مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

مقدمة فكرية لحركة المشروطة
ـ 3 -
الدكتور علي أكبر ولايتي


دور ملكم في معاهدات الخيانة
ملكم يكثر من ادعاء التحررية والتقدمية، لكنه في حياته العملية يبدو رجلا ضعيفا راسفا في أغلال المال والمتاع، كتب من خارج إيران حين تعرض لسخط الشاه يقول:
(والله وبالله أنا طوع يدكم، أمروني بما تريدون، فأنا راض بأي حال من الأحوال، اللهم إلاّ البطالة، حتى البطالة أقبلها لو توفرت لي معيشتي اليومية. ولكن لو أريد لي أن أبقى عاطلا وجائعا فذلك ما لا يكون، لو أنني اشتغلت بالشعوذة فإني سأكسب سنويا 7 ـ 8
آلاف تومان. ولو أسست محفلا ما سونيا لعاد علي 20 ـ 30 الف تومان سنويا.. (1)
ملكم خان كان له الدور الأساس في عقد معاهدتين مذلتين بين الحكومة القاجارية وبريطانيا، وهما معاهدة (رويتر)، ومنح امتياز (لاتاري).
معاهدة (رويتر) واحدة من أفظع وأخزى المعاهدات في تاريخنا السياسي. ربما قيل إن أفظعها معاهدات (تركمان چاى) و(كلستان) و(پاريس). لكن المعاهدات الأخيرة فرضت في الواقع نتيجة ضغوط عسكرية على حكومة فقدت المقاومة أمام المعتدين بسبب فسادها الداخلي. أما معاهدة (رويتر) فقد عقدت نتيجة الأطماع الدنيوية الرخيصة ونتيجة انغماس الحكام الفاسدين في المجون والتحلل. ولميرزا حسين خان سبهسالار (2) يد آثمة في هذه الخيانة، وهو الشخص الذي يثني عليه أحمد كسروي وفريدون آدميت وكثير من الكتاب (المثقفين) ويصفونه بأنه رجل إصلاح وتقدم!!
يقول احمد كسروي (3).
(.. في عصره دار الحديث حول مد السكك الحديدية، ومنح (امتياز) مدها للبريطانيين، ولم نع نحن أبعاد هذا القرار. هذا الرجل (الطيب) أراد أن يفتح عيون الشاه على الوضع في أوربا، وعلى التحام الحكام بالشعب، وعلى التطور الذي حققوه، ليكسبه بعد ذلك إلى أفكاره بشأن تطوير إيران، لقد رأى أن أفضل سبيل لذلك أن يأخذه معه إلى أوربا، ومن هذا المنطلق توجه الشاه وسبهسالار إلى أوربا سنة 1352 هـ، لكن هذه السفرة كانت لها تبعات سيئة، وهي أن الساخطين على سبهسالار اغتنموا فرصة غيابه عن إيران، فأوحوا إلى رجال الدين أن سبهسالار يريد أن يجعل من إيران بلدا غربيا، وان يمنح امتياز سكك الحديد إلى الإنجليز. ورجال الدين ومنهم (سيد صالح عرب) و(حاج ملا علي كني) وآخرون اهتزوا لسماع هذا النبأ، وهبوا لمعارضة سبهسالار، واعتبروه خارجا عن الدين.
وكتبوا إلى ناصر الدين شاه أن يترك سبهسالار، وأن يعود إلى طهران بدونه. وصلت الرسالة إلى الشاة وهو في مدينة رشت. وبسبب قوة رجال الدين آنذاك، اضطر الشاه أن يوكل حكومة جيلان إلى سبهسالار، ويعود بدونه إلى طهران..) (4).
ويقول الدكتور فريدون آدميت:
(.. ميرزا حسين خان، بهدف إحياء الاقتصاد وأعمار إيران، منح امتياز مد سكك الحديد في إيران من رشت إلى طهران ومن العاصمة إلى الخليج الفارسي لأحد أتباع بريطانيا باسم (البارون جوليوس رويتر)... وبموجب هذه الاتفاقية تسلم رجل أجنبي حق استخراج جميع معادن البلاد (عدا الذهب والفضة والأحجار الكريمة)، والاستفادة من جميع الغابات والقنوات، وتأسيس بنك وبريد وتلغراف ومعامل، وكل الأمور الاقتصادية في الواقع لمدة سبعين سنة. وكيفية الحصول على هذا الامتياز وما اقترن به من مسائل سياسية حديث ذو شجون لا علاقة له بموضوعنا. ميرزا حسين خان وصديقه ورفيقه القديم ميرزا ملكم خان كانا من المدافعين بشدة عن هذا التفكير، وخاصة ملكم خان الذي
هو الآن في منصب مستشار الصدر الأعظم، كانت له يد طولى في تنظيم امتياز رويتر..) (5).
(رجال الدين المتعصبون بزعامة حاج ملا علي كني وصفوا ميرزا حسين خان بأنه رجل لا يؤمن بالدين، ووصفوا أعماله التقدمية بأنها من صادرات الغرب ومخالفة للشرع..) (6).
وكانت الحوادث على النحو التالي:
سنة 1290 هـ عندما سافر ناصر الدين شاه إلى الغرب لأول مرة، كلف ملكم بمهمة الذهاب إلى أوربا، وإعداد مقدمات سفر الشاه إليها. وخلال هذه السفرة حصل سبهسالار بمساعدة ملكم وآخرين على مائتي ألف ليرة مقابل منح هذا الامتياز الخياني لحكومة بريطانيا مع أن أكثر هذا المبلغ قد نزل في جيب الصدر الأعظم والشاه، فإن ملكم نفسه قد ناله سهم منه أيضاً امتياز (رويتر) يعني بيع كامل الأرض الإيرانية لبريطانيا مقابل مائتي ألف ليرة. هذه الاتفاقية التي فوضت إلى البارون جوليوس رويتر، ومدتها سبعون سنة، قد منحت حكومة بريطانيا ما يلي:
1 ـ استحداث الشركات المختلفة.
2 ـ احتكار امتياز سكة الحديد من بحرالخزر إلى الخليج الفارسي.
3 ـ إيجاد قطار.
4 ـ الأرض، وما فيها من حصى وصخور وسائر المواد الإنشائية بالمجان.
5 ـ إعفاء المأمورين البريطانيين من دفع الجمارك والضرائب.
6 ـ احتكار حق استثمار مناجم الفحم الحجري والحديد والنحاس والرصاص
والبترول وسائر المناجم الأرضية.
7 ـ الاستفادة المجانية من الأملاك الخالصة، وامتياز استثمار غابات إيران.
8 ـ احتكار حق الاستفادة من مياه الأنهار واستحداث السدود والتعليات الترابية والأحواض.
9 ـ امتياز تأسيس بنك.
10 ـ امتياز قطاع الغاز وتبليط الشوارع والطرقات والتلغراف والبريد والطاحونات والمعامل المختلفة و... (7).
أهمية هذه الاتفاقية، أو بعبارة أخرى أهمية هذه الصفقة التي بيع فيها الوطن ومقدراته مقابل مائتي ألف ليرة كانت بدرجة حدت بالسير هنرى رالنسون أن يقول: (هذا الامتياز ربط مقدرات إيران بالبريطانيين. وبعده سوف تتجه إيران بيد البريطانيين إلى جادة التقدم، وحين نشرت بنود هذا الامتياز في العالم شوهد أنه يحتوي على مزايا لا تعد ولا تحصى، وكل مصادر الثروة الصناعية والزراعية في جميع أرجاء إيران قد وقعت بيد البريطانيين. لم يكن أحد يقدر أن يتوقع مثل هذه الحادثة.. حادثة وقوع مثل هذا الامتياز الهام بيد أحد أتباع حكومة بريطانيا. إضافة إلى جميع خطوط السكك الحديدية في إيران والقطارات التي صارت لسبعين سنة في احتكار البارون رويتر، فإن جميع مناجم إيران سوى مناجم الذهب والفضة والأحجار الكريمة قد منحت بموجب هذا الامتياز، أضف إلى ذلك الجمارك والري واستحداث القنوات.. (8).
ويذكر أمين الدولة أن (حاج شيخ محسن خان) الذي كان يعمل في البلاط البريطاني باعتباره خبيرا ايرانيا هو الذي بدأ الاتصالات الأولى لعقد معاهدة رويتر، ونجح في هذه الاتصالات لكن محسن خان هذا فوجئ بتعيينه وزيرا مشاورا في استانبول بعد أن استقال الوزير المشاور السابق (حسين علي خان كروسي)، فدخل صديقه ملكم على خط مواصلة عقد الاتفاقية، وحدث بين الصديقين الحميمين (ملكم ومحسن خان) نزاع.
ويتحدث اعتماد السلطنة (من وزراء ناصر الدين شاه، ومن المعادين لملكم وسياسة حكومة بريطانيا) عن ملكم ودوره في معاهدة رويتر، نقلا عن ميرزا جسين خان سبهسالار في إحدى المرافعات القضائية بقوله: (ملكم المخادع الدجال المتظاهر طلبته إلى إيران وجعلته مدة مستشاري الخاص، ثم بعثته وزيرا مختارا إلى بريطانيا. لقد كنت أنوي لإغراض شخصية أن أحطم الوضع القائم في خزانة الدولة، وأقيم بنكا وسكة حديد. وكان ملكم الحيال الطماع على علم بهدفي، فاتفق معي في هذه المقاصد بل المفاسد، وتعاون مع مبعوث ايراني إلى لندن، وحث الاثنان (رويتر) الصراف المتمول البريطاني على هذا الأمر وهذا البريطاني أعطاني أنا وملكم مبلغا كبيرا، كما أعطى رشوة لعدد آخر من رجال الدولة في طهران وحصل على ما حصل من امتيازات في سكك الحديد وافتتاح بنك واستخراج المناجم وكل شيء) (9).دور ملكم في امتياز "لاتاري" 
ثم عقد آخر تم بوساطة من ملكم خان، هو منح امتياز تأسيس لاتاري (10) من قبل ناصر الدين شاه لشخص اسمه بوزيك دوكار دوال  Buzic de Cardoal وأبرم هذا العقد أثناء الزيارة الثالثة للشاه إلى أوربا حين كان في اسكتلندا. ورشا ملكم الشاه جراء هذه الصفقة مبلغ ألف ليرة، وأوضح له أن هذه الصفقة ليست سوى منح امتياز نوع من الصرافة في إيران، وحين عاد الشاه إلى إيران واجه معارضة العلماء وواجه فتوى حرمة هذا العمل باعتباره نوعا من القمار.
اضطر ناصر الدين شاه إلى إلغاء هذا الامتياز بموجب برقية أرسلها إلى ملكم (يروى أن الشاه أكد لملكم أنه لايحق له إبرام الاتفاق نهائيا إلاّ بعد أن تأتيه برقية أخرى من البلاط تؤيد الاتفاقية) وكتم ملكم أمر البرقية ستة أيام استطاع خلالها أن يبيع هذا الامتياز بمبلغ أربعين ألف ليرة، وقيل خمسين ألف ليرة لشركة بريطانية ثم أرسل إلى وزارة الخارجية الإيرانية جوابا على البرقية يقول: إنه تم تبادل وثائق الاتفاق، ولا يمكن الغاؤه.
هذا الجواب أثار حفيظة الشاه ورئيس الوزراء، فبعثا إلى لندن أمرا يقضي بإلغاء الامتياز وخلع ملكم من كل ألقابه.
وبذلك فقد ملكم فجأة مكانته في السفارة بعد ثمانية عشر عاما من العمل فيها؛ سعى خلالها حثيثا إلى إعادة ما فقده ولكن دون جدوى وقدم ملكم إلى المحاكم البريطانية بتهمة الدجل، ولكن علاقاته الواسعة بالدبلوماسيين البريطانيين أدت إلى صدور حكم ببراءته. غير أن الحكم حمل أيضاً لإدانة لملكم باعتباره شخصا (سيئا) ومنذ ذلك الوقت فقد شخصيته في المحافل البريطانية. بعد أن يئس ملكم من استعادة مكانته بادر إلى إصدار صحيفة (قانون) لتكون لسان حال التحرريين ! وبدأ يوجه انتقاداته إلى الشاه والصدر الأعظم في إيران.
هذا الشخص الذي يتظاهر اليوم بالتحررية والتقدمية سبق أن كتب للشاه رسائل مدح وتملق لم يبلغها كبار المادحين والمتملقين وينقل لنا صاحب كتاب (تاريخ العلاقات السياسية الإيرانية ـ البريطانية خلال القرن التاسع عشر الميلادي) نموذجا من هذه الرسائل المليئة بالملق العجيب، ثم يذكر تحول موقف ملكم من الشاه قائلا: (لو لم يتعرض الشاه والصدر الأعظم لملكم، وتركاه يرتع بما حصل عليه من أربعين ألف ليرة، وأبقاه الشاه في منصبه سفيرا لإيران في لندن، لما أقدم أصلا على إصدار صحيفة (قانون) ولا ستمر على ما كان عليه من إرسال مدبجات الملق والمدح والثناء للشاه، ولما أصبح من أبطال الحرية والمشروطة في إيران. والبرفسور براون مع علمه بأن المحكمة البريطانية وصفت ملكم بأنه شخص سيء يتحدث عنه بأنه دبلوماسي شهير) (11).
والغريب في أمر الكتاب (التقدميين!) أنهم يثنون اكبر الثناء على ميرزا حسين خان سبهسالار وعلى ملكم خان ناظم الدولة ويعتبرونهما من طلائع الحركة الإصلاحية والتقدمية في إيران. بينما يكيلون الشتم لمن وقف بوجههم من علماء الدين مثل الحاج ملا علي كني. ولنقف قليلا عند بعض هذه المواقف. ملا علي كني وامتياز رويتر
الحاج ملا علي كني ولد سنة 1220 هجرية قمرية، في قرية (كن) قرب طهران، من أب مزارع لا يحمل رغبة في دراسة أولاده لكن (علي) أنهى مقدمات الدراسة الإسلاميّة  بجدّ،
واتجه في العشرين من عمره إلى النجف ليواصل دراسته فيها، وجد في الدراسة هناك رغم شظف العيش، ودرس عل كبار العلماء، منهم الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، وحين عاد إلى إيران كان من وجوه المجتهدين فيها وبلغ في عصر ناصر الدين شاه مكانة علمية وشعبية هامة ن فكان يصدر الأوامر إلى الشاه، والشاه يخشى قدرته. وله موقفان سياسيان هامان: الأول ـ تجاه التنظيم الماسوني في إيران بقيادة ميرزا ملكم خان، فعارضة إلى أن أصدر الشاه أمرا بانحلاله.
والثاني ـ تجاه امتياز رويتر مما أدى أيضاً إلى الغاء الامتياز.
نقتطف عبارات من رسالة وجهها هذا الرجل إلى ناصر الدين شاه لنفهم من سطورها دور علماء الدين وأصحاب مدرسة الاصالة في الدفاع عن استقلال الوطن وحفظ كرامته، وصيانة مقدراته التي تهاون بها وتلاعب بها، وساوم عليها (المتغربون).
(بناء على ذلك، نحن الداعون والمؤمنون نؤكد أن شخص ميرزا ملكم خان عدو للدين والدولة، وليست للحكومة والسلطنة صلاحية إطلاق لقب ناظم الملك عليه، ومن يفعل ذلك فقد خان الدين والدولة، وأجاز المجرم أن يتدخل في جسيم أعمال الدولة).
(هذا الرجل (ملكم) يعبث منذ مدة في دار الخلافة وأسس محفلا ماسونيا، ظانا أنه قادر على أن يمسك بمقاليد الأمور، ويعمل على اضمحلال الدين والأمة. ولكن عدو الدين والدولة هذا والحمد لله قد خاب ويئس بفضل موقف الشاه، لكنه لا يزال يحلم بتلك الطموحات، فعمد إلى إبقاع البدل في معاهدات وشروط تحت عنوان مد سكة الحديد).
(ولقد بلغنا أنه يستهدف بهذه المعاهدات إجبار الناس على تسليم أموالهم وأملاكهم مثل الغابات والمناجم والقنوات، بل سيتم بموجب هذه المعاهدة تسليم الأموال العامة. هذه المعاهدة ستنزل بالبلاد ضررا إقتصاديا، لو أرادت الدولة بعد ذلك دفعه لما استطاعت حتى
ولو أنفقت كل ما في الخزانة وما في أيدي الناس).
(واسمحوا لي أن أقول لكم: بأية صلاحية تستطيع الحكومة أن تجبر رعاياها على بيع الأملاك والأشجار والأراضي والمياه ؟ ! ومن الذي سلطها على ذلك كله ؟ !  لا الشرع الإسلامي يجيزلها ذلك ولا شرائع سائر الاديان...)
(... لو أن الأوضاع استدعت ان ننهض للدفاع عن وطننا أمام المعتدين والطغاة، فبأي مال ؟ وبأي رجال ؟ وقد نضبت الأموال ويئس الرجال !! ولو فتح الطريق أمام غزو الإنجليز تحت اسم مد سكة الحديد فأي عالم دين تبقى له حرمة في هذه البلاد ؟ ! لو بقي لأحد منهم قدرة على الكلام فهل يستطيع أن يقول شيئا سوى: واديناه ! ووا أمتاه ! بأية جرأة تفسحون المجال للأجانب أن يأتوا بخيلهم ورجلهم وأموالهم ليسيحوا في سهول بلاد إيران العظيمة ويصلوا إلى عاصمة السلطنة ؟ ! ما الذي يضمن عدم فرضهم سيطرة عسكرية علينا بالمدفع والبندقية ؟ !) ؟.
(أقسم عليك أيها الشاه أن تصون حرمة الدين والوطن، وتقطع يد كل خائن، خاصة هذا الخائن الذي يريد أن يعقد معاهدة مد سكة الحديد بصورة تتعارض مع مصلحة الدين والدولة وبدون استشارة العقلاء والأخيار...) (12). الشيخ حسن الكربلائي وامتياز التبغ
الشيخ حسن الكربلائي عالم دين، فهم من منطلقه الديني ما ستجره خيانات (التقدميين) من مصائب على البلاد، جراء هزيمتهم أمام الأوربيين، وفسحهم المجال أمام
الأجانب ليحصلوا على امتيازات اقتصادية في الوطن الإسلامي.
الف الشيخ كتابا تحت عنوان (تاريخ الدخانية) يذكره الشيخ آقابزركـ الطهراني في الجزء الثالث من (الذريعة) يقول: تاريخ الدخانية وشرح منشور الامتياز والانحصار في أنواع الدخانيات في سنة 1309 من سلطان إيران وما ترتب عليه؛ كتاب فارسي، سلس، لطيف. للشيخ حسن التستري الأصفهاني الحائري المعروف بالشيخ حسن الكربلائي، من أفاضل تلاميذ آية اله المجدد الشيرازي، توفي بالكاظمية في نيف وعشرين وثلاثمائة وألف. ألفه بسامراء وذكر فيه القضية الدخانية من بدو صدور امتيازها عن السلطان ناصر الدين شاء إلى ارتفاعها...)
لا نريد هنا أن نتحدث عن تفاصيل امتياز التنباك وما أعقبه من نهضة دينية أدت إلى إلغائه، فسنفصل الحديث عن ذلك في موقعه، بل نريد أن ننقل صورة من الوعي الديني تجاه جريمة أخرى من جرائم المتغربين في هذا البلد المسلم.
يقول الشيخ حسن الكربلائي في هذا الكتاب:
(بعد أن انفتحت أبواب إيران أمام الغربيين الأذكياء راحوا يبحثون عن امتيازات اقتصادية لهم في أرجاء البلاد، وحصلوا على العديد من الامتيازات الصغيرة التي تفسح لهم المجال أن يتدخلوا في شؤون إيران. ولكن هذه الامتيازات الصغيرة لم تحقق هدفهم بشكل كامل، فطفقوا يفكرون في امتيازات واسعة بعيدة المدى لينالوا مآربهم على نطاق واسع..)(13).
ثم يصف المرحوم الكربلائي ثالث زيارة لناصر الدين شاه إلى أوربا، ويطيل الوصف في كرم ضيافة البريطانيين للشاه، وطلبهم منه توثيق العلاقات بين الجانبين، ويقول:
 (... واضح أن الطامع الذكي الخبير يستغل هذه الفرصة، إذا أوعز إلى الميجرتالبوت ـ وهو بريطاني له علاقات وطيدة بإيران وطالما تظاهر بحبه لإيران وحكومتها ـ أن يقدم مشروع الحصول  على امتياز التبغ في إيران. وتوسل تالبوت بأحد الرؤوس المتنفذة في الدولة ـ ويقصد به ميرزا علي أصغر خان أمين السلطان ـ وسيأتي ذكره وأوحوا إلى السلطان أن هذا الامتياز سيدر على البلاد أرباحا طائلة، وأنه سيدفع البلاد إلى جادة الترقي) (14).
ويقول في موضع آخر: "إن هذا الرأس المتنفذ كان على علم بما يجره هذا الامتياز من مفاسد، ولكن لنفعيته وسماجته أو لملاحظات أخرى رضخ لهذا الامتياز، ومهما يكن الدافع فإنه وقع على الاتفاق من دون استشارة؛ متجاهلا ما سيجره من عواقب وخيمة وسيئة، وما سيؤدي إليه من إبادة لملك إيران ومملكتها" (15).
وكتب إبراهيم دهگان تعليقا على كتاب الشيخ حسن كربلائي، وفي تعليقه على ما نقلناه من كلام الشيخ حسن يقول:
(المقصود بالرأس المتنفذ أمين السلطان هذا الرجل المتملق الذي لم يكن يجرؤ على أدنى حركة دون إذن أسياده فهو الذي هيأ وسائل سفر الشاه إلى بريطانيا بإيعاز من السيرهانري وولف سفير بريطانيا اليهودي الأصل في طهران).
... في تلك السفرة (سفرة الشاه الثالثة إلى بريطانيا) قدمت إلى الشاه عدة اقتراحات، منها اقتراح امتياز التبغ. وأوكلت مهمة أخذ هذا الامتياز لمضيف الشاه الميجر جيرالد تالبوت. واتصل هذا الأخير باعتماد السلطنة وأمين السلطان، وبين لهما مزايا هذا الاتفاق، ومما قاله لهما: إن هذه الاتفاقية ستؤمن نفقات سفرة الشاه هذه والسفرات القادمة
أيضاً وأمين السلطان قال للشاه في أحد لقاءاته: إن هذا الامتياز مثل كنز موهوب، ولا عاقل يغض النظر عن صيد جاء بين يديه (!) مشروع هذا الامتياز وضع في مدينة برايتن بعد أن حصل تالبوت على  معلومات كاملة عن وضع إيران ومسائلها الاجتماعية عن طريق اعتماد السلطنة.
والميجر تالبوت كان على علم بنقاط ضعف الشاه وحاشيته واستنادا إلى مذكرات ناصر الدين شاه نفسه فإن الميجر تالبوت دعا الشاه إلى الجلوس عند حوض بلوري ودعا فتاة في الخامس عشر من عمرها وفي حالة.. إلى السباحة في الحوض أمام الشاه. وبذلك ملك على الشاه إرادته) (16).
بمثل هذه الخطط اشتروا الأوطان وعاثوا بالمقدرات.. ومع هذا؛ فالسقوط في أحضان الغرب في أدبيات المثقفين (تقدمية) ومعارضه علماء الدين لهذا السقوط (رجعية وتحجر).
وكلما تقدمنا في تاريخ هذه الحقبة نجد أن خططا معقدة ومدروسة تنفذ في هذا البلد عن طريق شبكات واسعة عظيمة تدار في لندن ن تتجلى تارة بالماسونية وتارة بالبابية وتارة أخرى بخطط التحلل الخلقي والعقائدي.
فمنذ أن طرد أول سفير بريطاني من بلاط الشاه طهماسب بذلة ومهانة،وعفر مسلم شهم مواضع أقدامه بالتراب أيقن الغربيون أن هذه الأمة تستمد من عقيدتها ودينها وتاريخها ما يمكنها من مواجهة ألوان التحديات فهذه الطاقات المعنوية كانت وراء انتصارات الإسلام منذ بدر وحنين وفتح بيت المقدس وعبور مضيق جبل الطارق وفتح القسطنطينية بيد محمد الفاتح وحتى هذه العقبات التي يواجهونها في الدولتين الصفوية والعثمانية أمام توغلهم ونفوذهم. لذلك خططت الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا لإفراغ هذه الأمة من محتواها
العقائدي. والخطط التي نفذوها في إيران غريبة للغاية..والأغرب من ذلك أنها لم تستطع ان تمزق إيران وتفتتها، والسبب الوحيد يعود إلى مواقفعلماءالدين وقيادتهم لهذه الأمة وشحنهم وجدان الجماهير بروح الحسين عليه السلام وكربلاء الحسين وبتاريخ المواقف الأبية لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله.
ولو كان الأمر بيد (التقدميين) لقدموا وطنهم ومقدرات شعبهم خلال ساعات قربانا على مذبح أسيادهم الغربيين، باسم مواكبة حركة التقدم والتحرر في العالم !!
جدير بالذكر أن أحد (التقدميين) الذين يحملون على علماء الدين في موقفهم من امتياز التنباك هو علي خان أمين الدولة، فقد كتب في مذكراته عن موقف علماء الدين بأنها عمليات استفزاز للسوقة والأراذل، وحثهم على الحصول على خزانة الدولة وأموالها !!
واللطيف في هذا الأمر أن أمين الدولة هذا من (المتجددين) ومن حماة ملكم خان في تأسيس المجمع الماسوني في إيران، وهذه المذكرات نشرها حافظ فرمانفرمائيان(17)، وعائلة فرمانفرمائيان من العوائل الماسونية التي تغلغات كالسرطات في أجهزة الحكم آنذاك، وقد حصل  على هذه المذكرات من حفيد أمين الدولة وهو (علي أميني)، وهذا الأخير هو الذي تولى رئاسة الوزراء في زمن الشاه المقبور، ووقع على اتفاقية (الكنسرسيوم) المذلة، ودعم بشدة مصالح أمريكا في إيران إن هذه العائلة ومثيلاتها تعتبر فروعا متشابكة لشجرة خبيثة اجتهدت للقضاء على الروح الدينية وعلى مكانة علماء الدين في هذا البلد المسلم تمهيدا لعملية الغزو الغربي الكاملة.   
مفكر أديب يدعو  إلى التقريب
الدكتور محمد الدسوقي (18)الدكتور (محمد زكي عبد السلام مبارك) علم من أعلام الادب والفكر في العصر الحديث فقد ولد سنة (1308 هـ / 1891 م)، وتوفي سنة (1371 هـ / 1952 م)، وبدأ حياته كأكثر أدباء عصره في مصر طالبا بالأزهر الشريف، وكان يتمتع بحافظة قوية ساعدته على استيعاب كثير من روائع الشعر العربي في حياته العلمية الباكرة، وحاول أن ينظم الشعر في أيام الطلب بالأزهر، ونشر بعض ما جادت به قريحته في الصحف،ودفعه طموحه إلى تعلم اللغة الفرنسية، ثم الالتحاق بالجامعة المصرية القديمة، وعرف بين طلابها بالنشاط والدأب 
والكفاح، ووجد من بعض أساتذتها التشجيع والتوجيه، وبعد أن نال إجازة الليسانس من هذه الجامعة عكف على إعداد رسالة عن (الأخلاق عند الغزالي) حصل بها على درجة الدكتوراه، ولكنه لم يقنع بهذه الدرجة العلمية التي نالها من الجامعة المصرية فسافر إلى باريس، وحصل على الدكتوراه في الآداب من السوربون عن رسالته (النثر الفني في القرن الرابع الهجري)، وهذا القرن أخصب عهود العصر العباسي وأحفلها بالإنتاج الفكري والشخصيات اللامعة من ذوي النقد والجدال والصيال.
ولا مجال لتفصيل القول في حياة الدكتور زكي مبارك، وآثاره الفكرية والأدبية، وهي كثيرة ومتنوعة، وتشهد له بمكانة مرموقة في الأدب الحديث، وتؤكد أنه كان حركة دائبة مؤثرة في الأفق الأدبي، فتراه حينا يجادل في الدقائق الفقهية، كما صنع حين حقق نسب كتاب الأم فتضيفه إلى الفقهاء.
وحينا تراه يجادل في المعضلات النحوية، فتضيفه إلى النحويين
وتنظر إلى كتاب (النثر الفني) أو كتاب (الموازنة بين الشعراء) فتحسبه رجلا لا يحسن غير النقد الأدبي.
وتقرأ رسائله الغرامية ودراساته الطريفة للعشاق من الشعراء، فيخيل إليك أنه شاب لا يعرف غير الاصطباح والاغتباق، بهوى الغيد الرعابيب.
وتنظر رسالة (اللغة والدين والتقاليد)فتعده من كبار المصلحين.
وتنظر مقالاته في التربية والتعليم،فتراه من أقطاب المربين.
وتقرأ هجومه على الكتاب والشعراء والمؤلفين، فتخاله من الهدامين.
وتسمع عن أخباره في الأندية والمجالس، وأحاديث رحلاته إلى البلاد الشرقية والغربية
وانتقاله من العمامة إلى الطربوش، ثم إلى القبّعة والسدارة، فتعتقد أنه من المولعين بدرس (أخلاق الأمم والشعوب)(19).
ومع هذا تجدر الإشارة المجملة إلى أن سيرة حياة هذا الرجل غلب عليها أمران كان لهما الأثر الواضح في عطائه الفكري، وفي إنتاجه الأدبي، وهذان الأمران هما:
أولا: كان طالب علم منهوم، ولذا كان يعتقد أن عليه أن يواصل الدراسة مدى الحياة، وألا يقنع بإجازة علمية يقف بعدها عن البحث والتأليف.. ولذلك لم يكتف بدرجتي الدكتوراه التي تحصل عليهما من الجامعة المصرية والسوربون، فتقدم إلى جامعة فؤاد الأول برسالة دكتوراه في الفلسفة كان موضوعها (التصوف الإسلامي وأثره في الأدب والأخلاق) وقد منحته اللجنة التي ناقشته إجازة الدكتوراه بمرتبة الشرف، وهي شديدة الضن بالألقاب، إلاّ على المستحقين، فهو من ثم قد حصل على ثلاث درجات دكتوراه، ولا غرو أن كان يطلق على نفسه في خريف عمره لقب (الدكاترة). 
ثانيا: كان مولعا بخوض المعارك الأدبية، وإثارة القضايا الفكرية، فهو يقرأ القصيدة أو المقالة أو الكتاب لغيره من الأدباء والعلماء فتنفح أمامه طرق واسعة للاختلاف والنقاش ويثيرها معركة عنيفة، ينتشر غبارها في الأفق، ويكثر حولها الضجيج والخصام، ولهذا كان له مع أكثر معاصريه صيال وملاحاة وعراك وجدال، وكان يفخر بهذا ويتحدث عنه، ومما قاله عن نفسه: (أنا لا أرى الحياة إلاّ في حومة القتال، وليس الأدب عندي مزاحا أتلهى به في الأسمار والأحاديث، وإنما هو عراك في ميادين الفكر والخيال). وقال عنه بعض أصدقائه: (إن مباركا رجل ثائر لا تروقه الحياة ولا يستطيب العيش إلاّ بالغزوات العلمية، ولو جاز وصف المساجلة كمعركة حربية وتشبيه الأدباء بالجيش لتمثلت مباركا ضابطا من الضباط يزدان صدره بالأوسمة والنياشين لكثرة ما نازل من الأقران) (20).
وإذا كان المجال لا يسمح بتفصيل القول في حياة زكي مبارك الاجتماعية والفكرية لأن هذه الحياة تحتاج إلى بحث مستفيض، فإني أقصر  حديثي على كتاب واحد من مؤلفاته، ولا أتناول هذا الكتاب بالدراسة الشاملة،وإنما أتناول ما ورد فيه عرضا عن التقريب بين المذاهب الفقهية.
هذا الكتاب هو(عبقرية الشريف الرضي) وترجع قصة تأليفة إلى أن مباركا قد انتدب للتدريس بدار المعلمين العالية ببغداد، وكان ذلك سنة 1937، ولم يمكث بعاصمة العراق إلاّ نحو عام، ولكنه في هذه الفترة القصيرة سطر مئات الصحف في الدعوة إلى توثيق الصلاة بين الأقطار العربية،كما نقل إلى القراء صوراً خلابة عن غابات النخيل في البصرة،وسجع الحمائم في الموصل،وبقايا السحر في بابل، ورسم تألق القباب العلوية في النجف والكرخ، وألقى عدة محاضرات بنادي القلم العراقي ونادي المثنى والإذاعة العراقية.
وكان أهم ما كتبة زكي مبارك وهو في العراق مؤلفه عن عبقرية الشريف الرضي،وهذا الكتاب في الأصل مجموعة محاضرات أدبية ألقاها في قاعة كلية الحقوق ببغداد، فكان أول باحث خص الشريف بجزئين كبيرين، وقد استمع إليها كثير من الأساتذة والطلاب (21)، وقد
جاء في مقدمة هذا الكتاب،أن مباركاً لم يقف من الشاعر الذي درسه موقف من التلميذ ن وإنما وقف منه موقف الصديق من الصديق، ثم يقول: والتشابه بيني وبين الشريف الرضي عظيم جداً، ولو خرج من قبره لعانقني معانقة الشقيق للشقيق، فقد عانى في حياته ما عانيت في حياتي، كافح في سبيل المجد ما كافح وجهله قومه وزمانه، وكافحت في سبيل المجد ما كافحت وجهلني قومي وزماني، غير أنه مع هذه الإشارة إلى التشابه بينه وبين الرضي يقول: ولكني عاملته معاملة الصديق الأمين فنبهته إلى عيوبه بتلطف وترفق، نبهته تنبيها دقيقا جدا لا يفطن إليه إلاّ الأذكياء (22).
وقد عرض الدكتور مبارك في الجزء الأول من عبقرية الشريف الرضي إلى طرف من مقام الشريف بين شعراء القرن الرابع الهجري، وكذلك إلى صلاته بخلفاء بني العباس، وأوما إلى أعوام البؤس في حياته، والتي بدأت باعتقال والده ومصادرة أملاكه وحبسه في قلعة فارس من سنة 369 إلى سنة 376 هـ . وكان الشريف حين اعتقل أبوه في العاشرة من عمره حيث ولد ببغداد سنة 359 وتوفي بها سنة 406 هـ.
ولكن أعوام البؤس التي عانى فيها الشريف ما عاني أفاد منها نعمة باقية فقد أحب أباه حبا لم يسمع الناس بمثله،وصار يتلهف عليه تلهفا موجعا، وينظم فيه أشعارا لها رنين الأسجاع، أسجاع الحمائم الباكية في إثر الأليف المفقود.
وتحدث أيضاً في هذا الجزء عن الشريف كاتبا ومؤلفا، وخص كتاب نهج البلاغة بمحاضرة أشاد فيها بالقيمة العلمية والأدبية والتاريخية لهذا الكتاب ومما قاله فيه: وإني لأعتقد أن النظر في كتاب نهج البلاغة يورث الرجولة والشهامة وعظمة النفس، لأنه فيض
من روح قهار واجه الصعاب بعزائم الأسود، وأن الشريف بهذا الكتاب خدم الأدب واللغة والأخلاق (23).
 وقد أومأ في حديثه عن نهج البلاغة إلى ما أثير حوله من آراء تذهب إلى أن الشريف تزيد فيما سجله في كتابه على أمير المؤمنين، ويرى الدكتور مبارك أن نهج البلاغة إن كان قد اشتمل على نصوص عزيت خطأ إلى الإمام علي ـ رضي الله عنه وكرم الله وجهه ـ فإن الشريف ليس مسؤولا عنها، ويرجع هذا إلى ما تعرض له الكتاب بعد وفاة مؤلفه من زيادات وإضافات.
وتكلم الدكتور مبارك في الجزء الثاني من عبقرية الشريف الرضي عن الأصدقاء والأعداء في حياة الشريف، وأسرار العلائق والصلات بين الرضي والصابي، ونماذج من غرائب الوفاء عند الشريف وبعض فنون الشعر لديه كالوصف والرثاء،والحجازيات والغراميات وبكاء الشباب.
وحديث الدكتور زكي في كتابه بجزئيه كان مصدره الأول فيه هو شعر الشريف، وهو شعر يراه من الطبقة الأولى وصفا وبيانا وإبداعا، ومن ثم يؤكد الدكتور مبارك بأن الشريف أفحل شاعر عرفته العربية وأعظم شاعر تنسم هواء العراق.
وتجدر الإشارة إلى أن الشريف إلى جانب منزلته المرموقة كشاعر كان مؤلفا واسع الأفق، فهو يكتب في الفقه والتوحيد والنحو والبيان وله لمحات إلى مؤلفات تدل على أنه من المطلعين على ذخائر العلوم الشرعية كما أن له توجيهات لكلام من سبقوه تشهد بأنه تناول بعض المؤلفات بالنقد والتمحيص والتهذيب، فلا غرو أن تفرد بآراء لم يهتد إلى مثلها الأسلاف، كما تفرد من بين سائر الباحثين بأسلوب يجمع بين النظرة العقلية والدقة والجزالة، فهو عالم أديب وإمام من أئمة الدين وشاعر من أكبر شعراء العربية، ولهذا خلف عدة مؤلفات من أهمها ديوان شعر في مجلدين، والمجازات النبوية وحقائق التأويل في متشابه التنزيل، ونهج البلاغة، وتلخيص البيان في مجازات القرآن، وهذا الكتاب يعد دراسة متخصصة في موضوع واحد وهو بيان ما في بعض آيات القرآن من أوجه الاستعارة والمجاز.
وبعد هذا العرض العام لكتاب عبقرية الشريف الرضي، ماذا عما ورد فيه من دعوة إلى التقريب بين المذاهب الفقهية ؟؟
إن مؤلف هذا الكتاب في محاضرته عن الشريف كاتبا ومؤلفا (24).
انتهى إلى أن للشريف شخصيتين مختلفتين بعض الاختلاف هما: شخصية الشاعر المطبوع، وشخصية العالم الأديب، ثم حاول أن يستنبط من حياة الشريف وآثاره العلمية والأدبية خصائص الشاعر والعالم، وكيف اتفق له أن يكون كذلك عالما شاعرا، ثم: وليست أولئك الخصائص هي كل ميزات الشريف المؤلف،فهناك خصيصة أعظم وأروع، وهي طغيان العقلية العلمية على النزعة المذهبية (25).
وكانت هذه الخصيصة منطلق الدكتور مبارك للدعوة إلى التقريب بين السنة والشيعة، واستهل كلامه في هذا بتقرير أن الشريف وإن كان شيعي المذهب فهو مسلم سليم العقيدة، لان التشيع في جوهره لا ينافي الدين إلاّ حين يوكل أمره إلى الجهلاء من أهل الانحراف.
والدكتور مبارك بما قاله من أن التشيع في جوهره لا ينافي الدين يرد على هؤلاء الذين
يتقولون على الشيعة، ويلصقون بهم تهمة المروق من أحكام الله،مشيرا إلى أن الذين لم يفقهوا جوهر التشيع، وانتسبوا إليه هم الذين أثاروا غبار التشويه، وساعدوا بما صدر عنهم من أقوال وأفعال على تعميق هوة الخلاف بين الشيعة والسنة.
ثم يفسر الدكتور مبارك مناط اهتمام الشريف بشرح خصائص البلاغة القرآنية والبلاغة النبوية، بأنه يرجع إلى دحض المفتريات التي وجهت إلى التشيع، والتي ادعت أن الشيعة لا يهتمون بالقرآن والحديث.. ويخلص من هذا إلى أن الشريف كان من الساهرين على الوحدة الإسلاميّة، وأن النفحات السارية في مؤلفاته هي أنفاس المؤمن الحق الخالص من شوائب   الابتداع والتجديف.
وليس أدل على هذا من أن الشريف اهتم بدراسة مذهب الإمام الشافعي، وهو مذهب سني أصيل،ولا يقال إن مرد ذلك إلى عذوبة لسان الشافعي فيما يتصل بأهل البيت، لأن تعظيم أهل البيت مما يرعاه السنيون كما يرعون كرامة سائر أهل العلم والدين. فدراسة الشريف للمذهب الشافعي آية من آيات العقلية العلمية التي تحررت من قيود المذهبية الضيقة، والتي تطلعت إلى الانتفاع بكل آراء فقهاء الأمة، فهم جميعا يتفقون في الأصول،ولا ضمير فيما بينهم من اختلاف في الفروع، فهذا الاختلاف مظهر من مظاهر يسر الدين، ودليل على احترام الإسلام للعقل وحضه على الاجتهاد فيما هو مجال له من النصوص والنوازل.
ويعلق الدكتور مبارك على تولي الشريف إمارة الحج كما تولاها أبوه من قبل بأن هذا يعني أن التشيع في القرن الرابع لم يكن ينظر إليه تلك النظرة التي جدت بعد ذلك، وأن الغلو في التحاقد بين المذاهب الإسلاميّة  لم يكن يقع إلاّ من أهل الغفلة والحمق، وأما أهل اليقظة والعلم فكانوا يعرفون أن الاختلاف في الفروع لا بأس به مع الاتفاق في الأصول. 
ويقول أيضاً: ومهما يكن من شيء فالخلاف بين السنة والشيعة هو جزء من ماضينا، وهو خلاف كان له فضل عظيم في يقظة العقول والآراء، وواجبنا اليوم هو الدعوة إلى التآخي الصحيح بحيث يمكن نسيان ما وقع في ماضينا من صراع ونضال (26).
وفي هذه الكلمة الأخيرة إشارة إلى منهج الدعوة إلى التقريب كما يراه الدكتور مبارك وهو منهج يقوم على ما يلي:
أولا: إن الخلاف بين المذاهب في الماضي لم يكن في جملته خلافا يمزق وحدة الأمة ويمكن للأحقاد والكراهية بين أبنائها، وإنما أثرى هذا الخلاف الفكر الإسلامي بما أثاره من قضايا وحوار علمي. وهذا يعني أن نهتم بالجانب الإيجابي في دراسة هذا الخلاف أو الصفحة المشرقة فيه.
ثانيا: إن علينا أن نغض الطرف عما كان في ماضينا من صراعات ومشكلات أدت إلى كثرة النزاع وحدة النفور بين طوائف المسلمين، فليس مقبولا ولامعقولا أن نعيش الحاضر بما يحمله للمسلمين كافة من أخطار ماحقة بخلافات الماضي نرددها، ففي ذلك استمرار للصراع النفسي بين أبناء الأمة الواحدة، وهو صراع يجلب علينا الوهن، وينتهي بنا إلى البوار والفشل لا قدر الله.
ثالثا: إن التقريب الذي يحقق التآخي الصحيح، والتعاون المثمر، والمودة القلبية الصادقة ينبغي أن ينطلق من مبادئ الالتزام باحترام كل المذاهب، وعدم إكراه الأقليات المذهبية على مالا تقبله وأن تتمتع بحريتها في ممارسة الشعائر الدينية وفق المذهب الذي ترتضيه، وفضلا عن هذا ينبغي أن تمسك كل أقلام العلماء والباحثين وألسنتهم من كل المذاهب على عدم إثارة ما ينفر النفوس، مثل استعمال بعض الألفاظ والعبارات التي لها ظلال من معاني التحقير أو السخرية، أو أن أتباع بعض المذاهب هم الناجون وأن سواهم هم الخاسرون، أو اتهام بعض الصحابة بما لا يليق بهم، أو الحكم عليهم بأنهم في النار، إلى غير ذلك من العبارات التي عرفها تراثنا الفكري قديما ولا تزال للأسف تتردد في بعض الكتابات المعاصرة.
وينتقل الدكتور مبارك بعد حديثه عن سماحة الشريف المذهبية وأنه لسماحته ظفر بمن ترجموا له من أهل السنة وأعطوه حقه من التقدير إلى الحديث عن الواقع الذي عاشه في العراق، وأنه واقع عرف كثيرا. من المحققين والباحثين الذين يضيقون بالتعصب المذهبي، وينتصرون للحق لذاته دون نظر إلى مصدره، وضرب أمثلة على ذلك بأنه لما دخل العراق وجد قوما من أهل العلم يحقدون عليه أشنع الحقد بسبب كتاب (الأخلاق عند الغزالي) ثم هاله أن عرف أن السيد هبة الدين الشهرستاني من أولئك الحاقدين وهو شيعي لاسني، ويتساءل الدكتور مبارك، كيف يتعصب للغزالي وهو خصمه في المذهب ؟ ويجيب عن هذا بقوله:
تعصب الشهرستاني للغزالي لمعنى نبيل هو الغضب للنيل من إمام جليل مثل الغزالي، وكذلك تكون شمائل العلماء..
ثم يقول: ورأيت هناك باحثا يعطف عليّ لاهتمامي بدرس أشعار الشريف وهو عباس العزاوي، فقدرت أنه شيعي ثم عرفت أخيرا أنه سني، وكذلك يكون الصدق في فهم المعاني.
ورأيت طه الراوي يحفظ ديوان الشريف عن ظهر قلب فحسبت ذلك برا بالعصبية المذهبية ثم عرفت أنه سني لا شيعي.
ولا    ينسى الدكتور مبارك وهو يتحدث عمن عرفهم في العراق من أعيان الفضل والعلم والذوق والتسامح والتجافي عن العصبية المذهبية أن يشير إلى مصر وكيف ينظر أهلها إلى المذاهب فيقول:
ونحن في مصر لا نحس الخلافات المذهبية، ويؤذينا أن نعرف أن إخواننا في الدين يثور بينهم الخلاف من حين إلى حين (27). 
وبعد هذه اللمحة إلى موقف أهل مصر من الخلافات المذهبية يعبر الدكتور مبارك عن أمله في أن تصبح هذه الخلافات هينة لا تثير فرقة ويرجو أن يكون سعيه للتخفيف من أوزارها عملا يقربه إلى الله، ويعزو إلى الشريف الفضل فيما يدعو إليه، ولذلك يترحم عليه، فيقول: فهل أرجو التقرب إلى الله بتهوين شأن تلك الخلافات وهل أستطيع الترحم على الشريف لأنه منحني الفرصة لهذه الكلمات التي أردت بها التقريب بين القلوب... ثم يقول: الله يشهد أني أكتب هذا وأنا متوجع، فما يرضيني أن يقال إن في المسلمين أقواما يخاف بعضهم بأس بعض(28).
ويومئ إلى الخلاف فيراه نعمة وجميلا مادام لا يصل إلى القلوب ومادام يقف عند اصطراع العقول، فإن جاوز ذلك فهو رجس من عمل الشيطان فيقول: الشقاقات المذهبية لم يعرفها الشرق والغرب إلاّ في عصور الظلمات ونحن في عصر النور، فإن لم يكن بد من الخلاف فلنختلف في أساليب الخلاص من أقفاص الظلم والاضطهاد.
ويختم الدكتور مبارك كلامه في الدعوة إلى التقريب بالإشادة بالشريف الذي كان مثلا طيبا للسماحة وتغليب الجانب العقلي على النزعات المذهبية، فيقول: صديقنا الشريف هو الذي سن شريعة التسامح بين المذاهب والآراء وفضله على الشيعة عظيم، لأنه خلق لهم صداقات في البيئات السنية، وحفظ له مكانة عالية في العراق بفضل جهاده في الدين والأدب.
يرحم الله الشريف فقد داس الشهوات المذهبية بقدميه فظفر بالإعزاز والتبجيل من الجميع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وبعد..فإن الدكتور زكي مبارك، وهو مفكر أديب يعد بما كتبه في عبقرية الشريف الرضي رائدا من رواد التقريب، وداعية من دعاة الإصلاح بين المؤمنين، فما كان أغناه وهو يتحدث عن منزلة الشريف في الكتابة والتأليف عن أن يتحدث عن التقريب ويؤكد على وجوب الدعوة إليه، وما كان أحد يلومه لأنه يعرض للشريف الشاعر المؤلف، وليس الفقيه العالم، ولكن الرجل ما كاد له ان يقع في دراسته على جانب مهم في عقلية الشريف حتى اغتنمها فرصة للدعوة إلى اعتصام الأمة بحبل الله وعدم التفرق والتنازع والاختلاف الذي يؤدي إلى الفشل والخسران، إنه بما صدر عنه في موضوع التقريب منذ نحو نصف قرن يعكس المشاعر الإسلاميّة  الطيبة التي يؤذيها أن ترى الأمة وقد تفرقت بها السبل، وتوزعتها الأهواء المذهبية، وهي خير أمة أخرجت للناس، ولن تظل أهلا للخيرية إلاّ إذا ألقت عن كاهلها أوزار العصبية المذهبية، والتقت كلمتها حول أصول دينها، وما اتفق عليه علماؤها، أما ما اختلفوا فيه فليعذر بعضهم بعضا، وليحسن كل منهم الظن بأخيه وليربا بنفسه عن مواطن الزلل في القول والفعل حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
والذي لا مراء فيه أن الأمة الإسلاميّة  ما تعرضت في عصر من العصور لما تتعرض له الآن. إن هناك تخطيطا عالميا لقهر الوجود الإسلامي وإبادته، ولا مناص من أن تجتمع الأمة على كلمة سواء حتى تدفع عنها الغارة الباغية وهي غارة تشن عليها من الداخل والخارج، وتعمل في دأب وإصرار لبلوغ الأهداف المرسومة لها، ومن أجل هذا كانت الدعوة إلى التقريب بين المذاهب وصولا إلى التعاون الكامل بين كل طوائف الأمة ضرورة دينية، وحياتية.
وحتى تكون هذه الدعوة خطوة جادة عملية على طريق وحدة الأمة ينبغي أن تواجه كل ما تتعرض له من شبهات أو مثبطات بالحكمة والمصارحة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يكفي أن نقيم لها مؤتمرات أو ندوات أو دراسات دون أن ندفع عن الطريق كل الأشواك والعقبات.
وأذكر أنه عقد في كلية الشريعة بجامعة قطر منذ عدة سنوات ندوة حول التقريب، وبعدها تلقيت من بعض الإخوة عدة دراسات تثير الشكوك والشبهات وتكاد تجزم بأن التقريب ليس وسيلة لوحدة الأمة، لأن هناك اختلافات جوهرية في قضايا العقيدة، وأحداث التاريخ ومصادر الأفكار والآراء، وجرى بيني وبين بعض من أثق في إخلاصهم حول العمل الإسلامي، الذي يكفل التعاون والتناصر في مواجهة القوى المضادة التي تتربص بالمسلمين كافة، حديث في موضوع التقريب، فقال: إنّ التعاون بين المسلمين جميعا أمر مهم وضروري ولا يعارضه مسلم عاقل، ولكن هذا شيء، والدعوة إلى التقريب شيء آخر، فالفجوة عميقة في مجالات كثيرة، وردم هذه الفجوة لا سبيل إليه بحال من الأحوال ما دامت كل طائفة ترى أنها بما تؤمن به هي وحدها على الحق وسواها على الباطل. وأطمع في كلمتي القادمة بإذن الله أن أعرض لكل الشبهات التي وقفت عليها حول مسار الدعوة إلى التقريب لعل في ذلك ما ينير الدرب ويزيل اللبس، وينفي سوء الظن، ويحقق التآخي الصحيح على حد تعبير الدكتور زكي مبارك ـ رحمه الله ـ
والله يتولانا جميعا بهدايته وتوفيقه.
_____________________
1  ـ فشاهي، مصدر سابق / 441.
2  ـ سبهسالار: تعنى قائد الجيش، أو صاحب الجيش. وميرزا حسين خان نال منصب الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) في زمن ناصر الدين شاه (المترجم).
3  ـ أحمد كسروي من دعاة التغريب في إيران، ومن المنادين بتطهير !! للغة الفارسية من المفردات العربية (المترجم).
4  ـ كسروى تبريزى، مصدر سابق / 19.
5  ـ آدميت، مصدر سابق / 86 ـ 87.
6  ـ نفس المصدر / 90 ـ 91.
7  ـ فشاهي، مصدر سابق / 441 ـ 442.
8  ـ نفس المصدر / 443.
9  ـ نفس المصدر / 443
10  ـ لاتاري Loterie  كلمة فرنسية تعني نوعا من (اليانصيب) عن طريق القرعة أو بأشكال وأدوات أخرى.
11  ـ محمود محمود، تاريخ روابط سياسي إيران وانكليس در قرن نوزدهم ميلادى 5 / 1223 ـ 1225؛ طهران، إقبال.
12  ـ تيموري، مصدر سابق.
13  ـ الشيخ حسن كربلائي، تاريخ الدخانية (معاهدة رجى) / 14 ـ 16، أراك 1333 ه
14  ـ نفس المصدر / 17.
15  ـ نفس المصدر / 16 ـ 17.
16  ـ نفس المصدر / 17.
17  ـ انظر:حافظ فرمانفرمائيان، خاطرات سياسي أمين الدولة (فارسي)، طهران، كتابهاى إيران، 1341.
18  ـ أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول ـكلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلاميّة ـ جامعةقطر.
19  ـ انظر: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق / 6 د. زكي مبارك، دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة، بيروت، لبنان
20  ـ انظر: مجلة الرسالة، السنة العشرون / 192.
21  ـ انظر: المصدر السابق / 193.
22  ـ انظر: مقدمة عبقرية الشريف الرضي 1 / 11 و21 ط. المكتبة العصرية،صيدا.
23  ـ انظر: المرجع السابق/ 224.
24  ـ انظر: انظر عبقرية الشريف الرضي 1 / 204.
25  ـ انظر: المصدر السابق / 211.
26  ـ انظر:المصدر السابق / 213.
27  ـ انظر: المصدر السابق / 214.
28  ـ أنظر: المصدر السابق.
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية