مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

مفتي مصر في رد على شطحات د.مصطفى محمود:
الشفاعة حقيقة قرآنية ثابتة(*)

 

 
شطحات الدكتور مصطفى محمود حول شفاعة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لأمته لا تزال تثير جدلا بين علماء الإسلام في مصر حيث توالت الردود على الدكتور مصطفى محمود والتي تؤكد أن الشفاعة حقيقة قرآنية.
وقد أصدر الدكتور نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية بيانا أكد فيه هذه الحقيقة ، ودعم بيانه بآيات القرآن الكريم يقول : د. نصر فريد واصل مفتي مصر طالعتنا الصحف المصرية يومي السبت 24 / 4 و 1/5/ 1999 بمقالين للدكتور مصطفى محمود حول أحاديث الشفاعة الواردة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مؤكدا أن هذه الأحاديث تتناقض مع القرآن الكريم وذكر عددا من الآيات القرآنية مقررا أن القرآن الكريم ينفي إمكانية خروج من يدخل النار. وذكر أن هذه الثوابت القرآنية تتناقض تماما مع مرويات الأحاديث النبوية في كتب السيرة عن إخراجه ـ صلى الله عليه وآله ـ من يشاء من أمته من النار مما يؤكد أن هذه الأحاديث موضوعة ولا أساس لها من الصحة ولا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى آخر ما جاء بالمقالين.
هذا وقد اطلعنا على ما كتب بالصحف حول المقالين من ردود خلال تلك الفترة ثم ما كتبه الدكتور مصطفى محمود يوم السبت 15/5/1999 بعنوان «الردود الغاضبة والعاتبة» ونود أن نشير في هذا المقام إلى الأمور التالية :
أولا : الدكتور مصطفى محمود رجل علم وفضل ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الاطلاع والغيرة على الإسلام فما أكثر المواقف التي أشهر قلمه فيها للدفاع عن الإسلام والمسلمين والذود عن حياض الدين وكم عمل على تنقية الشريعة الإسلاميّة من الشوائب التي علقت بها وشهدت له المحافل التي صال فيها وجال دفاعا عن الدين.
ثانيا : أنّه لا خلاف حول موضوع الشفاعة فهي حق الله كما جاء في قوله تعالى : ﴿قل لله الشفاعة جميع﴾ (الزمر : 44) . غير أن الله تعالى يعلم أزلا أن صاحب الذنب سيرجع عن ذنبه ويتوب إلى الله توبة نصوحا ويعمل صالحا في دنياه ، فهذا هو الذي يأذن الله لرسوله وللملائكة أن يشفعوا له ويطلبوا له من الله العفو والمغفرة . لقوله تعالى ﴿إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيم﴾(الفرقان:70). أما من مات مصرا على ذنوبه ولم يرجع إلى ربه وظل على عناده مع الاعتراف لله بالوحدانية وشهادته لمحمد ـ صلى الله عليه وآله ـ بالرسالة فأمره إلى ربه إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه وقد يكون من العفو عنه الاذن من الله بالشفاعة له لقوله تعالى : ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾ (البقرة : 255) ، وهنا تكون الشفاعة بمعنى طلب العفو من الله لمن تاب وأناب وأخلص في التوبة وعلم أن له ربا يغفر الذنوب ويستر العيوب فهو غفار لمن تاب وأقرب لمن إليه أناب.
وإذا كانت هناك شبهة تعلق بالذهن من فهم بعض آيات القرآن الكريم النافية للشفاعة فإن هذه الشبهة سرعان ما تتلاشى أما بعض الآيات الأخرى التي تثبت الشفاعة والقرآن يفصل بعضه بعضا إذ لا تعارض بين آيات القرآن الكريم ، ولكن الفهم لبعض الآيات القرآنية قد يقصر عند البعض وبالتأمل الدقيق نجد القرآن كله في مجمله يوصل إلى غاية واحدة لا يختلف عليها اثنان وهي تقوى الله عزّوجلّ والعمل ليوم الحساب والوقوف أمام الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ولذا فإن الآيات وردت في صدر مقالات الكاتب الكبير النافية للشفاعة وردت جميعها في شأن كفار مكة وهؤلاء مخلدون في النار ﴿وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم﴾ ولم يقل أحد بأن لهم شفاعة..
هذا ومع الأخذ في الاعتبار أن لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ المقام المحمود عند رب العالمين والمقام المحمود لا يعلمه أحد إلاّ الله ولا يستطيع أحد أن يحدد المقام المحمود فقد يكون من المقام المحمود شفاعته ـ صلى الله عليه وآله ـ لأمته بالطريقة التي يرتضيها رب العزة وترضي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ويختارها رب العالمين لنبيه إكراما له في يوم الحساب وليس هناك ما يمنع من ذلك ما دام القرآن الكريم قد أطلق المقام المحمود دون قيد ولا شرط وهو من الثوابت التي لاشك فيها وهو أيضاً من خصوصيات الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ دليله الإشارة الموجزة البليغة الصادرة عن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه حينما قال لأصحابه ولامته من بعده وهو الذي لا ينطق عن الهوى «.. لستم مثلي إنّما أبيت يطعمني ربي ويسقيني» رواه الترمذي. كما أنّه ـ صلى الله عليه وآله ـ حظى بما لم يحظ به غيره في المقابلة الإلهية في الإسراء والمعراج وأفاض الله عليه من التجليات الإلهية مالا يمكن للعقل البشري تحديدها مما عبر عنه الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ في أحاديثه الصحيحة المقطوع بصحتها والمجمع عليها والمنقولة إلينا بطريق التواتر الذي يستحيل معه التواطؤ على الكذب .
ثالث : هناك آيات في القرآن الكريم تدل على أن هناك شفاعة مثل قوله تعالى في سورة الجن ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصد﴾.
فالآية وإن كانت تتحدث عن الغيب مبينة أن الغيب لله وحده إلاّ أنّه قد يطلع بعض خلقه على مالم يطلع غيره عليه معجزة له ودلالة على صدق نبوته كما قال على لسان نبي الله عيسى ـ عليه السلام ـ ﴿وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم﴾ (آل عمران : 49). وقولـه تعالى في سورة مريم ﴿يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا. ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا. لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهد﴾ (الآيات 85 ـ 87) والمعنى والله أعلم بمراده نسوق المجرمين إلى جهنم عطاشا حالة كونهم لا يملكون الشفاعة لغيرهم ولا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون الصادقون فانهم يملكونها ويكون الضمير في يملكون عائدا إلى المجرمين أو يكون المعنى لا يملك أحد من فريقي المتقين والمجرمين الشفاعة ولا يملك أحد الشفاعة لهم إلاّ من اتخذ منهم عهدا عند الرحمن وهم المؤمنون فإنهم يملكونها بتمليك الله تعالى لهم ويكون الضمير في يملكون عائدا إلى الفريقين.
وقوله تعالى في سورة الأنبياء : ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون﴾ إلى قولـه تعالى:﴿ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون﴾ (الأنبياء : 28). هذا في شأن الملائكة ومعناه والله أعلم لا شفاعة إلاّ من رضي الله له أن يشفع والملائكة أهل شهادة أن لا اله إلاّ الله ولهم شفاعة في الدنيا وشفاعة في الآخرة فشفاعتهم في الدنيا الاستغفار للمؤمنين أخذا من قوله تعالى : ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنو﴾ (غافر : 7) ، وشفاعتهم في الآخرة طلب العفو من الله للمؤمنين وإذا كانت الشفاعة جميعها لله وحده عزّوجلّ فما الذي يمنع صاحب الحق من إعطائه لمن يشاء ؟ من الذي يمكنه أن يقيد القدرة الإلهية في منح ما شاء الله لمن يشاء من عباده دون قيود ولا حدود . وليس هناك أفضل من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ولا أولى بإعطائه حق الشفاعة لقربه من الله وعلمه بما لا يعلمه غيره واختياره ليكون مبلغا رسالة الله إلى الناس .
رابعا : إذا كانت المسألة كلها غيب الغيب ـ كما ذكر الكاتب الكبير ـ وكان هناك سند من القرآن في وجود الشفاعة وأنها ستكون لمن ارتضاه الله ولمن له عهد عند الله وقام إجماع المسلمين من لدن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى يومنا هذا على حصول الشفاعة له واستند هذا الإجماع إلى أدلة قطعية الدلالة على ثبوت الشفاعة فليس من الحكمة في شيء أن نغلق الباب ونوصد باب الرجاء والامل في سعة فضل الله وكرمه أمام طالبي العفو والمغفرة ومن يطلب العفو والمغفرة للناس ، والله تعالى يقول : ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم﴾ (الزمر : 53).
ولقد وضح القرآن الكريم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ سيكون الملاذ للناس يوم الهول الأعظم وذلك لقوله تعالى : ﴿ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيم﴾ (النساء : 64).
وقد وضح رسول الله ذلك بقوله «حياتي خير لكم ومماتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن وجدت غير ذلك استغفرت الله لكم» رواه مسلم ، فما أحوجنا إلى شفاعة رسول الله يوم الزحام وما من شك في أن السنة النبوية المطهرة هي المذكرة التفسيرية للقرآن والموضحة لما أجمله والمخصصة لما عممه وهي التي عناها ربنا سبحانه في قوله : ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهو﴾ (الحشر : 7)، ولذا قال ـ صلى الله عليه وآله ـ «إلاّ إني أوتيت القرآن ومثله معه» رواه أبو داود.
والذي تجدر الإشارة إليه أن الدكتور مصطفى محمود عالم كبير ومفكر عظيم مشهود له بسعة الأفق وكثرة الاطلاع والمعرفة ولا ينكر علمه وفضله إلاّ جاحد . وهو غيور على دينه ومدافع عن إسلامه بما آتاه الله من ذكاء وفطنة . ونسأل الله أن يجزيه خير الجزاء على جهاده من أجل الإسلام والمسلمين ونود أن نقول له : «إن الردود الغاضبة والعاتبة» ليس مبعثها الإثارة والغضب والفرقة والانقسام ومنح الفرصة الذهبية لمن يريد أن يشتت كلمة المسلمين ويظهرهم بمظهر المختلفين المتنازعين ولكن الغرض من الردود والأقوال هو التدقيق والتمحيص لإزالة ما قد يكون فهمه البعض على غير المقصود والمراد شرعا أو إزالة غموض وقصور في الفهم ، وعهدنا بالدكتور مصطفى محمود أنّه رجل علم وإيمان وقد أعجبنا بهذه المقولة العظيمة الواردة في مقاله الأخير حينما قال : «إني لا أرى مكانا لاختلاف ولا موضعا لاشتباك وإنّما كل منا يعمل بإيمانه وكل فريق يعمل على شاكلته فالموضوع لا يصلح فيه الجدل لأنه غيبي يتناول الآخرة ، والآخرة لله وحده يفعل فيها ما يريد فهي شأنه وما كتبت إلا اجتهادا ولا أدعى العصمة والله وحده أعلم بالصواب».
وتكمن عظمة الدكتور مصطفى محمود في اعترافه بأن أفضل الردود هو رد الدكتور عبد العظيم المطعنى بجامعة الأزهر هذا الرد الذي أزال شبهته وأوجد له مخرجا مأمونا من هذه القضية الشائكة وأكد له أن الشفاعة حقيقة قرآنية ثابتة لا شك فيها ولكنها مشروطة وليست مطلقة بدون ضوابط وهذا يؤكد ما سبق أنّه لا خلاف بين العلماء وأن المسألة كلها لا تعدو أن تكون اختلاف فهم ونظر لاخلاف إيمان وعقيدة فالعلم رحمة بين أهله كما يقولون ونحمد الله على أن وجد من بين العلماء من ارتاحت نفس الكاتب الكبير إلى فهمه.
ودار الإفتاء المصرية وقد درست مقالات الدكتور مصطفى محمود والردود عليها ، وما جاء بمقاله الأخير تشكر الله عزّوجلّ على توفيقه الجميع للدفاع عن الإسلام والعمل على حماية تراثنا الإسلامي من أن تناله يد العابثين سائلين المولى سبحانه أن يعصمنا جميعا من الزلل ويبعد عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ويجعلنا أمة واحدة لتكون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله ويومها يكون المسلمون أمة واحدة وصفا واحدا وليعلم الجميع أن الإسلام دين السلم والسلام والأمن والأمان.
وأن الإسلام هو الحصن والملاذ لكل من جار عليه من ظالم أو بغى عليه باغ أو اغتصب أرضه مغتصب . ولسنا في حاجة إلى القول بأن المسلمين في كل مكان محتاجون إلى وحدة الكلمة وجمع الشمل للوقوف في وجه الظالمين أمثال الصرب الباغين واليهود المتعنتين لنعيد لمسلمي كوسوفا والبانيا وفلسطين ولك المسلمين المظلومين في كل بلاد الدنيا نعيد إليهم كرامتهم وعزتهم وأمنهم وأمانهم منفذين أمر الله تعالى في قوله : ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقو﴾ (آل عمران : 10) ، ﴿ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم﴾ والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.


[1]  * ـ عن صحيفة الشرق في عددها الصادر الأحد 15 صفر 1420 هـ الموافق 30 مايو 1999م.


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية