الله عنها . جده الحسين بن علي بن أبي طالب. ووالده الإمام حسن العسكري بن الإمام علي النقي بالنون ابن الإمام محمد (التقي بالتاء ابن الإمام علي)(2) الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد ( التقي بالتاء ابن الإمام علي ) الباقر بن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم . يواطىء اسمه اسم رسول الله (ص) ..."
وكذلك الشعراني في اليواقيت والجواهر(3)، إذ قال هناك : المهدي من ولد الإمام حسن العسكري . وذكر موافقة الشيخ حسن العراقي وسيدي علي الخواص على ذلك .
وكذلك كمال الدين بن طلحة في مطالب السؤول(4) حيث قال : الباب الثاني عشر: في أبي القاسم بن محمد الحسن الخالص بن علي المتوكل بن القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين ابن أبي طالب . المهدي الحجة الخلف الصالح المنتظر (ع) ورحمة الله و بركاته .
_________________
(1) انظر ص 142
(2) ما بين القوسين عبارة نقلت من محله إلى المحل الذي اثبتناه بين القوسين فيما يلي وهو خطأ مطبعي غريب . وهي في الاول صحيحة وفي الثاني خاطئة.
(3) انظر ص 288 ط 1306 وانظر اسعاف الراغبين ص141.
(4) انظر ص 79.


صفحة (73)



وكذلك الحافظ الكنجي في كتابه البيان(1) حيث قال : وأما بقاء المهدي (ع) : فقد جاء في الكتاب والسنة ...ثم شرح ذلك إلى أن قال :وأما ألإمام المهدي (ع) : مذ غيبته عن الأبصار إلى يومنا هذا لم يملا الأرض قسطاً وعدلاً ، كما تقدمت الأخبار في ذلك . فلا بد أن يكون ذلك مشروطاً بآخر الزمان .فقد صارت هذه الأسباب لإستيفاء الأجل المعلوم (2) .أقول : وهذا الكلام منه واضح في اختيار الإتجاه الإمامي في فهم المهدي .
وكذلك ابن الصباغ في الفصول المهمة (3) إذ نجده يتحدث عن المهدي مفصلاً ، وقال- فيما قال - :وأما نسبه أماً وأباً ، فهو ابو القاسم محمد الحجة بن الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين ...وأما لقبه : فالحجة والمهدي والخلف الصالح والقائم النتظر وصاحب الزمان ... الخ .
وذكر الحافظ القندوزي في ينابيع المودة ، عدداً من العلماء الذاهبين إلى ذلك : منهم : الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح الدائرة(4) وشيخ الإسلام أحمد الجامي النامقي والشيخ عطار النيشابوري وشمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي والسيد نعمة الله الولي والسيد النسيمي(5) والشيخ عزيز بن محمد النسفي(6) مضافاً إلى من ذكرناهم قبل قليل .
المرجح الثالث : اعتراف الأئمة المعصومين السابقين عليه به عليه وعليهم السلام .....بل تنويههم به والحث عى إطاعته وانتظاره في عدد من الأخبار تفوق حد التواتر . وقد نقل عنهم بعض هذه الأخبار عدد من مصادر العامة كالبيان للكنجي ، وينابيع المودة للقندوزي وغيرهما .
____________
(1) انظر ص 109. (2) انظر ص111 من البيان
(3) انظر ص310 . (4) انظر ينابيع المودة ص 565 ط النجف وص 293 ط الهند.
(5) المصدر ص 566 ط النجف وص 293 ط الهند . (6) المصدر ص 569 ط النجف وص 359 ط الهند .


صفحة (74)


أما علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع) :
فأخرج عنه الكنجي(1) وابن ماجة (2) وغيرهما ، قال : قال رسول الله (ص) : المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة .
وأما فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص) فقد قال لها أبوها .
كما أخرجه عنه للكنجي في البيان (3) وابن الصباغ في الفصول المهمة (4) وغيرهما ، واللفظ للكنجي –: أنا خاتم النبيين وأكرم النبيين على الله وأحب المخلوقين إلى الله ، وأنا أبوك ، ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله وهو بعلك ... ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسين ، وهما سيدا شباب أهل الجنة . وأبوهما – والذي بعثن بالحق – خير منهما . يا فاطمة والذي بعثني بالحق وإن منهما مهدي هذه الأمة ، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن .... الحديث .
والإمام الحسن الزكي بن علي (ع) نظر إليه النبي (ص) – فيما رواه السيوطي -(5) فقال: إن ابني هذا سيد ، كما سماه النبي (ص) ، سيخرج من صلبه رجل يسمى اسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبه في الخلق .
واخرج السيوطي (6) عن ابن عساكر عن الحسين (ع) أن رسول الله (ص ) قال : أبشري يا فاطمة ، المهدي منك.
وأخرج أيضاً (7) عن الدار قطني في سنته عن محمد بن علي (وهو الإمام الباقر عليه السلام) قال: إن لمهدينا آيتين لم يكونا منذ خلق الله السموات والأرض : ينكسف القمر لأول ليلة من رمضان ، وتنكسف الشمس في النصف منه ... الحديث .
وأخرج عنه (ع) أيضاً بكنيته : أبي جعفر(8) بعض الأخبار .
_____________-
(1)انظر البيان ص 65 . (2) انظر السنن ج2 ص 1367 .
(3) انظر ص 56 . (4) انظر ص 314 وما بعدها.
(5) انظر الحاوي للفتاوي ص 125 ج 2 . (6) نفس المصدر ص 137 .
(7) المصدر ص 136. (8)المصدر ص 141.


صفحة (75)




واما الإمام أبو عبد الله الصادق (ع) ، فقد كان له في ذكر الإمام المهدي (ع) موقف عاطفي عظيم ...أخرج القندوزي(1) عن المناقب عن سدير الصيرفي قال دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وإبان بن تغلب على مولانا ابي عبد الله جعفر الصادق(رضي الله عنه) فرأيناه جالساً على التراب وهو يبكي بكاءً شديداً ويقول : سيدي غيبتك نفت رقادي وسلبت مني راحة فؤادي .قال سدير : تصدعت قلوبنا جزعاً . فقلنا : لا ابكى الله يا ابن خير الورى عينيك . فزفر زفرة انتفخ منها جوفه . فقال : نظرت في كتاب الجعفر الجامع صبيحة هذا اليوم ...وتأملت فيه مولد قائمنا المهدي وطول غيبته وطول عمره وبلوى المؤمنين في زمان غيبته ... الخ الحديث وهو مطول .
والإمام الرضا علي بن موسى (ع) بشر بالمهدي (ع) أيضاً :
أخلرج القندوزي(2) عن الحمويني الشافعي في فرائد السمطين بإسناده عن دعبل بن علي الخزاعي قال :أنشدت قصيدة لمولاي الإمام علي الرضا ، رضي الله عنه . أولها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
إلى أن قال دعبل : ثم قرأت باقي القصيدة عنده فلما انتهيت إلى قولي :
خروج الإمام لا محالة واقع يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرضا بكاء شديداً . ثم قال : يا دعبل نطق روح القدس بلسانك .أتعرف هذا الإمام ؟ قلت : لا . الا أني سمعت خروج إمام منكم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . فقال : إن الإمام بعدي ابني محمد وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم .وهو المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً . الحديث .
____________
(1) انظر ينابيع المودة ص 454 ط النجف وص 379 ط الهند.
(2) المصدر ص 544 ط النجف وص 379 ط النجف


صفحة (76)




وروى القندوزي في الينابيع(1) حادثة ولادة المهدي (ع) . وفيها بشارة أبيه الإمام الحسن العسكري (ع) بولادته ... منها قوله عن أمه رضي الله عنها :أنه سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
فهذا ما روته المصادر العامة عن الأئمة المعصومين (ع) ، وقد أخرجت عن كل منهم عدداً من الأحاديث ، ذكرنا قسماً منها كنموذج .واما المصادر الإمامية فقد روت عن جميع المعصومين عدداً وافراً من الأخبار في التبشير بالمهدي (ع) ، لا حاجة إلى نقلها .
والأئمة المعصومين عليهم السلام ، بغض النظر عن المفهوم الإمامي عنهم ، أناس أتقياء علماء صالحون ، لا يوجد لهم في المصادر العامة إلا الذكر الجميل ومذهبهم الإسلامي أشهر من أن يذكر . فإنهم جميعاً إماميون اثنا عشريون يؤمن كل منهم بإمامة نفسه وإمامة الباقين من آبائه وأولاده .
ومن هنا ينبثق عندنا تقريبان لتعيين مذهب الإمام المهدي على هذا الضوء :
التقريب الأول : إنه من غير المحتمل أن يقوم الأئمة المعصومون بهذا التأييد للإمام المهدي (ع) وينوهوا به هذا التنويه المتواصل الشديد ، وهو شخص يختلف عنهم في المذهب ، ويغايرهم في الفهم والمعتقد الإسلامي إذاً فيتعين ان يكون الإمام المهدي على مذهبهم واتجاههم واعتقادهم ، وهو المطلوب .
التقريب الثاني : إننا لو قلنا بأن المهدي (ع) يختلف عنهم في المذهب ، للزم الإلتزام ببطلان مذهبه أو مذهبهم ... باعتبار وضوح أن المذهب الحق واحد في الإسلام بالضرورة والإجماع ، وهذا مما لا يمكن التفوه به تجاه الأئمة المعصومين ولا تجاه المهدي .إذاً فهم جميعاً على مذهب واحد .
________________
(1) المصدر ص450 ط النجف وص376 ط الهند . وانظر ص464 ط النجف.


صفحة (77)


المرجح الرابع : ما اعترف به عدد من علماء العامة والجماعة ، من أن المهدي (ع) لا يفضل عليه أبو بكر وعمر .
روى السيوطي في العرف الوردي(1) بسنده عن محمد بن سيرين أنه ذكر فتنة تكون. فقال: إذا كان ذلك فاجلسوا في بيوتكم حتى تسمعوا على الناس بخير من أبي بكر وعمر . قيل : أفيأتي خير من أبي بكر وعمر. قيل أفيأتي خير من أبي بكر وعمر ؟!
قال : قد كان يفضل على بعض .
قال السيوطي: قلت : في هذا ما فيه . وقال ابن أبي شيبة في المصنف في باب المهدي : حدثنا أبو أسامة عن عوف بن محمد – هو ابن سيرن - قال : يكون علي هذه الأمة خليفة لا يفضل عليه أبو بكر ولا عمر.
قال السيوطي : قلت هذا اسناد صحيح ، وهذا اللفظ أخف من الأول ... إلى آخر كلامه. وظاهر اللفظ أنه خبر عن ابن سيرين نفسه لا عن النبي (ص) . إذاً فابن سيرين يرى عدم أفضلية الشيخين على المهدي .ووافقه البرزنجي في الإشاعة ، حيث قال بعد نقل مل ذكره السيوطي(2) :وتقدم عن الشيخ في الفتوحات أنه معصوم في حكمه مقتف أثر النبي(ص) لا يخطىء أبداً ، ولا شك أن هذا لم يكن في الشيخين وأن الأمور التسعة التي مرت لم تجتمع كلها في إمام من أئمة الدين قبله. فمن هذه الجهات يجوز تفضيله عليهما. وإن كان لهما فضل الصحبة ومشاهدة الوحي والسابقة ، وغير ذلك .والله اعلم .
قال الشيخ علي القاري في المشرب الوردي في مذهب المهدي ومما يدل على أفضليته : أن النبي (ص) سماه خليفة الله ، وأبو بكر لا قال له إلا خليفة رسول الله .انتهى كلام البرزنجي .
وإذا تم ذلك ، فمن البعيد جداً، إن لم يكن من القبيح عقلاً واتباع الأفضل للمفضول ومسايرته في فهمه واتجاهه ... مع أن سر فضله كامن في الأطلاع على الحقائق والإتساع في النظر والعمل بشكل غير موجود لدى المفضول .
إذاً ، فكل واحد من هذه القرائن ، يبرهن على أن مذهب الإمام المهدي (ع) من حيث الأصول الرئيسية ، هو المذهب الإمامي الإثنا عشري ، بحسب الأدلة التي ينبغي أن يعترف بها سائر المسلمين .
______________
(1) أنظر الحاوي للفتاوي ج2 ص 153.
(2) أنظر الإشاعة في اشراط الساعة ص 113.


صفحة (78)



وأما عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية ، فهذا من الضروريات القطعيات ، التي لا يمكن أن يرقى إليها الشك. وتدل عليه أعداد غفيرة من أخبارهم في المهدي ، مما لا حاجة إلى الإفاضة فيه . يكفي في ذلك أن نعرف أنهم يرون أن المهدي إمامهم الثاني عشر ، وأنهم يرون وجوب طاعته ولزوم انتظاره .
وفي أخبار المصادر العامة ما يدل على ذلك ، وقد سمعنا قبل قليل بعضها وفيها تعبير الأئمة المعصومين عنه (ع) بقائمنا ومهدينا ونحو ذلك فليرجع القارىء إليها .
الجهة الثالثة : موقف الإمام المهدي (ع) من العنصرية وأمثالها .
وهي عدة مفاهيم ذات مدلول أناني ضيق يتضمن تفضيل عنصر على عنصر من البشر على أساس الدم أو اللغة أو اللون أو الوطن أو القبيلة أو نحو ذلك . ولنصطلح عليها جميعاً بالعنصرية ، من أجل تخفيف التعبير .
والرأي الذي لا بد من الجزم به ، باعتبار الأدلة الآتية ، هو أن موقف الإمام المهدي (ع) من العنصرية دائماً موقف سلبي ومعارض ...بل دعوته ودولته عالمية تصل إلى كل البشر على حد سواء بدون تفضيل لجماعة على أخرى .
ويمكن إقامة الدليل على ذلك على عدة مستويات :
المستوى الأول: أن دعوة المهدي (ع) قائمة على ألإسلام ، كما برهنا فإنه إنما يطبق الإسلام على وجه الأرض ، ويرفض أي عنصرغريب عنه أو أجنبي .
ونحن نعرف أن الإسلام نص بكل صراحة على إلغاء العنصرية ، بمثل قوله تعالى :
" يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله اتقاكم .إن الله عليم خبير"(1) .وقول النبي (ص) المشهور عنه : " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"
والإسلام دين الناس أجمعين وليس خاصاً بأحد ، قال الله تعالى : " قل: يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً "(2) .
_____________
(1) الحجرات : 49/ 13. (2) الأعراف : 7/ 158.


صفحة (79)


وقال عزوجل : " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن اكثر الناس لا يعلمون "(1).
وقد أعطى الإسلام للتفاضل أسساً جديدة ، لا تمت إلى أي شكل من أشكال العنصرية بصلة . وهي ثلاثة :
الأساس الأول : العلم . قال الله سبحانه :" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .إنما يتذكر أولوا الألباب "(2) .
الأساس الثاني : التقوى : قال تعالى " إن أكرمكم عند الله اتقاكم "(3) ويدل عليه الحديث النبوي الشريف السابق أيضاً .
الأساس الثالث : الجهاد : قال الله تعالى :" لايستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة ،وكان الله غفوراً رحيماً"(4) .
هذا بعد التساوي بالإسلام وحسن العقيدة والتطبيق بطبيعة الحال. ولا يبقى ذلك في الإسلام أي تفاضل. وإنما الناس سواسية كأسنان المشط ، تجاه عدله الكامل ... يكون العظيم عنده صغيراً حتى يأخذ منه الحق ، والحقير عنده عظيماً حتى يؤخذ له الحق .
فإذا كان هذا هو الرأي الصريح للإسلام ، وهو الأمر العادل بحكم العقل أيضاً وفطرة الفكر ، كما أشار إليه سبحانه حين قال :" إنما يتذكر أولوا الألباب ".إذاً ، فالمهدي (ع) سوف يسير على ذلك أيدولوجيته العامة ، وتفاصيل تشريعه وقضائه ، وكيف لا ، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويطبق الأطروحة العادلة الكاملة.
وقد يخطر في الذهن هذا السؤال :إن الإسلام مهما شجب العنصرية ، فإننا نعرف إلى جنب ذلك: أن الإمام المهدي (ع) سيأتي بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء جديد. فلعل فيما يأتي به من الأمور انفاذ العنصرية والإعتراف ببعض حدودها ومعه لا يكون الدليل تاماً.
_______________
(1) سبأ : 24/ 28 . (2) الزمر: 39 /9.
(3) الحجرات :49/13 .(4) النساء :4/95-96 .


صفحة (80)




وجواب ذلك :انه سيأتي في مستقبل البحث –أيضاً – أن ما يعلنه المهدي في دولته ، مهما كان جديداً وعميقاً ومفصلاً ، إلا أنه يتعدى مستوى التطبيقات والتنظيمات للمجتمع الذي يحكمه ، بالشكل الذي لا يكون خارجاً بأي حال على التشريعات والمفاهيم الرئيسية في الإسلام ولا مضاداً لها .ومن الواضح أن شجب العنصرية بكل أشكالها من واضحات الأسلام ونص الكتاب والسنة .إذاً ، فمن غير المحتمل أن يقوم الإمام المهدي (ع) بتغيير ذلك .
المستوى الثاني :إن دعوة المهدي (ع) ودولته عالمية ، كما هو ضروري الوضوح لكل معترف به من المسلمين ، وسيأتي التعرض للنصوص الدالة على ذلك بصراحة .
والدعوة العالمية على طول الخط منافية مع العنصرية .ولذا نرى سائر المبادىء في التاريخ :ممن طمعت بالإستيلاء العقائدي على العالم ، تقف من العنصرية موقفاً ، سلبياً ، وتعتبرها نظرة ضيقة لا ترقى إلى اسلوبها الواسع وأفقها الرحب .
وحيث كانت دعوة المهدي (ع) عالمية ، إذاً ، فهي تنافي العنصرية كأي دعوة عالمية أخرى .بمعنى أنه بمجرد أن يتخذ بعض شعارات العنصرية فإن دائرة دعوته ستكون ضيقة ، وسيتعذر عليه بأي حال ، أن تبقى دعوته عالمية ، وهذا خلاف الضرورة والتواتر عن دعوة المهدي (ع) .وسيخل بتأسيس الدولة العالمية ،وهو خلاف ما استهدفه هذا القائد العظيم في ظهوره والغرض الأساسي الذي وجد التخطيط الإلهي من أجله .
وقد يخطر في الذهن : أن ما دل عليه الدليل القطعي . بالضرورة والتواتر هو استيلاء المهدي (ع) على العالم بأجمعه واتساع رقعته ،وهذا لا ينافي الإعتراف من قبله ببعض أشكال العنصرية .
والجواب على ذلك :أن استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ، إن كان غزواً عسكرياً مجرداً ، فهذا الذي قاله السائل صحيح .فإن الغزو العسكري المجرد لأجل الحصول على السلطة ، يناسب مع الإعتقاد بالعنصرية ومع رفضها فلا يكون مجرد الإستيلاء على العالم دليلاً على شجب العنصرية .
إلا أن استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ليس مجرد غزو عسكري بل هو دعوة عقائدية وأطروحة عادلة يريد نشرها وتطبيقها على البشرية أجمعين و تربية البشر على أساسها تربية صالحة . لتتحقق العبادة المحضة لله عز وجل على وجه الأرض ،كما هو الغرض الأساسي من الخلق ومن اليوم الموعود .


صفحة (81)


والدعوة إذا كانت عالمية هذا الشكل ، فإنها تكون منافية للعنصرية بالمرة وذلك بعد الإلتفات إلى مجموع أمرين :
الأمرالأول : إن التطبيق الحقيقي للعدل والتربية العادلة ، لا يمكن إتمامه إلا بجو من الإنسجام والتقبل النفسي للفرد والجماعة ، لكي تترسخ القواعد الأساسية والسلوك الصالح في عالم الحياة .وأما مع جو الإنزجار والتأفف والتباعد ، فلا يمكن أن تنال البشرية مثل تلك النتائج الصالحة ، ومن ثم لا يمكن تطبيق العبادة الكاملة على تلك الجماعة فيكون مخلاً بالغرض الأساسي لخلق البشرية .
الأمر الثاني :إن الإعتراف بالعنصرية بأي شكل من أشكالها ، يعني أن العنصر الآخر ، الذي لم يعترف به من البشر ، وقام النظام على الإلتزم بتسافله وخسته أمام العنصر المفضل، إن هذا العنصر سوف يشعر بالغربة في ذلك النظام وبالتعقيد النفسي والإنزجار والتأفف تجاهه. بطبيعة الحال.
ونحن إذا لاحظنا العالم ككل لم نجد أي عنصر من العناصر التي يتبناها العنصريون يشكل أكرية في العالم ، وإنما يشكل الأقلية على طول الخط . وهذا يعني بكل وضوح ، أن الدولة العالمية لو تبنب أي عنصر من العناصر، وفضلته على غيره ، فإنها تتبنى مصالح الأقلية من شعبها وتعتبر أكثريتهم من الجنس الأخس الأدنى إذاً فستحس الأكثرية بالتعقد والإنزجار تجاه تلك الدولة بحكم كونهم محكومين بالخساسة والتسافل في نظامها. و بالتالي ستتعذر تربيتهم الالحة المطلوبة ، ويكون الغرض من أصل الخليقة متخلفاً وفاشلاً .
وباستحالة تخلف هذا الغرض ، نعرف لزوم كون الدولة العالمية المهدوية سلبية تجاه العناصر البشرية ، وحيادية تجاه التفاضل بينها ، وملغية لها كأساس للتفاضل تماماً ...توصلاً إلى التربية العادلة للبشرية اجمعين
وقد يخطر في الذهن كان الفكر الحديث قد طور مفهوم العنصرية ، فقد أصبحت لا تعني تفضيل عنصر على عنصر ،وإنما كل ما تعنيه هو الإهتمام بمصالح مجموعة معينة مشتركة في اللغة أو الوطن ـ وغير ذلك ، انطلاقاً من اشتراكها بالمصالح والتاريخ والآمال، وهذا لا يتضمن تفضيلاً لأحد .
وجواب ذلك : إنه بغض النظر عن أن هذا التطوير لا يخرج بالفكرة عن التحديد والأنانية ، ومن ثم عن العناصر نفسها ... بغض النظر عن ذلك ، فإنها أوضح بعداً عن الفكرة العالمية المهدوية من العنصرية نفسها ، لأن المفروض فها أفهتمام بمجموعة معينة لا بمجموع البشر ..ومن الواضح إلى حد الضرورة أن الدولة العالمية تهتم بمصالح و تربية وآمال مجموع البشرلا بمجموعة معينة مهما كانت صفتها .


صفحة (82)


وقد يخطر في الذهن: أن هذا الإتجاه لا يصح في الدولة العالمية ، ولكنها قد تعطي للشعوب أو العناصر المختلفة الإهتمام بصفاتها تلك . من دون أن يكون للحكم المركزي نفسه تركيز على جهة دون جهة .
وجواب ذلك إن هذا غير محتمل أيضاً ، لمخالفة هذا الإتجاه مع العدل الكامل من عدة جهات ، أوضحها ما يحدث بين العناصر المختلفة من التشاحن والتعاقد نتيجة لحرية التفاخر والتركيز العنصري ..الأمر الذي ينافي كل المنافات مع العدل الكامل .
نعم . قد تبقى اتجاهات فردية متفرقة ، ناشئة من (لا شعور ما قبل الظهور) تتضمن الإحساس بأهمية العنصر أو الطبقة ... ولكنها تذوب تدريجياً تحت التربية المركزة والمستمرة التي تقوم بها الدولة العالمية طبقاً للأطروحة العادلة الكاملة .
المستوى الثالث : الإستدلال بما وردنا من الأخبار الدالة على نفي العنصرية وعلى وجود الفكرة المنفتحة والمتعادلة من هذه الناحية في دولة المهدي (ع) .
وهي على أنحاء :
النحو الأول : ما دل على أن حكم المهدي (ع) يكون قاسياً وشديدا على العرب ...باعتبار فشل أكثرهم في التمحيص الإلهي حال الغيبة ، وتقصيرهم تجاه الشريعة الإسلامية . فلو كان الإمام المهدي (ع) عنصرياً لكان يميل إلى أبناء لغته ، على كل حال .
والأخبار بذلك متظافرة لدى الفريقين : فمنها : ما أخرجه البخاري(1) عن زينب بنت جحش، أنها قالت: استيقظ النبي (ص) من النوم محمراً وجهه يقول كلا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ... الحديث .
وتأسف النبي (ص) وتحذيره منصب على انحراف العرب وخروجهم على شريعته بقرينة الحديث الذي يليه ، والذي يقول فيه .
________________
(1) انظر صحيح البخاري ج9 ص60


صفحة (83)


فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر(1). ورواه الترمذي(2) وقال :هذا حديث حسن صحيح .وأخرجه ابن ماجة في سنته (3).
وأخرج ابن ماجة(4) عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله (ص) : تكون فتنة تستنظف العرب .قتلاها في النار .اللسان فيها أشد من وقع السيف .
وفيه دلالة واضحة على فشل العرب في التمحيص في عصر الفتن والإنحراف خلال الغيبة الكبرى ، وهو ما حدث فعلاً ،وحيث نعلم موقف الإمام المهدي (ع) من كل فاشل في التمحيص .كما سيأتي مفصلاً ، نعرف موقفه من هؤلاء العرب الفاشلين ،
ومنها : ما أخرجه النعماني في الغيبة (5) :
عن أبي بصير ، قال ك قال أبو جعفر(ع) : يقوم القائم بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء جديد . على العرب شديد ، ليس شأنه إلا السيف ... ولا يأخذه في الله لومة لائم .
وفي حديث آخر (6) عن أبي عبد الله (ع) ، انه قال :
إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف ... الحديث .
إلى غير ذلك من الأحاديث ، الدالة على أن الميزان الصحيح في نظر القائد المهدي (ع) هو الإيمان والنجاح في التمحيص ، وليس هو اللغة ولا القبلية .فهو لا يميل إلى أهل لغته : العرب ، ولا إلى قبيلته : قريش . بل يأخذهم أخذاً شديداً نحو طاعة الله تعالى ، ويعاقبهم على ما سلف منهم من الذنوب.
________________
(1) المصدر والصفحة . (2) انظر الجامع الصحيح للترمذي ج3 ص325
(3) انظر ج2 ص1305منه. (4) المصدر ص1312
(5) ص122 (6) المصدر والصفحة.


صفحة (84)



وفي هذه احاديث عديدة ، اقتصرنا منها على مقدار النموذج .
النحو الثاني : ما دل من الأخبار على أن أصحابه الممحصين الخاصين الذين يجتمعون إليه ويحاربون بين يديه . ليسوا من عنصر واحد و بل هم من مختلف بلدان العالم .
فمن ذلك :
ما أخرجه الشيخ في الغيبة(1) عن أبي بصير عن عبد الله يقول فيه عن أبي عبد الله (ع) يقول فيه عن أصحاب القائم (ع ) : فيتوافون من الآفاق ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً وعدة أهل بدر .
اقول : وفيه دلالة على ورودهم إليه من مختلف البلدان في العالم .
وما أخرجه النعماني في غيته(2) بإسناده عن علي (ع) يقول فيه :
ثم يجتمعون قزعاً كقزع الخريف من القبائل ،ما بين الواحد والإثنين والثلاثة والأربعة والخمسة والستة والثمانية والتسعة والعشرة .
أقول : وهو نص في عدم التمييز بين القبائل والأنساب في أصحابه ، وإنما الميزان هو عمق الإخلاص وقوة الإيمان والإرادة .
وأخرج(3)في خبر آخر عن الإمام الباقر (ع) وقال :
أصحاب القائم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً . من أولاد العجم بعضهم .
أقول : والمراد بالعجم غير العرب لا خصوص الفرس ، كما هو معروف في اللغة .
فليس الميزان هو اللغة أو الدم أو العنصر، وإلا لا يقبل المهدي (ع) القائم في أصحابه إلا العرب ، بل الميزان أمور أخرى اوسع واعمق .
النحو الثالث : ما دل من الأخبار على مشاركة غير العرب في حكم العالم وهداية الناس تحت ظل دولة المهدي (ع) .
____________
(1) ص284 وما بعدها . (2) غيبة النعماني ص168.
(3) المصدر ص170.


صفحة (85)



فمن ذلك : ما رواه النعماني في غيبته بسنده عن الإصبغ بن نباته قال:
سمعت علياً (ع) يقول : كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلمون الناس القرآن ، كما أنزل :
اقول : وهذا إما يحدث في دولة المهدي (ع) لأنهم إنما يعلمون القرآن على أساس معانيه الواقعية ، مأخوذة من الإمام المهدي (ع ) نفسه . واما قبل ذلك فهو متعذر بطبيعة الحال .
المستوى الرابع : في الإستدلال على موقف المهدي (ع) من العنصرية إننا نضم فكرتين اثنتين واضحتين ، تنتجان نتيجة واضحة .
الفكرة الأولى :إن الإمام المهدي (ع) يسير بسيرة النبي (ص) ويطبق منهجه على المجتمع والحياة. وهو ما سبق أن أقمنا عليه الدليل .
الفكرة الثانية : إن سيرة النبي (ص) في أصحابه ومجتمعه ، كانت بالضرورة على نفي العنصرية وشجبها بكل أشكالها ، وإعلان عقيدة الإسلام ونظامه عاماً عالمياً لكل الناس .وقد جمع في اصحابه بين عبيد المجتمع وأحراره وبين عربه وعجمه وبين مختلف القبائل، وراسل ملوك العالم في عصره دعوهم إلى الإسلام ، وكلهم لم يكونوا عرباً .وإن أشهر أصحابه من غير العرب سلمان الفارسي وبلال وصهيب الحبشيان ...وهناك الكثير وغيرهم .
وأود بهذه المناسبة أن أروي ما أخرجه الترمذي (1) عن أبي هريرة ، قال :
كنا عند رسول الله (ص) حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها .فلما بلغ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم)(2) قال له رجل : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا .فلم يكلمه .قال : وسلمان الفارسي فينا .
قال: فوضع رسول الله (ص) يده على سلمان ، فقال:والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجل من هؤلاء .
قال الترمذي : هذا حديث حسن . وقد روى من غير وجه عن النبي (ص) .
_______________
(1) انظر الجامع الصحيح: ج5 ص383.
(2) الجمعة : 62/ 3.


صفحة (86)


أقول: وهو يدل بوضوح على مشاركة غير العرب بالإيمان العميق، عقيدة وتطبيقاً ... إذا كان المراد جعل سلمان الفارسي (رض) ممثلاً لهم .مع احتمال أن يكون المراد جعله ممثلاً لمستوى معين في الإخلاص و التفكير ويكون قوله (ص): رجال من هولاء ... يعني من كان متصفاً بذلك المستوى .
وعلى أي حال، فإن الملاحظ أن هذا الخبر غير دال بالمرة على أن سلمان الفارسي من الآخرين الذين لم يلحقوا بهم ، المذكورين في الآية الكريمة ، بل هو دال على العكس ،كما هو واضح لمن يفكر. وأما السؤال عن معنى الآية فقد أعرض النبي (ص) عن جوابه .
وعلى أي حال :فما دامت دولة النبي (ص) خالية من العنصرية . إذاً فستكون دولة المهدي (ع) كذلك ، لأنه يستن بسنته ويسير بسيرته .

الجهة الرابعة : نظام الدولة المهدوية، هل هو مشابه لبعض الأنظمة السابقة عليه ، كالرأسمالية أو الإشتراكية أو غيرهما ، أولا ؟ .
والذي ينبغي الجزم به أساساً هو النفي المطلق ، وأن شيئاً من الأنظمة الاسبقة على الظهور، لا تصدق على نظام المهدي ولا تشمله .
و الدليل الحسي التطبيقي ، سوف لن يظهر ، إلا بعد الظهور، حين يتم تطبيق نظام الإمام المهدي (ع) ودولته العالمية ،ويكون في الإمكان مقارنته بالأنظمة السابقة عليه مقارنة حسية . وهذا لا يتم في العصر الحاضر بطبيعة الحال .
ولكننا نستطيع طبقاً للأدلة التالية ، الجزم بأن نظام المهدي (ع) مباين ومغاير تماماً مع أي نظام سابق عليه. وذلك : باعتبار الأدلة التالية :
الدليل الأول: أننا عرفنا أن ألإمام المهدي (ع ) سوف يطبق الإسلام وبصفته الأطروحة العادلة الكاملة ....وقد تم البرهان في بحوث الفكر الإسلامي على مغايرة نظام الإسلام لسائر الإنظمة الأخرى .وأنه أطروحة مستقلة لحل مشاكل البشرية لا تمت إلى الحلول الأخرى بصلة .
ولا مجال لسرد تلك الأدلة في هذا التاريخ ، بطبيعة الحال ، إلا أنها تنتج بعد التسليم بصحتها مغايرة نظام الإمام المهدي (ع) للأنظمة السابقة عليه ... لأن نظامه هو الإسلام المغاير لتلك الأنظمة .


صفحة (87)


الدليل الثاني: إننا ننطلق من فكرة الحديث النبوي المتواتر ، القائل :إن المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ....ننطلق منه إلى النتيجة المطلوبة . فإننا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) أن البشرية عامة والأمة الإسلامية خاصة ، لا بد أن تمر بظروف صعبة وقاسية من الظلم والجور والإنحراف ... لكي تتمخض في نهاية المطاف عن عدد من المخلصين الممحصين يكفي للقيام بمسؤولية الدولة المهدوية ،ونتيجة لتلك الظروف (تمتلىء الأرض ظلماً وجوراً) وبجهود هؤلاء المخلصين تحت قيادة الإمام المهدي (ع) تمتلىء الأرض قسطاً وعدلاً) .
وإذا تساءلنا عن أسباب هذه الظروف ، تكشفت لنا خلال التاريخ المعاصر والسابق ، عن سلسلة متصلة ومتواصلة من الأسباب الكبيرة ... التي من أهمها أساليب الحكم الفردي الدكتاتوري التي مورست خلال التاريخ، وجود الكيان الرأسمالي الأوروبي – الأمريكي وما تبعه من الاستعمار بشكليه القديم والحديث .وما لاقى منه العالم بشكل عام والأمة الإسلامية بشكل خاص من بلايا وأضرار وكذلك محاولة فرض الحلول المدعاة لمشاكل العالم على الشعوب عن طريق الغزو الفكري للعالم (2) كما قامت به الشيوعية ، وهي تعلن إيمانها بحق تقريرالمصير للشعوب ، فيبدو موقفها متهافتاً غريباً .
ولئن كان الرأي العام العالمي ، قد أحيط علماً بحسب التجربة التاريخية القاسية التي عاشوها بالأضرار الناتجة عن الحكم الفردي والإستعمار الرأسمالي ،فإن الأعوام الآتية كفيلة بكشف ما في النظام الشيوعي من هنات ونقاط ضعف ومنطلقاً من ذلك نستطيع أن نعمم ونقول إن أي نظام وضعي بشري المولد ، موجود قبل الظهور ، يمثل في واقعه أهم أسباب الظلم والإنحراف في العالم ، إن كان بدوره ناتجاً عن ظلم وانحراف سابقيين .... ومعه فستكون المهمة الرئيسية للإمام المهدي (ع) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، أن يقوم بتغيير هذه الأنظمة والقضاء على جذورها وتفاصيلها .
الدليل الثالث: إن سائر الأنظمة والقوانين الوضعية قائمة على المادية .وإسقاط العنصر الإلهي عن نظر الإعتبار، إما بالصراحة كالشيوعية والوجودية ، أو بالخفاء كالرأسمالية والفاشية والنازية والقوانين الرومانية والجرمانية ، ومتفرعاتها الحديثة ، فأنها قائمة على أساس دنيوي مادي صرف لا أثرللروح أو لله تعالى فيه .
_______________
(1) انظر ص246 وما بعدها .
(2) بل قامت الشيوعية بالغزو العسكري المباشر ، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا عام 1969 وفي انغولا هذا العام أعني 1976.


صفحة (88)




وقد علمنا أن نظام المهدي (ع) سيقوم على ربط الإنسان بربه وتربيته لجسمه وروحه . والربط بين هذه العناصر ربطاً عادلاً وعميقاً . وستكون كل القوانين المطبقة قوانين إلهية إسلامية . حتى إن المهدي (ع) نفسه إنما يكون واجب الإطاعة باعتباره أحد أئمة المسلمين المخولين من قبل الله تعالى للحكم والتقنين والتطبيق .
إذا فسوف لن يكون في دولة المهدي مجال للمادية بشكليها الصريح والخفي وسوف يتم القضاء عليها قضاء تاما ً.
الدليل الرابع: الإنطلاق من زاوية أخرى من القواعد التي فهمناها عن فكرة المهدي ... وقد أشرنا إليها في التاريخ السابق .(1)


وهي : أن التخطيط الإلهي قائم على اكتساح التمحيص الدقيق للأفراد والمبادىء ، وبذلك ينكشف بشكل حسي مبرهن ومدعم بالتجارب الكثيرة والمريرة، عن فشل كل دعوة تدعي لنفسها حل مشاكل العالم وتذليل مصاعبه، حتى ما إذا انكشفت وبان زيفها ونقاط الضعف فيها وأيست البشرية من أن تضع حلها لنفسها ...انبثق الأمل في أنفسها من جديد إلى حل جديد ونظام جديد ينقذها من وهدتها و يخرجها من ورطتها ،وهذا الأمل إحساس نفسي مجمل لازال في طريق التربية في نفوس البشر، كما هو المحسوس الآن بالوجدان ولا زالت الحوادث وما ينكشف من مساوىء الأنظمة والفلسفات الوضعية تؤيده وتدعمه .
وهو أمل مجمل ، لا يشيرعلى التعيين إلى الإسلام أو إلى نظام المهدي (ع) .ولكن الله تعالى يكون قد أعد لخلقه الإنقاذ الحقيقي والعدل الكامل على يد القائد المهدي (ع) ومخلصيه ،فإذا رأت البشرية نظامه وعدله ، فإنها ستؤمن بكل وضوح أفضليته على كل التجارب والمدعيات السابقة التي مرت بها ،وانه الحل الأساسي الذي ينقذها من ورطتها ، وبالتالي هو الصورة الحقيقية لذلك الأمل المجمل .وقد أشير إلى هذا التخطيط في المصادر الخاصة ، في بعض الأخبار ، كالخبر الذي رواه الشيخ المفيد في الإرشاد (2) والطبرسي في أعلام الورى (3) .و الذي يقول فيه :
إن دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا ، لئلا يقولوا إذا راوا سيرتنا : إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء .وهو قوله تعالى : والعاقبة للمتقين .
________________
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص249 وما بعدها .
(2) انظر ص 344.
(3) انظر ص 432.


صفحة (89)



وليس المراد بحكم (أهل بيت لهم دولة) حكم(الأسر) أو القبائل بل المراد بهم الجماعة الذين يتخذون أيدولوجية معينة في دولتهم. بقرينة قوله في الحديث : (إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء) فإن من يقول ذلك إنما هم مثل تلك الجماعة ، لا الحاكم القبلي وهو يخلو حكمه من أي هدف اجتماعي أو عادل ، بحيث لا يكون قابلاً للمقارنة أساساً . وإنما عبر الحديث الشريف بهذا التعبير بقانون (كلم الناس على قدر عقولهم ) .
وفي رواية أخرى(1) عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (ع) وانه قال :ما يكون هذا الأمر " يعني دولة المهدي (ع) " حتى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوا من الناس " يعني باشروا الحكم فيهم" حتى لا يقول قائل :إنا لو ولينا لعدلنا . ثم يقوم القائم بالحق والعدل .أقول: لأنهم لو قالوا ذلك بعد ظهور القائم المهدي (ع) فإن جوابهم يكون واضحاً ، وهو أنكم حكمتم وفضلتم في حل مشاكل العالم ، بل كان حكمكم وظلمكم من جملة مشاكله وويلاته .
إذاً فالتخطيط قائم على كشف الحلول المدعاة للعالم أمام الرأي العام العالمي ، قبل تولي دولة العدل للحكم وممارستها إياه في الخارج ...وإعطاء روح اليأس من تلك الحلول عالمياً ، بشكل لا يؤمل معه وجود حل بشري جديد ..كما هو المفهوم من الحصر الموجود في هذه الأخبار " حتى لا يبقى صنف من الناس إلا قد ولوا من الناس" المستفاد من الإستثناء بعد النفي .
وهذا معناه بكل بساطة وصراحة تنافي نظام دولة المهدي (ع) مع النظم السابقة وقيامها على انقاضها وبعد انكشاف زيفها وبطلانها .وهل من المحتمل أن يتبع القائد المهدي في دولة العدل المطلق ، إحدى النظم التي بان زيفها وفشلها .
إذاً . فقد تبرهن عدم أخذ الإمام المهدي (ع) في دولته بشيء من النظم الاسبقة على ظهوره .واستغنائه . بالعدل الإلهي المعد لتطبيقه في دولته .
__________________
(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ً389 نقلاً عن غيبة النعماني .


صفحة (90)



وسوف يشعر الرأي العام العالمي ، بكل وضوح ، بهذا الإستغناء ، فإن من يتخذ أحد هذه المبادىء الحاضرة مذهباً له وطريقة في الحياة ، يستهدف لا محالة أما الهدف الشخصي في الحصول على المال والشهرة و السعادة ، أو الهدف العام في الدفاع عن الفقراء والمضطهدين باعتقاده .وكلا هذين الهدفين يتحقق بأجلى مظاهره في دولة المهدي (ع) ، على ما سمعناه مجملاً من كثرة المال لدى كل الأفراد في عصره ، وما سنسمعه من سائر التفاصل في مستقبل البحث .إذاً و يكون بإمكان الهادفين في العالم أن يحققوا النتائج الجيدة التي يعتقدونها لأهدافهم نظام المهدي (ع) ، ويتخلصوا- في نفس الوقت – من نقاط الضعف التي كانت فيها .
وبالنتيجة ، فالعنوان العام لأيدولوجية دولة المهدي (ع) وهو الإسلام بصفته النظام العادل الكامل كما جاء به النبي الأعظم (ص) ولا يمت إلى النظم السابقة عليه ، بصلة .


صفحة (91)


الفصل الخامس
التخطيط الإلهي لما بعد الظهور


كما يوجد لعصر ما قبل الظهور تخطيطه العام ، وهو الذي شرحناه مفصلاً في التاريخ السابق ، يوجد لعصر ما بعد الظهور تخطيطه أيضاً .
وهذا القسم هو محل الحديث الآن ، فأن التخطيط الإلهي العام لتكامل البشرية ، لا يكون منقطعاً بحصول نتيجة التخطيط السابق ، بل يكون مواكباً مع البشرية إلى نهايتها بمقدار استحقاقها في وضعها العادل الجديد .... وسيهدف عندئذ نتيجة أبعد تمت إلى عميق العدل والتربية البشرية بصلة .
فهذا التخطيط وهو الإمتداد الطبيعي السابق ، والموافق – أيضاً – للموازين الثايتة في الفلسفة الإسلامية القائلة : بأن الله تعالى يفيض نعمة الكمال على كل موجود بقدر استحقاقه ،فإذا كانت درجته من الكمال دانية كان استحقاقه منحصراً في الرتبة الكمالية التي فوقها مباشرة .وإذا كانت درجة الموجود عالية في الكمال ، كان استحقاقه لدرجة أعلى من الكمال متحققاً ، والله تعالى كريم مطلق فيفيض عليه الكمال الجديد .فإنه سيستحق رتبة أخرى ، وهكذا يسير في طريق الكمال اللانهائي .
وإذا طبقنا ذلك محل الكلام ، نقول : إن البشرية بعد اجتماع شرائط الظهور ، طبقاً للتخطيط السابق . تكون مستحقة لدرجة جديدة من الكمال وهو تطبيق العدل الكامل فيها ، بواسطة ظهور المهدي (ع) .
وبتطبيق العدل تكون البشرية قد بلغت درجة أعلى من الكمال تستحق بعدها درجة أعلى وهو عمق هذا العدل وترسخه ، إلى أن تصل إلى استحقاق صفة " العصمة " حيث يوجد المجتمع المعصوم كما سوف نشير في مستقبل البحث .


صفحة (93)


وبهذا يتبرهن فلسفياً ما بعد الظهور ....
إلا أن انتاج هذا التخطيط لنتائجه النهائية منوط ببقاء البشرية مدة كافية من الدهر لكي تتربى على عمق العدل ورسوخه ولكي نصل في نهاية المطاف إلى الكمال الإنساني الأعلى .وأما إذا انتهت حياة البشرية جميعها وقامت القيامة خلال زمن قصير ينسد باب الترقي و التكامل بطبيعة الحال .
ومن هنا ينفتح احتمالان :
الإحتمال الأول : قصرعمر البشرية بعد الظهور ، وتحقق اليوم الموعود .
الإحتمال الثاني : بقاء البشرية لفترة طويلة من الدهر بعد ذلك .
ولكل من الإحتمالين مرجحاته، على ما سنذكر – على حين لم يكن للإحتمال الأول وجود في التخطيط السابق. باعتبار ضرورة انتاجه لليوم الموعود . وذلك لأكثر من دليل :
الدليل الأول : كونه وعداً إلهياً . والله لا يخلف الميعاد .وذلك في قوله عز وجل :" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ،وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم..."(1)


الدليل الثاني: كونه غرضاً أصلياً في خلق البشرية ، ومن المستحيل أن يزول الشيء من الكون قبل أن يستوفي غرضه . وقد سبق في التاريخ السابق(2) أن برهنا على كونه غرضاً .وسيأتي في الكتاب الآتي تركيزه بشكل أوسع وأعمق .
وهذا هو الذي اشارت إليه الأخبار من الفريقين . فمنها :
ما أخرجه النعماني في الغيبة(3) بسنده إلى أبي هاشم الجعفري ، قال : كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (ع) ، فجرى ذكر السفياني ، وما جاء في الرواية من أن أمره المحتوم . فقلت لأبي جعفر (ع) : هل يبدو لله في المحتوم . قال : نعم .قلنا له : فنخاف أن بدو في القائم . فقال : إن القائم من الميعاد ، والله لا يخالف الميعاد .
ــــــــــــــــــ
(1) النور: 24/55. (2) تأريخ الغيبة الكبرى ص225.
(3) ص142.


صفحة (94)



ومنها : ما أخرجه أبو داود (1) عن زر عن عبد الله عن النبي (ص) قال:
لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني – أو من أهل بيتي - يواطىء اسمه اسمي ... الحديث .
وأخرج أيضاً (2) عن علي (ع) عن النبي (ص) : قال:
لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي ... الحديث .
وهذه التأكيدات في الأخبار كثيرة ومتضافرة ، وكلها دالة على ضرورة تمخض التخطيط الإلهي السابق عن وجود اليوم الموعود . وعدم فناء البشرية قبله.
وأما بالنسبة إلى التخطيط الموجود بعد الظهور . حيث يكون الوعد قد تحقق والغرض الأساسي من خلق البشرية قد انجز ، فقد يبدو أنه لا حاجة لبقاء البشرية بعد ذلك ،ولا دليل عليه .
وستأتي مناقشة ذلك مفصلة في القسم الثالث من هذا التاريخ ، غير أن الصحيح هو طول عمر البشرية ، لأجل دليلين رئيسين :
الدليل الأول : أننا فهمنا في التاريخ السابق(3) من قوله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "(4)، فهمنا : أن الغرض الأساسي من خلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوعها .وفهمنا هناك (5) من العبادة الكاملة وجود المجتمع الصالح والدولة العالمية الصالحة .
فلو أننا اقتصرنا على هذا المقدار من الفهم ، لكان الغرض من خلق البشرية متحققاً بمجرد تأسيس المهدي (ع) لدولته العالمية العادلة .ومعه فقد يخطر في الذهن :أن المقصود هو إيجاد هذا النوع العالي من العبادة ولو في فترة قصيرة من الزمن . فلا بقى أي دليل على استمرار البشرية بعد ذلك ردحاً طويلاً من الزمن ، إن لم يكن ذلك مستحيلاً ، لأن بقاء الشيء بعد استيفاء لأغراضه محال في الحكمة المطلقة .
ــــــــــــــــــ
(1) ج2 ص42. (2) المصدر والصفحة .
(3) تاريخ الغيبة الكبرى ص235. (4) الذاريات : 51/56.
(5) ص224.


صفحة (95)



لكننا نريد في هذا الدليل أن نخطو خطوة جديدة في فهم هذه الآية .وهي :إن المعنى الذي ذكرناه للعبادة وإن كان مهماً ورئيسيأ جداً ...إلا أنه ليس نهائياً بحال . بل هناك مراتب أعلى من العبادة تكون تلك المرتبة الأولى مقدمة لها وإعداداً لإيجادها ، وكلها ممكنة الحصول من البشرية واتصفاها بها في المدى الطويل ، كما سيتضح عند استعراضها .
وبطبيعة الحال، كما تصورنا مرتبة من العبادة ممكنة للبشرية ، كانت مندرجة في مدلول الآية الكريمة ، لعدم وضع الآية أي تحديد على مفهوم العبادة فيكون إيرادها مطلقة ، دليلاً على إيراد العبادة المطلقة .
إذاً ، فالغرض الأساسي من خلق البشرية أبعد بكثير من مجرد وجود الدولة العالمية ، وإنما وجدت هذه الدولة العظيمة .وخططلها في تاريخ البشرية الطويل من أجل هدف أعلى وأمامها . ويكفينا الآن أن نعبر عنه بـ(العبادة المطلقة) لخالق الكون ، حتى يأتي في مستقبل البحث ما يلقي الأضواء الكافية على هذا المفهوم .
إذاً، فوجود الدولة العالمية ، لا يعني نجاز الغرض الأقصى من خلق البشرية وتحققه في عالم الوجود ، بل هو لم يوجد بتأسيس هذه الدولة ، ولازال أمام البشرية الكثير لكي تصل إليه .
إذاً ، فلا معنى لقصر عمر البشرية بعد تأسيس هذه الدولة ، بل لا بد أن تبقى حتى تستوفي لغرضها الأعمق ، إذ يستحيل تخلف الأغراض في الحكمة الإلهية الأزلية .
الدليل الثاني : أنه يستبعد ان يكون زمان النتيجة اقصر بكثير من زمان المقدمات .
فإننا عرفنا كم من الزمان يستغرق إعداد البشرية لليوم الموعود ...وهو كل عمرها منذ أول وجودها إلى حين نجاز ذلك اليوم العظيم .وهو ما لا يقل عن عدة الآف من السنين ، إن لم يكن أكثرمن ذلك ، كما عليه أنصار الفكر الحديث .وقد استوعبت هذه المدة ملايين الحوادث من تضحيات البشرية وآلامها ومظالمها . ومن جهود الأنبياء والأولياء والمصلحين والشهداء ، ومن ظروف التمحيص الإلهي ، وما أدته البشرية من خيرات وما ارتكبته من جرائم ، فإن كل ذلك ، كان مقدمة لليوم الموعود ، وإعداداً لحصول شرائطه المطلوبة التي لا يمكن تحققه بدونه ، كما عرفنا من التخطيط الإلهي السابق على الظهور .
وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق مفصلاً .
______________
(1) انظر الفصل الخاص بالتخطيط الإهي ص233.


صفحة (96)



فهل من المعقول أن تستمر المقدمات آلافاً من السنين ، ثم لا تكون النتيجة غير تسع سنوات أو أقل، كما تدعي الفكرة التقليدية .إن هذا في غاية البعد بحكم العقل .فإنه يعني بكل وضوح استخدام الأجيال البشرية المتطاولة في سبيل إسعاد جيل أونصف جيل !! إن هذا قبيح عقلاً ومستحيل في الحكمة المطلقة الأزلية .
وتبقى هذه الإستحالة سارية المفعول ما لم تصل النتائج أعني أجيال ما بعد الظهور . إلى حد من الكثرة بحيث تكون التضحية بالأجيال السابقة في سبيلها من قبيل التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة ، أو بالمصلحة القليلة في سبيل المصلحة الكبيرة فليكن القارىء متذكراً لذلك .حتى يأتي موضع الحاجة منه وإيضاحه .
وإذا تم البرهان على طول عمر البشرية بعد الظهور ، وعدم وصولها إلى هدفها الأسمى بمجرد حصوله: إذاً، فمن اللازم التخطيط لهذا الهدف خلال هذا العمر إذ لا يوجد شيء مهمل في هذا الكون .ولا بد من إعداد البشرية بالشكل الذي يمكنها الوصول إلى ذلك الهدف ، كما كانت قد أعدت للتشرف بلقاء اليوم الموعود .
ومعه يكون قد تبرهن هذا التخطيط وثبت ثبوتاً كاملاً . ولا بد لنا فيما يلي أن نعطي المؤدى العام لهذا التخطيط. فنتعرف على صياغته وخطواته ، كما تعرفنا على صياغة وخطوات التخطيط السابق عليه .
ما بين التخطيطن :
إذا كان المقصود من التخطيط الإلهي السابق ، هو التوصل إلى ظهور المهدي (ع) وحسب ، إذا ً، يكون هذا التخطيط منتهياً في لحظة الظهور.
إلا أن التخطيط الجديد سوف لن يبدأ بلحظة الظهور بطبيعة الحال، لأن تخطيط للعالم الذ يتم فيه تطبيق العدل للسير باتجاه (العبادة المطلقة) . وهذا التطبيق لا يتم في اللحظة الأولى ...بل يحتاج إلى جهود عميقة وواسعة من قبل القائد المهدي (ع) وأصحابه المخلصين . في غزو العالم عسكرياً وثقافياً والسيطرة عليه تماماً .فإذا تمت وأثمرت هذه الجهود . يكون التخطيط قد بدأ .
ومن ثم نواجه في فهم الموقف ثلاث اطروحات محتملة :
الأطروحة الأولى :أن هناك ما بين التخطيطين ، فترة من الزمن محدودة ، ذات تخطيط خاص بها ، يستهدف سيطرة القائد المهدي (ع) على العالم واستتباب الدولة العالمية العادلة ...


صفحة (97)


حتى ما إذا أثمرت جهوده ، وتم تطبيق العدل الكامل على العالم ، كان اول يوم لذلك ، وأول يوم لتطبيق العام الجديد .
الأطروحة الثانية :إن الأطروحة الاولى لا تخلو من تسامح في التصور .فإن ظهور الإمام المهدي (ع) لم يخطط لإيجاده بمجرده ، بل خطط له من أجل تأسيس الدولة العالمية العادلة ، وقد كانت شرائط الظهور التي عرفناها ، وبرهنا عليها في التاريخ السابق (1).
شرائط لهذا الهدف ... وإنما كانت شرائط للظهور نفسه ، باعتبار كونه المقدمة الرئيسية الأخيرة له أيضاً .
إذاً فإنتاج التخطيط الاسبق كاملاً لا يكون إلا بتأسيس الدولة العالمية ، ومعه تكون جهود الإمام المهدي (ع) وأصحابه للسيطرة على العالم داخلة في التخطيط السابق نفسه ، باعتبارها الحلقة الأخيرة لهذه النتيجة الكبيرة
فإذا تم تطبيق العدل وتأسيس الدولة العادلة ، يكون التخطيط السابق قد انتهى .
وبلحظة البدء بتطبيق العدل تكون بداية التخطيط الثاني ، ولا يكون التخطيطين فاصل زماني ملموس .
الأطروحة الثالثة : إن فترة السيطرة على العالم بالعدل والجهود المبذولة في هذا السبيل ، داخلة في التخطيط الجديد ، لافي التخطيط السابق .
وذلك: بأن نفترض ان الهدف من التخطيط السابق هو الظهور نفسه ، بصفته كاشفاً عن القائد العالمي المؤسس لدولة العدل الكبرى . بهذا ينتهي هذا التخطيط عند الظهور . ولا معنى لبقائه بعد تحقق نتيجته .
ويبدأ التخطيط الجديد من حين الظهور فصاعداً ، وتكون فترة السيطرة على العالم بالعدل مندرجة فيه، باعتبارها مقدمة لهدفه ،فإنه يستهدف إيجاد (العبادة المطلقة) في ربوع البشرية ، وهذا الهدف يحتاج إلى مقدمته الرئيسية وهي إيجاد الدولة العالمية العادلة ، وهذه الدولة تحتاج إلى السيطرة على العالم بطبيعة الحال في أو لتأسيسها . ومن هنا تكون الجهود المبذولة في هذه السيطرة واقعة في هدف التخطيط الثاني ، فتكون مندرجة فيه .

(1) تأريخ الغيبة الكبرى ص476 وما بعدها.


صفحة (98)



وبالرغم من أن ما عرضناه خلال الأطروحة الثانية كاف للقول بأنها هي الصحيحة وإلا أن نتيجة هذا البحث تبدو وكانها مجرد اصطلاح ، فإنه سواء كانت فترة السيطرة على العالم بالعدل مندرجة في التخطيط السابق أو في التخططي اللاحق ، فإنها واقعة في خط تكامل البشرية العام الذي لا بد منه باستمرار . وإنما عقدنا هذا البحث لأجل إيضاح جوانب الفكرة لا أكثر.


صفحة (99)


الأسس العامة
لتخطيط ما بعد الظهور


إذا أردنا التعرف على أسس وتفاصيل التخطيط العام لما بعد الظهور ، لا بد لنا من التفاتة إلى ما سبق أن قلناه في التمهيد ، من أنه يتعذرعلى الباحث الذي يعيش الفترة السابقة على الظهور أن يدرك العمق الحقيقي الإتجاهات القانونية والفكرية العميقة التي تكون سائدة بعد الظهور ، وعند تطبيق العدل الكامل على العالم .
ومن هنا ينبغي أن تبقى التفاصيل والتفريعات مصونة في الغيب إلى حين تحققها ، وإنما غاية جهد الباحث أن يدرك الخطوط العريضة والقضايا العامة المهمة التي يمكن الإطلاع عليها في حدود الثقافة الإسلامية الموجودة في العصر الحاضر .
وبذلك نعرف إحدى نقاط الإختلاف بين التخطيطين .فإن التخطيط الإلهي السابق متخذ للسير بالبشرية الماضية والحاضرة إلى نتائجها المطلوبة ....
وبتعبير أوضح أننا بحسب وجودنا في هذا الزمن نعيش التخطيط الساري المفعول فيه .
ومن هنا يكون اطلاعنا على تفاصيل هذا التخطيط ممكناً ومتيسراً إلى حد كبير ، عن طريق القواعد العامة المعروفة وعن طريق ما هو مشاهد بالوجدان مما قد تحقق من حلقاته وتفاصيله . كما سبق أن عرضنا ذلم مفصلاً في التاريخ السابق .
وإما تخطيط ما بعد الظهور ، فيحتوي على عدة نقاط ضعف في التعرف عليه :
أولاً : بعدنا الزماني عنه ، بحيث لا يمكن مشاهدته بالوجدان ،ولا أن يصل منه شاهد عيان .
ثانياً : أننا نقتصر في الغالب - في التعرف عليه القواعد العامة ، وهي لا تعطي إلا العموميات ، ولا يمكنها الوصول إلى التفاصيل.
ثالثاً : أننا نجهل القوانين الجديدة والنظم التي ستكون معلنة في ذلك العصر، الأمر الذي يوفر لنا طريقاً سهلاً، في معرف ة التخطيط لو كان متوفراً ،
إلى غير ذلك ، مما يحدونا إلى الكفكفة من غلواء البحث ، والإقتصار في النتائج على مقدار الإمكان .


صفحة (100)

 

السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله