«العزّة» أصل إسلامي هام، لا يمكن أن يتخلى عنه الفرد المسلم ولا الجماعة المسلمة.
فالله فوض إلى المؤمن أمره كلّه ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلا..
والمجتمع المسلم يجب أن يكون عزيزاً مرهوب الجانب.. وتعاليم الإسلام التربوية
والاقتصادية والسياسية والحكومية والاجتماعية والعسكرية تتجه بأجمعها نحو تحقيق
عزّة المسلمين وإبعادهم عن الذل.
كل ما شهده المجتمع الإسلامي في تاريخه من حركة جهادية وعلمية وفكرية وفنية وتطور
أصيل في حقل الهدم والبناء والمعرفة إنّما كان وراءه هذا الإحساس بالعزّة.
وأكثر ما شهده المجتمع الإسلامي من نكسات وانحرافات وفتن واضطرابات يعود إلى غياب
العزّة الإسلاميّة وظهور حالة الذل في تاريخه.
لا نريد أن نتحدث عن حالة الذل في تاريخ المسلمين الماضي، بل عن هذه الحالة في
(6)
تاريخهم الحديث. فلقد تجمعت عوامل عديدة خلقت في قطاعات واسعة منهم حالة الذل،
وجعلتهم لا يستشعرون بعزة هويتهم الإسلاميّة، ولا بكرامتهم وشخصيتهم كأمة ذات محتوى
حضاري.
وحالة الذل هذه لها أخطارها، لأنها ـ إن لم تتحوّل إلى عزة بالله ـ تدفع بصاحبها
إلى أن يبحث عن عزّة سرابية يحسبها الظمآن ماء.. يتجه نحو ذوي القوة والسلطان يبتغي
عندهم العزة، فيتحول إلى آلة طيّعة بأيديهم. أو يحاول أن يجد شخصيته المفقودة في
الأعمال الشاذة والمواقف المنحرفة فيصبح طعمة لذوي الأهداف التخريبية الهدامة.
كثير من التيارات المنحرفة استفحلت في المجتمعات الإسلاميّة بعد أن ضمّت جماعات
أذلتها الظروف، وحطمت شخصيتها، فراحت تجد تلك الشخصية المفقودة في هذه الانتماءات
المنحرفة.
وكثير من النزاعات الطائفية شهدها التاريخ الإسلامي دون أن يعلم المتنازعون سببا
فكريا أو فقهياً لهذه النزاعات، بل إنّ من يسمونهم بالغوغاء والعامة والسوقة دخلوا
أتون هذه النزاعات ليثبتوا شخصيتهم المنتمية، بعد أن فقدوا شخصيتهم الرسالية
وانتماءهم الرسالي.
هذه الفتاوى التي تصدر بين حين وآخر مكرّسة حالة الهزيمة والاستسلام، وهذه التيارات
التي تنطلق مما يسمى بالحداثة فتتنكر للأصالة والتراث وتدعو بصراحة إلى تقليد
الغرب.. هي كلها ناتجة عن حالة الذل الكامنة في النفوس.
ولقد أدرك المصلحون الإسلاميون هذه الحقيقة حين راحوا يرفعون أول ما يرفعون شعار
استعلاء الإيمان.. واستعادة الهوية.. والاعتزاز بالتراث.. والاستهانة بالغرب
وبريقه.
(7)
لا يمكن للامة الإسلاميّة ـ بخصائصها التي شاءها لها الله سبحانه ـ أن تعود إلى ظهر
الأرض إلاّ إذا سرت روح «العزة في أشلائها.. «العزّة» بالله وبالإسلام وبالهوية
المتميزة للأمّة.
وبقاء حالة الذل يعني المزيد من التمزق والتشتت والصراع والهزيمة والتبعية.
أعداء المسلمين يتحيّنون كل فرصة ليكرسوا عزتهم بالغزو العسكري والثقافي
والإعلامي.. ويتحينون كل فرصة ليكرسوا ذل المسلمين بالاستهانة العلنية بكراماتهم
ومقدساتهم..
وأمام هذا الصراع الحضاري نتحمل جميعاً مسؤولية استثمار كل ما منحه الله للأمّة
المسلمة من طاقات بشرية واقتصادية ومكانة جغرافية ومنهج قويم في الحياة وفرص
للاجتماعات من أجل غرس روح العزّة في النفوس، ومواجهة عملية الإذلال.. عندئذ فقط
سنجد أنفسنا قد ارتفعنا من الحالة «الطائفية» الضيقة إلى الساحة «الرسالية» الرحبة
والواسعة.. وعسى أن يكون ذلك بأذن الله قريبا.
(8)
جولات
تقريبية
ملخص
في جولات هذا العدد أدرجنا:
أولا: مقتطفات من ترجمة نداء الإمام الخامنئي الموجه إلى حجاج بيت الله الحرام
الصادر في ذي الحجة الماضي.. واخترنا منه الأبعاد التي يركز فيها السيد الإمام على
مسائل العالم الإسلامي ومشاكله، وحلول تلك المشاكل، ودور الحج في حلها، وما يمتلكه
العالم الإسلامي من طاقات عظيمة يستطيع بها أن يتجاوز تخلفه، ويحقق عزّته وكرامته.
و«رسالة التقريب» التي تتابع كل صوت يحمل هموم الإسلام والمسلمين، ويدعو إلى
استعادة عزة المسلمين وكرامتهم، كان لابد لها أن تقف ولو قليلا عند هذا النداء
التوحيدي الوحدوي.
ثانياً: فتوى شيخ الأزهر الراحل جاد الحق علي جاد الحق صدرت قبيل وفاته، وفيها يبين
رأيه في بثّ الفرقة بين المذاهب الإسلاميّة، وموضوع الشيعة. ويرفض تكفير المسلمين
وتفسيقهم دون تحكيم كتاب الله وسنة رسوله، ويدعو المسلمين من جميع المذاهب أن
يكونوا إخوة، ويعملوا معا على نشر الإسلام، ويكفوا عن توسيع شقة الخلاف والفرقة بين
صفوف الأمة.
ثالثاً: فتوى لجبهة علماء الأزهر الشريف وفيها يردّون على فتوى صدرت من بعض أوساط
الأزهر تقول: إن الفلسطينيين الذين يقومون بتفجير أنفسهم لإصابة أهداف إسرائيلية
ليسوا شهداء !!
واستدلّت الجبهة ـ التي تضم عددا كبيرا من العلماء والمفكرين والجامعيين ـ في
بيانها بنصوص القرآن والسنة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ والصحابة، وخرجت
بنتيجة هي: إن أرض فلسطين لأحق من أن تبذل لها الأرواح والدماء والأموال، ومن يقوم
بحق الله عليه وعلى المسلمين في فلسطين وغيرها لا يعدم أن شاء الله أجر الشهداء..