مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 نحن والتاريخ

 نحن والتاريخ
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يمكن لمجموعة بشرية أن تنفصل عن تاريخها، فهو يؤثر في روحها وفكرها وسلوكها إيجاباً أو سلباً، غير أن هذا التأثير يتغير تبعاً لمستوى النضج الفكري للأمة، فإن كان مستواها هابطاً انجرفت في تيار أحداث متدفق من الماضي إلى الحاضر، دون أن يكون لها إرادة في تعيين مساره، وإن كانت تملك زمام أمورها سيطرت على مسيرة الأحداث التاريخية، ووجهتها وجهة رائدة.
فالأمة الحية لها من التاريخ موقف الأشراف، لا الانجراف، تتخذ من أحداثه عبرة.. وتستخلص من غواشيه الدروس. فهي تنظر إلى صفحاته نظر الفاعل لا المنفعل، وتتفاعل مع أحداثه تفاعل خبير يريد أن يبني حاضرة ومستقبله.
نحن المسلمين: نملك ذاكرة تاريخية موثقة لا تملكها أية أمة، وتخزن هذه الذاكرة صوراً لا حصر لها من الأحداث والمواقف، الإيجابية منها والسلبية.
يشهد الخط البياني لمسيرتنا التاريخية تارة صعوداً يفاخر به الأمم، ويزين جبين الدهر.. ويشهد أحياناً هبوطاً مخجلاً يندى له الجبين.
ونحن اليوم نرث كل تلك الإيجابيات والسلبيات، فما موقفنا منها؟ هذا يتوقف على مقدار ما فينا من حياة وإرادة. إن كانت مظاهر الحياة فينا ضامرة تسربت إلى أجسامنا سلبيات التاريخ، كما تسربت الجراثيم إلى الجسد الضعيف لتزيده ضعفاً وتفتك به، وإن كانت أمتنا طافحة بالحياة والحركة والإرادة قاومت تلك السلبيات ولفظتها ورفضتها واجتذبت الإيجابيات تتمثلها في حياتها وتتزود بها في مسيرتها، وتستلهمها في عملية بناء حاضرها ومستقبلها.
من هنا نستطيع أن نفهم أن كل توجه واع للتاريخ هو مظهر حياة، ونفض الغبار عن صور السمو الإنساني على المستوى الفردي والاجتماعي..وإماطة اللثام عن روح الابتكار العلمي والفني للأجداد..وتحليل الأحداث تحليلاً يستخلص العبر والتجارب..كلها مظاهر حياة في المجتمع.. ونبش خلافات الماضي لإثارة النزاعات، وخلق الأحقاد والتنافر مظاهر موت.
وكلا المظهرين قائمان في مجتمعاتنا الإسلاميّة؛ لأن هذه المجتمعات تشهد صراعاً بين الموت والحياة..يقف وراء عوامل الموت كل أعداء الأمة: من جهل وتحجر وطاغوت عالمي ومحلي. ويقف وراء عوامل الحياة كل العلماء الصالحين المجاهدين المخلصين الأحرار من الذين(عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم).
بالأمس القريب انعقد في مدينة (قم المقدسة) مؤتمر بمناسبة الذكرى الألفية لوفاة الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد رضي الله عنه، والذكرى التاريخية هذه تعيد إلى الذهن جملة من صور بعضها بيضاء ناصعة وبعضها سوداء قاتمة.. صور الجهود العلمية الجبارة، والقدرة الفكرية التأسيسية الفائقة، والريادة المنهجية في التأليف والتعليم من جانب.. ومن جانب آخر صور النزاع الطائفي، والصراع الكلامي، والاشتباك اللفظي والجسدي، والتنافس العباسي والبويهي، وهدم الدور وإحراق المكتبات في بغداد.
وإزاء كل هذه الصور يقف العبد الصالح الإمام الخامنئي ـ حفظه الله ـ في ندائه الكبير الذي وجهه إلى المؤتمر ـ موقف الرائد الموجه لأحداث التاريخ وجهة بناء وعطاء. فيستعرض في جولة فكرية طويلة ممتعة كل ما في حياة الشيخ المفيد ـ
رحمه الله ـ من معطيات إيجابية بناءة.
ثم هو ـ تجاه ما عصف بتلك الفترة الزمنية من أحداث مؤلمة أثرت في كتابات الشيخ المفيد ومواقفه ـ يقول:
(ما أريد أن أو كد عليه في نهاية هذا المقال هو: توصية العلماء والمفكرين المشاركين في هذا التجمع الثقافي أن يبذلوا كل وسعهم لجعل هذا اللقاء العلمي وسيلة تقريب فكري واتحاد عملي بين المذاهب الإسلامية.
إن أسلوب الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ في مواجهة خصمه المذهبي في زمانه متأثر دون شك بالحوادث الاجتماعية المرة، وبالمصائب التي ألمت بالشيعة المظلومين في ذلك الزمان، والتي أدت إلى إضرام نيران التعصب الأعمى. هذا الأسلوب لا يمكن أن يكون اليوم قدوة لمواقف الفرق الإسلاميّة من بعضها، حتى في المجالات الكلامية.
الفرق الإسلاميّة اليوم ـ باستعراض تلك المشاهد التاريخية المؤلمة ـ يجب أن تتلقى تجربة التعاطف والمسالمة، وعليهم في هذا العصر ـ حيث مبادئ الإسلام التي تحمل ما تحمل أمثال المفيد من كل مذهب لإحيائها، تتعرض للخطر من قبل الأعداء الدوليين ـ أن يفكروا في الوحدة والتقارب والتعاون بين كل الفرق وجميع مفكريها. وهذا هو الدرس الكبير لثورتنا، والتوجيه الخالد لإمامنا الراحل قدس الله نفسه الزكية).
هذا المبدأ في قراءة التاريخ مبدأ هام يشكل معياراً للتمييز بين القراءة الحية المنطلقة من رواد الحياة، وبين القراءة الميتة المنبثقة من روح ميتة أو قاتلة.
فلنتجه إلى الإسلام.. إلى الحياة.. إلى استجابة دعوة التوحيد والوحدة( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم((1)
_____________________
1 ـ الأنفال: 24.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية