مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

دراسات تاريخية     
سيف الدولة وغزوات الصليبيين
 الاستاذة بتول مشكين فام(1)

  هذه دراسة تاريخية لها مؤشرات هامة في حياة المسلمين وعظة وعبرة في حياتهم. إنها تصوّر لنا المواقف الجهادية العظيمة لدولة الحمدانين أمام الصليبيين، وأهم من ذلك تعطينا صورة رائعة عن وحدة المسلمين آنئذ تجاه الغزو الاجنبي. فقد وقف أهل السنة الى جانب هذه الدولة الشيعية، ووقف الخراسانيون العجم إلى جانب سيف الدولة العربي ليدافعوا معا عن حياض الاسلام. وهي دروس رائعة نحن اليوم أحوج ما نكون اليها في مواجهة التحديات.العباسيون والبيزنطيون
  لقد حلَّ بالخلافة الاسلامية خلال العصر العباسي ضعف شديد، وانحلال، ومصائب، فانتهز البيزنطيون هذه الفرصة للاغارة على بلاد الدولة العباسية. ففي سنة 238هـ أغار البيزنطيون على سواحل مصر، واستولوا على دمياط(2) وتنيس(3)
1- مدرّسة جامعيّة في طهران.
2- دمياط: ثغر من ثغور الاسلام وهي مدينة قديمة بين تنيس ومصر على زاوية بين بحر الروم الملح والنيل. الحمدي ، ياقوت، معجم البلدان 2/472 .
3- تِنّيس = بكسرتين وتشديد النون، وياء ساكنة والسين مهملة:  جزيرة في بحر مصر قريبة من البرّ بين الفَرَما ودمياط، والفرما في شرقيّها. (المصدر السابق 2/51).
وعاثوا فيهما. وفي سنة 241هـ أغاروا في عهد المتوكل على مدينة عين زربة(1)القريبة من المصيصة(2)، وأسروا آلافاً من المسلمين، وأرغموهم على اعتناق المسيحية(3). وكذلك أغار البيزنطيون على الاراضي الواقعة شمالي العراق حتى بلغوا آمِد(4)، وأسروا نحو عشرة آلاف من المسلمين، فثار المتوكل لينتقم من البيزنطيين، فاستولى على بعض بلادهم جنوبي آسيا الصغرى سنة 244ه(5).
  وفي عهد المستعين غزا المسلمون بلاد الروم واستولوا على بعض الحصون البيزنطية، وفي هذه المعركة استشهد اثنان(6) من أكبر قُوّاد المسلمين، فأثار نبأ استشهادهما حماسة العامة ببغداد. واستطاعت الروح الدينية أن تجتذب جموعاً كثيفة من الامصار القريبة للجهاد (7).
  ولمّا تولَّى المعتمد (256 - 279هـ) الخلافة تقلّصت الدولة العباسية الى حدود
1- عين زربة أو عين زَرْبَى:  بلد بالثغر من نواحي المصيصة (معجم البلدان 4/177).
2- المصيصة : مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين انطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس. (معجم البلدان 5/145).
3- الطبري، ابو جعفر محمد بن جرير : تاريخ الامم والملوك 5/317 ط بيروت، 1988م / 1408هـ.
4- آمِد : أعظم مدن ديار بكر وأجلُّها قدراً، وأشهرها ذكراً. بلد قديم حصين ركين ، مبنيّ بالحجارة السُود مطلّة على دجلة. (معجم البلدان 1/56).
5- الطبري 5/321 .
6- هما عمر بن عبيد اللّه الاقطع، وعلي بن يحيى الارمني اللذان يقول فيهما الطبري (5/357): "كانا نابين من أنياب المسلمين، شديداً بأسهما، عظيماً غناؤهما عنهم في الثغور التي هما بهما". ويقول صاحب مروج الذهب (2 / 45) "انهما كانا من أهل البأس والنجدة والمكايدة في النصرانية، حتّى أن الروم صوّروا في كنائسهم عشرة من كبار قواد المسلمين، من بينهم عمر بن عبيد اللّه، وعلي بن يحيى الارمني".
7- حسن، ابراهيم حسن،  تاريخ الاسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي 3/233، ط مصر 1955م.الجزيرة والعراق، وتجدّد النزاع بين المسلمين والروم، وكانت كفّة الحرب لصالح البيزنطيين(1).
  أمّا موقف البيزنطيين من أحمد بن طولون والاخشيديين فكان موقفاً ليّناً الى حدٍّ ما، فانهم هادنوا أحمد بن طولون سنة 265هـ ، وأهدوا اليه عدة مصاحف مع عدد من أسرى المسلمين(2). وحاول الامبراطور رومانوس أن يتودد الى الاخشيد ويمدحه ويكاتبه دون الخليفة على غير ما جرت به العادة ذلك الوقت(3).
  وقد أتاح اشتغال العباسيين بالثورات الداخلية الفرصة للبيزنطيين للايغال في البلاد الاسلامية، فحاصروا قلمية(4) القريبة من طرسوس سنة 270ه(5) وأغاروا سنة 292هـ على مرعش ونواحيه(6)، وقصدوا سنة 303هـ حصن منصور وسبوا من كان فيه، كما أوقعوا بجند المسلمين في طرسوس وعاثوا فساداً بمرعش(7).
  ورغم صمود المسلمين أمام هجمات البيزنطيين، كان النصر في أغلب الاحيان من نصيب العدو. وقد وقف البيزنطيون على مبلغ الضعف الذي حلَّ بالدولة العباسية، ولذلك نراهم يفرضون أداء الخراج على المسلمين المرابطين بالثغور ويؤكد الامبراطور البيزنطي على ضعف المسلمين عند فرضه هذا الخراج بقوله(8):
  "إن فعلتم ذلك طائعين، والا قصدتكم، فقد صحَّ عندي ضعفكم".
  ويرى الباحثون أن انتصار الروم على المسلمين في القرن الرابع، لم يكن نتيجة ضعف العباسيين فحسب، بل إنه نتيجة تحوّل عند الروم، فانهم أعادوا النظر في أنظمتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واهتموا بالجيش وأعادوا تنظيمه وتكميله.
1- المصدر السابق 3/333.
2- الطبري 5/520 .
3- الاندلسي، ابن سعيد، المغرب في حُلى المغرب  1/167 ط مصر 1953 .
4- قَلَمْيَة ; كورة واسعة برأسها من بلاد الروم قرب طرسوس.  (معجم البلدان 4/392).
5- ابن الاثير، عز الدين ابي الحسن علي بن ابي الكرم: الكامل في التاريخ ، 7/406 ط بيروت 1386هـ / 1996م.
6- المصدر السابق 7/537 .
7- المصدر السابق 8/95، 8/96 .
8- تجارب الامم / 146.الصليبيون والحمدانيون
  عصر سيف الدولة  كان متزامنا مع حكم الاسرة المقدونية (868 - 1057م) التي بلغت الامبراطورية البيزنطية ذروة العزة والقوة في عهدها. وقد توالت على عرش هذه الاسرة سلسلة من الحكام البارزين مثل نقفور فوقاس، ويوحناتسيمكس، وباسيل الثاني وكانت لهؤلاء نفوس متحفّزة، قوية الشكيمة، وكان يغلب عليهم جميعاً الميل للاستبداد والعنف، ويتصرفون في كثير من الاحيان دون رحمة أو اعتبار للحرمة، وكانوا الى ذلك قادة حرب ماهرين، مبرزين(1).
  أمّا عن الجيش الرومي فقد كان يربو عدده في الموقعة الواحدة على مائتي ألف محارب أحياناً، وهم بعد ذلك من أجناس مختلفة بين روس وبلغار وروم وصقلب وأرمن وخزر، فجيش البيزنطيين على حدّ قول المتنبي(2):
تَجَمَّعَ فيه كُلُّ لسن وأمَّة *** فما يُفْهِمُ الحدَّاثَ إلا التَرَاجِمُ
  واذا درسنا غزوات  الصليبيين لبلاد المسلمين في  منتصف القرن الرابع نلاحظ تجهيز قواتهم العجيبة، حيث كانت عدة قواتهم تناهز مائتي ألف رجل، منهم ثلاثون ألف رجل بالجواشن، وثلاثون ألفاً للهدم وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد(3).
  كان نقفور قبل توليه القيادة والملك قائداً عاماً للقوات البيزنطية البرية والبحرية في الجبهة الغربية، وقد نجح فيما اخفق فيه كثير من القواد السابقين حينما استطاع استعادة جزيرة كريت من يد المسلمين سنة 350هـ / 961م(4). ونقفور هذا حارب سيف الدولة عشرين سنة.
  أمّا برداس أخو نقفور فقد التقى بسيف الدولة في عدة معارك، وعلى رغم كثافة جيوشه، لم يحرز نصراً واحداً، بل كان يفقد في كل معركة جانبا كبيراً من جيشه
1- الشكعة، مصطفى،  سيف الدولة الحمداني/  112.
2-  شرح ديوان المتنبي للبرقوقي، 3/100، بيروت 1407 هـ / 1986م.
3- الكامل في التاريخ 8/541 .
4- العرب والروم لغازيليف / 58 ; الشكعة / 111 .وعدداً خطيراً من بطارقته - أي قواده - ثم اكتمل سوء حظه حينما التقى بسيف الدولة قرب مرعش سنة 342هـ / 953م - وفي هذه المعركة جرح برداس في وجهه، ووقع ابنه قسطنطين أسيراً في يد سيف الدولة فضلاً عن أسرى آخرين من قواده.
  وكانت هذه المعركة من أكبر ما مرّ على البيزنطيين من نكبات، فبعدها حزن برداس حزناً شديداً على أسر ولده، ودخل الدير مترهباً. وفي ذلك يقول المتنبي(1):
فَلَو كان يُنجي مِنْ عليٍّ ترهّـبٌ *** تَرَهَّبَتِ الأملاكُ مَثنَى ومَوْحد
  ويقول أبو العباس أحمد بن محمّد النامي، شاعر سيف الدولة الحمداني(2):
لكنَّهُ طلبَ الترهَّبَ خيفةً *** ممنْ لَهُ تتقاصرُ الاعمارُ
فمكان قائمِ سَيْفهِ عكازه *** ومكان ما يتمنطقُ الزّنارُ
 
نوايا الصليبيين وأهدافهم
  إذا درسنا غزوات الروم لبلاد المسلمين في فترة حكم الحمدانيين، وأمعنا النظر فيها، نرى أن الحروب الصليبية يبدأ عهدها من هذه الفترة، لا من فترة صلاح الدين الايوبي في منتصف القرن الخامس للهجرة، وكانت غاية الروم في تلك الفترتين واحدة، والهدف واحد، ولكن أسماء المهاجمين تبدلت ، وألبستهم تغيّرت، وأسلحتهم تطوّرت، فان قواد الروم المتعصبين، منهم نقفور فوقاس كان يسعى الى احتلال بيت المقدس، وهي الفكرة نفسها التي  قامت عليها الحروب الصليبية بعد ذلك بقرن ونصف من الزمان(3). فها هو نسمعه سنة 354هـ ، وهو على منابر طرسوس يقول لمن
1- شرح ديوان المتنبي 2/7 .
2- كانار، ماريوس،  نخب تاريخية وأدبية جامعة لاخبار الامير سيف الدولة الحمداني/ 377.
3- وقد بقيت هذه الفكرة وراء كل حرب يشنّها الغرب ضد الاسلام والمسلمين. على الصعيد العسكري رأينا قائدهم في عصرنا الحديث يحتل أرض فلسطين ويقول: الآن انتهت الحروب الصليبية. ولم تنته بعد مادامت في المسلمين روح تستهدف استعادة عزتهم وهذه الحرب تتواصل اليوم على شكل هجوم ثقافي ، ففي شهر حزيران الماضي بدأت قناة تلفزيون الشرق الاوسط بالبث من القدس، بتقنيات حديثة تغطي منطقة واسعة من البلاد العربية وغرب إيران. وتستهدف القناة بث أفكار "شهود يهوه" وهي حركة نصرانية حديثة تنتظر عودة السيد المسيح الى اسرائيل. وتدور برامجها حول محور تشويه صورة المسلمين والدعوة الى النصرانية.
  وهكذا يلتقي على أرض القدس كل أعداء الاسلام من اليهود والنصارى ليشكلوا جبهة عسكرية وإعلامية وثقافية لمحاربة المسلمين. فأين المسلمون؟ وأين لجان القدس من هذه الحرب الشرسة؟! (التحرير)حوله: أين أنا؟ فقالوا: على منبر طرسوس، فقال:  لا ولكنّي على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم من ذلك(1).
  وقد أخذ هذا القائد يمهّد لفكرته الصليبية في القسطنطينية نفسها حين كان يظهر في أعياد الفصح مرتدياً ملابس غريبة مذهبة، منتعلاً نعلا مذهباً تشبّهاً بالسيد المسيح. وكان إذا خرج لحرب الحمدانيين حشّد في مقدمة جيشه البطاركة والقساوسة، وحمل الجنود الصلبان الكبيرة ليعطي الحرب صبغة دينية مقدسة(2)وكان الهدف الوحيد هو الانتصار على المسلمين، والاستيلاء على بيت المقدس!
  ولم يألُ العدو جهداً في تخريب مساجد المسلمين، وتدنيس مكانتها، وإيطائها بحوافر خيولهم، كما نلاحظ ذلك في حوادث سنة 339هـ بمدينة سروج، وحوادث سنة 341هـ وسنة 351هـ  وحاولوا إرغام المسلمين على التنصر واعتناق المسيحية، ففي حادثة سقوط طرسوس سنة 352هـ طلبوا من كل الذين يرغبون الاقامة في طرسوس اعتناق النصرانية، والا فعليهم دفع الجزيه .موقف المسلمين  من غزوات الصليبيين
  تنبه المسلمون للخطر الصليبي المحدق بالثغور الاسلامية، فتجهزت في خدمة
1- ابن العديم، كمال الدين، زبدة الحلب من تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان 1/143 ط دمشق 1370هـ / 1951م.
2- سيف الدولة الحمداني لمصطفى الشكعه / 140 . 
سيف الدولة من أهله جماعة كثيرة(1). وبدأت النجدات والامدادات من مال ورجال ومعدات تتواكب على حلب من الامصار الاسلامية وبخاصة من خراسان(2)، فلقد سمعوا بما أوقعه القائد البيزنطي الصليبي بـإخوانهم في طرسوس والمصيصة وما أعمل فيهم من قتل وتعذيب ، وإرغامهم على اعتناق النصرانية، وتخريب المساجد، وحرق منابرها، وامتهانها بجعلها حظائر للخيل. كل ذلك نبه المسلمين على الخطر الجديد، فتوافدت الآلاف من الجنود المسلمين  مجهزين بسلاحهم، بين فرسان ورجالة ، وانضموا الى جيوش سيف الدولة العربية، وبدأوا يندفعون الى الثغور الاسلامية لتحريرها، والانطلاق خلف الجيوش الصليبية للثأر منها.
  واذا رجعنا الى المصادر التاريخية نلاحظ أن الجيوش الخراسانية وصلت الى البلاد الشامية في وجبات عديدة وفي أحرج الظروف. فقد وصلت جموع منهم في سنة 352هـ  يريدون جهاد الصليبيين(3). فالتقوا بسيف الدولة وكان مريضاً فطلب منهم الرجوع لشدة الغلاء والوباء في المصيصة وطرسوس فرجعو(4).
  وفي سنة 353هـ وصلت الى حلب جموع من القوات الخراسانية في نحو خمسة آلاف ، وصاروا في ركب سيف الدولة فمضوا الى المصيصة للجهاد، ولكن وجدوا
1- يقال  "إن أخت سيف الدولة صعدت يوماً الى برج  فاطلعت على الميدان ورأت بالميدان من أهلها ما يقارب عشرين ألف فارس. فقالت: لا اله الا الله يوشك أن تقدم الساعة على آل حمدان". ابن شداد، عز الدين :   الذخيرة في ذكر امراء الشام والجزيرة  القسم الاول من الجزء الثالث ص 310، ط دمشق 1978.
2- نعم من خراسان.. أقصى شرق العالم الاسلامي.. هذا هو مظهر الحياة في الامة: إذا اشتكى منه عضو... فإين نحن اليوم من هذه الحالة التي كانت سائدة في القرن الرابع الهجري؟! أيحدث مثل هذا "التداعي" في عالمنا الاسلامي اليوم بعد عشرة قرون مضت على تلك الحياة الاسلامية؟! (التحرير).
3- زبدة الحلب 1/142; ابن تغري بردى، جمال الدين ابو المحاسن :  النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 3/335 ط مصر.
4- زبدة الحلب 1/142 .جيش الروم قد انصرف عنها، وتفرقت جموع الخراسانيين لشدة الغلاء في الثغور بحلب ورجع أكثرهم الى بغداد وعادوا الى خراسان(1).
  وفي سنة 355 - 356هـ قدمت الجيوش الخراسانية للمرة الثالثة، فتلقاهم أبو المعالي ابن سيف الدولة، وبالغ في إكرامهم بالاطعمة والعلوفات، ورئيسهم أبو بكر محمد بن عيسى. وفي هذه المرة غزت القوات الخراسانية مع لؤلؤ الجراحي من انطاكية الى ناحية المصيصة، فالتقاهم ثلاثة آلاف فارس من الصليبيين، فنصر الله هذه القوات وقتلوا ألفاً من الجيوش الصليبية، وأسروا جماعة منهم وعادوا بالغنائم الى أنطاكية(2) .
  وأخيراً يروى أن سيف الدولة بلغه أن بعض أسرى المسلمين عند الروم قالوا: "إنْ ثقل على الامير دفع فدية الاسرى كاتبوا بهذا الامر صاحب خراسان". ويروى أن سيف الدولة اتَّهم ابن عمه أبا فراس الحمداني بهذا القول، وقال: ومن أين يعرفه صاحب خراسان؟ فانشد أبو فراس قصيدة يعاتب فيها سيف الدولة، ويشير الى خراسان التي كانت آنذاك في عون  الامير الحمداني وصارت مطمح الاسرى ورجاءهم لامر الفداء أيضاً، ويقول(3):
فإنّ خراسانَ وإن أنكرتْ *** عُلاي، فقد عرفتها حلب
ومن أين ينكرني الأبعدون *** أمن نقص جدّ أم من نقص أبْ
  هذه الرواية أيضاً تبين موقف الايرانيين من أمر الحروب الصليبية التي دارت رحاها بين سيف الدولة والبيزنطيين وتؤكد على رجاء الأسرى المسلمين لنيل مساعدات الخراسانيين الذين هبّوا في العصر الحمداني لنجدة إخوانهم العرب من منطلق إسلامي بحت ، وبغض النظر عن الحواجز الجغرافية والقومية والمذهبية.
1- مسكويه، ابو علي احمد بن محمد،  تجارب الامم 6/20، ط مصر 1332هـ / 1914م.
2- المصدر السابق 6/228، النجوم الزاهرة 4/12 .
3- ديوان أبي فراس الحمداني، تحقيق التونجي / 24 ، ط سورية 1408 / 1987.غزوات سيف الدولة لبلاد الصليبيين
  ندب سيف الدولة نفسه لمهمة عظمى طالما هيّأ نفسه لها منذ شبابه، وهي النهوض بعبء الحرب ضد الروم البيزنطيين. غزا خلال فترة حياته الجهادية الصليبيين أربعين مرة.
  يرى صاحب النجوم الزاهرة(1) أن أوّل مغازي سيف الدولة كانت سنة 324هـ، سار فيها الى آمِد ليقابل جيوش الدمستق المتحركة نحو هذه المدينة وسميساط(2)فحاربه، ووقع له معه أمور حتى ملك الدمستق سميساط وأمّن أهلها.
  وفي سنة 326هـ سجّل سيف الدولة انتصاره الاوّل أمام حصن زياد، فدخله عنوة. ثم خرج منه يقاتل جيشاً كبيراً أنفذه الروم يضم مائتي ألف جندي. وأدركه الروم بين حصني زياد وسلام ، واقتتل الطرفان، فدارت الدائرة على الروم وأسر منهم سبعين بطريقاً بعد أن ولَّى الجيش منهزماً (3).
  وفي سنة 328هـ . خرج سيف الدولة من نصيبين(4) غازياً، فنزل منازكرد يريد مدينة قاليقلا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينة هفجيج، فلما علم الروم بمسيره، أخربوا هذه المدينة وهربوا، فرجع سيف الدولة الى مدينة أرزن حتى ينحسر الثلج، ويتمكن الغزو في الربيع، فخرج الى خلاط ودخل بلاد الروم، فجاءه ملك أرمينية وخزران، وهو ملك عظيم ، يقال أنه لم يطأ بساط ملك قط، فاحسن اليه وخلع عليه، واستحلفه على الطاعة، فأعلن بقية عمّال هذا الملك أيضا الطاعة والانقياد لسيف الدولة، ثم سار الى ابن طُرْنيق وأناخ على مدينة موش فخربها، وهدم حصونا
1- النجوم الزاهرة 3/258 .
2- سُمَيْساط : مدينة على شاطئ الفرات في طرف بلاد الروم على غربي الفرات، ولها قلعة في شقّ منها يسكنها الأرمن. (معجم البلدان 3/258).
3- الروم في سياستهم وحضارتهم /  31 .
4- نصيبين : مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل الى الشام وبينها وبين سنجار تسعة فراسخ، وبينها وبين الموصل ستة أيام (معجم البلدان 5/288). 
كثيرة، وفتح قلاعاً منيعة ببلاد الروم، ووطئ منها مواطئ لم يطأها أحدٌ من المسلمين قبله.
  وبعد هذه الغزوة وصله كتاب ملك الروم، فأرسل اليه جوابا حادّا، وأنفذه اليه. فقال الملك لرسول سيف الدولة: "يكاتبني هذه المكاتبة كأنّه قد نزل على قلونيه"(1)استعظاماً لذلك. فلما وصل ما قاله ملك الروم الى مسامع سيف الدولة عزم على فتح هذه المدينة (قلونيه)، وقال رادّاً على بعض أصحابه الذين استعظموا فتح هذه المدينة: "لست أقلع عن قصد هذه المدينة ، فامّا الظفر وإمّا الشهادة. فسار حتّى نزل عليها، وأحرق رساتيقها، وسلب  ضياعها، وكتب الى الدمستق، ومنه الى الملك كتابا من قلونيه، فاستعظم الروم هذا الفعل، وخافوه خوفاً عظيماً، لانه بلد ماوطئه أحدٌ من المسلمين(2).غزوات سيف الدولة بين فترتي 329 - 356هـ
  في سنة 330 هـ دخل الروم حلب، ونهبوا، وخرّبوا البلاد وسبوا نحو خمسة آلاف إنسان(3).
  وفي سنة 331هـ غزا الروم ديار بكر، ودارا، وأرزن، ونصيبين، وسبوا من أهالي هذه المدن جماعة كثيرة(4).
  ومن هذه السنة نفسها، التمس الروم من أهل الرّها أن يدفعوا اليهم المنديل الذي يزعمون أنه يحمل صورة وجه المسيح إزاء فداء أسرى المسلمين(5).
  وفي سنة 333هـ  انتهز الصليبيون فرصة اشتغال سيف الدولة بحرب الاخشيديين بحلب، وشنوا هجوماً على بغراس ومرعش(6)، فسارع سيف الدولة
1- قلونيه: بلد بالروم، بينه وبين قسطنطينية ستون بريداً (المصدر السابق 4/393).
2- نخب تاريخية / 74، نقلاً عن ابن ظافر.
3- الكامل في التاريخ 8/392 .
4- نخب تاريخية / 79 و 81 .
5- الكامل في التاريخ 8/405 .
6- مرعش: مدينة في الثغور بين الشام وبلاد الروم لها سوران وخندق وفي وسطها حصن عليه سور يعرف بالمرواني ، وبها ربض يعرف بالهارونية. (معجم البلدان 5/107).
  وبغراس:  مدينة في سفح جبل ، بينها وبين أنطاكية أربعة فراسخ،  (المصدر السابق 1/467).والتقى بالصليبيين في جيش كبير، وأوقع بهم هزيمة نكراء، وغنم غنائم كثيرة، واستنقذ الاسرى من أيدي الروم، ثم بلغه أن مدينةً للروم تهدّم بعض سورها، فاغتنم سيف الدولة الفرصة، وبادر فأناخ عليها، وقتل وسبى، ولكن أصيب بعض جيشه(1).
  وفي سنة 335هـ تمّ الفداء بين المسلمين والروم على يد نصر الثملّي أمير الثغور لسيف الدولة، وكان عدد الاسرى 2480 أسيراً من ذكر وأنثى، وفضل للروم على المسلمين 230 أسيراً لكثرة من معهم من الاسرى، فوفاهم ذلك سيف الدولة من ماله(2).
  وفي سنة 336هـ استولى الروم على حصن برزويه، وهو أحد الحصون الحربية الهامة، فانطلق سيف الدولة الى هذا الحصن، وأطال حصاره، فانتهز لاوون بن برداس الفرصة وحاصر قلعة الحدث(3). ونجح كل من القائدين في مهمته. استردّ سيف الدولة حصن برزويه سنة 237هـ .
  التقى سيف الدولة بالروم سنة 337هـ ، ولكنه انهزم، فأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس(4).
  وفي سنة 339هـ فتح سيف الدولة سمندو وخرشنة(5)، بعد أن وافاه عسكر طرسوس في أربعة آلاف رجل بقيادة ابي حصين قاضي سيف الدولة، وأخذت
1- النجوم الزاهرة 3/283 .
2- الكامل في التاريخ 8/468 .
3- الحدث: قلعة حصينة بين ملطية وسُمَيساط ومرعش من الثغور، (معجم البلدان 2/227).
4- الطباخ، محمد راغب،  اعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء 1/257، ط حلب 1342/1923م.
5- سمندو : بلد  وسط بلاد الروم . (معجم البلدان 3/253). وخرشنة : بلد قرب ملطية من بلاد الروم، سمي خرشنة باسم عامره، وهو خرشنة بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح(ع). (معجم البلدان 2/359).الجيوش الحمدانية زحفها نحو صارخة، وهي منطقة قريبة من العاصمة القسطنطينية، فانهزم الجيش البيزنطي،  وعند الرجوع أخذ الروم الدرب على الجيوش المسلمة، فاستشهد عدد كبير من المسلمين، وأسروا الامراء والقضاة من الحمدانيين، ونجا سيف الدولة في عدد قليل، ووصل من سلم في أسوأ حال(1). فعرفت هذه الحرب بـ "غزوة المصيبة"(2). وبعد هذا الانكسار ، أرسل الدمستق الى سيف الدولة يطلب الهدنة فلم يجب سيف الدولة(3)، فجمع جيوش الموصل والجزيرة والشام والاعراب ودخل بلاد الروم، فقتل وسبى كثيراً، وعاد الى حلب سالماً (4).
  وفي سنة 341هـ أخذت الروم مدينة سروج(5)، فاستباحوه(6)، وسبوا وغنموا وخربوا مساجدها، وانصرفوا فتبعهم سيف الدولة وظفر بهم(7).
  وفي هذه السنة بنى سيف الدولة مرعش بعد أن خربها الروم سنة 337هـ، فجاء الدمستق ليمنع من بنائها، فقصده سيف الدولة، فوّلى هارباً، فتمّم سيف الدولة عمارته(8).
  وفي سنة 342هـ غزا سيف الدولة ملطية وشاطئ الفرات. وظل الجيش الاسلامي يضرب في الروم باسطاً سلطانه على سمنين وحصن الران وغيرها من المواقع، فانتهز العدو هذه الفرصة، وأغار على بعض الاطراف الاسلامية، فبلغ سيف الدولة هذا الخبر، فاسرع الى دلوك(9) وعبرها، فهزم العدو على نهرجيحان(10). وكانت معركة
1- تجارب الامم 6/125.
2- الروم في سياستهم /  32 .
3- تجارب الامم 6/125 .
4- النجوم الزاهرة 3/305.
5- سروج : بلدة قريبة من حرّان من ديار مضر (معجم البلدان 3/216).
6- الحنبلي، ابن العماد:  شذرات الذهب في أخبار من ذهب 2/358 ط بيروت.
7- الحلبي الغزي، كامل بن حسين: نهر الذهب في تاريخ حلب 3/48 ط حلب 1345هـ / 1926م.
8- زبدة الحلب 1/122 .
9- دُلُوك: بلدية من نواحي حلب بالعواصم. (معجم البلدان 2/461).
10- نهر جيحان نهر يخرج من بلدا لروم حتّى ينتهي الى المصيصة ثم الى رستاق يُعرف بالملوان، (النصيبي، ابو القاسم ابن حوقل : صورة الارض/ 168 ط بيروت، لا . ت).رهيبة جرح فيها القائد البيزنطي الخطير برداس فوكاس، وأسر فيها ابنه قسطنطين الذي ظل مكرّماً عند سيف الدولة حتى مات(1). وكانت هذه الهزيمة شديدة الوقع على القائد الصليبي فلم يتحمل إهانتها، ولذلك دخل الدير مترهباً (2)، كما أشرنا الى ذلك آنفا.
  سار سيف الدولة سنة 343هـ نحو ثغر الحدث لبنائها بعد أن أخضعها الروم ولمدة ست سنوات متوالية ، وأسرع سيف الدولة في وضع أساس الحصن. ولما علم برداس فوكاس بذلك حشّد خمسين الفاً من الروم والأرمن والصقلب والبلغار والخزر، والتحم الجيشان، وكان النصر في هذه المعركة حليف المسلمين، وقتل خلالها نحو ثلاثة آلاف من الصليبيين، فضلاً عن عدد ضخم من الاسرى من بطارقة وجنود، وفي مقدمتهم تودس الاعور ، وصهر فوقاس ، كما أُسر حفيد الدمستق.
  وكانت هذه المعركة مريرة بالنسبة للطرفين، ولكنها كانت مشرفة للمسلمين، مهينة للصليبيين، لان هزيمتهم مع ضخامة جيشهم كانت هزيمة نكراء.
  وبعد 11 شهراً من تاريخ هزيمة البيزنطيين عاود الجيش الصليبي الكرة لاسترداد الحدث، ولكن سيف الدولة صدّ هجماتهم، وأحرز نصراً مؤزراً على الجيش الصليبي(3).
  وفي محرم سنة 344 هـ ورد على سيف الدولة فرسان طرسوس وأذنة والمصيصة ومعهم رسول ملك الروم في طلب الهدنة والفداء(4).
  وفي جمادى الاولى من هذه السنة نهض سيف الدولة الى الثغر لما ورد عليه من أن الدمستق وجيوش النصرانية قد نزلوا على حصن الحدث، ونصبوا عليه مكايد، فسار سيف الدولة من حلب، فلما قرب من الحدث رحل العدو الى حصن رَعبان(5).
  وفي سنة 345هـ واصل جيش المسلمين زحفه مزوداً بالسفن والاطواف التي
1- نهر الذهب 3/49 .
2- زبدة الحلب 1/133 .
3- نخب تاريخية / 106 وما بعدها.
4- نهر الذهب 3/52.
5- نهر الذهب 3/54 .عبرت عليها الجيوش نهر أرسناس ، فسقطت في أيديهم مدينة تل بطريق.  وأسر في هذه المعركة القائد أبو العشائر الحمداني وحمل الى القسطنطينية حيث مات به(1). ورغم ذلك واصل سيف الدولة الغزو وفتح عدة حصون، وبلغ خرشنة وصارخة. وانتهز الصليبيون فرصة وجود سيف الدولة في بلادهم، فأرسلوا جيشاً عن طريق الاطراف الى ميّافارقين، أنزل الرعب في قلوب الناس، وخرب ونهب وأحرق وسبى(2).
  وفي هذه السنة غلب الصليبيون على طرسوس، فقتلوا من أهلها ألفاً وثلاثمائة رجل وسبوا وحرّقوا قراه(3).
  وفي سنة 348هـ مات قسطنطين بن لاون ملك الروم، وصيّر نقفور فوقاس دمستقاً (قائدا) على حرب المغرب، وأخاه ليون دمستقاً على حرب المشرق، فتجهز ليون الى نواحي طرسوس ، وسبى، وقتل، وفتح حصن الهارونية القريبة من مرعش، وسار الى ديار بكر(4).
  وفي هذه السنة أيضاً ظفر الروم بسرية من المسلمين، وأسروا أميرها محمّد بن ناصر الدولة، ثم أغاروا على الرُّها وحران(5)، فقتلوا وسبو(6).
  وفي سنة 349هـ جهّز سيف الدولة ثلاثين ألفاً، فسار بهم نحو خرشنة القريبة من ثغور الروم بعد أن فتح عدة حصون بيزنطية، وقد مكّنه البيزنطيون أن يتوغل في بلادهم، ومازالوا حتى طوّقوه في ممر جبلي يُدعى مغارة الكحل. ورغم كل ما بذله رجال سيف الدولة من الحنكة والبطولة ومقاومة العدو، فان النصر لم يحالفهم هذه المرة، فخسر الامير وأضاع جيشه كله، ونجا هو وثلاثمائة من خُلّص رجاله بكثير من الجهد والمشقة(7).
1- نخب تاريخية / 115 وما بعدها.
2- الكامل في التاريخ 8/517.
3- شذرات الذهب 2/369 .
4- زبدة الحلب 1/129.
5- حرّان : مدينة عظيمة مشهورة بنيها وبين الرّها يوم، وبين الرّقة يومان، (معجم البلدان2/325).
6- شذرات الذهب 2/376.
7- تجارب الامم 6/180; الروم في سياستهم / 35 .  ومن الذين قتلوا في هذه المعركة القاضي أبو الحصين(1)، ومن الذين أسروا أبو فراس الحمداني(2).
  وفي سنة 350هـ سار قفل عظيم من انطاكية الى طرسوس، ومعهم صاحب انطاكية، فخرج عليهم كمين للروم، فأخذ من كان فيها من المسلمين، وقتل كثيراً منهم، وأفلت صاحب انطاكية وبه جراحات(3).
  وفي شهر رمضان من هذه السنة دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم من ناحية ميافارقين غازياً، وسبى ألفاً وغنم أموال(4).
  وفي هذه السنة نقل الملك رومانوس الى حرب المشرق نقفور فوقاس  فسار اليه رشيق النسيمي أمير طرسوس في حميّة من المسلمين، فبرز نقفور فقاتله، وانهزم رشيق، وقُتل من المسلمين زهاء تسعة آلاف رجل(5).
  وفي سنة 350 - 351هـ ورد الصليبيون عين زربة في مائة وستين الفاً، فملكوا الجبل المطل على هذه المدينة، ، واستباحوا الناس العزل فيها، وهدموا منازلهم ، وأخذوا مافيها من المتاع والاموال، وأحرقوا المسجد الجامع.
  وفي هذا الاحتلال الشنيع تعرّض بعض الأرمن لنساء المسلمين، فثارت غيرة الرجال وجرّدوا السيوف، فاغتاظ الدمستق منهم، وأمر بقتل الجميع، وكانوا أربعمائة رجل، وقتل النساء والصبيان، ولم يترك الا جارية حدثة، ومن يصلح أن يسترق(6).
  خرج الدمستق من هذه المدينة ليعود اليها بعد عيد الفطر، وركن الى الهدنة في قيسارية(7). وبعدها اتجه نحو حلب ومعه جيش مؤلف من مائتي ألف محارب، فخرج
1- تجارب الامم 6/180 .
2- سيف الدولة الحمداني للكيالي / 94 .
3- الكامل في التاريخ 8/536.
4- النجوم الزاهرة 3/327 .
5- زبدة الحلب 1/132 .
6- نخب تاريخية /139.
7- قيسارية: بلد على ساحل بحر الشام، تُعَدّ من اعمال فلسطين، بينها وبين طبرية ثلاثة أيام. (معجم البلدان 4/421).اليهم سيف الدولة ليقابل هذا الجيش بأربعة آلاف من رجاله، ولمّا كان منهمكاً بالقتال شن نقفور هجوماً على حلب، ليستولي عليها وقد أمكن له ذلك; لأنّ بعض اللصوص انتهزوا الفرصة واعتدوا على الناس، ونهبوا أموالهم، فهال الأمر على أهالي المدينة، فانصرفوا لحماية بيوتهم، وصيانة حرماتهم، فلمّا رأى الروم السور خالياً من الناس قصدوه وصعدوه وفتحوا الابواب ودخلوا حلب. واستباحوا - كعادتهم  المألوفة - الناس فيها، وأعملوا السبي والحريق لمدة ستة أيام، ولم يرفعوا السيف حتى تعبوا وسبوا من الصغار بضعة عشر ألف صبي وصبية، وأفسدوا تموين المدينة، وأحرقوا مسجدها، وخرّبوا قصر الحلبة، أجمل قصور حلب، ونهبوا كل ماكان فيه من سلاح وعتاد وحلي وحرير وديباج وأوان ذهبية (1).
  لم يبق نقفور في حلب، بل تركها لاسباب مختلفة يذكرها المؤرخون. ولما رحل الروم عن حلب، عاد سيف الدولة اليها، وعمّر ما خرب منه(2).
  أثارت أحداث حلب المؤلمة ضجة في العالم الاسلامي، فاجتمع المسلمون في بقاع شتّى في المساجد.
  ففي الموصل أغلق أهلها الاسواق، واجتمعوا في المسجد الجامع ومضوا الى ناصر الدولة، فضمن لهم الغزو(3). ووردت الكتب من بغداد أن الرعية أغلقت الابواب وذهبوا الى باب الخلافة، ووبّخوا الخليفة المطيع لله بكائنة حلب(4)، وطلبوا منه أن يخرج الى الغزو ويأخذ بثأر أهل حلب، فوكلهم الى معزّ الدولة، فألحوا عليه وقالوا: "لا نقنع الا بخروجك أنت، وأن تكتب الى سائر الآفاق، وتجمع الجيوش، والا فانعزل لنولّي غيرك"، فغاظه كلامهم.  ثم وجه الى دار معز الدولة فركب ومعه الاتراك،
1- تجارب الامم 6/194 ; الكامل 8/540 .
2- زبدة الحلب 1/145 .
3- نخب تاريخية / 165 .
4- حادثة عظيمة تستحق الوقوف عندها طويلا. الجماهير تتجمع حول قصر الخليفة توبّخه لأنه لم يثأر لأهل حلب. إنها تكشف عن روح جهاديّة وغيرة إسلامية مدهشة (التحرير).فصرفهم صرفاً قبيح(1).
  ثم جاءت الاخبار بموت طاغية الروم، وأن الخلف واقع بينهم في من يملكونه. فطمع عسكر طرسوس ودخلوا أرض الروم في عدّة وافرة، وأوقعوا بالروم، وانتصروا عليهم ، وعادوا بغنائم لم ير مثلها.
  وبعد شهر أو شهرين توجه سيف الدولة غازياً، فسار الى حرّان، وعطف على مَلْطية، فملأ يديه سبياً وغنائم ثم خرج الى آمِد(2).
  وفي سنة 353هـ سار الروم نحو مدينة اذنة القريبة من المصيصة، فاستنجد أهلها بأهل طرسوس، فجاءهم خمسة عشر ألفاً من فارس وراجل، فالتقوا واشتد القتال ودارت الدائرة على الصليبيين ، وبعد قتال دام يومين أحاط الروم بالمسلمين واستأصلوهم(3).
  وهرب أهل أذنة الى المصيصة ، فحاصرها نقفور، ولكنه لم يقدر على فتح هذه المدينة لصمود المسلمين ودفاعهم عنها، وقلّة الميرة عندهم. فانصرف بعد أن أحرق ما حوله(4).
  وفي هذه الفترة الحرجة - كما قلنا سابقاً - تصل قوات كثيرة من خراسان لتجاهد في سبيل الله، وتنقذ بلاد الاسلام من دنس الصليبيين، فتقصد مع سيف الدولة المصيصة المحاصرة، ولكن عندما يصلون اليها يرون أن القوات الصليبية قد رحلت عن هذه المدينة فتتفرق جموعهم لعظم الغلاء والوباء.
  أمّا طرسوس فقد نزل ملك الروم عليها سنة 353هـ، واشتدّ القتال بين الصليبيين وأهالي طرسوس، وأسر أهل طرسوس بطريقاً كبيراً من بطارقة الروم، وأخيراً اضطرت القوات الصليبية أن تترك طرسوس بعد محاصرة دامت ثلاثة أشهر لشدة الغلاء والوباء(5).
1- النجوم الزاهرة 3/335.
2- نخب تارخية / 165.
3- النجوم الزاهرة 3/336 .
4- المصدر السابق، زبدة الحلب 1/141 .
5- الكامل في التاريخ 8/552.  وبعد سنة قرّر نقفور أن يقوم بحملته الكبرى للقضاء على هذه الامارة الفتية التي شغلت بيزنطية عشرين عاماً كاملاً. وكان أوّل عمل قام به أن انقضّ على المصيصة ففتحها عنوة بالسيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم رفع السيف وأمر أن يساق من بقي في المدينة من الرجال والنساء والصبيان الى بلد الروم، وكانوا نحو مائتي ألف إنسان.
  وإذ قضى نقفور على المصيصة اتجه الى طرسوس، فحاصرها حصاراً شديداً، فأذعن أهلها بالطاعة، وأخذ يشترط عليهم  أن ينزح أهل طرسوس عن البلد، وأن لا يأخذوا معهم الا ما يستطيعون حمله، وأن تؤول جميع الدور والضياع الى الصليبيين، وأن يترك كل من أحبّ المقام في طرسوس دينه، وأن يعتنق النصرانية، والا يدفع جزية وهو على دينه(1).
  فسار أهل طرسوس عنوة في البر والبحر، ومعهم من يحميهم الى أنطاكية، ولقيهم أهل هذه المدينة بالبكاء والنحيب، وكان في مقدمة الطرسوسيين رجلٌ يقرأ: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وان اللّه على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللّه..)(2).
  ثم جعل الملك المسجد الجامع بطرسوس اصطبلاً لدوابه ، ونقل ماكان فيه من قناديل الى بلده ، وأحرق المنبر وقلَّد البلد بطريقاً من بطارقته فى خمسة آلاف رجل، وقلَّد المصيصة بطريقاً آخر (3).
  وفي سنة 354 - 355هـ ورد الخبر باجابة نقفور الى ما طلبه منه سيف الدولة من الهدنة والفداء. فاطلق سيف الدولة من كان من القواد، كما أطلق نقفور عيون رجال سيف الدولة، وكان بينهم ابو فراس ومحمد بن ناصر الدولة وغيرهم من رجاله وغلمانه(4).
1- تجارب الامم 6/210 وما بعدها.
2- نهر الذهب 3/63، والاية في سورة الحج ( 39 - 40).
3- تجارب الامم 6/211 .
4- التنوخي، المحسن بن علي : نشوار المحاضرة واخبار المذاكرة، تحقيق : عبود الشالجي، 1/281 ط بيروت 1391هـ / 1971م.  وفي سنة 355هـ سار طاغية الروم بجيوشه الى الشام، فعاث وأفسد، وأقام به نحو خمسين يوماً، فبعث سيف الدولة يستنجداخاه ناصر الدولة. فأعلن ناصر الدولة استعداده لمساعدة سيف الدولة على أية حال.
  وفي هذه السنة أصعد سيف الدولة الناس الى قلعة حلب، وشحنها وانجفل الناس وعظم الخطب، وأخليت نصيبين، ثم نزل طاغية الروم بجيوشه على منج، وأحرق الربض وتحرك منها الى وادي بطنان. وسار سيف الدولة متأخراً الى قنسرين ورجاله والاعراب قد ضيقوا الخناق على الصليبيين، فلم يتركوا لهم علوفة تخرج الا أوقعوا بها. وأخذ الصليبيون أربع ضياع بما حوت، فراسل سيف الدولة ملك الروم وبذل له مالاً يعطيه إياه في ثلاثة أقساط، فقال: لا أجيبه الا أن يعطيني نصف الشام، فان طريقي الى ناحية الموصل على الشام. فقال سيف الدولة: لا أعطيه ولا حجرا واحدا. ثم جالت القوات الصليبية بأعمال حلب، وتأخّر سيف الدولة الى ناحية شيزر ونزل طاغية الروم على أنطاكية يحاصرها ثمانية أيام ليلاً ونهاراً، وبذل الامان لاهلها فابوا إطاعتهم والانقياد اليهم، فناجزهم الحرب من جوانبها، فحاربوه أشدّ حرب، وكان عسكره معوزاً الى العلوفة.
  وفي هذه السنة خرجت الروم فقصدوا مدينة آمِد ونزلوا عليها، وحصروها وقاتلوا أهلها، فقتل منهم ثلاثمائة رجل، وأسر نحو أربعمائة أسير، ولم يمكنهم فتحها فانصرفوا الى دارا وقربوا من نصيبين خوفاً منهم(1).
  وفي سنة 352هـ أصيب سيف الدولة بفالج في يده ورجله، وفي سنة 356هـ لبّى نداء ربه. وكان قد أوصى بأن يوضع خده في لحده على لَبِنة بقدر الكف جمعها مما علق بثيابه ودروعه وسلاحه من غبار غزواته للصليبيين. ونفذت وصيته(2).
  وبذلك انقضت تلك الصفحات الطويلة من كفاح سيف الدولة الذي دوّخ أكبر امبراطورية في زمانه. ولم يغمد سيف جهاده الى آخر لحظة من حياته.
1- الكامل في التاريخ 8/572 .
2- اعلام النبلاء 1/278 . 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية