مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

السنة من وجهة نظر المذاهب الإسلامية
عبد الكريم آل نجف


 
 أهمية الدراسات الأصولية المقارنة:
يُعنى الفكر الأصولي باستنطاق روح التشريع الإسلامي، وتقعيد القواعد التي تجعله تشريعاً قادراً على الامتداد في المكان، والزمان المطلوبين، وهو الفكر المسؤول إلى حد بعيد عن إشباع متطلبات الزمان، والمكان واستيعابهما مهما امتداً، وهذا يعني أنه فكر أحوج ما يكون إلى النمو. ومتى ما توقفت حركته نحو النمو، والتجديد أصبح عاجزاً عن أداء وظيفته التي وجد من أجلها.
ولكي يحقق النمو المتواصل، والمطلوب أهدافه لابد للفكر الأصولي الإسلامي من التواصل مع الاختصاصات الفكرية المشابهة له، والمناظرة لوظيفته،
أو ذات العلاقة به من قريب، أو بعيد، سواء كانت هذه الاختصاصات دينية، أم وضعية. أكاديمية أم غير أكاديمية، كالعلوم، والنظريات اللغوية، والقانونية، والأكاديمية الحديثة.
ولعل الحاجة الأولى، والاهم، والأقرب إلى المستطاع تتمثل بضرورة التواصل الفكري في الميدان الأصولي بين المدرستين: السنية، والإمامية. فانهما مدرستان غنيتان، لكن كلاً منهما منفصلة عن الأخرى في الخط، والمنهج، والمعطيات، ولو أنهما تعاونتا، وتعاضدتا لعمّهما رخاء فكري كبير، وازدهار علمي ليس بعده ازدهار. فكما أثريت المدرسة الإمامية من خلال حلبة البحث الفكري المطرد، والمتوثب طيلة القرنين الماضيين، فان الفكر الأصولي الإسلامي العام يمكنه أن يزدهر أكثر إذا ما تلاقحت أفكار المدرستين مع بعضهما، فاستعانت المدرسة السنية بما تختزنه المدرسة الإمامية من معطيات، ومنهاج، ونظريات، وسلكت المدرسة الإمامية الاتجاه نفسه، وتلاقحت خزائن القرون المتطاولة لكلتا المدرستين مع بعضها.وكمثال على ذلك تجد أن المدرستين تناولتا موضوع السنة الشريفة بالدراسة، والتحليل العلمي بدرجات، وأشكال ومناهج مختلفة، وكانت النتائج متفاوتة أيضا. ولو أنا توفرنا على دراسة هذا الموضوع الحيوي، والمهم من التشريع الإسلامي بشكل مقارن لخرجنا بنتائج تغني المدرستين معاً، وتسهم في ترشيد الحركة الأصولية الإسلاميّة  بصورة عامة، وبالشكل الذي يؤدي إلى تحقيق الغرض المطلوب من علم الأصول.مكانة السنة لدى المسلمين:
تحتل السنة مكانة خاصة لدى المسلمين، تأتي بالمرتبة الثانية بعد القرآن
الكريم، وعلى هذا أجمع المسلمون إلاّ من شذّ وندر من الخوارج وأيّدهم في ذلك الزنادقة.(1)
والأهمية التشريعية للسنّة تتمثل في كونها المصدر الثاني في التشريع الإسلامي، ولولاها لأصبح هذا التشريع مجملاً لا يشتمل إلاّ على الروح والأصول التشريعية العامة مع عددٍ غير كافٍ من الأحكام التفريعية..
والسنة لغة تعني: الطريقة المسلوكة بنحو الدوام والاستمرار. وفي الاصطلاح الفقهي يراد بها معنى مرادفا للاستحباب تارة، ومعنى مقابلاً للبدعة تارة أخرى، وقد يستعمل المعنى الثاني في الاصطلاح الكلامي أيضاً. أما في الاصطلاح الأصولي، فالقدر المتفق عليه بين المذاهب الإسلاميّة هو: أن السنّة هي قول النبي (ص) أو فعله، أو تقريره. وحيث يُثبت المذهب الإمامي بأدلة عديدة أن الإمام من آل البيت ـ عليهم السلام ـ يجري قوله، وفعله، وتقريره مجرى قول، وفعل، وتقرير النبي (ص). وأن الأئمة ـ عليهم السلام ـ هم الحجج على العباد من بعد النبي (ص) لذا توسعوا في تعريف السنة بحيث يشمل سنة الإمام ـ عليه السلام ـ ، فأصبحت السنة باصطلاحهم تعنى: "قول المعصوم، أو فعله، أو تقريره".(2)
وحجية السنة أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان وإثبات لمن استقامت سليقته، واعتدلت طريقته، ولو لم تكن حجة لكانت وصايا النبي (ص)، وتعاليمه، وتوجيهاته لغواً، ولما احتاج المسملون إلى أقواله (ص)، ولأصبحت إجاباته عن أسئلتهم بغير طائل بل لكانت آيات القرآن الداعية إلى التأسي بالنبي (ص)، وطاعته، والأخذ عنه، والانتهاء بنهيه لاغية لا معنى لها. ومن هنا قال العلامة السيد محمد تقي الحكيم "إني لا أكاد أفهم معنىّ للإسلام بدون السنّة، ومتى كانت
حجيتها بهذه الدرجة من الوضوح، فان إقامة البرهان عليها لا معنى له لأن أقصى ما يأتي به البرهان هو العلم بالحجية، وهو حاصل فعلاً بدون الرجوع إليه، ولكن الأعلام من الأصوليين درجوا على ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، ولابد لنا من مجاراتهم في هذا المجال..."(3) والحقيقة أن فقهاء، وأصولي المذاهب الأربعة أفاضوا في إثبات حجية السنة، وتوسعوا في النقض والإبرام بما لا مزيد عليه كالامام الشافعي في كتابه "الام"، وحجة الإسلام الغزالي في كتابه "المستصفى من علم الأصول". ومحمد بن علي الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول إلى علم الأصول"، والشيخ محمّد أبو زهرة في كتابه "أصول الفقه"، والشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه "أصول الفقه الإسلامي"، وغيرهم من القدماء، والمتأخرين، والمحدثين. بينما طوى أصوليو المذهب الإمامي صفحة هذا البحث، ولم يتناولوه اعتماداً على بداهته، وكونه نوعاً من تحصيل الحاصل كما نقلنا عن السيد محمّد تقي الحكيم الذي طرح هذا البحث مجاراةً لما جرى عليه أصوليو والمذاهب الأربعة حيث استدلوا على حجية السنة بما يلي:1 ـ القرآن الكريم:
فهو الذي ارشد إلى حجية السنة النبوية بقوله تعالى: ?... أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول...?.(4)
وبقولـه تعالى: ?... وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا...?(5) وبقوله تعالى: ?من يطع الرسول فقد أطاع الله ...?(6) واستدلّ الغزالي بقوله
تعالى: ?وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى?(7) مبيناً أن بعض الوحي يتلى فيسمى كتابا وبعضه الآخر لا يتلى فيسمى سنة،(8) فسنة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ جزء من الوحي الإلهي الذي تجب طاعته.2 ـ السنة:
واستدل بعضهم على حجية السنة بالسنة نفسها كقول الرسول (ص) في حجة الوداع: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدهما أبداً: كتاب الله وسنة نبيه". وعلّق السيد محمّد تقي الحكيم على هذا الاستدلال بأنه: "لا يخلو من غرابة لوضوح لزوم الدور فيه"(9) لأن الشيء لا يمكن أن يثبت نفسه إلاّ على نحو دائر.3 ـ الإجماع:
واستدلّوا على حجية السنة بالإجماع أيضاً، وإشكال السيد الحكيم أيضاً: أن الإجماع إنّ  كان مصدره السنة، فيلزم من الاحتجاج به الدور، وهناك من لا يرى حجية الإجماع، فلا يمكن الاحتجاج به عليه.4 ـ العقل:
ببيان أن العقل حكم بعصمة النبي (ص) عن الذنب، والخطأ، والسهو، فإذا ثبتت نبوته ثبتت عصمته، وإذا ثبتت عصمته ثبت أن سننه نحو من التشريع لان ابلاغ الرسالة يتم لا محالة بقول النبي (ص)، وفعله، وتقريره، وإثبات أن هذا القول،
والفعل، والتقرير جزء من الرسالة متوقف على إثبات العصمة عن الخطأ، والذنب، والسهو. وقد ثبتت بإجماع المسلمين عليها في الجملة، وعلّق السيد محمّد تقي الحكيم على هذا الدليل بأنه: "من أمتن ما يمكن أن يذكر من الأدلة على حجية السنة، وإنكاره مساوق لإنكار النبوة من وجهة عقلية، إذ مع إمكان صدور المعصية منه، أو الخطأ في التبليغ، أو السهو، أو الغفلة لا يمكن الوثوق، أو القطع بما يدعي تأديته عن الله عز وجل لاحتمال العصيان، أو السهو، أو الغفلة، أو الخطأ منه، ولا مدفع لهذا الاحتمال".(10)
رغم أنه أشكل على هذا الدليل ثم رد الأشكال بمحاولة لا تخلو من الصعوبة، والتعقيد بصورة تثير التساؤل عن السر الذي جعله يصف هذا الدليل بأنه أمتن الأدلة، بدلاً من الدليل القرآني الذي لا يحتاج إلى هذه العناية الفكرية الواسعة، وواصل أصوليو المذاهب الأربعة هذا البحث فأخذوا يناقشون أدلة المنكرين لحجية السنة القائلة بأن كتاب الله وصف نفسه بأنه تبيان لكل شيء، وأن القرآن لو احتاج إلى السنة لما كان تبياناً لكل شيء، ولكان مفرّطاً، ثم إن الله سبحانه تكفل بحفظ القرآن، ولم يتكفل بحفظ السنة، وردّوا هذه الأدلة بأن القرآن أرشد إلى السنة، وحينئذ تكون بيانات السنة بمنزلة البيانات القرآنية، ويكون القرآن تبياناً لكل شيء، ولو لا السنة، لا يكون القرآن كذلك، بدلالة الوجدان، لأن أكثر الشريعة مأخوذ من السنة كأجزاء الفرائض، وشرائطها، وسننها، ومبطلاتها، وموانعها، وأكثر أبواب الفقه في المعاملات، والإيقاعات.(11)
وفي هذا السياق ذكروا أن الزنادقة، والخوارج وضعوا حديثاً يقول: "ما آتاكم عني، فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق، كتاب الله، فأنا قلته، وإن خالف،
فلم أقله، وكيف أخالف كتاب الله، وبه هداني"(12) ونسب إلى الشافعي أنّه  قال عن هذا الحديث "ما رواه أحد ممن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير".(13)
وردّوا هذا الحديث بأنه موضوع مختلق تارة، وبأنه عرض على الكتاب فأمر الكتاب بالأخذ بسنة الرسول، وطرح هذا الحديث تارة أخرى.
ومعلوم أن فكرة عرض الأحاديث على القرآن لتمييز السليم منها عن السقيم هي مما يتبناه علماء الأصول الاماميون في مجالات حل التعارض بين الأدلة الشرعية، ولديهم في ذلك روايات كثيرة صحيحة تدل على الأخذ بما وافق كتاب الله، وضرب ما خالفه عرض الجدار لأنه زخرف.
وهكذا فإن فكرة العرض على القرآن لا تنسف حجية السنة، ولا ضرورة في نسبتها إلى الخوارج، والزنادقة ولو أنها تنسف حجية السنة لنسف الحديث المذكور نفسه، ولأصبح احتجاج الخوارج به لغواً فكما إن إثبات السنة بالسنة أمر دائر، فكذلك إبطال السنة بالسنة نفسها أمر باطل.
ولا شك أنّ عدم تواصل المدرستين الاصولتين السنية والإمامية هو العامل المسؤول عن ظهور مثل هذه المفارقة العلمية بشكل يبين مدى الحاجة إلى هذا التواصل العلمي.
ويبدو أنّ الشاطبي قد فهم ـ كغيره من أصوليي السنة ـ من الحديث المذكور: أن السنة تصبح فيه راجعة إلى الكتاب فعلّق فائلاً: "ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين ... فالقول بها والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم".(14)
لكن بعد أربع صفحات عاد فقال: "وإذا كان الحديث مخالفا يكذبه القرآن،
والسنة وجب أن يدفع، ويعلم أنّه  ـ أي الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يقله، والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن، وعدم مخالفته"، وهذا تهافت واضح. فان التعليق الأخير هو عين مضمون فكرة عرض السنة على القرآن التي اعتبر القول بها ميل عن الصراط المستقيم.
ومن الراجح أن منكري حجية السنة تمسكوا بهذا الحديث كدليل على مدّعاهم دون التفاتٍ منهم إلى أنّه  لا ينهض دليلاً على ذلك البتة، وبمرور الزمن أصبح علامة يعرف بها هؤلاء بحيث جعلت المدافعين عن حجية السنة يغفلون عن عدم دلالة الحديث على إنكار حجية السنة، ويقعون في نفس المفارقة العلمية التي وقع فيها المنكرون.
لا يقال: إنّ  الحديث إذا كان له، أو عليه شاهد من الكتاب يؤيده، أو ينفيه، فحينئذ يكون الشاهد القرآني هو الحجة لا الحديث المشهود له أو عليه، وحينئذ لا معنى لشهادة القرآن إلاّ إلغاء السنة عملياً، فأنه يقال: أنّ ذلك الشاهد القرآني قد لا يكون جلياً واضحاً في نفسه، فيحتاج إلى إشارة من السنة تدل عليه، وتشير إليه، وكم من الأمور التي تقع في امتداد القرآن لكننا لا يمكننا أن نكتشفها، فتأتي السنة لتكشف عنها، وتقول إنّ  هذا مما يوافق القرآن، فنأخذ به.
وفي خاتمة البحث عن حجية السنة تجدر الإشارة إلى أن السنة ـ وحيث ثبت كونها جزءاً من الوحي والتشريع ـ لا تتناسب مع وصف الاجتهاد، وما اعتقده بعضهم من أن النبي (ص) يجتهد أحياناً، فإن الاجتهاد لا يمتنع فيه السهو والخطأ، ومن غير الممكن أن يقع الخطأ، والسهو في سنة الرسول (ص)، فلا يصح قول بعضهم: "إنّ  اجتهاد الرسول (ص) في الأحكام أساسه القرآن، وروح التشريع"(15)
خاصة، وان هذا القائل أثبت حجية السنة بعصمة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ عن الذنب، والخطأ، والسهو.
وذكر الشاطبي في الموافقات "أن الحديث إما وحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول (ص) معتبر بوحي صحيح من كتاب، أو سنة، وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله لأنه (ص): ?وما ينطق عن الهوى أن هو إلاّ وحي يوحى?(16) وإذ فرّع على القول بجواز الخطأ في حقه، فلا يقر عليه البتة، فلابد من الرجوع إلى الصواب"(17) أي إنّ  الله سبحانه لا يقر النبي على اجتهاده الخاطيء، فيرجعه إلى الصواب قبل أن يعمل به.
وهذا رأي لا يكاد يستقر على وجه، فإنّ النبي (ص) إذا كان لا ينطق عن الهوى، وان هو إلاّ وحي يوحى، فيكون كلّ حديثه وحي يوحى، فلا وجه لتقسيم السنة إلى الوحي، والاجتهاد، وما معنى الاجتهاد إذا كان الصواب فيه أمر حتمي؟
وما هي حاجة النبي (ص) إلى الاجتهاد الذي يؤدي إلى حكم، قد يوافق الواقع، وقد يخالفه، وهو قادر على تحصيل الحكم الواقعي من الوحي مباشرة؟
إنّ  فكرة اجتهاد النبي (ص) التي درج عليها أصوليو المذاهب الأربعة تحتاج إلى بحث مستفيض وفرصة كافية، لأنها من نقاط الاختلاف المهمة بين المدرستين الاصوليتين: المدرسة الإمامية، ومدرسة المذاهب الأربعة.السنة النبوية من منظار علماء المذاهب الأربعة:
أفاض علماء المذاهب الأربعة في دراسة السنة النبوية بوصفها المصدر الثاني عن مصادر التشريع الإسلامي، فبحثوا في المعنى اللغوي للسنة. ثم المعنىالاصطلاحي، وهو الذي تسالم، عليه المسلمون ـ في الجملة ـ من كونها قول النبي (ص)، وفعله، وتقريره، واستدلوا على حجيتها، وناقشوا المنكرين لها، ثم قسموها تارة إلى السنة القولية، والفعلية، والتقريرية، وتارة أخرى إلى السنة المتصلة السند، وهي الأخبار المتواترة، وأخبار الآحاد، والسنة غير المتصلة السند، وهي المراسيل، ثم عرفوا كلّ قسم من هذه الأقسام، وحكمه، وشرطه، فالسنة المتواترة هي: "ما رواها عن الرسول، وآله جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب في العصور الثلاثة الأولى: عصر الصحابة، أو التابعين، وتابعي التابعين (18) لأن النقل بعد ذلك صار بطريق التدوين، وحكم التواتر أنّه يفيد العلم، واليقين، وأن جاحده كافر،(19) وأن الاحتجاج به بقوة الاحتجاج بالقرآن،(20) وذكروا للتواتر شروطاً عديدة اتفقوا على ثلاثة منها هي:
1 ـ أن تكون الرواية مستندة إلى الحس، لا إلى العقل.
2 ـ أن يستوي طرفا التواتر، ووسطه في العدد المطلوب من الرواة، وفي كون الرواية عن حس، ولا تستند إلى العقل، أي إنّ  النقل في العصور الثلاثة يكون مشتملا على الشرطين الأول، والثالث، فلا يتخلف عصر منها عن أحد الشرطين.
3 ـ تعدد الرواة بحيث يمتنع التواطؤ على الكذب،(21) ولا صحة لما ذكر من التحديد بخمسة، أو سبعة، أو عشرة، أو ثلاثمائة ... لأن هذه التحديدات لا ترجع إلى أساس عقلي، ولا نقلي.(22) والمدار هو إفادة الخبر المتواتر للعلم.
أمّا سنّة الآحاد، فهي "ما رواها عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ آحاد لم تبلغ عدد التواتر"، وحكمها أنها تفيد الظن لا اليقين، ويؤخذ بها في الفروع دون الأصول الاعتقادية للشك في ثبوتها، واختار الآمدي أنها تفيد اليقين إذا احتفت
بها القرائن، وقال الجمهور: إنها مقبولة في الحدود، وخالف في ذلك أكثر الحنفية.23
واستدلوا على حجية خبر الواحد بأدلة عديدة منها:
1 ـ القياس على قبول شهادة العدلين، فإنها قائمة على أساس ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب. وكذلك خبر الواحد نعمل به ترجيحا لصدقه على كذبه، وأيد بعضهم ذلك بأن العقل يحكم بالعمل بما هو راجح الصدق، وعدالة الراوي المشترطة في خبر الواحد تجعل الصدق راجحا على الكذب.
2 ـ قول النبي (ص) "نظّر الله عبداً سمع مقالتي، فحفظها، ووعاها، وأداها" ومعلوم أنّ الاحتجاج بهذا الحديث متوقف على تواتره، لأنه إن كان من خبر الواحد لا يصح الاستدلال به على حجية أخبار الآحاد، بل قد يقال أنه لا يصلح للاحتجاج حتى على فرض كونه متواتراً، فقد تكون الحجية للخبر الذي يرويه عدة سامعين على نحو التواتر، ويؤدونه للآخرين، وغاية ما في هذا الحديث الحث على أن يسمع المؤمن الاخبار، ويحفظها، وينقلها للاجيال، وهو لا يلازم الحجية التي قد تكون خاصة بحالة ما إذا نقل عدة رواة خبراً ما بحيث يؤمن تواطؤهم على الكذب.
3 ـ إجماع الصحابة على العمل بخبر الآحاد.
4 ـ بعث النبي (ص) اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر ملكاً، فلولا أن خبر الآحاد حجة لكان عمل النبي (ص) هذا لاغياً.
وقد يناقش في هذا الدليل أيضاً بأن الحجية لم تكن لأولئك الرسل أنفسهم، وإنما كانت للكتب والرسائل التي وجهها النبي (ص) للملوك كما هو الأمر في بعثة الأنبياء، فان مجرد مجيء النبي إلى الناس لا يقوم حجة عقلية عليهم، وإنما الحجة
هي الوثيقة التي يبرزها إليهم، والتي تثبت بثبوته وهي المعجزة.
ثم بحثوا في شروط قبول خبر الواحد، وذكروا هنا عدة شروط ـ غير شرط العدالة ـ وهي:
1 ـ أن لا يعمل الراوي خلاف الخبر الذي يرويه.
2 ـ ألا يكون موضوعه مما تعم به البلوى، فإن خبر الواحد يكون بياناً شرعياً تاماً في موضوعات قليلة الابتلاء، ولا يكون كذلك في موضوعات يكثر الابتلاء بها، ويحتاج الحكيم لبيانها إلى تكرار، وتأكيد.
3 ـ أن لا يكون مخالفاً للقياس، والأصول الشرعية، ويعمل بهذا الشرط في روايات غير الفقهاء، فإن نقل غير الفقهاء بالمضمون يؤدي إلى نقيصة، أو زيادة لا يلتفت إليها الراوي إلاّ إذا كان فقيهاً.
4 ـ واشترط المالكية أن لا يكون الخبر مخالفاً لعمل أهل المدينة المنورة، لأن عملهم بمنزلة الرواية عن النبي (ص).
5 ـ واشترط الشافعي أن يكون الراوي واعياً ضابطاً لما يرويه.
وعلى غرار ذلك بحثوا في المراسيل.
ومن البحوث التي تناولوها أيضاً في باب السنة، البحث في منزلة السنة من الكتاب، وعندهم أنها المصدر الثاني، أنها تأتي في مرتبة متأخرة عن الكتاب لأنها ظنية الثبوت، والقرآن قطعي الثبوت،(24) وهذا الكلام يتناقض مع ما قرروه في حكم المتواتر من السنة، فقد بينوا هناك أن المتواتر يفيد العلم، واليقين، وأن الاحتجاج به بقوة الاحتجاج بالقرآن، فمعنى ذلك أن القرآن والسنة المتواترة بمنزلة واحدة، وأن التأخر عن الكتاب ليس رتبة لكل السنة، وإنّما  لأخبار الآحاد منها خاصة.
وقد فند السيد محمّد تقي الحكيم هذه الفكرة جملة وتفصيلا ببيان يمكننا تلخيصه بأن تقدم الكتاب على السنة إذا كان بمعنى التقدم عليها عند التعارض بينهما، فان التعارض بين الكتاب والسنة أمر لا يعقل، وما يحصل هو التعارض بين الكتاب والأخبار الحاكية عن السنة، لا السنة نفسها.
وإذا كان التقدم بمعنى الشرف، والأولوية، وأن الكتاب، والسنة بمنزلة الدليل الواحد، فأن الحكم الكتابي لا يتم بيانه إلاّ بالسنة، والحجية تتم بهما معا. على أن التقدم بالشرف، وموضوع الأولوية لا معنى لأدراجه في مباحث الأصول لأنه لا يؤدي إلى نتيجة استنباطية، وإذا كان بمعنى عدم النظر إلى السنة إلاّ إذا أحوجنا الكتاب إليها فهذا المعنى غريب إذ لا يعقل الاستغناء بالكتاب، ومن السنة بيانه، وشرحه، وشروط أحكامه. ثم ختم قائلاً: "فالحق أن السنة في مجالات الاستدلال صنو للكتاب، وفي رتبته".(25)
ويمكن أن يكون قوله تعالى: ?وما ينطق عن الهوى إنّ  هو إلاّ وحي يوحى?(26) دليلاً على ما ذهب عليه، فإن الآية تدل على أن الوحي ليس خاصاً بما يتلوه النبي (ص) من القرآن، وإنما شامل لكل ما ينطق به، ولذا قسم الغزالي الوحي إلى ما يتلى فيسمى كتاباً، وما لا يتلى، وهو: السنة، وحينئذ، فالكتاب، والسنة يرجعان إلى أصل واحد، وهو الوحي الذي هو وحدة شرعية واحدة لا يمكن التفكيك بين أجزائه، ولا إجراء التفاضل بين هذه الأجزاء.
ومن البحوث التي تناولوها ضمن بحث السنة، بحث سنة الصحابة، حيث ذهبوا إلى حجية سنة الصحابة قال الشاطبي: "سنة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ سنة يعمل عليها ويرجع إليها". واستدل على ذلك بثلاثة أدلة هي:
1 ـ ثناء الله تعالى عليهم، مثل قوله تعالى ?كنتم خير أمة أخرجت للناس ...?(27)
2 ـ الحديث الوارد في وجوب اتباعهم مثل قوله (ص) "فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ" وغير ذلك...
3 ـ تقدم جمهور العلماء لأقوال الصحابة عند الحاجة إلى ترجيح الأقوال.(28)
ولو صحت هذه الأدلة لكانت إثباتاً لعصمة الصحابة، أو لشيء يساوق ذلك، ومهما كانت الحصيلة العلمية للمرء ضئيلة، فإنّه مع ذلك يدرك أن الثناء على الصحابة لا يستلزم جعل الحجية لسنتهم، وأن الصحابة اختلفوا بعد النبي (ص)، وأن سير بعضهم قد تقاطعت، ولو كانت سنتهم حجة لكان معنى ذلك أنّ الشارع يأمر بالشيء وضده معاً، كما أن تقدم أقوال الصحابة لا يستلزم القول بحجية سنتهم، فقد يكون ذلك على أساس أن الصحابي أدرى من غيره بسنة النبي (ص).(29)السنّة في المدرسة الإمامية:
تختلف المدرسة الإمامية عن مدرسة المذاهب الأربعة في تناولها للبحث الأصولي من جهة هيكلية البحث، وطريقة التناول العلمي. فتناولت السنة في بعض المفردات كمفردة حجية الخبر الواحد، ولم تدرسها بعنوانها باستثناء عدد قليل من الأعلام أفردوا باباً خاصاً للسنة في مؤلفاتهم، ودرسوها بعنوانها المستقل كما عليه
الفاضل التوني في كتابه "الواقعة في أصول الفقه"، والشيخ محمّد رضا المظفر في: "أصول الفقه" فقد تناولا تعريف السنة، ثم دراسة دلالات الفعل، والقول، والتقرير ثم تقسيم الأخبار إلى سنة متواترة، وآحاد، ثم إثبات حجية خبر الواحد بالأدلة المختلفة، ولم يتناولوا البحوث الأخرى التي تناولها أصوليو السنة من البحوث التي جعلها علماء الإمامية، إما من اختصاص علوم الحديث، والدراية كالتفصيل في أقسام الحديث، وخصائص وحجية كلّ قسم منها، أو من اختصاص علم الكلام كإثبات حجية سنة الأئمة الاثني عشر ـ عليهم السلام ـ.
والعنصر المشترك بين المدرستين يتمثل في إثبات حجية خبر الواحد، وقد مرّ بنا كيف استدلّ علماء المذاهب الأربعة عليها، والآن نحاول بيان كيفية استدلال المدرسة الأصولية الإمامية عليها متخذين كتاب : "أصول الفقه" للشيخ محمّد رضا المظفر نمودجاً لذلك. فقد كانت الأدلة التي طرحها كالتالي:
1 ـ القرآن الكريم: كآية النبأ ?... إنّ  جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة...?،(30) فطرح وجه الاستدلال بها وهو مفهوم الشرط، فالآية تطلب التبيّن في خبر الفاسق، ومفهوم ذلك أن يكون خبر العادل مقبولاً، ولا يحتاج إلى التبيّن، ثم آية النفر ?... فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم...?(31) ببيان أن الآية جعلت إنذار المنذرين المتفقهين لقومهم حجة عليهم، ومعنى ذلك حجية خبر الواحد على من يسمعه، ثم آية الكتمان ?إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب ...?(32) بيان أن استنكار كتمان البينات يفهم منه وجوب بيانها، وحجية قول من يبينها على من يسمع ذلك البيان، وإلاّ لكان تحريم الكتمان لغواً، إلاّ أنّ المصنف ناقش في دلالة الآية على المطلوب، واعتبرها أجنبية عن المقام.
2 ـ السنة: ولابد أن تكون السنّة هنا متواترة لأن الاحتجاج بالآحاد على الآحاد لا يتم لكونه دوراً، وبعد أن استعرض عدة طوائف من الروايات ردّ الاستدلال بها على المطلوب، ولم يعتبر أيّاً منها مما يمكن الاحتجاج به في المقام.
3 ـ الإجماع الذي ادعاه الشيخ الطوسي، لكن السيد المرتضى يدّعي عدم حجية خبر الواحد، من هنا دار بحث واسع في توجيه الادعائين المتعارضين، وأخيراً مال المصنف إلى ثبوت الإجماع في حجية خبر الواحد.
4 ـ بناء العقلاء، ببيان أن العقلاء جرت سيرتهم على العمل بأخبار الآحاد، وهذه السيرة كانت قائمة في عصر النص، ولم يثبت الردع عنها، فيستكشف من ذلك إمضاء الشارع لها، ووصف هذا الدليل بأنه قطعي لا يداخله الشك، ثم استشهد بقول الشيخ النائيني: "وأما طريقة العقلاء، فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض أنّه  كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة، فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد على خبر الثقة، والاتكال عليه في محاوراتهم".
وهكذا يثبت البحث الأصولي الإمامي حجية خبر الآحاد بعد نقض وإبرام طويلين، وبطريقة مغايرة لطريقة مدرسة المذاهب الأربعة.(33)
ولعل أهم مائز يختلف فيه البحث الأصولي الإمامي عن البحث الأصولي لدى المذاهب الأربعة يتمثل في اعتبار سنة أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ جزءاً من سنة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ولهذا عرفوا السنة بأنها: "قول المعصوم، وفعله، وتقريره"، والمعصوم في المصطلح الإمامي يشمل النبي والأئمة معاً، ولم يتطرقوا إلى إثبات ذلك في بحوثهم الأصولية، وإنّما  جعلوه من ضمن أبحاثهم الكلامية.
  
 _____________________
1  ـ الزحيلي، د. وهبة، أصول الفقه الإسلامي 1: 450.
2  ـ المظفر، محمد رضا، أصول الفقه 2 :61.
3  ـ الحكيم، محمّد تقي، السنة في الشريعة الإسلامية 12 (فصل مستقل من كتابه الأصول العامة للفقه المقارن).
4  ـ النساء: 59.
5  ـ النساء: 80.
6  ـ الحشر: 7.
7  ـ النجم: 3، 4.
8  ـ الغزالي: ابو حامد، المستصفى 1: 129 قم ـ إيران.
9  ـ الحكيم، محمّد تقي، المصدر السابق: 14.
10  ـ المصدر نفسه: 14.
11  ـ الزحيلي، د. وهبة، المصدر السابق: 458 ـ 460.
12  ـ الشوكاني، محمّد بن علي، إرشاد الفحول: 33.
13  ـ الزحيلي، د. وهبة، المصدر السابق: 458.
14  ـ الشاطبي، أبو إسحاق. الموافقات 4 :19.
15  ـ الزحيلي، د. وهبة. المصدر السابق: 463.
16  ـ النجم 3 ـ 4.
17  ـ الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات 4 :21، دار المعرفة، بيروت.
18  ـ الزحيلي، د. وهبة. المصدر السابق: 452.
19  ـ المصدر السابق: 453.
20  ـ ابو زهرة، محمد، أصول الفقه: 108.
21  ـ الزحيلي، د. وهبة، المصدر السابق: 452.
22  ـ المصدر السابق: 453.
23  ـ المصدر السابق: 454.
24  ـ الزحيلي، د. وهبة. المصدر السابق: 460.
25  ـ الحكيم، السيد محمد تقي. المصدر السابق: 134 ـ 137.
26  ـ النجم: 3 و 4.
27  ـ آل عمران: 110.
28  ـ الشاطبي، أبو إسحاق. المصدر السابق: 74 ـ 77.
29  ـ الحكيم: السيد محمد تقي، المصدر السابق: 21 ـ 29 انظر مناقشة هذه الأدلة بالتفصيل.
30  ـ الحجرات: 6.
31  ـ التوبة: 122.
32  ـ البقرة: 159.
33  ـ المظفر، الشيخ محمّد رضا. أصول الفقه 2: 63 ـ 84.

 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية