مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

كتب في ميزان التقريب
الرسالة الخالدة (1)
عبد الرحمن عزام

 هذا الكتاب يمكن اعتباره من كتب تاريخ الفكر التقريبي المعاصر، كتب قبل حوالي خمسين عاما، وطرح الكاتب في فصوله الأسس العامة للإسلام. ابتداء من العقيدة، ثم تحدث عن الإصلاح الاجتماعي، وبعدها استعرض علاقة الدولة الإسلاميّة  بالأمم الأخرى في حالتي الحرب والسلم، وتناول أسباب الاضطراب العالمي، ودرس الجانب الروحي في الحضارة الحقيقية، ثم وقف عند النظام الأساسي للدولة الإسلاميّة، وبين أسباب انتشار الدعوة الإسلاميّة  بين الأمم صاحب الكتاب ـ كما يتبين من فصوله عاصر فترة حادة من فترات الهجوم الثقافي
الصليبي المعاصر على الفكر الإسلامي والحضارة الإسلاميّة، فراح يدافع عن الإسلام، بل ويحمل على خصومه بلغة علمية موضوعية تجمع بين وضوح البيان وسلاسة الطرح وأصالة المبنى وعالمية النظرة.
هذا المسلم المصري كما يتبين من كتابه لم يكن محدودا في فكره، بل إنه نظر إلى الإسلام نظرة شمولية مستوعبة، كما أنه لم يكن محدودا في تحركه، فقد تجول في الشرق والغرب في مهمات رسمية وجهادية، ولذلك وقف على مشكلة تمزق العالم الإسلامي، ودعا إلى وحدته، وأحس بخطر النعرات القومية.
نقف فقط عند جانب دعوته إلى وحدة المسلمين، ونبذ التنافر القومي والوطني والعنصري، فهي دعوة قائمة على أساس تجربة فكرية وعملية بين المسلمين قبل نصف قرن من الزمان.
في معرض حديثه عن أسباب النزاعات العالمية، يقف عزام عند النزاعات العنصرية والوطنية ويقول:
ولننظر الآن في سبب آخر من أسباب الاضطراب العالمي وهو الإفراط في النزعة الوطنية والعنصرية وما ترتب عليها من الأثرة وحب الانفراد بالعزة والسلطان وإنكار حقوق الآخرين، ثم النزاع والتسلح والحرب.
كان الناس يتنافسون قبائل ويتحاسدون ملوكا ويختلفون على الله أو في سبيل الله، ولم تكن نعرة الوطن ولا نعرة العنصر فاصلا حاسما بين المجموعات البشرية كما أرادتها المدنية الحديثة، وتاريخ العرب والترك والبربر وغيرهم من الأقوام الإسلاميّة  حافل بالنزاع القبلي، بعيد عن النزاع العنصري. وكذلك كان الشأن في أوروبا، وكانت الأسرة الملكية تضم تحت
رايتها باسم الولاء للملك أو باسم الولاء للمذهب قبائل وشعوبا تتحد مصالحها وإن اختلفت أصولها أو لغاتها، وأحيانا عقائدها. وكثيرا ما تكون هذه الأسرة غريبة، أو تكون من الأقلية القومية في الدولة، فتتكون تحت رايتها مجموعة تربطها القوانين وتتسع لأقليات شتى تعيش تحت الراية، ينالها من الشقاء والسعادة مثل ما يصيب الجميع.
وكثيرا ما تكون هذا الأقليات ارغب في هذه الراية والولاء لها منها لأقرب الأقوام والعناصر من جنسها أو لغتها تحت راية أخرى.
كان الأمر كذلك في كثير من الدول التي عاصرناها كالدولة العثمانية تحت لواء آل عثمان، والدولة النمساوية المجرية تحت لواء آل هبسبرج، وقد شاهدنا شعوبا من العرب أشد ولاء وإخلاصا لدولة آل عثمان منهم لأمرائهم وأشرافهم من العرب.
وكان الأمر كذلك في الدول القديمة، وفي دول القرون الوسطى، كالدولة العباسية والإمبراطورية الرومانية المقدسة والإمبراطورية البيزنطية وكذلك عرفنا من الصقالبة في دولة النمسا من كانوا أوفي لها منهم لأبناء عمومتهم من الروس.
كذلك كان يرقى سلم المناصب كل من سمحت له مواهبه وظروفه في خدمة الملك أو السلطان، فتجد البرامكة وآل طاهر الإيرانيين، أعلى الناس مقاما في خلافة الهاشميين من العرب، وعائلة (كوبرلي زاده) من الأرنؤوط في خلافة العثمانيين من الترك، بل لقد صعد هذا السلم من العبيد في الدول الإسلاميّة عدد أكثر بكثير مما تأذن به نسبتهم العددية، وبلغ الذروة من المماليك ما بين مصر والهند في الدول الإسلاميّة  عشرات السلاطين ممن لا تزال آثارهم خالدة في دلهي والقاهرة، وفي تلك الساحة الإسلاميّة  العظيمة من الأطلسي إلى الهادي.
ولم يكن الناس يتساءلون عن عنصر ولا أصل، وإنما يتساءلون عن عمل وخلق ودين فمن المماليك الذين وصلوا إلى أعلى مناصب الدولة في مصر والبلاد الإسلاميّة  نجد الأرمني والروسي والصقلي والكرجي والشركسي والتتري والتركي والفرنجي والسوداني والحبشي. ولو تعقبنا أنسابهم لانكشفت لنا عن جميع ألوان البشر.
فلم تكن الوطنية بمعناها الحديث، ولا القومية بعصبيتها الحاضرة حدا فاصلا بين الناس كما صارت في العصور الأخيرة).
ثم يتحدث عن المشكلة التي خلقتها النزعات القومية والوطنية في أوربا، وآثار هذه المشكلة في الشرق نتيجة لتقليده الغرب ويقول:
(فالوطنية والقومية بمعناهما الحالي لم تكونا مع الأسف خطوة في سبيل الاستقرار، بل كاننا عاملا لزيادة الاضطراب العالمي، وسببا جديدا لنزاع اوسع دائرة وأعصى حلا.
فإن الوطن باعتباره مقاما جغرافيا لقوم من الأقوام لم يستطع أن يحدد حدودا لجنسه من غير أن يصطدم بقوم آخرين وبانتشارهم، ولم تساعد الطبيعة إلاّ نادرا على تحديد ساحة خاصة لعنصر خاص.ففي أوربا كلها لاتجد إلاّ الجزر البريطانية التي حددها البحر، ومع ذلك فلم تخل إيرلنده من نزاع مع بريطانيا على مقاطعة (الستر) في شمال إيرلنده.
وقد مرّ قرنان على الأقل على أوربا، وقد غرقت في دماء حروبها لتعديل الحدود وتحرير الأقليات بين الفرنسيين والألمان، وبين هؤلاء والنمساويينن؛ وبين هؤلاء وهؤلاء والصقالبة، وبين النسما وإيطاليا، وبين البلقانيين جميعا؛ وبينهم وبين الدولة العمثانية، وبين روسيا وجيرانها من الغرب أو الشرق أو الجنوب، وبين التشيك والبولنديين والمجر والرومانيين
وهكذا نجد النزاع على ما يسمى الوطن وحدوده قائما لا يستقر، بل يتزايد على مدى الأيام وعلى قدر الحدة في العنصرية والوطنية.
فما لم تكن الطبيعة بالمصادفة قد فصلت في الأمر ببحر أو جبل فلا بد من النزاع.
وهذه المشكلة الأوربية المستعصية وما يتبعها من نزاع على الحدود ونزاع على العنصرية وما تنطوي عليه من مشاكل الأقليات، أخذت تنتقل إلى الشرق نتيجة لتأدبه بأدب الغرب، واعتناقه نظرية الوطن والقومية، فأخذنا نسمع في السنين الأخيرة بقضايا شبيهة بالقضايا البلقانية على سنجق الاسكندرونة بين سوريا وتركيا، وعلى شط العرب والحدود بين العراق وإيران. ولم يكن المسلمون بتربيتهم المحمدية يتنازعون على مثل هذه القضايا باعتبارها مشاكل عنصرية، وستكون هذه المشاكل سببا لبلاء الشرق كما كانت سببا للحروب الدامية في الغرب، فيتنازع العرب والترك والكرد والشركس والأذربيجانيون والايرانيون والأفغان والهند والأزبك والصين والمغول... إلى آخرهم، على الحدود والأقليات، حتى يدخل الشرق جحر الضب الذي دخله الغرب) (2).
يظهر أن الكاتب كان يقاتل ـ في بداية هذا القرن ـ متطوعا مع الألبان والأتراك للدفاع عن الأصقاع الإسلاميّة  التي تعرضت للغزو الصليبي في شبه جزيرة البلقان. وله من تلك الأصقاع وغيرها من أقطار العالم الإسلامي ذكريات جميلة عن الإخاء الإسلامي يعرضها على النحو التالي:
(ولا تزال هذه الأخوة التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وآله  أحسن ما بقي في نفوس مسلمي اليوم، رغم ما هم عليه من بعد عن روح الإسلام،فهي متجلية فيهم لمن يرحلون في أطراف الأرض الإسلاميّة  كما تجلت لابن بطوطة قبل سبعة قرون، ولمن قبله ومن بعده.
وقد شعرت بها لأول مرة في شبابي في جبال الأرنؤوط  بألبانيا؛ فقد دخلت تلك البلاد ولا عهد لي بها ولا معرفة بأحد من أهلها. وكان طريقي إليها من بحر الأدرياتيك، فنزلت (بكاترو) وذهبت إلى (ستنجه) عاصمة الجبل الأسود وقتئذ، وكان أهل الجبل في حالة حرب مع الدولة العثمانية، وكنت متنكرا بصفة مراسل لجريدة إنجليزية، أقصد التطوع مع المدافعين عن (أشقودره) من الترك والألبان، فلمحت في المدينة اسما إسلاميا على دكان، فقدمت نفسي إلى صاحبه، وكأنما كنا على موعدا! رغم أن حديثنا كان بالإشارة. وما لبث أن جاء لي بفقيه يعرف قليلا من العربية، فتفاهمنا، وتولى الرجل بعد ذلك أمري كله حتى وصلت إلى أشقودره، وتنقلت في بلاد الأرنؤوط من الشمال إلى الجنوب، يوصي بعضهم بعضا بي، ولو كنت بين أهلي ما وجدت منهم حبا أكثر مما أوجدته لي الأخوة الإسلاميّة في تلك الأيام العصيبة، أيام حرب البلقان. بل إني لا أزال أذكر أنهم أوجدوا في كل بلد من يعرف العربية ومن يلازمني لخدمتي ومعاونتي.
وهذه الروح ذاتها هي التي وجدتها في شمال إفريقية أثناء الحرب العالمية الأولى. وهي التي لمستها في الهند حينما كان الناس يحفون بي ويستبشرون، ولما علموا أن مصر صارت دولة مستقلة، وأنني رسولها إلى الأفغان فرحوا كأنما أيام عزهم قد أقبلت !
هذه الروح التي خلقتها الدعوة المحمدية إلى الأخوة، هي التي شهدتها كذلك في إيران والأفغان وتركيا والعراق والشام والحجاز وغيرها، وفي كل جولة من جولاتي في بلد لا تزال للإسلام أو بقي فيها مسلمون، وهي التي يخرج بها معتزا الأفغاني من المشرق أو الفلاتي من أقصى إفريقية الغربية فيطوى آلاف الأميال سيرا إلى مكة، متوكلا؛ لأنه يمشي من أهل إلى أهل، ومن إخوان إلى إخوان، حتى يرد المكان الذي جهر فيه محمد بالدعوة إلى هذه الأخوة العامّة.
كنت مرة قاصدا من الرياض عاصمة نجد إلى مكة، وكان بينهما سفر خمسة أيام بالسيارة في ذلك الوقت. وفي اليوم الثاني لاح لي رجلان يمشيان، فوجهت السائق ناحيتهما وسألتهما أصلهما وقصدهما، فلم يفهما لعجمتهما، إذا أنهما كانا من (قندهار) بالأفغان، وكان موسم الحج مقبلا! فأدركت أنهما يريدان الحج فشق عليّ أن أتركهما وحملتهما معي إلى مكة. وفي الليالي التي قضيناها بالطريق، رغم جهل بعضنا لغة بعض، كانت روح الأخوة ناطقة بكل حاسة. ولولا هذه الأخوة لما طوى هذان الرجلان الأرض، لا يملكان شيئا من الدنيا إلاّ أن الدعوة المحمدية قد آخت بينهما وبين البلوش والفرس والعرب ممن تنقلوا في أوطانهم.
نعم إن هذه الأخوة تضعف في أقطار المسلمين بضعف التدين وقيام النعرات الجنسية. وأعظم من ذلك بسيطرة المادة على النفوس، فهي تكاد تقضي على الأخوة في البيت والأسرة الواحدة)(3).
ويظهر أن هذه الروح التي تحلى بها عزام رحمه الله إن شاء الله هي روح العالم الإسلامي بأجمعه، وأن هذه اللغة هي لغة كل المسلمين المتعطشين لعزتهم وكرامتهم وقوتهم ووحدتهم، ولذلك انتشر الكتاب بسرعة في العالم الإسلامي، وترجم اللغات الاندونسية والتركية والفارسية ثم الإنجليزية.
_____________________
1  ـ  الطبعة العربية الرابعة ، دار الشروق ودار الفكر ، بيروت 1969.
2  ـ  ص 202 ـ 203.
3  ـ ص 55 ـ 57.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية