مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

شخصيات تقريبية    
السيد محمد تقي الحكيم
قدوة فكرية في مجال التقريب
الشيخ محمد علي التسخيري(1)

   السيد محمد تقي الحكيم عُرف في العالم الاسلامي ببحوثه المقارنة في الفقه وأصول الفقه، وتصدّى للتدريس في الدراسات الجامعية العليا في العراق، فخرّج جيلا من العلماء والاساتذة . وهذه دراسة يقدمها أحد تلاميذه العلماء عن المنهج التقريبي لهذا الرجل الكبير، أعدها لحفل شفاء السيد في لندن.المقدمة
  لقد كانت لحظات تتلمذي على آية اللّه السيد محمد تقي الحكيم من أمتع أيام حياتي العلمية حيث توسمت في سماحته الوقور، والعالم الكفء، والقدرة المطمئنة في الرد والاقناع، والمثابرة الدؤوب في التحقيق، والوعي الاجتماعي الفريد.
  وأستطيع أن أؤكد أنه كان يشكل الى جانب إخوته من العلماء كالمرحوم العالم المظفر والمرحوم الشهيد العظيم الصدر أحد أعمدة النهضة العلمية والاجتماعية للحوزة العلمية الرائدة في النجف الاشرف.
1- عالم باحث، ورئيس رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية.  ولحسن الحظ فقد وفقت للاستماع والاستفادة منه من خلال بحوثه في كلية الفقه كما وفقني اللّه تعالى للحضور في بحثه الاكاديمي (الخارج) وكان من أمتع البحوث وأعمقها.
  والذي أود التركيز عليه هنا هو جانب التعادل العلمي الذي امتاز به وأعني به: تحقيق التوازن بين الأصالة الاصولية والفقهية والعقيدية لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام)والانفتاح على آراء المذاهب الأخرى. وسأقتصر في هذا المقال على الجانب الفكري الاصولي ومن خلال كتاب السيد في "الاصول العامة للفقه المقارن" فقط .
  الكتاب المذكور في مجمله محاولة تقريبية فكرية فريدة يقل نظيرها بل يكاد ينعدم. وكم نود لو اقتفى العلماء الآخرون أثرها وتوسعوا فيها، الامر الذي لم يحدث بعد. سوف نقتبس نماذج من بحوثه لنتبين ما ذكرناه من التوازن بين الاصالة والانفتاح ونعرف آثاره التقريبية من خلال هذه النماذج.
  أولاً: في مطلع البحوث يفصح عن هدفه من هذه البحوث حينما يذكر فوائد الفقه المقارن وتتلخص في الامور التالية:
  أ- محاولة البلوغ الى واقع الفقه الاسلامي.
  ب - العمل على تطوير الدراسات الفقهية والاصولية.
  ج - إشاعة الروح الموضوعية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية.
  د - تضييق شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرّقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر، مما ترك المجال مفتوحاً أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بمالا يؤمنون به(1).
  وهكذا نلاحظ روحاً تقريبية عالية هدفها الانفتاح على مختلف الآراء، والمنطقية في العرض، والعلمية في البحث والاستدلال، والسعي لتضييق الخلاف بين
1- أصول الفقه المقارن / 14 .المسلمين. ويتجلى هذا المعنى أيضاً حين يتحدث عن أصول المقارنة، فيركز على الروح الموضوعية "ونقصد منها هنا أن يكون المقارن مهيئاً من وجهة نفسية للتحلل من تأثير رواسبه والخضوع لما تدعو اليه الحجة عند المقارنة سواء وافق ما تدعو اليه ما يملكه من مسبقات أم خالفها" ويضيف "فاذا كان بهذا المستوى من القدرة على التحكم بعواطفه... كان أهلاً لأن يخوض الحديث"(1)
  ثانياً: دراسة أسباب الخلاف. وهي الاصل الثاني من أصول المقارنة.
  فبعد أن أرجع ابن رشد في مقدمة كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(2)الخلاف الى الصغريات، أي الى الاختلاف في تنقيح الصغريات لحجية الظهور (أعني ظهور الكتاب والسنة) أو لحجية القياس، يؤكد السيد الحكيم أن الخلاف في الكبريات أكبر أثراً من الخلاف في الصغريات، ويقصد به الخلاف في أصول الفقه ليكشف عن هدفه العام في الكتاب، وهو تضييق شقة هذا الخلاف، تحقيقاً لما ذكره من قبل في التقريب بين المذاهب الفقهية.
  وإذا كان لنا أن نضيف شيئاً هنا قلنا إن هناك منشأ آخر لاختلاف نتائج البحوث الفقهية وهو الاختلاف في ترتيب الادلة وكيفية الرجوع اليها، إذ يجد الباحث في بطون الكتب الفقهية الاختلاف الكثير بين الفقهاء مع أن الواقع يقتضي الترتيب بينها، وهذه النقطة بالضبط درسها السيد الحكيم في موضوع آخر بعد الحديث عن مصطلحي "الورود والحكومة" وهما مصطلحان يختص بهما الفقه الامامي دون غيره وعلى ضوئهما يتم ترتيب الادلة على النحو التالي:
  أ- أدلة الطرق والامارات (أدلة الواقع).
  ب - أدلة الواقع التنزيلي كالاستصحاب.
  ج - أدلة الوظيفة الشرعية.
  د - أدلة الوظيفة العقلية(3).
1- ن ، م / 16 .
2- بداية المجتهد 1/ 5 - 6 1.
3- أصول الفقه المقارن / 91 - 92 .  ومتى ضمنّا وحدة الترتيب في الرجوع الى الادلة ضمنّا التقارب الكبير في النتائج.
  ثالثاً: موضوع التحريف: وشبهة التحرف في القرآن الكريم تعد من أكبر الشبهات التي تثار لا في وجه حجّية الظواهر القرآنية فحسب بل تستعمل كأداة ضخمة لطعن المذهب الامامي بدعوى اتهامه به،  وكتب الهمز واللمز هذه تزخر بتوجيه الاتهام والكلام المطول ضده.
  ومن هنا نجد السيد الحكيم (حفظه اللّه) يولى أكبر الاهتمام لهذه الشبهة ويعالجها أروع علاج، فيبحث أولاً عن منشئها في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، وما ورد في أصول الكافي من روايات مؤكداً على أن المنشأ إنما هو في كتب الفريقين معاً، ومعقباً على ما قاله الشيخ أبو زهرة من أن ماجاء في الكافي هي وثيقة تكفير المرحوم الكليني، مؤكدا أن أسلوب التكفير أسلوب مرفوض، خصوصاً إذا كان من قبل العلماء، موضحاً أن مجرد التشكيك في هذا الموضوع لا يعد تشكيكاً في ضرورة من ضروريات الدين حتى يؤدي الى الكفر، على أن مجرد رواية أحاديث النقص وعدم التعقيب عليها لا يدل على الوثوق بصدورها، بل لعل وضع الكليني لهذه الروايات في باب النوادر دليل على إنكارها بعد ماجاء في الرواية المرفوعة عنهم(عليهم السلام): "ودع الشاذ النادر".
  على أن الكليني نفسه روى الروايات العلاجية والتي تأمر بعرض الروايات على كتاب اللّه (عزوجل) "فما وافق كتاب اللّه فخذوه وماخالف كتاب اللّه فردوه"(1) وروايات النقص لا تنسجم مطلقاً مع الآية الشريفة (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(2).
  وهكذا يستمر في رد الشبهة منافحاً ومدافعاً بقوة يقول:
  "فرواية هذه الاحاديث في الشواذ النوادر من كتابه، وتعارضها في مروياته، ولزوم طرحها بالنسبة الى منهجه الذي رسمه، وعدم التلازم بين الايمان بالصدور
1- أصول الكافي، هامش مرآة العقول  1 / 6 .
2- الحجر / 9 .-  لو آمن بصدورها - وبين الايمان بمضمونها، كل ذلك مما يوجب القطع بطرحه لهذه الأخبار وإيمانه بعدم التحريف"(1).
  وبعد أن يكمل دفاعه عن المرحوم الكليني - وهو من أجلة العلماء والغيارى على الدين - يعود الى نفس الشبهة ليؤكد أنها واردة على كتاب الصحاح والمسانيد ومستدرك الحاكم وكنز العمال وأمثالها.
  وإن رفع هذه الشبهة بمسألة نسخ التلاوة لا يجدي نفعاً، بل إن بعض المرويات لاينسجم حتى مع نسخ التلاوة.
  وهنا يؤكد الحكيم أن نقل الروايات هي من طبيعة أي عمل موسوعي، وإن على المجتهدين بعد ذلك أن يفحصوا ويمحّصوا.
  ثم يركز على نفس الشبهة معتبراً إياها شبهة في مقابل البديهة وأن أخبار التحريف - مع تضارب مفاهيمها - لا تزيد على كونها أخبار آحاد، وهي لا تنهض على الوقوف أمام التواتر الموجب للقطع بأن هذا القرآن الذي بأيدينا هو القرآن الذي نزل على النبي(صلى الله عليه وآله) دون أن يزاد أو ينقص فيه. وهكذا يمضي في الاستدلال القوي القويم لينقل بعد ذلك أقوال العلماء كالشيخ الطوسي(رحمه الله) والسيد المرتضى مما يؤكد أنها شبهة لا غير.
  وهكذا نجده (حفظه اللّه) يبذل قصارى جهده وعلمه ليرفع عائقاً كبيراً أمام وحدة المسلمين وتقارب آرائهم وتحقيق التقارب بينها.
  رابعاً: سنة أهل البيت(عليهم السلام)
  وهذا الموضوع أيضاً يتصوره الكثيرون العائق الاكبر أمام تقارب المسلمين باعتبار أنه يعني إيجاد منبع آخر للشريعة في مقابل السنة النبوية وحينئذ فمن الطبيعي أن يؤدي اختلاف المنابع الى اختلاف النتائج.
  إلا أن السيد الحكيم بمقتضى طول باعه يثبت العكس ويؤكد أن الايمان بسنة أهل البيت(عليهم السلام) يعني تحكيم السنة النبوية وتجليتها في المسير، مما يقلب الاستنتاج
1- أصول الفقه المقارن / 211 .الآنف رأساً على عقب.
  فقبل كل شيء يشير الى الحوار الذي تم بين المرحوم السيد شرف الدين والمرحوم الشيخ البشري، حيث تم دفع الدور المتصور والقائل بأن كلام الأئمة لا يشكل حجة على غيرهم إلا إذا ثبتت حجيته وأنه من السنة وقد دفع هذه الشبهة بأن ثبوت كونهم من الرواة الموثوقين يرفع شبهة الدور.
  ثم راح يستدل على عصمتهم وحجية أقوالهم من الكتاب كما جاء في آية التطهير، ومن السنة كما جاء في حديث الثقلين، ويدفع كل الشبهات المطروحة بأقوى الحجج والبراهين بمالا مزيد عليه أحياناً.
  وينتهي الى أن حجية سنة أهل البيت(عليهم السلام) إنما هو في الواقع تحكيم للسنة النبوية وتطبيق لأوامرها خصوصاً وأن السنة النبوية نفسها لم تجمع على عصره(صلى الله عليه وآله)وفيها الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، ثم إن المشكلة تتعقد بعده(صلى الله عليه وآله) عند كثرة الفتوح وانتشار الوضع.
  يقول (حفظه اللّه) "وما دمنا نعلم أن السنة لم تدون على عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) وأن النبي(صلى الله عليه وآله) منزه عن التفريط برسالته، فلابد أن نفترض جعل مرجع تحدد لديه السنة بكل خصائصها، وبهذا تتضح أهمية حديث الثقلين وقيمة إرجاع الامة الى أهل البيت(عليهم السلام) فيه لأخذ الاحكام عنهم كما تتضح أسرار تأكيده على الاقتداء بهم وجعلهم "سفن النجاة" تارة و"أماناً للامة" أخرى و"باب حطة" ثالثة وهكذ(1).
  ومما ينبغي ذكره هنا لتأكيد ما ذكره السيد الحكيم هو أن الرجوع الى سنة أهل البيت(عليهم السلام) هو في الواقع رجوع الى سنة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لأنهم تلامذة الرسول والمحكمون لشرعته وحديثهم حديثه، وحينئذ يتحول هذا الفارق الموهوم الى جسر للتفاهم والرجوع الى الواقع والتقارب بين المسلمين.
  ولا أدل على ذلك من سعة المساحة المشتركة بين الفقه الامامي والفقه السني حتى تصل الى أكثر من 90 بالمائة من الفقه بمجموعه، بل إن الروايات المشتركة
1- أصول الفقه المقارن / 174 .بين الفريقين تشكل أروع صورة للتقارب بين المضامين، بحيث تصبح الروايات المختلفة قليلة الحجم وضعيفة الأثر، خصوصاً على الصعيد الفقهي، ولهذا مجال مطول من الحديث.
  خامساً: حول الاصول المختلف فيها.
  ومن موارد الاختلاف الكبرى، الاختلاف حول القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وأمثالها، وقد تعرض لها السيد بكل حكمة وموضوعية ودرسها بكل عمق، واستطاع من خلال دراسته أن يثبت حقيقتين كبيرتين:
  الاولى: أصالة الموقف الامامي.
  الثانية: أن الهوة بين الموقفين ليست بهذا البعد الذي يتصوره البعض، بل قد تضيق هذه الهوة الى الحد الذي يعود النزاع فيها لفظياً، ولو على مستوى بعض الاتجاهات.
  وهذا ما سنلاحظه فيما يلي:
  أ- القياس: وقد انتهى الى أن تعريفه هو "مساواة فرع لأصله في علة حكمه الشرعي" وقد أكد أن هذا التعريف ليس محل الاعتراض المعروف على القياس، وإنما ينصب الاعتراض على تعريف آخر تم هجره، وهو "التماس العلل الواقعية للاحكام الشرعية من طريق العقل".
  وقد أكد على أنهم أضافوا شروطاً في تعريف العلة كأن تكون وصفاً ظاهراً، ومنضبطاً ومناسباً وأن لا يكون الوصف قاصراً على الاصل، وبهذه الشروط قد تضيق شقة الخلاف.
  ومن هنا فهو لا يصدر حكمه السريع على القياس وإنما يؤكد على أن الحديث "حول حجية القياس متشعب جداً بتشعب أقوالهم وتباينها وطبيعة البحث تدعونا الى أن نقف منها موقفاً لا يخلو من صبر وأناة"(1).
  وهو يؤكد على أن المنع عن العمل إنما ينصب على قسم من أقسام القياس لا
1- أصول الفقه المقارن / 320.غير، فان المسالك لمعرفة العلة إن كانت مقطوعة أو قام على اعتبارها دليل قطعي فلا شك في الحجية، أما إذا كانت المسالك غير مقطوعة فهي التي يخالفها الشيعة ولم تثبت الادلة المطروحة عليها للنقد، وقد ناقشها لينتهي الى أن جميع ما ذكره مثبتو القياس من الادلة لا تنهض باثبات الحجية له فنبقى نحن والشك في حجيته، والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها.
  ب - الاستحسان: والبحث هنا يكاد يكون من أمتع البحوث التقريبية، إذ يثبت فيه أن الخلاف فيه يكاد ينعدم، فبعد استعراض تعاريفه يصل الى أنها ترجع الى أصول أربعة هي:
  الاول: أن الاستحسان هو العمل بأقوى الدليلين ولا خلاف فيه بين المذاهب .
  الثاني: أن الاستحسان هو العمل بما يقتضيه العرف وحينئذ يكون من صغريات مسألة العرف، وهو لا يكون حجة إلا إذا امتد الى عصر المعصوم وأقر من قبله وحينئذ يكون من تطبيقات كبرى حجية السنة.
  الثالث: الاستحسان الذي يرجع الى الاستصلاح ويأخذ حينئذ حكمه.
  الرابع: الاستحسان كحالة نفسية لبعض المجتهدين، وحجيته مقصورة على من يدّعون القطع ولا يشكل قاعدة محددة وأصلاً كسائر الاصول، وقد ناقش الادلة المذكورة لحجية هذا القسم الرابع وأبطلها جميعاً.
  ج - المصالح المرسلة: وقد اختلف في حجيتها، فذهب مالك وأحمد الى أن الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع، وغالى فيه الطوفي فاعتبره دليلاً أساسياً في السياسات الدنيوية والمعاملات، وقدمه على ما يعارضه من النصوص عند تعذر الجمع. بينما ذهب الشافعي الى أن من استصلح فقد شرّع كمن استحسن والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى1.
  وبعد استعراض الاقوال والادلة يخلص الى نتيجة مهمة هي:
  "إن تعاريف المصالح المرسلة مختلفة فبعضها ينص على استفادة المصلحة من
1- مصادر التشريع  خلاّف / 81 .النصوص والقواعد العامة... ومقتضى هذا النوع من التعاريف إلحاقها بالسنة... وأما على تعريفها الآخر فينحصر إدراكها بالعقل والذي ينبغي أن يقال عنها أنها تختلف من حيث الحجية باختلاف ذلك الادراك... وبهذا يتضح أن الشيعة لا يقولون بالمصالح المرسلة الا ما رجع منها الى العقل على سبيل الجزم"(1).
  وهكذا نجد  على هذا المستوى من البحث أن التلاقي بين الفريقين يتم في هذه المرحلة أيضاً وإن كان الاختلاف يتحقق أحياناً في تشخيص المصاديق.
  والذي أود أن أضيفه هنا هو أن العمل بالمصالح المرسلة أمرٌ طبيعي في حدوده الطبيعية، وإن الذي تم تطبيقه في الدولة الاسلامية مثال على ذلك، ذلك أن المصالح المنظورة هنا هي المصالح العامة أو المصالح التي تعود الى عموم الافراد، وهي التي ينظر اليها القائلون بالمصلحة المرسلة، ومع ذلك فان الامر يعود الى الحاكم الشرعي الولي الذي أوكلت اليه رعاية مصالح الامة، والحاكم عادة يشكل مجالس لتشخيص المصالح المذكورة.
  والفرق بين هذا وما يبحث عنه في بحث المصالح  يتلخص في أمرين:
  الأول: إيكال الامر الى الولي وأهل الخبرة العملية الذين يستشيرهم وعدم الاقتصار على النظرة الفردية لهذا الفقيه أو ذاك.
  الثاني: أن الاحكام القائمة على المصلحة تبقى مؤقتة بمقدار قيام المصلحة ولا تشكل فتوى دائمة كما هو الحال لدى الفقهاء .
  وقد نص الدستور الاسلامي في الجمهورية الاسلامية الايرانية على إيجاد مجلس لتشخيص المصلحة يقوم على حل الخلاف بين مجلس الشورى الاسلامي ومجلس صيانة الدستور، كما يقوم ابتداءً بتشخيص المصالح العامة وتقديم المشورة للقائد الولي في مجال إدارة شؤون الامة.
  د- فتح الذرائع وسدها: والذريعة هي "الوسيلة المفضية الى الاحكام الخمسة" كما ينتهي اليه الاستاذ، وهذا البحث ليس من مختصات مذهب دون آخر.
  فالفقه الامامي يبحث عن مقدمة الواجب ومقدمة الحرام. ورغم الاختلاف في النتائج فان البحث لا يعد غريباً على أي مذهب اسلامي. ولذا يقول: "والخلاصة أن جل من تعرفنا عليهم من الاصوليين - شيعة وسنة - باستثناء بعض محققيهم من المتأخرين هم من القائلين بفتح الذرائع وسدها وإن لم يتفقوا في حدود ما  يأخذون منها وما يتركون"(2) وإن كان السيد يأخذ عليهم اعتبار ذلك أصلاً في مقابل بقية الاصول مع أنها لا تعدو كونها من صغريات السنة أو العقل.
  هـ - العرف، عندما يتم تشخيص مجالات العرف وهي:
  1- ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه مثل الاستصناع، بل ما يستكشف منه أصل من أصول الفقه كالاستصحاب.
  2- ما يرجع اليه لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع للعرف تحديدها كالاسراف.
  3- ما يستكشف منه مراد المتكلمين.
  عندما يتم هذا التشخيص يتوضح أن العرف لا يشكل أصلاً من الاصول لأنه يرجع الى السنة إما بالاقرار كما في المجال الاول أو بتشخيص المصاديق كما في المجالين الآخرين. وبهذا التوضيح لا يبقى مجال للخلاف المعتد به.
  هذه بعض الامثلة سقناها مما كتبه السيد الحكيم، لنبرز الدور الرائع الذي لعبته بحوثه في مسألة التقريب بين المذاهب، وهناك أمثلة أخرى - سواء في هذا الكتاب أو في غيره - تؤكد هذه الحقيقة.
  والواقع: أن فكرة التقريب بين المذاهب - وإن كانت قد طرحت مؤخراً كشعار اجتماعي لتحقيق قدر جيد من الوحدة الاسلامية - هي في الواقع واجب شرعيّ على كل الفقهاء لتقصّي الواقع والوصول الى الحقيقة بروح موضوعية، والتخلص من كثير من سوء الفهم، والتهم التي تطلق على عواهنها لتضعيف هذا أو ذاك أو حتى لتكفير بعض المسلمين وهو أمرٌ خطير.
1- أصول الفقه المقارن / 404 .
2- ن . م / 514 . 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية