مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الإسلام والأقوام والملل*
الشيخ محمّد واعظ زاده الخراساني


أكد الإسلام على وحدة الأمة بكل قومياتها وقبائلها وعشائرها ، لكن هذا لا يعني إذابة خصوصيات الشعوب من لغات وعادات وتقاليد لا تتنافى مع الإسلام .. كما أن الإسلام لم يستهدف القضاء على خصوصيات أصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب ، وترك لهم حرية ممارسة طقوسهم ، كلّ ذلك احتراما لحق الإنسان وكرامته وعزته لكن هذه الكرامة تستدعي «التعارف» الذي دعا إليه الإسلام ، وتستدعي أن يكون التعارف قائما على أسس التقوى والفضيلة.
__________________________________
*  ـ بحث مقدم إلى المؤتمر الإسلامي العام «دور المسلمين في نهضة روحية لروسيا» المنعقد في مسكو من 20 ـ 21 صفر عام 1420 هـ.ق.
(10)
يستند البحث حول «الإسلام والأقوام والملل» إلى آية من آيات القرآن الكريم ، وهي قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾ (الحجرات/ 13).
جاءت في القرآن الكريم خطابات عامة ، بعضها موجه إلى جميع الناس من مؤمن وغير مؤمن ، وبعضها خاص بالمؤمنين يقول علماء علوم القرآن : من علائم السور المكية والمدنية أن الخطاب في المكيات جاء بلفظ ﴿يا أيها الناس﴾ وفي المدنيات بلفظ ﴿يا أيها الّذين آمنو﴾ لأن المخاطبين في مكة في بدء الدعوة لم يكونوا مؤمنين ، وأما في المدينة فكان المؤمنون كثيرين فخوطبوا بذلك وكان محتوى الخطابات في مكة يغلب عليه الدعوة إلى الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر ، وبأصول العقيدة والشريعة وبالسلوك الأخلاقي ، أما المحتوى في السور المدنية فكان تفصيلاً للشريعة على صعيد العبادات والمعاملات والأحكام والمواريث وغيرها.
هذه هي الصبغة الغالبة على السور المكية والمدنية . وقد استثنوا من ذلك سبع آيات مدنية جاء الخطاب فيها بـ : ﴿يا أيها الناس﴾ نظراً لحالة خاصة بينوها في كلّ منها وهذه الآية التي ذكرناها من جملة تلك السبع ، أنزلها الله في سورة مدنية تتحدث عن أدب المعاشرة مع النبي ومع المؤمنين بل وغير المؤمنين ، ومنها قوله تعالى : ﴿يا أيها الّذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب...﴾ (الحجرات: 11).
ففي هذا السياق العام جاءت هذه الآية التي نحن الآن نتحدث عنها إيماء إلى
(11)
أن السلوك مع الناس جميعاً ينبغي أن يكون سلوكاً إنسانياً نابعاً من القيم الإنسانية والأخلاقية، والناس في ذلك سواسية.
ومن هذا المنطلق نقول : القرآن لم يغفل عن القوميات شعوبا وقبائل وأعطاها حقها اللائق بها ، ووضعها موضعها في السلم الاجتماعي ، من دون إفراط ولا تفريط ، فاعترف بها كشعوب وكقبائل وجعل لهذه المشكلة الاجتماعية قانوناً قبل أن يهتم الناس في عصرنا بوضع دستور لها في الأمم المتحدة.
والغاية من هذا القانون الحفاظ على حق القبائل والشعوب كحق من حقوق الإنسان ، حيث نص على أن لكل مجموعة بشرية حق البقاء وحق الحياة ، وحق الاحتفاظ باسم وعنوان خاص بهم يتعارفون به فيما بينهم ، ويعترفون بما عند كلّ واحد منهم من الأنساب والأحساب ، ومن الكرامة والعزة ، من دون أن يتخذوا من ذلك سبيلاً للتفاخر والتنابز بالألقاب ، ثم التنازع والتقاتل فيما بينهم .
وهذا ما وقع مع الأسف بين الأقوام قديماً وحديثاً وفي هذا العصر بالذات.
وفي هذا المجال قال بعض المفسرين في تفسير الآية : أي جعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا لا ليتنا كروا فالناس مكلفون بالتعارف مع بعضهم البعض وبالاعتراف بالجميل وبالمعروف أينما كان ، سواء وكان في قومهم ولدى قبيلتهم أو في غيرهم من القبائل والأقوام والملل والنحل.
والى ذلك يشير قوله تعالى في ختام الآية : ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾ أي الفضل للتقوى ، وللعمل الصالح وللخلق الحسن الجميل . فلابد أن يهتم الناس بذلك في تعارفهم وأن لا يركزوا على الجوانب السلبية ولا يظنوا ظن السوء بالآخرين . ثم أكد على أن الاعتبار في الفضيلة بما هي عند الله فضيلة
(12)
لا بما عند الناس ، فيربط القرآن العلاقات الاجتماعية بالقيم الإلهية.
وقد جاء في السنة الشريفة عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا للأبيض على الأسود ولا للأسود على الأبيض ، وفي بعضها على الأحمر» وقوله: «الناس سواسية كأسنان المشط». وقال علي ـ عليه السلام ـ فيما نسب إليه:
الناس من وجهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
إن الهدف من خطابهم بـ «يا بني آدم» هو التأكيد على وجود صلة الرحم بين الناس، وعلى أنهم جميعاً ذرية زوج واحد ، فبينهم رباط الأخوة والبنوة ، فلماذا التفاخر والتنابز الذميم بينهم ؟!
السيرة المثالية للمسلمين
واتباعاً لهذا التعليم الرباني فقد جرى المسلمون في تعايشهم مع الأقوام والملل على العموم ، وفي سلوكهم مع الناس من كلّ عنصر وقوم ، وفي كلّ قطر في الشرق الإسلامي وغربة ، فاعترفوا بوجود الشعوب واحتفظوا بحقوقهم الإنسانية ، فلم ينكروا شعبا ، ولم يقاطعوا قوما ولا ملة حين فتحوا البلاد ، ولم يسلبوا أمة خصائصها القومية ، سوى ما خالف القرآن من الأخلاق الذميمة والأعمال السيئة ، فعاملوهم معاملة إنسانية ، سواء الّذين اعتنقوا الإسلام ، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، أو الّذين لم يدخلوا الإسلام من أهل الكتاب والمشركين ،فإن لكل فئة من أولئك وهؤلاء حكما عادلا في الإسلام ، مع تفاوت بين أهل الكتاب والمشركين ، احتفاظا بما لأهل الكتاب من حق استسلامهم لوحي السماء وتلبيتهم لدعوة الأنبياء .
حتّى أن المسلمين حفظوا بالتأكيد الأنساب والأحساب ، فاستقرت عادتهم
(13)
عند تسمية الناس على الانتساب إلى القبائل والبلاد وإلى الآباء والأجداد . فهناك آلاف من تلك الأنساب حفظتها لنا كتب الأنساب ، كأنساب السمعاني وغيره ، بل هناك مؤلفات كثيرة بلغت ما يزيد عن ستمائة مؤلف في شجرات القبائل ، وفي مقدمتها شجرات السادة الشرفاء من آل النبي والصحابة والأئمة أليس ذلك شاهدا على أن الإسلام لم يسع في يوم من الأيام على مر التاريخ إلى إزالة القوميات أو إبادة الشعوب أو القضاء على هويتها مثلما يحدث في عصرنا الراهن في بعض أقطار العالم.
تعاملهم مع اللغات
وإلى جانب الاحتفاظ بالقوميات كوسائل للتعارف ، حافظوا على اللغات ، فلو كانت لنا معاشر المسلمين إحصائيات دقيقة عن الأقوام الّذين اعتنقوا الإسلام، وعن اللغات التي كانوا يتكلمون بها ، لبلغت آلافاً من القوميات واللغات ، وقد استمرت فيما بينهم عبر العصور.
نعم ؛ غلبت اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم على جملة من الأقوام القريبة من الجزيرة العربية لهجرة قبائل من العرب إلى أراضيهم ، من دون جبر وضيق . ومع ذلك فهؤلاء الأقوام لم ينسوا لغاتهم ، فهم يتحادثون لحد الآن بلغاتهم كلغات شعبية ويكتبون ويؤلفون ويخطبون باللغة العربية الفصحى، وفي كثير من الأقطار الإسلاميّة اختلطت اللغات المحلية باللغة العربية ، فحدثت من هذا الاختلاط لغة ثالثة ليست هي عربية ولا قومية ، كما أن كثيرا من اللغات تأثرت بالقرآن الكريم من دون قصد من أحد للتدخل في تلك اللغات ، ومنتهى الأمر أن جملة من الألفاظ والمصطلحات القرآنية والشرعية ، وجملة أخرى من أداة النسب والربط في العربية وجدت طريقها إلى تلك اللغات ، فنشطت
(14)
وتبلورت وازدهرت بمفاهيم إسلامية ، وبقيم إنسانية ، وتبدلت صورتها وصبغتها إلى صورة ربانية ، وسيماء إلهية ، فزادها الإسلام خيراً وبركة من دون أن ينقصها شيئا ، كما أن اللغة العربية أيضاً اكتسبت غنى بتسري كلمات من تلك اللغات إليها .
ومن هذا المنطلق اتفقت اللغات الإسلاميّة في كثير من المصطلحات والمفاهيم والقيم ، وفي الأمثال والقصص والمحاورات ، وحدثت بين الأمم والأقوام البعيدة تحت ظل الإسلام ، وعلى ضوء القرآن روابط أخوية وأدبية وعلاقات دينية ، وشدت أو اصرهم خيوط الكرامة والإيمان ، وبذلك نمت الثقافة الإسلاميّة الموحدة وانتشرت في شرق العالم الإسلامي وغربه . فهناك أدب إسلامي واحد بلغات مختلفة ، ولا سيما على صعيد الشعر والقصص والأمثال . فهذا عطاء الإسلام للأقوام وللشعوب المسلمة ، فما هو عطاؤه لغير المسلمين ؟
موقف الإسلام من غير المسلمين
أوصى علي ـ عليه السلام ـ عامله مالك الأشتر في كتاب قيم طويل أرسله إليه أو كتبه له حين أرسله عاملاً إلى مصر ، أوصاه بالعدل بين الناس جميعاً وقال : «فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».
إن الإسلام مع احتفاظه بكرامة الناس فرق بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس وبين غيرهم من الأقوام المشركة في بعض الأحكام ، كما ثبت في الفقه ، فلم يقبل من المشركين ولاسيما المشركين من العرب سوى الإسلام والانصراف عن الشرك ، لأن الشرك ليس ديناً ، بل انحرافا عن الدين الحنيف ، وأما أهل الكتاب فلم يجبرهم على نبذ أديانهم وعصمهم في ذمته بشروط ، فظلوا في حماية الإسلام في كلّ البلاد آمنين ، أحراراً في
(15)
مناسكهم ، وفي أحوالهم الشخصية ، وفي غيرها من الحقوق المدنية . ولم يكتف الإسلام بهذا المقدار ، بل أعلن أن أهل الكتاب موحدون في أصلهم وخاطبهم بقوله: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله..﴾ (آل عمران: 64).
إضافة إلى ذلك ، فقد أقر القرآن بمعابدهم وبمناسكهم حيث قال : ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز الّذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ (الحج: 40 ـ 41).
وقال ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ (الأنبياء: 105).
وكم قص القرآن علينا قصص الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم ، وهناك عدة سور باسم الأنبياء ، كسورة يوسف التي هي أحسن القصص بشأن يوسف ـ عليه السلام ـ وسورة إبراهيم وبني إسرائيل وآل عمران ويونس وهود ومريم ونوح وحجر ولقمان ، بل والبقرة ، فإنها جاءت في سياق قصة من قصص بني إسرائيل وفي هذه السورة بالذات جاءت أكثر من مائة آية بشان بني إسرائيل ، وكذلك سورة السبأ باسم قوم سبأ وقد جاءت في القرآن سورة الأنبياء وسورة القصص حاوية لكثير من قصصهم أليس هذا اعتراف من القرآن بشأن الأقوام والملل ولا سيما أهل الكتاب ؟!
الأمة الواحدة الإسلاميّة
وإلى جانب ذاك التماشي والتعايش السلمي والسلوك الإنساني مع الأمم
(16)
والنحل وأهل الكتاب ، فقد أكد الإسلام بأن المسلمين أمة واحدة يجب عليهم أن يحتفظوا بتماسكهم وبقوتهم وباستعدادهم للوقوف أمام أعدائهم وللدفاع عن أنفسهم وهذه المهمة بالذات ، هي التي يهتم بها «المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة» الذي أسسه قائد الجمهورية الإسلاميّة الإمام الخامنئي حفظه الله ، متابعة لاهتمام الإمام الكبير مؤسس الجمهورية الإسلاميّة ومفجر ثورتها الإمام الخميني t حيث بدأ دعوته المباركة بنداء الوحدة الإسلاميّة كما تعرفون.
ونحن في هذا المجمع ندعو المسلمين إلى توحيد صفوفهم والتمسك بدينهم وندعو العلماء والقادة للالتفاف حول مائدة الكتاب والسنة ، والتركيز على المشتركات ، وما أكثرها ، سواء على صعيد السنة ، أو في حقل الشريعة والعقيدة وأما الكتاب الكريم فهم متفقون عليه بحمد الله تماما وأما فيما اختلفوا فيه من المذاهب فليعترفوا جميعا بمذاهبهم ، ويجعلوها مدارس فقهية وكلامية، ويتبادلوا الآراء بينهم فيأخذوا بأحسنها عملا بقولـه تعالى : ﴿فبشر عباد الّذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الّذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب﴾ (الزمر/ 17). 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية