مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الأسس الفكرية والأخلاقية للتقارب بين المذاهب (1)
الشيخ أحمد كفتارو(2)

خلق الله الإنسان اجتماعياً بطبعه ، وأنزل شرائعه في مجتمعات إنسانية ، ثم جاء بالرسالة الخاتمة على سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ فقررت بصريح العبارة وجوب إقامة مجتمع الإيمان ، على أسا حاجة الإنسان لأخيه الإنسان : ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾.

ومن ثم فقد حرمت الشريعة الخاتمة الرهبنة والعزلة والإنتباذ ، إذ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ «لا رهبانية في الإسلام» وإذا كان التعاون الإنساني حاجة وضرورة دلت عليها نصوص الشريعة فإن تحقيق الإخاء الإسلامي أشد تأكيداً ، وهو مقصد رئيسي من مقاصد الشريعة السمحة ، ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون﴾، والدعوة إلى الوحدة الإسلاميّة مطلب عظيم ، ينبغي أن نسعى إلى تحقيقه على أسس علمية موضوعية ، وأن نجرد هذه الدعوة الصادقة من الصيغ الخطابية العاطفية التي تتردد بين الحين والآخر ، وتخلط بين تحقيق الوحدة الإسلاميّة وبين إلغاء المدارس الاجتهادية الفكرية التي هي مظهر ثراء هذه الأمة في الفقه والتشريع وحرية الفكر .

إن بعض الناس يتصور أن الوحدة الإسلاميّة لن تقوم إلاّ إذا ضربنا بمعاول الهدم جهود أئمة الفقه الإسلامي ، وأعلنا البراءة من مذاهبهم ، وأحرقنا فكرهم واجتهادهم ، ولاشك أن ذلك يؤدي إلى ضياع الشريعة أكثر مما يؤدي إلى وحدة الأمة ، فهل من الخير أن نعلن في بلد كالرباط مثلاً عن توحيد المعرفة ، فنحشر سائر طلبة الجامعات في قاعة واحدة ، ونتفق على مدرس واحد ، يلقي المحاضرات في المعرفة ، ولو كان أكفأ مدرسينا ، ثم نتنكر لسائر المدرسين والمعلمين ، ونغلق أبواب الجامعات والكليات ، بدعوى تحقيق الوحدة المنشودة .

إن ذلك ، لو حصل ، سيكون بلا ريب لوناً من العبث ، يتنزه عنه العقلاء ، وسيكون مدعاة إلى الأسف والرثاء ، وخنقاً للطاقات المبدعة في الناس.

ومن هنا كان لا مندوحة من الحديث عن التقريب ، التقريب الذي يتضمن احترام التراث الفقهي الذي أنتجته عقول أئمة كل مذهب ، ثم البحث عن الخيوط الجامعة التي تؤلف بين تلك الحبائب بسبب متين ، يجعل اجتهادها وفكرها فقهاً متكاملاً ، يكسب المشترعين في دوائر القرار في العالم الإسلامي غنى فقهياً

وعلمياً يكفل إيجاد الحلول لأكثر المشاكل استعصاء في المجتمع الإسلامي ، ولا يحول دون الاحترام والإجلال لاختيارات سائر أئمة الفقه الإسلامي ، سواء اعتمدت آراؤهم في التشريع أم لم تعتمد ، وسواء اتفقنا على الأخذ برأي بعينه أم لم نتفق ، وقد مضى العمل خلال التاريخ الإسلامي على هذا السبيل.

إذا أردنا أن نتحدث عن التقريب بين المذاهب الإسلاميّة حتّى تكون كلماتنا ودعوتنا علمية وموضوعية بعيدة عن الإطار العاطفي ، فلابد من وضع أسس وقواعد تبنى عليها هذه الدعوة ، لتكون منهاج عمل لكل الدعاة والمخلصين الساعين إلى رأب الصدع وجمع الشمل في سبيل وحدة الأمة .

وخير منهج لوضع هذه الأسس باعتبارها الدواء النظر إلى موضع العلة والداء .. إلى أسبابه ومقدماته ونتائجه.

فالاختلاف والتفرق هما الداء ولا تتعدى أسبابه أحد إطارين هما الأسباب الفكرية المتمثلة في الاختلاف في المنهج والاجتهاد بين كل مذهب من المذاهب .

أما الإطار الثاني فهو الأسباب الأخلاقية التي لا يمكن إغفال تأثيرها في نشر بذور الاختلاف والفرقة ، وتتمثل هذه الأسباب عموماً في الغرور وسوء الظن بالآخرين ، مما يجعل الإنسان يظن بأنه على الحق وما سواه على باطل ، وأمر آخر وهو حب الذات والزعامة .. وينبثق عن هذه الأمراض الأخلاقية مرض أخطر ، وهو التعصب المقيت لشخص أو مذهب أو بلد ، وطبعاً فإن التعصب هو انحياز أعمى لا يستند إلى أسس صحيحة ولا إلى أسباب موضوعية.

 

هذا عن الداء ، فماذا عن الدواء ؟

إن الدواء وسيلة ذات شقين أحدهما وقائي والآخر علاجي ، ولعلهما يندمجان في بعض الأحيان ، فيصبحان وقاية وعلاجاً في آن معاً، وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بالأسس والمبادئ التي ينبغي أن تقوم عليها دعوة التقريب بين المذاهب ، ونبدأ بأهم الأسس الفكرية:

1 ـ إبقاء الاجتهادات في إطارها الفكري.

إن اجتهادات الفقهاء كما قدمنا هي مظهر ثراء هذه الأمة في الفقه والتشريع وحرية الفكر ، والاختلاف الفكري بحد ذاته أمر يريده الله تعالى ، يقول عزّوجلّ ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾.

فالنصوص الظنية الدلالة التي جعلت الفقهاء والعلماء يجتهدون في فهم المعاني المظنونة لها ، كل معانيها مقصودة مرادة من قبل الله تعالى ، وإلا لجعل الله هذه النصوص قطعية الدلالة ، وجمع الناس على فهم واحد لها ، فأراد تعالى بذلك أن يطلق المجتهدون عقولهم ليتوصلوا إلى الحق والحقيقة «ولكل مجتهد نصيب».

لكن ينبغي أن يبقى الاختلاف في إطار الفكرة والاجتهاد ، وذاك هو الاختلاف الرحمة ، ولا يتعدى إلى التعصب والعداوة والبغضاء ، فيكون كاختلاف الذين من قبلنا ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاء هم العلم بغياً بينهم﴾.

2 ـ إتباع المنهج الوسط وترك التطرف.

يقول الله تعالى : ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً﴾.

إن الوسطية والاعتدال هما الركن الركين في بناء الوحدة ، وفي دعوة التقارب والتعاضد ، فالتطرف لا يأتي بخير ، وما وجد تطرف إلا ووجد مقابله تطرف آخر ، وأمثلة ذلك كثيرة ما بين السنة والشيعة ، والسلفية والصوفية.

وكما أن الفضيلة وسط بين رذيلتين ، ما بين الإفراط والتفريط ، فكذلك الإسلام وسط ، يجمع الدنيا والآخرة ، العقل والقلب ، المادة والروح ، فلو توسطنا لتقاربنا ، ولزالت الحواجز فيما بيننا.

وصلى الله على القائل «إن هذا الدين يسر وليس عسراً ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة».

3 ـ التركيز على المحكمات دون المتشابهات:

إن المحكمات المتفق عليها في الإسلام كثيرة كثيرة ، وهي المجال الرحب للتعاون والتعاضد ، فالله واحد والقبلة واحدة ، والقرآن متفق عليه ، أما المتشابهات فهي قليلة يمكن التحرز منها ، والعبد عن الخوض فيها.

ورحم الله القائل : «نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه».

يقول الله تعالى : ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾.

إن التركيز على المحكمات دون المتشابهات دعامة أساسية للتقريب بين المذاهب .

4 ـ ضرورة الاطلاع على الرأي الآخر.

قديماً قالوا : الإنسان عدو ما يجهل ، وكثيراً ما تصادف مسلماً يحمل فكرة عن أخيه دون أن يعلم عنه شيئاً ، وإنما هي ميراث حمله كابراً عن كابر.

إن زمن الجهل ولى ، وعهد الحواجز ولى ، وانطلق العقل الحر ليبحث عن الحقيقة أينما كانت ، والتقى المسلمون بعد طول فراق ، جمعهم العلم بعد أن فرقهم الجهل.

إن الإطلاع على الرأي الآخر ضرورة حتمية لأجل أن نتقارب ، وننبذ ميراث السنين ، ونعود معاً إلى قول الله تعالى : ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقو﴾ والى مفهوم نبينا الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ للوحدة ، فهي الإيمان ، أما الفرقة والتقاتل فهما الكفر ، هكذا كان يقول لأصحابه ـ صلى الله عليه وآله ـ : «ترجعون بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض».

5 ـ الانشغال بهموم الأمة الكبرى

إن التفات المسلمين لخصوماتهم الداخلية ، ونزاعاتهم ، واختلافاتهم ، حجبتهم عن الانشغال بأعدائهم والأخطار التي تحيط بهم من كل جانب ، أخطار سياسية ، عسكرية ، إقتصادية ... فصاروا بذلك في أواخر الأمم.

والمسلم الواعي المثقف يعلم حق العلم أن الجهد كل الجهد ينبغي أن ينفق في سبيل حل مشكلات الأمة ، والقضاء على الأخطار المحيقة بها.

ولا يغيب هذا المعنى الدقيق إلا عن الدهماء والجهلاء ، ويتعامى عنه المغرضون ، ذلك لأنهم ـ بقصد أو بدون قصد ـ يجهلون فقه الأولويات الغائب عن ساحة الفكر الإسلامي المعاصر. هذا الفكر الذي جعل المصطفى يركز على الإيمان في دعوته المكية إلى جانب الصبر وتحمل الأذى ، ويؤخر الجهاد إلى المرحلة المدنية بعد تأسيس الدولة وبناء المجتمع.

فقه الأولويات الذي يدركه الطبيب الحاذق فيداوي مريضه المبتلى بآفات كثيرة ، من الأخطر فالأقل خطراً ، أمراض القلب فالمعدة فالخدوش .. إن الانشغال بهموم الأمة الكبرى يجعل المسلمين أمة واحدة على قلب رجل واحد ، أملهم واحد ، وألمهم واحد ، ولا مجال في مثل هذا المجتمع للترهات.

هذه أهم الأسس الفكرية للتقارب ، أما الأسس الأخلاقية فأجملها فيما يلي :

1 ـ الإخلاص والتجرد من الأهواء .

2 ـ التحرر من التعصب سواء كان لأشخاص أم لمذاهب أم لطوائف.

3 ـ إحسان الظن بالآخرين .

4 ـ ترك الطعن والتجريح.

5 ـ الحوار بالتي هي أحسن.

بهذه الأسس والدعائم من خلال كتاب الله وسنة نبيه الكريم ، يمكن الرجوع إلى مجتمع الجسد الواحد ، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
 


1  ـ مجلة صورت الخليج الكويتية العدد 1300 / 52.

2  ـ المفتي العام للجمهورية العربية السورية.


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية