مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

دراسات تقريبية
العالمية والخاتمية والخلود
 الدكتور وهبة الزحيلي
(1)

 هذه الدراسة تطمح الى إعطاء الصورة التي يجب أن يكون عليها العالم الاسلامي لانتشاله من واقعه المرير. وتركز على وصل ماضي الامة بحاضرها، ووضع خطة وحدوية في ضرورات الحياة المعاصرة وتحقيق المصالح المشتركة، وعلى تقارب الطوائف الاسلامية الى أبعد حد ممكن.
  
مقدمة
تميز الإسلام بخصائص ثلاث: هي العالمية، والخاتمية، والخلود، جعلته فريداً في نوعه، ومهيمناً على كل الأديان والشرائع الأخرى، الإلهية منها والوضعية للبشرية، ليظل أنموذجاً مستقلاً، ومنبراً عالياً يحقق مفهوم الوحي الإلهي المنظم لشؤون الحياة، والمعبر عن حقيقة الاعتقاد الخالص النقي من جميع الشوائب والأخلاط، والمبين لمنهاج العبادة الصحيحة التي يرتضيها الإله المشرع، رب الكون والناس أجمعين...
خطة البحث
أتناول هذه الخصائص في ضوء الخطة التالية:
أ - مظاهرها: وحدة الدولة. وحدة القانون. وحدة العبادات. نفي أنماط التفرقة (اللغوية، والجغرافية) واللونية، والقومية، والمنهجية، والجنسية... إلخ). استيعاب الثقافات والتقاليد.
ب - نفي الشبهات والأخطاء: إقليمية الإسلام. تعدد الولايات والدول. الاتجاهات القومية الإسلامية. الجمود الثقافي.أ - مظاهر العالمية والخاتمية والخلود
لقد هيأ الإسلام لهذه الخواص المناخ المناسب على مستوى الدولة، والفكر، والنظام التشريعي، وكانت نظرته إلى المستقبل وطموحاته للأبد نظرة راسخة وحصيفة، لأن عالميته في أنحاء العالم، وكونه خاتم الرسالات والنبوات الإلهية، وخلود شريعته ونظامه، تتطلب منبتاً خصباً، وبيئة طيبة. ولا تتحقق هذه التطلعات إلا بوحدة الدولة، ووحدة القانون أو التشريع، ووحدة العبادة، واستئصال كل أنماط الفرقة في الجنس والعنصر واللون والقومية والمكان الضيق أو الموقع الجغرافي المحدود، واستيعاب مختلف ألوان الثقافة وروافد المعرفة، والتقاليد الموروثة، كما يتبين فيما يلي:وحدة الدولة
من المبادئ الأساسية المعروفة في الإسلام أن المسلمين أمة واحدة، وشعب واحد هو قاعدة وجودهم الدولي، تنفيذاً لقول الله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون)(2) ، (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)(3)، (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(4) وجاء حديث الرسول(صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع: "كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"(5).
وقاعدة هذه الأمة الواحدة ونسيج رابطتها: الأخوة الإيمانية، تحقيقاً لقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)(6).
وتم تحقيق نواة الدولة الأولى النموذجية في العهد النبوي وما بعده، وأوجب العلماء كون الدولة واحدة، غير متعددة، قال الماوردي وأبو يعلى: لا يجوز عقد الإمامة لإمامين في بلدين في حالة واحدة، فإن عقد لاثنين، لم تنعقد إمامتهما، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد. وشذ قوم فجوزوه، والصحيح الذي عليه الفقهاء المحققون أن الإمامة لأسبقهما بيعة وعقداً، قياساً على الوليين في تزويج المرأة إذا زوجاها باثنين، كان الزواج لأسبقهما عقداً (7).
وكذلك الشيعة يوجبون وحدة الامامة أو الدولة من باب أولي(8)
وفي التاريخ الإسلامي بدأ انقسام الدولة في العهد الأموي حيث وجدت الخلافة الأموية في الأندلس، ثم آل الأمر في العهد العباسي إلى وجود ثلاث خلافات: الخلافة العباسية في المشرق (بغداد) والخلافة الفاطمية في مصر، والخلافة الأموية في الأندلس.
وفي عصرنا بعد زوال الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك مصطفى كمال عام 1924، وبعد التخلص من الاستعمار، ظهر على المسرح الدولي الحاضر 55 دولة إسلامية إقليمية، تأثراً بظهور الدول الإقليمية، ومساعي الدول الغربية الاستعمارية، اتباعاً لقاعدة "فرق تسد".
أدركت أن قوتها بالاتحاد، فأمريكا تشمل أكثر من خمسين ولاية، والدول الأوربية تتجه للوحدة، بدءاً من نظام السوق الأوربية المشتركة إلى نطاق وحدة العملة الأوربية "اليورو" في عام 1999، حيث قبلته الآن إحدى عشر دولة، وينتظر انضمام حوالي أكثر من سبع دول أخرى إليه.
وأما المسلمون فيتجهون - مع الاسف - إلى تجسيد التفرقة، وسياسة التباعد، وتعميق الخلافات، وبدا بصيص أمل مشرق ومريح في مؤتمر القمة الإسلامي الذي انعقد في طهران في نوفمر (تشرين الثاني) عام 1997، حيث تحقق الحد الأدنى من التضامن الإسلامي، في بداية طريق أو منهج الإسلام الوحدوي، المأمور به في قوله الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا...)(9).
وآل أمر الانقسام إلى ضعف المسلمين وتخلفهم، وتباينهم في المواقف، وتصادمهم في حل المشكلات المصيرية التي تهددهم جميعاً، كقضية فلسطين وغيرها، ووجود ظاهرة الحقد والكراهية، وضعف الثقة أو انعدامها، وخدمة مصالح المستعمرين، ولاسيما الدول الكبرى.
وليس هناك أمة مثل الأمة الإسلامية لديها من الروابط الوثيقة، كوحدة الدين والعقيدة، ووحدة المبادئ الخلقية، والعبادات، ففي كل يوم يشعر المؤمن بالوحدة الإسلامية إن أدى العبادات اليومية على وجهها، فالرب واحد، والقبلة واحدة، والشعائر واحدة(10)، بل إنه بعد سقوط الشيوعية عام 1989، وتتابع تصريحات كبار المسؤولين الغربيين بأنه لم يبق أمامهم إلا الإسلام، يصبح من الضروري جعل مصير المسلمين واحداً، أمام الخطر الواحد، والعاقبة الواحدة، ولكنهم لا يشعرون بهذا، ولا يلتفتون لمخاطر المخططات التي تدبر لهم في الخفاء.
كل هذا يدعو المسلمين أكثر من غيرهم، وبإلحاح شديد، إلى ضرورة توحيد الصف والتجمع الواحد، أو الجماعة الإسلامية الواحدة، إن لم يعد ممكناً وجود حكم واحد أو دولة واحدة أو إمامة واحدة، عملاً بالتوجيه القرآني الكريم: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(11).
ولا يهم شكل التجمع الموحد، سواء أكان على النمط الأول في صدر الإسلام، أم على نمط جديد من اتحاد فيدرالي أو كونفدرالي أو غيره، لأن المهم تحقيق الجوهر والمضمون، لا الشكل والمظهر.
وإن المطالبة بتوحيد المسلمين وتحقيق جامعة إسلامية لايراد منه المساس بكراسي ومناصب الحكام القائمين، ولا بأشكال الحكم في البلاد الإسلامية أو العربية، فلكل بلد نظام حكمه، وإنما المراد تحقيق منهج التجمع الموحد أو الاتحاد المجمع في مظلة واحدة: هي أحكام الإسلام وشعائره، وعبادته وعقائده، ومقاصده وأهدافه، لإيجاد وجود إسلامي قوي ومتميز، له قراره المستقل وشخصيته المستقلة، النابعة من الحفاظ على المصالح الإسلامية الكبرى.
إن هذا التجمع الوحدوي بأي شكل من أشكاله القديمة أو الحديثة يتطلب أموراً ثلاثة(12):
أولها : إحياء مفهوم الأخوة الإسلامية المتعالية عن الجنسية والعنصرية، وأن تتحد مشاعرنا في الإحساس بقوة ومتانة وأبعاد هذه الأخوة.
ثانيها : تحقيق الوحدة الثقافية واللغوية والاجتماعية التي تجمع المشاعر والأحاسيس، التي تلتقي وتصبّ في معين واحد، هو العمل بمبادئ القرآن أو الإسلام الصحيح، الذي يحقق إعزاز المسلمين وقهر الأعداء.
ثالثها : وحدة السلم والحرب والاقتصاد والدفاع، فالمسلمون مسالمون فيما بينهم، لا تقوم بينهم حرب مطلقاً، واقتصادهم واحد، سواء في الانتاج والتوزيع، أو التصدير والاستيراد، وسوقهم الاقتصادية مشتركة، وعملتهم واحدة، ويعتمدون على مبدأ الاستقلال الاقتصادي، والاكتفاء الذاتي إلا في حدود الضرورات، من أجل علاج شيء مؤقت، والانتقال إلى ماهو أفضل. فإذا حدث نزاع، عولج بالصلح، وإذ نُكب إقليم عاونه الآخرون، لأن المسلم يكون في حاجة أخيه المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يكذبه، ويتعاون معه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
وأمامنا أمثلة كثيرة من اتحاد الولايات الواقع فعلاً، سواء في أمريكا، أو أوربا، أو الاتحاد السوفياتي سابقاً.
وليكن مطمح كل مسلم وكل دولة إسلامية معاصرة هو: التوصل إلى وحدة الدولة الإسلامية، مهما تناءت الديار أو الولايات المحلية، أو إلى اتحاد يجمع المسلمين، وينأى بهم عن التفرق والتباعد، وإلى محو كل أشكال أو أسباب الفرقة الإقليمية أو الجغرافية، أو العنصرية أو المذهبية أو العرقية، فإن هذه الأمراض هي التي فرَّقتنا في الماضي، والتي يجب تجاوزها وعلاجها في عصرنا، من أجل تحقيق الخير للجميع، وإبعاد الشر وشبح الخطر عن الجميع، فنحن في حالة من التردي، والتشتت، والضياع، والمذلة والهوان، مالا نغبط عليه، بل هو أدعى للسخرية والتهكم.
وإذا ظل المسلمون في القرن الحادي والعشرين القادم على هذا النحو من التباعد والتفرق، فإنهم سيتعرضون لمحن وويلات أشد، وستكون الخسارة والدمار أكثر مما نتصور، ولات ساعة مندم.
ومن الغريب حقاً أن أمة تنتمي إلى القرآن الكريم عقيدة ودستوراً وعبادة ونظاماً، تكون على هذا النحو من التشرذم والتفرق.
ولا ينتظر المسلمون من أعدائهم أنهم يقدمون لهم الخير على أطباق من ذهب، إن لم يتحركوا هم بأنفسهم نحو بناء عالم وحدوي جديد، له مفاهيم محددة، واستراتيجية موحدة، ومطالب محددة، رضي الآخرون والأعداء بها آنياً أم غضبوا، فإنهم بعد بناء الوحدة الدولية الإسلامية القوية، سيخضع لهم الجميع، فالعيب إذن في تفرقنا، وبعدنا عن وحدة الدولة أو اتحاد الدولة. وإذا تنكرت بعض البلاد الإسلامية في مبدأ الأمر لمبدأ الوحدة أو الاتحاد بسبب العلمانية ونحوها، فإنها في النهاية ستخضع للمنهج الوحدوي الصائب، وستقلع عن مبادئها وأنظمتها المتباعدة عن مظلة وحدة حاكمية القرآن، إذا أحسن تسويسها وكسبها بالمفاوضات والتفاهم والأساليب الدبلوماسية، من وساطة حميدة، أو تطويق سياسي.
إن دعوتنا إلى وحدة الدولة أو اتحاد الدول الإسلامية ليست ناشئة من فراغ، فتاريخنا استمرت فيه هذه الوحدة إلى عام 1924، وكانت الدول الإسلامية المتعاقبة، على الرغم مما أصابها من أخطاء ومظالم وهنات (خصلات شر) وعورات ونكسات، تحقق الهدف الإسلامي الأساسي من وجود الدولة القوية المرهوبة الجانب، ويحترمها الأعداء على الدوام.
ونحن اليوم على الرغم من إدراكنا لهذه الحقيقة وغيرها من حقائق ومنافع الوحدة أو الاتحاد، ما زلنا في أسوأ حال، لا نحقق الحد الأدنى ولا الأوسط ولا الأقصى من الوجود الإسلامي السليم.
وإذا حكمنا على تاريخنا بالجنوح أحياناً أو الرفض النسبي، فبماذا يحكم من يأتي بعدنا على وجودنا وأوضاعنا السياسية والثقافية والاقتصادية؟ إنه لاشك حكم بالرفض المطلق، وربما بالتبرؤ والتمرد على كل شيء نعايشه الآن.وحدة القانون
إن أهم مايحقق ويتفاعل مع عالمية الإسلام وخاتميته وخلوده هو: وحدة النظام أو القانون، أي وحدة أحكام الشريعة الإسلامية المنزلة من عند الله تعالى رب الكون كله، وهذا كفيل ببقاء مقومات العالمية أو الخاتمية والخلود، لأنه إذا تعددت الأنظمة أو القوانين الوضعية المتأثرة باليسار أو اليمين، أو الاشتراكية والرأسمالية، أو الملكية والديمقراطية أو الاقطاعية والجماهيرية، فإنه يصعب في العادة توحيد المحكومين بهذه الأنظمة، لتأثرها بالأهواء والشهوات، والمصالح الذاتية، والعقول المتفاوتة.
أما شريعة الله تعالى فهي موضوعية محددة، تلتزم معايير الحق والعدل المطلق، ورعاية المصالح العامة للناس جميعاً، على اختلاف أحوالهم وفئاتهم وأعراقهم وتوجيهاتهم، وتأخذ بهم إلى غد مشرق، ومستقبل زاه، ووضع أفضل، لأنها من لدن رب العالمين، الذي يعلم من خلق، ويعلم مصالحهم، وهو الحكم العدل، وهو العليم الخبير، فلا يقصر حكمه لصالح فرد أو فئة معينة دون أخرى، ولا ينحاز لجانب على حساب آخر.
لذا وجب تطبيق أحكام هذه الشريعة، ولاسيما ثوابتها، في كل زمان ومكان، أما تطبيق غير شرع الله فهو عودة لحكم الطاغوت والشيطان، والجاهلية الوثنية، قال الله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)(13)، وإذا كان الناس يحرصون على تقدمهم وسعادتهم، فعليهم رفض أي بديل عن شرع الله، قال الله سبحانه: (أفغير دين الله يبغون، وله أسلم من في السموات والأرض، طوعاً وكرهاً، وإليه يرجعون)(14).
هذا الإيجاب الدائم الثابت في تطبيق الشريعة يؤدي لوحدة التشريع المطبَّق في الأمة، من غير أي عناء أو تعثر، أو تجاف مع الواقع، أو تباين مع التعددية العرقية، أو تباعد الديار، واختلاف الطبائع.
ومن المعلوم أن وحدة التشريع: هو ماتسعى إليه الدول الحديثة، ولو مع اختلاف القوميات والأجناس والأعراف المتباينة.
وإذا انقسم المسلمون إلى دول إقليمية وحكومات متعددة، بسبب بعد المسافة بين البلاد، أو لصعوبة حكم تلك البلاد بسلطة واحدة، أو لنفور بعض الحكام من حكام آخرين، فإن هذا كله لا يسوغ العدول عن تطبيق أحكام الشريعة الإلهية، أو الأخذ ببعض أحكامها دون بعض، أو هجرها برمتها لأيدولوجيات وفلسفات أخرى، لأن شريعة الله واجبة التطبيق في كل حال ومكان وزمان، لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)(15).
ووحدة الحكم الإلهي يستتبع وحدة الدولة، ووحدة الأمة، ووحدة النظام، وقد حذر القرآن الكريم من تنازع الأمة في القضايا الأساسية العامة، حتى لا تضعف أو تتخاذل أو تذل وتهان أمام أعدائها، فقال الله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم(16)، واصبروا إن الله مع الصابرين)(17).
وقال سبحانه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً)(18).
وأسباب الدعوة إلى وحدة النظام التشريعي أو القانوني بين المسلمين كثيرة، أهمها ما يلي:
1- المسلمون أمة واحدة: لقد حقق المسلمون عزة لاتطال، وهيمنة وتفوقاً عظيماً بالغ الشأن، حينما أدركوا أنهم أمة واحدة، وإخوة في العقيدة الواحدة، وصف واحد متضامن أمام الأعداء، متكافلون فيما بينهم في السراء والضراء، متعاونون على البر والتقوى.
إن وحدتهم في الداخل والخارج جعلتهم خير الأمم، وبوأتهم ليكونوا كذلك، عملاً بقول الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون باللّه)(19). وذلك لأنهم أيضاً الأمة الوسط الخيار العدول بين الأمم، كما وجههم القرآن الكريم في قوله سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً)(20).
ومنشأ هذه الوحدة: هي أخوة الإيمان والعقيدة التي هي أقوى وأخلد وأدوم من أخوة النسب، ثم تآزر الإخوة وتعاونهم، كما قال النبي(صلى الله عليه وآله): "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"(21).
وقال أيضا: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(22).
2- وحدة العقيدة: المسلمون أمة ذات عق2يدة واحدة، وإيمانهم واحد معروف، فهم يؤمنون بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيره وشره. والإيمان بالكتب كلها وبخاتمتها القرآن الكريم يستدعي الالتزام بمضمون القرآن، ويوجب تطبيق شرعه وأحكامه وحرامه وأخلاقه وآدابه وكل ما جاء فيه. ووحدة هذا الكتاب الإلهي من أقوى الأسباب المؤدية إلى وحدة المسلمين، وكونهم صفاً واحداً فيما بينهم وفي مواجهة أعدائهم.
3- وحدة العبادة: العبادة تصدر عن حب وإيمان، ووحدة العبادة الإسلامية من أهم عوامل الوحدة في الأنظمة والمعاملات، فإذا ما اتحد المسلمون في المسجد أو في الصوم أو في الحج أو في الزكاة، اتحدوا في المجتمع والسوق والإدارة والشركة وكل أنماط السلوك والحياة الاجتماعية، لأن المسلم الداعي والمخلص هو: الذي لا يصدر عنه ما يناقض عقيدته أو عبادته، وتكون ممارساته لشؤون المعاملات والتصرفات منسجمة مع مقتضيات العقيدة والعبادة، وإلا لم يكن مسلماً في ميزان أحد صادق الاعتقاد والتعبد والاتجاه نحو رب واحد.
4- وحدة اللغة: إن عبادة المسلم لا تصح إلا بلغة القرآن العربية، فكل مسلم يعرف اللغة العربية، ويأنس بمدلولاتها، ويتذوق أساليبها، واللغة عامل قوي في توحيد الشعوب والأمم، ويتقوى هذا العامل ويتنامى مفعوله إذا ارتبط بالدين والاعتقاد والتشريع، فالعقيدة أساس، واللغة العربية تعبير عن مكنون العقيدة، فتتوحد الطباع، ويتحد الكلام، وتتفق العواطف والمشاعر، وتكون اللغة العربية هي لغة الخطاب والكتابة، ويسهل حينئذ توحيد العمل، وتدوين الأسرار، وبعث المراسلات، وعقد المعاهدات بين المسلمين وغيرهم، ويتجه المسلمون حينئذ إلى توحيد جهودهم وطاقاتهم، وتحقيق وحدتهم السياسية والاجتماعية، والاجتهاد في ضوء مفاهيم لغة العرب، واستنباط الأحكام المناسبة، كما نبه إليه القرآن الكريم في قوله سبحانه: (إنا انزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون)(23).
(كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون)(24).
5- وحدة الثقافة: الثقافة: هي المقومات المتصلة بالسلوك الإنساني، وهي تشمل من الناحية النظرية: العقيدة والنفس والاجتماع، والأخلاق، والتربية، والآداب والفن، والتاريخ، وفلسفة الاقتصاد والمال. وهي من الوجهة العملية: ممارسة وسلوك، وهي غاية، والعلم وسيلة.
وبما أن الثقافة الإسلامية هي التي يمكن وصفها بأنها إنسانية، لشمولها وتوازنها، ومجيئها موافقة للفطرة أو الطبيعة الذاتية، وتجاوزها كل عيوب العنصرية القومية الضيقة والتعصب الديني، فهي من أقوى دواعي توحيد الفكر والسلوك، وصهر الأمة في ممارسة واحدة، والسعي لغايات واحدة، والعيش في ظل تشريع واحد.
إن وحدة الثقافة تدفع المثقفين بها إلى الانضمام تحت لواء راية واحدة، هي راية التشريع الذي يحدد معالم الثقافة الإسلامية الفردية في منزعها وغايتها، وغير المسلمين الذين يتعايشون مع المسلمين في ظل دولة واحدة، يلتقون مع المسلمين في أصول الإيمان باللّه واليوم الآخر والكتاب الإلهي، وينضمون إليهم في دائرة الانتماء التاريخي والثقافي، فتتوحد الأمة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتشريعياً.
6- وحدة المصالح والتاريخ والمصير: إن المسلمين مع من يعيش في بلادهم لهم مصالح متحدة وآمال وآلام واحدة ومصير مشترك، وتاريخ واحد، وهذا يوجب تكوينهم وحدة دولية وقانونية، وما الدولة والقانون إلا للأكثرية، ولكن في إطار الحق والعدل والمساواة التي نظمها وفرضها القرآن الكريم، وإذا اتحدت الأمة عزَّ جانبها، وهابها أعداؤها، وتقدمت في مختلف وسائل الحياة، ولا سيما إيجاد نهضة صناعية قوية.
7- وحدة المصدر التشريعي: تتعدد القوانين الوضعية وتتغاير أحكامها، بتعدد وتغاير عقول واضعيها، وبمقدار تأثرهم بفلسفة معينة، ونظرية محددة. أما التشريع الإسلامي فمصدره واحد، وهو الله تعالى، بما أنزل من أوامر ونواه، والاجتهاد كاشف مظهر لحكم الله تعالى، لا منشىء ولا مبدع للأحكام الشرعية.
ووحدة المصدر التشريعي الإسلامي تجعل التشريع واحداً بالنسبة لجميع المسلمين في العالم. وغير المسلمين المقيمين في دار الإسلام ملزمون بأحكام هذا التشريع، بحكم سيادة الشريعة في دار الإسلام، وبمقتضى المعاهدة التي تمت بين المسلمين وغيرهم للإقامة في دار الإسلام على الدوام، ومن بنود هذه المعاهدة الالتزام بأحكام الشريعة.
وإذا تعددت الاجتهادات الفرعية التي مجالها في الفروع لا في الأصول، فإن القانون الموحد الذي يختار بعض الاجتهادات، يؤدي إلى وحدة تشريعية أيضاً، لأن الاختيار لرأي ما نابع من مراعاة المصلحة العامة، والتجاوب مع مقتضيات العصر والزمان.
والمطلوب من رعايا الدولة الإسلامية الواحدة، مهما تناءت بهم الديار أن يكون ديدنهم الإخلاص لرب العالمين، ولإمام المسلمين الذي لا يأمر إلا بالحق والخير والمعروف، فيسهل تقبّلهم نظام الوحدة أو الاتحاد، من أجل الحفاظ على وجودهم واستقلالهم، والتخلص من أي تبعة لدولة أخرى شرقية أو غربية، لا تبغي من تدخلها في شؤون المسلمين إلا استنزاف خيراتهم، وإبعادهم عن شريعة ربهم، وإبقاءهم أذلة تابعين مهانين، يسيرون في فلك مصالح المستعمرين ومخططاتهم الرهيبة، وينطبق عليهم حنيئذ المثل العربي: (إنك لا تجني من الشوك العنب).
والخلاصة: إن الإسلام يسّر على أتباعه وجود النظام أو القانون الموحد، واختصر عليهم الخوض في تجارب متعددة، ونلاحظ الآن أن العالم يتجه عبر النظام القانوني الوضعي إلى تحقيق مطمح وحدة القانون التي تؤدي إلى وحدة الشعوب وتقاربها وتفاعلها، وممارسة معاملاتها على منهج واحد، وقاعدة واحدة، ويكون الخير بذلك الاتحاد للجميع.
وحدة العبادات
لا تقتصر العبادات على الفروض الأربعة المفروضة وهي الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة، وإنما تشمل مقدماتها وهي الطهارة من النجاسات والقاذورات، فإنها واجبة حفاظاً على صحة الإنسان، وإبعاده عن كل ما يلوّث البدن والثياب والمكان، وذلك بالماء المطهر ووسائل التنظيف الأخرى. وتشمل العبادة أيضا كل ما فيه تعظيم الله تعالى من أمور الحظر والإباحة والايمان والنذور والكفارات، والأضاحي والعقيقة والذبائح والصيد ونحوها.
وبما أن هذه العبادات والشعائر كصلاة الجمعة والجماعة والأذان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالله عز وجل، ويقصد بها الإخلاص لوجه الله تعالى، وذكر الله وطاعته وإرضاؤه، فإنها واحدة في حقيقتها ومظهرها، ومبناها ومقاصدها، وجعلها وسيلة لتهذيب النفس الإنسانية، ونقاء المجتمع، والتعويد على فعل الخير وترك الشر والفواحش والمنكرات، وإطلاق حرية العبادة لا لأتباع الإسلام وحدهم، وإنما لأصحاب الديانات المختلفة، لتظهر مزية الإسلام، وقد أذن الإسلام لأتباعه أن يدافعوا عن هذا الحق للجميع، ومن أجل ضمان حرية العبادة لجميع المتدينين، فيتحقق بهذا نظام عالمي حر، يستطيع الكل أن يعيشوا في ظله آمنين، متمتعين بحريتهم الدينية على قدم المساواة مع المسلمين (25).
ويدرك كل إنسان هذه الوحدة الإسلامية الكبرى، أنى اتجه في المشارق والمغارب، فالمسلم يعرف المسلم بمناسك العبادة، وبمظهر العبادة ووسائلها أو مقدماتها من طهارة وأذان وإقامة، وكيفية الأداء، والذكر والاستغفار والدعاء باللغة العربية في كل مكان.
إن الصلاة سواء أديت منفردة أو بجماعة تعبير حي واقعي ناطق عن وحدة المسلمين، أيّاً كان مذهب المصلي من مذاهب أهل السنة أو الشيعة والإباضية أو غيرهم. وتنظيم صفوف الصلاة كالملائكة دليل على مساواة المصلين.
والصوم في غضون شهر كامل مظهر ميداني رائع لوحدة المسلمين في كل مكان، سواء في النهار أو الليل، تعلوهم البهجة ويغمرهم الفرح، ويشعرهم بالأخوة الإيمانية تملأ قلوبهم، وتفيض مشاعرهم حمداً لله وشكراً على نعمة الإسلام.
والحج سبيل التعارف الإسلامي، وذلك المؤتمر الأكبر الذي يلتقي فيه المسلمون على صعيد واحد، ويطوفون حول بيت الله الحرام، ويصلون لرب البيت، وتكون الكعبة المشرفة رمز وحدتهم في صلاتهم وحجهم وأذكارهم، لا أنهم يعظمون الحجارة أو الجدران، وإنما يقاومون مختلف أشكال الوثنية، فهل بعد هذا يأتي تفكير سطحي لبعض الأعداء، يتهمون فيه الإسلام بالوثنية؟ حيث ينظرون إلى الظاهر، ويتعامون عن الحقيقة والإيمان العميق في نفس كل مسلم، ولو كان أمياً عامياً بأنه يتجه بطوافه وصلاته نحو رب البيت، وإنما البيت الحرام رمز لوحدة الصف، وجمع المسلمين، كما يجتمع المتحدثون حول مركز معين أو نقطة معينة، أو طاولة مستديرة أو مستطيلة أو مربعة مثلاً، فهل هؤلاء الجالسون المتفاوضون يقدسون تلك الطاولة أو يعبدونها؟؟
والزكاة سبيل التكافل الاجتماعي، وإن تعلقت بعباد الله لإغنائهم، ولتطهير ماله من شوائب الشبهات والحرام، بل ولتحقيق التقريب بين الاغنياء والفقراء أو توحيدهم في سبل المعاش.
والخلاصة: إن وحدة الدين والعقيدة والعبادة من أهم الروابط القائمة بين أفراد الأمة الإسلامية، لتحقيق الوحدة الاندماجية، فإن تعثرت لفترة زمنية ما، فلابد على الأقل من توحيد الاتجاهات والقرارات العامة، والوقوف صفاً واحداً ضد كل الأعداء، فلا يعتدي عليهم مستكبر متعال، ولا يطمع فيهم أو في ثرواتهم طامع جشع، ولا يخترق جبهتهم أو صفهم ماكر خبيث أو مارد مستميت في تقويض صرح الإسلام.نفي أنماط التفرقة
لقد كان الإسلام حكيماً، لأنه من وحي الله وشرعه، وقوياً حازماً; لأنه يخطط لأبعاد المستقبل، حين قضى على أشكال الفرقة، وتخلص من القبلية والعصبية الجاهلية، وحول المسلمين ليكونوا أمة واحدة من مجتمع التنازع والتخاصم القبلي الضيق، إلى المجتمع العالمي الذي يتجاوز الأعراق والعنصريات واللغات والألوان والقوميات الضيقة والمنهجيات أو الأيديولوجيات، والجنسيات المنتمية لقوم معينين أو دولة إقليمية معينة.
ثم صهر الإسلام العداوات والأحقاد السابقة، كعداوة الأوس والخزرج في يثرب، والقحطانية والعدنانية في الجزيرة العربية، وجعلهم جبهة واحدة ضد العدو الخارجي من الفرس والرومان، وآخى الإسلام بعد الهجرة إخاءً عقدياً لفترة زمنية محددة بين المهاجرين والأنصار، فصاروا إخوانا في الدين والوطن، ويدا واحدة للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله، فكان المهاجري يرث الأنصاري وعلى العكس، ثم زالت المؤاخاة في الميزان لزوال مقتضياتها، وأصبح الإرث برابطة الرحم أو القرابة النسبية، وصارت الأخوة الإيمانية هي الرابطة بين المسلمين، وزالت رابطة القبيلة والعشيرة والعصبية الجاهلية بالنص التشريعي وفي الواقع العملي، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"(26).
وأضحت من الناحية الواقعية العناصر المشتركة بين المسلمين في كل أنحاء الأرض قائمة على وحدة الدين، واللغة، والمشاعر، والأماني والآمال والآلام، ووحدة التاريخ بما فيه من محن ومشكلات أو أزمات، ووحدة المستقبل والمصير، وما يبشر به من خير وقوة. وهذه المعاني لم تكن معروفة في العصر الجاهلي بين سكان الجزيرة العربية، لأن النزعة القبلية كانت هي الغالبة عليهم، فكانت معجزة الإسلام في القضاء على تلك النزعة الضيقة، وإحلال النزعة الإنسانية والعالمية محلها، ليمتد الإسلام وينتشر في كل مكان، وقد تحقق ذلك في الماضي، وامتد إلى الحاضر، وسيبقى علماً شامخاً بمشيئة الله في المستقبل لإحقاق الحق، وإبطال الباطل.
وتتابعت أحداث التاريخ وامتدت الرقعة الإسلامية من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، ووحدت دول غير عربية حمت الإسلام ضد التحديات والتيارات المعادية، فالمماليك مثلاً - وهم ليسوا من العرب - حموا بلاد الشام والعراق ومصر من هجمات المغول والتتار على يد الظاهر بيبرس والمظفر سيف الدين قطر، والملك الناصر - والقائد صلاح، وهو من الأكراد لا العرب - حمى فلسطين والعروبة واللغة العربية والمذاهب الإسلامية من الاندثار والضياع بانتصاره على جيوش الفرنجة وصده غارات الصليبيين، والبربر هم الذين ساعدوا مساعدة كبرى طارق بن زياد في فتح الأندلس، وهم مع العرب كافحوا في الجزائر مئة وخمسين عاماً، حتى انتزعوا النصر والاستقلال، وقدموا مليون شهيد، وكان انتصارهم بالإسلام، كما انتصر الإسلام في بقية بلدان شمال المغرب في تونس ومراكش، وفي ليبيا، وفي السودان، وفي كل مكان دنسه المستعمرون، فكانت انتفاضة الإسلام قوية عارمة حطمت كل محاولات هيمنة الاستعمار ووسائله الخبيثة ومكائده الشيطانية(27).
وكان للإسلام فضل بقاء مبادئه وشعائره وعقائده في إيران وأفغانستان والهند وماليزيا وأندونيسيا والباكستان وغيرها من بلاد العالم، لتتأكد عالمية الإسلام وواقعيته وخلوده.
إن إبعاد المجتمع الإسلامي عن كل أسباب التفرقة: اللغوية، والجغرافية، واللونية، والقومية، والمنهجية، والجنسية أو الانتماء لسلطة معينة، يقصد به إزالة كل أسباب التباعد بين الناس، واستئصال بواعث الحقد، والتعصب، والكراهية، والانغلاق، وتحقيق الانفتاح والتسامح والتقارب بين الأمم والشعوب، من أجل إشاعة المحبة، وغرس جذور الأخوة، وتحقيق الإقبال على التعاون والتضامن، وذلك خير عظيم. وكل تلك الأسباب المفرقة هي شر ووبال.
والتزام هذا المنهج يحقق الوحدة الإنسانية، ويوفر مقومات العالمية المنصوص عليها صراحة في مبادئ الاسلام، مثل قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً...)(28) وقوله سبحانه: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم
خبير)(29).
ذكر المفسرون أن هذه الآية في سورة الحجرات مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب، وعليه فالمراد بقوله: (من ذكر وأنثى) آدم وحواء. والمعنى: إنا خلقناكم من أب وأم تشتركون جميعاً فيهما، من غير فرق بين الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، وجعلناكم شعوباً وقبائل مختلفة، لا كرامة لبعضكم على بعض، بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضاً، ويتم بذلك أمر اجتماعكم ، فتستقيم مواصلاتكم ومعاملاتكم، فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع، انفصم عقد الاجتماع، وبادت الإنسانية، فهذا هو الغرض من جعل الشعوب والقبائل، لا أن تتفاخروا بالأنساب، وتتباهوا بالآباء والأمهات.
وقيل: المراد بالذكر والانثى: مطلق الرجل والمرأة، والآية مسوقة لإلغاء مطلق التفاضل بالطبقات كالأبيض والأسود، والعرب والعجم، والغني والفقير، والمولى والعبد، والرجل والمرأة.
والحق أن قوله: (وجعلناكم شعوباً وقبائل) إن كان ظاهراً في ذم التفاخر بالأنساب، فأول الوجهين أوجه، وإلا فالثاني لكونه أعم وأشمل(30).
وأيّد الآلوسي الوجه الأول: وهو أن المراد من الذكر والأنثى: آدم وحواء -عليهما السلام - ، فكل الناس سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالأنساب. ثم قال الآلوسي: وجوِّز أن يكون المراد هنا: إنا خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، ويبعده عدم ظهور ترتب ذم التفاخر بالنسب عليه، والكلام مساق له، كما ينبئ عنه مابعد(31).
وكذلك الرازي ذكر الوجهين، واتجه في بيانه إلى الوجه الأول(32)، وهو الذي رجحته في التفسير المنير(33)، ويكون المعنى كما ذكرت: أيها البشر، إنا خقناكم جميعاً من أصل واحد، من نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، ويجمعكم أب واحد وأم واحدة، فلا موضع للتفاخر بالأنساب، فالكل سواء. وإذا كان القصد نفي التفاخر بالأنساب، لأنه أصل المشكلة، فيكون التفاصل أو التفرقة في المعاني الأخرى كاللون والقوم والمنهج والعرق أو العنصر منفياً من باب أولى.
وإنه بالموازنة بين تكوين الأمم بالعنصرية ونحوها، وتكوينها بالدين، يتبين أن السير بالإنسانية في مدارج الرقي، وقيام العلاقات البشرية على أسس من المودة والفضيلة، إنما يكون تحت ظل الدين، لا ظل العنصرية، لأن العنصرية تفرض دائماً تفضيل عنصر على عنصر، وهذا أمر بغيض يؤدي الى التناحر، ولا يتفق مع الواقع، ولا مع الإنسانية، ولا مع المصالح العامة. والأمم أو الدول التي تعامل الشعوب على أساس ألوانها، وتفرق بين الأسود والأبيض، ماهي إلا صورة من صور تحكم العنصرية(34). والإسلام الذي يدعو إلى النظرة العالمية يأبى قبول أي شكل من أشكال العنصرية أو المفاضلة بين البشر، فهم سواء كأسنان المشط.استيعاب الثقافات والتقاليد
من مزايا الإسلام الحساسة والكريمة: أنه بانفتاحه على العالم، وموضوعيته وتجرده، وعالميته وواقعيته، استوعب في محتواه أنواع الثقافات المختلفة وأنماط التقاليد الموروثة السائدة، كما فعل في المجتمع الجاهلي، حيث أقر ما يتفق مع نظام الإسلام العقدي والأخلاقي والاجتماعي والإنساني، كالحنيفية التوحيدية ملة إبراهيم الخليل (عليه السلام)، والأخلاق الكريمة كالغيرة على العرض، والشجاعة من غير تهور ولا إسراف أو طيش، لقوله (صلى الله عليه وآله): "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(35) . وأبطل كل أنواع الزواج التي تشبه السفاح أو الزنا أو هي زنا بالفعل، وأبقى الزواج الشرعي بالعقد المعروف شرعاً في حديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"(36). وأبطل عادة الأخذ بالثأر التي هي بمثابة شرارة تدمر مجموعة من الناس بسبب قتيل، وشرع القصاص بأن يقتل القاتل عمداً نفسه دون أحد سواه من أقاربه أو عشيرته، وأبقى الإسلام نظام العاقلة (العصبية) في تحمل دية القتل الخطأ، أخذاً بمبدأ التعاون الإنساني، وإن كان الأصل في الإسلام هو المسؤولية الشخصية، المقرر في آية: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(37).
وأقر التقاليد والعادات الكريمة أو الحميدة، مثل أهازيج العرس والضرب بالدفوف في الشارع ونحوه، ومنع ما يؤدي إلى الفساد والضياع كالاختلاط المشبوه الذي لا ضرورة ولا حاجة إليه، وأباح الاختلاط الذي لا ينم عن خبث أو سوء قصد، كالتعامل والشهادة والقضاء والتعليم والعلاج، بمقدار الحاجة. ومنها الضيافة العابرة، وخدمات الجهاد ونحوها، لأنه يحقق مصلحة، وتغيب عند حسن النية والمشاغل الجادة نظرات السوء غالباً. وشعار المرأة في هذا الاختلاط العفّ البريء: الحزم والتماسك، والبعد عن مفاتن الأنوثة الخاص، تصديقاً لقول الله تعالى: (يا نساء النبي لستُنّ كأحد من النساء إن اتقيتُنّ فلا تخضَعنَ بالقول، فيطمع الذي في قلبه مرض، وقُلن قولاً معروفاً)(38).
والخلاصة: إن ما قرره الإسلام من أحكام يظل واجب التطبيق، ولا يصح وصفه - كما يحلو لبعض الكتاب المعاصرين أو الجهلة - بالتقاليد الإسلامية، لأن التقاليد ناشئة عن أعراف وعادات متوارثة أو شائعة، وهذه الأعراف قد تكون صحيحة، أي تتفق مع الشريعة، فهي مقبولة، وقد تكون فاسدة، أي قبيحة تصادم أحكام الشرع، فتكون مرفوضة أي محرمة. وعلى هذا، تكون هذه التقاليد خاضعة للحكم الشرعي، فيترك منها الحسن، ويلغى القبيح، بإجراء عملية اصطفاء واختيار، ويكون دور الإسلام دور استيعاب للتقاليد والثقافات، أي أنماط السلوك والمعارف، لأن الدور الإسلامي دور تصحيح وتنقيح، وإبقاء ماهو خير، وإنهاء ماهو شر، وهذا معيار عالمي موضوعي، لأن الحكمة أو الفلسفة تلتقي في النهاية مع شرع الله، ولا تتعارض مع ما ينسجم مع معطيات العقول السليمة.
والتاريخ الإسلامي يؤكد هذه الحقيقة، فقد انتشر الإسلام بين أقوام وشعوب مختلفة، لهم عاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم القديمة، سواء بين العرب، أو غير العرب في القارات الثلاث: الآسيوية والإفريقية والأوربية، وتخلى عن التقاليد الموروثة هؤلاء الأقوام كالأكراد والشراكس والأتراك والإيرانيين، والشيشان، والأفغان، والبخاريين وما جاورهم، والماليزيين والأندونيسيين، والهنود والباكستانيين والقبائل الإفريقية، والأوربيين والأمريكان، ولقد شاهدت بنفسي نماذج من هؤلاء جميعاً، فوجدتهم قد انصهروا في بوتقة الإسلام، وبخاصة إذا دخلوا في الإسلام عن طريق التصوف المعتدل الملتزم بشرع الله ودينه.ب - نفي الشبهات والأخطاء
إن عالمية الإسلام وخلوده وخاتميته تتجاوز في اتساعها وامتدادها الزمان والمكان، ومن البدهي قد تثور شبهات تتصادم معها، أو قد تقع أخطاء تعكر مسيرتها، فهل تتوقف هذه الخواص، أو تتعثر أو يطرأ عليها التغيير؟ الواقع أن كل نظام قد تعترضه مشكلات، فإذا كان هذا النظام متيناً قوياً، فلا يتعكر أو يتعثر أمام المدّ الذي يتصف بالموضوعية، والعقلية، والانسجام مع دواعي الفطرة، وهكذا الإسلام يقف كالجبل الأشم أمام كل التحديات أو النكسات.
وسأتعرض لبعض الشبهات:

إقليمية الإسلام
عالج عبد القادر عودة هذه الشبهة، فقال(39):
الأصل في الشريعة الإسلامية - كما تقدم - أنها شريعة عالمية أو ذات نزعة عالمية، لا مكانية، جاءت للعالم كله، لا لجزء منه، وللناس جميعاً لا لبعضهم، كما قال الله تعالى: (تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)(40). وقال سبحانه آمراً رسوله(صلى الله عليه وآله) بإعلان مبدأ العالمية: (قل يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعاً...)(41).
فهي شريعة للناس كافة، لا يختص بها قوم دون قوم، ولا جنس دون جنس، ولا قارة دون قارة، وهي شريعة العالم كله، يخاطب بها المسلم وغير المسلم، وساكن ديار الإسلام وغيره.
لكن لمّا تعذر إيمان الناس جميعاً بالإسلام ، لظروف معينة، من التأثر بالموروثات السائدة والعادات الشائعة، والفلسفات أو الأديان القائمة، ولا يمكن إكراه الناس على الإسلام، أو فرضه عليهم فرضاً، فقد قضت ظروف الإمكان أو الواقع العملي القائم ألا تطبق الشريعة إلا على البلاد التي تخضع لسلطان المسلمين، دون غيرها من البلاد، فأضحى تطبيق الشريعة الإسلامية مرتبطاً بدولة الإسلام وقوة المسلمين، فكلما اتسعت الأقاليم التي تكون تحت ولاية المسلمين وسلطانهم، اتسع نطاق تطبيق الشريعة، وكلما انكمش سلطانهم، انكمشت الحدود التي تطبق فيها الشريعة، أي فيطبق الإسلام مع رقعة انتشاره قبضاً وبسطاً.
فالظروف والضرورة هي التي جعلت من الشريعة الإسلامية شريعة إقليمية، أي تطبق على مسلمي دار الإسلام ومن يعايشهم من المعاهدين، وإن كانت الشريعة في أساسها شريعة عالمية.
ويمكن القول: إن الشريعة الإسلامية في أساسها شريعة عالمية، إذا نظرنا إليها من الوجهة العلمية، ولكنها في تطبيقها شريعة إقليمية.
والمعوَّل في الأحكام التشريعية على الأصول العلمية أو المبدأ، أما الواقع فقد يتفق مع هذه الأصول أو الأسس، وقد يقصر عنها لظروف وأوضاع معينة، مؤقتة أو دائمة.
وحينئذ لا تكون شبهة الإقليمية الواقعية حائلاً دون تقرير العالمية وما يتبعها من الخضوع لأحكام الشريعة وهيمنتها.

تعدد الولايات والدول
الواقع الإسلامي المجزأ في عصرنا نكبة من نكبات أو محن الاستعمار وآثامه ورزاياه، وتمر السنون وحال المسلمين يزداد تفرقاً وتباعداً، ساعد عليه تعدد الأقاليم واستقلال الدول الإسلامية، بعضها عن بعض، حتى صار عددها الآن في منظمة الأمم المتحدة 55 دولة.
ومما زاد من التباعد بين الدول الإسلامية: تباينها في الولاء لبعض الدول الكبرى كأمريكا وأوربا الآن، والاتحاد السوفياتي في الماضي القريب.وكذلك تفاوتها في الغنى والفقر، وتعرض بعضها لمشكلات اقتصادية، تجعل الآخرين يتخوفون من التقارب معها، وتضعف الثقة أو تنعدم بين كل دولة وأخرى، فتخشى الدولة الغنية أطماع الدول الفقيرة.
وتتأزم أحياناً العلاقات بين الدول الإسلامية، والعربية، بسبب اختلاف وجهات النظر السياسية، فيتشدد جانب، ويلين آخر، ويبادر بعضهم أو يهرول للارتماء في أحضان العدو الغاصب أو المحتل الدخيل.
وتبلغ حدة التباعد والكراهية أقصاها حين تتدخل دولة مسلمة أو عربية في شؤون دولة أخرى، أو تعتدي على حدودها، أو تحتل بعض أراضيها، بذرائع وأطماع متنوعة.
ومما يزيد الفرقة: تباعد الدول أو الأقاليم الإسلامية في المكان، فيكون بعضها في أقصى المشرق كأندونيسيا وماليزيا، وبعضها في أقصى المغرب كدولة المغرب العربية على حدود المحيط الأطلسي.
وعلى الرغم من كل هذه الظواهر، فإنه يمكن تحقيق تقارب أو اتحاد بين الدول الإسلامية، أو وحدتها في المسائل الأساسية، والقرارات الدولية، إذا توحدت في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون أو النظام: بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وفي مجال الفكر والثقافة بتوحيد مناهج التعليم الأصيلة في المدارس والمعاهد والجامعات، على أساس من الوحي الإلهي في القرآن والسنة النبوية وإجماع الأمة الإسلامية، وليس هذا بالأمر الصعب، وإنما هو سهل، لأن الدين واحد، والمسلمون إخوة. أما اختلاف المذاهب السنية أو الشيعية فلا يعد عائقاً، لأن الخلاف في الفروع والجزئيات لا في المعتقدات والأصول، ولأنه إذا توافرت النوايا والبواعث الحسنة، وصدق كل جانب في معتقده وإيمانه، سهل اللقاء، وضاقت شقة الخلاف، وهذا ليس عسيراً ولا ممتنعاً.

مناهج تحقيق العالمية في الفكر والثقافة والواقع
تتحقق العالمية الإسلامية أولاً بين دول الإسلام وشعوبه وأنظمته وحكامه، ثم مع الدول الأخرى في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالعقل والفكر النير إلى حقيقة الإسلام ومبادئه على صعيد من السلم ونشر المحبة، 0وتحسين العلاقات، والمباراة في بيان أهداف الإسلام ومقاصد الشريعة بلغة العصر وأساليبه، وتجنب التطرف ونبذ الإرهاب، والتعصب، وإبداء منهج التسامح الإسلامي بين المسلمين وغيرهم، وإعلان مبادئ الحق والعدل والحرية وتقرير المصير، دون إكراه ولا إجبار.
وبنود تحقيق العالمية في الوسط الإسلامي تتجلى أولا في الفكر والثقافة والواقع في المجالات الثلاثة الآتية(42).
أولاً : وصل ماضي الأمة بحاضرها، والتخلي عن أحقاد التاريخ السابق، وترك استمرار عقدة الخلاف في صفوف الجماعة، وإطفاء نيران الخلاف، والبعد عن إشاعتها أو تلقينها للناشئة، ولأن كل خطوة نحو الوحدة والتقارب، والتقدم، والوقوف صفاً واحداً أمام تحديات الأعداء والمخاطر المشتركة، إنما تبدأ من واقع الحاضر، لا من أخطاء وموروثات الماضي، فكل إنسان أو فئة يسأل أو يحاكم على ما قدّم من خير أو شر، بل لنكن واقعيين، فإنه لا فائدة على الإطلاق من إحياء خلافات الماضي.
ثانياً : ألا ينحاز العالم الإسلامي بجميع شعوبه وحكامه في جانب من جوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع ونحو ذلك نحو اتجاه معين يغاير اتجاه الإسلام وشرعه ومنطلقاته، ويتنافى مع المصلحة الإسلامية العليا، ويعد خرق هذا الاتجاه إما خيانة لله والرسول، ولمصالح الأمة جمعاء، وإما عصبية مذهبية أو طائفية بغيضة تلتقي مع العصبية الجاهلية في نتائجها وثمراتها، وإن خالفتها في دوافعها وأسبابها.
ثالثاً : أن تتقارب الطوائف الإسلامية، بحيث تدرس بتجرد وموضوعية وإنصاف مالدى الطائفة الأخرى، لأن الإسلام كل لا يتجزأ، ولأن إزالة النعرة غير الطبيعية التي خلفتها أحداث التاريخ ضرورة حتمية. وإذا تعذر الوفاق على بعض الجزئيات، فتترك لكل جانب أو طائفة، على ألا تعكر صفو العلاقات الأخوية الإسلامية الصافية، غير المتأثرة بحزازات الماضي وآلامه ومآسيه، أي إن الخطأ يجب ألا يستمر، وألا يعوق تحقيق اللقاء المشترك أو الاتحاد أو الوحدة، ولأن محو الفروق الطائفية يجب أن يكون غاية مقصودة في ذاتها، لأن أسباب الخلاف قد زالت، ومن الخطأ التمسك بالاختلاف الطائفي مع زوال أسبابه وعدم الجدوى في إثارته.الاتجاهات القومية الإسلامية
إن الأمة الإسلامية قد جربت بعد استقلالها وزوال كابوس الاستعمار عن كيانها كل المبادئ الغربية أو الشرقية، من اشتراكية، ورأسمالية، وعلمانية، ووطنية، وقومية، إما عربية أو كردية، أو بربرية، أو تركية ونحوها، فلم تحقق منها جدوى أو غاية نفعية أو صحيحة، وظلت تترنح وتهتز في متاهات التخلف والضعف والتفرق، حتى هانت على الأعداء والدول الكبرى، ولم يعد لها حسبان في موازين السياسة العالمية.
وقد آن الأوان في ظل الصحوة الإسلامية المعتدلة والرشيدة الحالية أن تعود هذه الأمة لرشدها والحفاظ على عزتها ووجودها وكيانها، وتتجاوز محن الماضي ومآسيه على مدى نصف قرن من اغتصاب فلسطين، والاعتداء على حقوقها في كشمير وغيرها من البلاد الإسلامية.
إن القومية من مخلفات الغرب في القرن التاسع عشر، وقد تركتها الدول الغربية، واتجهت نحو الوحدة أو الاتحاد.
وإذا اقتضت الظروف السياسية الاحتفاظ بشعار القومية العربية اليوم في مواجهة العدو الصهيوني، لتجميع وتضامن المسلمين والعرب، فإنه ثبت لدى دعاة هذه القومية أنها تلتقي في المصير مع الاتجاه الإسلامي بكل مراميه وأبعاده وطموحاته.
وكذلك الشأن في كل قضية تهم المسلمين قاطبة ينبغي تجاوز الأفق القومي الضيق، والانصهار في بوتقة العالمية الإسلامية الخيرة، والتي تحقق على المدى القريب والبعيد مصالح جميع المسلمين، لأن العدو الغربي تكرر منه الإعلان عن مواجهة العالم الإسلامي بعد سقوط الشيوعية بدون ثمن عام 1989م، ولا تفرقة في أذهان هؤلاء الأعداء بين أي واحد من الأقطار الإسلامية، من أهل السنة، أو الشيعة .
إن العقلاء يقررون أن الاتحاد في مواجهة الخطر المشترك ضرورة حتمية، لا محيص عنها ولا مهرب، وأن وجود هذا الاتحاد آت لابد منه بمشيئة الله تعالى، إذا صدقت النوايا، وشحذت العزائم، وخفتت أصوات الأطماع المادية الطاغية، والإغراق في النعم لدى البعض، وحرمان البعض الآخرين من أبسط وأدنى الحياة المعاشية أو الاقتصادية.

الجمود الثقافي
الثقافة - كما جاء في معجم العلوم الاجتماعية وقاموس علم الاجتماع: هي استجابة الإنسان لإشباع حاجاته المادية والروحية. أو أنها تشمل نماذج الحياة الاجتماعية بأسرها: العائلية والاقتصادية والدينية والأخلاقية والتربوية والجمالية والسياسية واللغوية والعلمية.
ومعيار الثقافة: هو الدين، ويرفض القول بأن (الفن للفن) لأنه لا بد من أن يكون الفن أخلاقياً، والدين أصل الأخلاق، ويجب احترام القيم الدينية في مجال الفن وغيره. وبإيجاز: الثقافة تشمل المعرفة والسلوك.
ويلاحظ أن مجتمعنا المعاصر محدود الثقافة أو جامد الثقافة، فالناس إلى الآن حريصون على المادة وتوفير سبل المعيشة، والكثيرون أو القليلون يمارسون العبادات في الظاهر، من غير معرفة صحيحة بها وبأهدافها، وتبتعد في الغالب ثقافاتهم عن مقاصد العبادة، وأخلاق الدين، وتراهم يعنون بالقشور والمظاهر، وربما تعرض لهم أجهزة الإعلام المكتوبة من صحافة وقصص شعبية مثلاً، والمسموعة والمرئية، من أخبار سياسية، ومسلسلات تعالج بعض عيوب المجتمع والأفراد، دون أن تعنى بالتوجيه والتثقيف فيما هو حساس وضروري، لحياة الأسرة والأفراد والتجار والصناع والزراع، ودون أن تحقق النفع لهم، وتدرأ الشر عنهم، سواء في حاضرهم أو في مستقبلهم القريب أو البعيد، هذا فضلاً عن عدم وضوح الرؤية المستقبلية والآفاق العالمية، وغياب الاستراتيجية والخطط التنموية والتربوية والاقتصادية وغيرها من ضروريات الحياة الاجتماعية. وهذا يؤدي الى الفقر وضعف الحس العام أو بالسلوك الرشيد.
وإذا ظلت الحال على هذا النحو من الجمود الثقافي: المعرفي والسلوكي، ظل الناس في حيرة ومتاهة، وتخلف وغيبوبة عن تحقيق أو إدراك مفهوم الذات.

---------------------------------
1- رئيس قسم الفقه الاسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق - كلية الشريعة . وبحثه مقدم الى المؤتمر الحادي عشر للوحدة الاسلامية بطهران.
2- الأنبياء / 92 .
3- المؤمنون / 52 .
4- الحجرات / 13 .
5- رواه مسلم والترمذي والبزار وغيرهم.
6- الحجرات / 10 .
7- الأحكام السلطانية للماوردي: ص 7، ولأبي يعلى، ص 9 .
8- المختصر النافع في فقه الإمامية: ص ف من تقديم العلامة محمد تقي القمي.
9- آل عمران / 103 .
10- الوحدة الإسلامية لأستاذنا المرحوم محمد أبو زهرة: ص 25 .
11- المائدة / 2 .
12- المرجع السابق: ص 29 - 30 .
13- المائدة / 50 .
14- آل عمران / 83 .
15- النساء / 59 .
16- أي: قوتكم ومجدكم.
17- الأنفال / 46 .
18- النساء / 105 .
19- آل عمران / 110 .
20- البقرة / 143 .
21- رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه).
22- رواه الإمام أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير (رضي الله عنه).
23- يوسف / 2.
24- فصلت / 3 .
25- نحو مجتمع إسلامي للأستاذ الكبير المرحوم سيد قطب : ص / 106 .
26- حديث حسن أخرجه أبو داود عن جبير بن معطم (رضي الله عنه).
27- المستقبل لهذا الدين للأستاذ سيد قطب: ص 110 - 113 بتصرف.
28- النساء / 1.
29- الحجرات / 13 .
30- الميزان في تفسير القرآن للعلامة السيد محد حسين الطباطبائي 18/326 .
31- تفسير الألوسي 26/161 - 162 .
32- تفسير الرازي 28/137 .
33- انظر 26/259 .
34- الوحدة الإسلامية للعلامة الشيخ محمد أبو زهرة / 26 .
35- أخرجه البخاري في الأدب والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة (رضي الله عنه).
36- أخرجه الطبراني عن أبي موسى (رضي الله عنه) وهو حسن.
37- الأنعام / 164 .
38- الأحزاب / 32 .
39- التشريع الجنائي الإسلامي 1/274 - 275 بتصرف.
40- الفرقان / 1 .
41- الأعراف / 158 .
42- الوحدة الإسلامية للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة: ص 45 بتصرف.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية