مقال يتحدث فيه الكاتب عن أهمية الحوار ، ودوافعه الأساسية ، وموقف
الإسلام منه ، ودوره في الحضارة الإنسانية والعلاقة بين الإنسان
والإنسان ، وأهمية الكلمة في الحوار وموقع الكلمة في الإسلام ، ثم
يرسخ الكاتب أهمية الحوار للمسلمين في نهضتهم ، ووحدتهم .
أ ـ إشكالية :
لماذا الحوار ؟ !وهل العالم جادٌ في تبنيه سبيلاً للقاء ؟ وهل هناك
اتفاق على مضمونه ومعناه ؟ مادام للحوار شكلية وصيغة .
من الحكم في الحوار ، ومن المرجع الحاكم على أطرافه؟
هل الحوار صرعة أو صرخة عابرة ؟ أم هو ثابتة إنسانية ، تغيب إذ
يسود القمع ، وتظهر حين يزول؟
__________________________________
*ـ أستاذ جامعي سوري وباحث معروف.
(31)
هل الحوار إعلان رفض ، وردة فعل على سباق التسلح المخيف ، ذي
التنوع الأكثر من تعددية فنون الحوار وطرقه؟
هل قرر العالم بمن فيه الحوار للتعايش ؟ أم هو قرار الضعيف ليقوى ،
والقوي ليتمكن ويستولي ؟ ويستعدي ويستعلي!
التساؤلات جداً وفيرة ، ولازالت في ازدياد ، والإجابة هنا: في
المؤتمر الدولي الثاني عشر للوحدة الإسلاميّة تحت عنوان «الإسلام
والأمة الإسلاميّة في القرن القادم» مساهمة فاعلة ، وفاعلة جداً ،
وفعاليتها آتية من :
أ ـ إيمان مؤسس الثورة الإسلاميّة ومفجرها الإمام الخميني (قدس
سره)، المطلق بضرورة وحدة المسلمين ، ومن سعيه المتواصل إبان حياته
لتحقيقها وتشخيصها طوداً راسخاً على أرض الواقع.
وكذلك من :
ب ـ وفاء من خلفوا الإمام لمنهج الإمام وقضاياه في تبني إيمانه
بضرورة هذه الوحدة ، فتابعوا التحقيق : مرشداً ، ورئيساً ، ومؤسسات
، وشعباً وما المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة هذا
إلا دليل على ذلك .
فللجمهورية الإسلاميّة بكل قطاعاتها ، شكرنا وتشجيعنا ، وليرعها
الله جامعة شتات المسلمين ، راعية توجهاتهم في اللقاء تحت راية
الإسلام العظيم.
والله من وراء القصد.
ب ـ الإنسان والكلمة
الإنسان تركيبة معقدة ، والتعقيد هنا في مقابل البساطة المرفوضة ،
وهو في النهاية مجموعة معان تنظمها خصوصية فطرية مستقلة ، في قالب
خلقي راق : ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ (1) ، تشكل هذه
المجموعة وحدة قائمة
(32)
بذاتها، وكينونة نواة نوعية للعالم ، ونقطة استقطاب واعية ، تدور
حولها وفي فلكها الأشياء كلها: ﴿ألم تروا أن الله سخر لكم ما في
السموات وما في الأرض﴾(2) ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا
إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه﴾(3).
وكأني بكل وحدة من هذه الوحدات العالم كله وقد كثف ، ولاغرو
ولاغرابة أن تكون إضافة الرب إلى العالمين ، الواردة في كتب السماء
بشكل عام، تعني إسناد الرب إلى الإنسان ، والإنسان إلى الإنسان أي
إلى الناس، لأن كلّ واحد من الناس عالم.
أتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ولنعد إلى المعاني المكونة، لنجدها تعبيراً صادراً عبر الكلمة أو
ما يقوم مقامها ، أي مقام الكلمة.
ومن هنا كانت الكلمة هذه ، الركن الأهم في حد الإنسان وتعريفه
ورسمه ، فقد قالوا معرفين :«الإنسان : حيوان ناطق» يأتلف مع بقية
المخلوقات الحية في مطلق الحياة المادية ، وينفرد بالنطق الذي هو
صوت الكلمة ، وبالكلمة التي هي لبوس المعنى ، وبالمعنى الذي هو
المرتكز والأساس ؛ ولعلها النفخة الإلهية التي ميز بها الإنسان :
﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين﴾(4).
هذه قصة الكلمة والإنسان اختصرناها وكثفناها.
ج ـ الحوار والكلمة
الحوار مراجعة ، والمراجعة إنسانية ، وما دامت إنسانية فهي في
المعنى عبر الكلمة المنطوقة أو المكتوبة ، وربما عبر إشارتها
المعهودة لدى من لا يحسن نطقها أو تناول قلمها.
(33)
والحوار مواجهة بين من اختصوا بالوجه المعبر، والوجهُ صفحة مرسلة
ومستقبلة في آنٍ معاً ، فالفم فيه مصدر معرفة مقولة ومرسلة والأذن
فيها طريق موصلة للفكر إلى مستقر الصدر، الصدر الحاوي: ﴿ألم نشرح
لك صدرك﴾(5) ،و﴿ قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري﴾(6).
وأما العين الباصرة فكفيلة بدعم الفم قائلاً مرسلا ، ودعم الأذن
مستقبلة.
والحوار فن : في المراجعة والمواجهة ، تراجع بينك وبين ذاتك ،
وتواجه الآخر بما راجعت وبما حورت في خلدك وداخلك ، وهو على الكلمة
يقوم ، وقد غدا اليوم فناً من الفنون المؤهلة إلى درجة العلوم (7)
له قواعده ونظمه وأسسه.
و«حاور» تعني لقاءً على الكلمة، فإذا ما تم اللقاء على سواها الذي
لا يمت إليها ، غدا الأمر مسمى بحسب الوسيلة البديل.
على أن الكلمة التي يرتكز عليها الحوار مراجعةً ومواجهة، ليست
مطلقة ولا حرة من قيد يبقيها سمةً إنسانية لائقة، فليس القصد في
الحوار أن تتكلم ، ولكن القصد والمطلوب أن تصبر على كلام الآخر ،
فلا تستخدم في مواجهته ـ ولو كان ما يصدر عنه غير لائق ـ إلاّ
اللائق : ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلام﴾(8).
إن الكلمة الأس في الحوار هي التي تستتبع كلمة أخرى ، ولا تفضي إلى
حنق أو إثارة ، لأن الكلمة في انطلاقها وغايتها نوعان : فقد تكون
أداة فتك وفتنة ، وقد تكون سبيل مواصلة إنسانية ، ولم أقل سبيل
اتفاق ، لأن التواصل بالكلمة، وبغض النظر عن الاتفاق أو عدمه ، هو
غاية الحوار : ﴿وقولوا للناس حسن﴾(9)، و(من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) كما قال ـ صلى الله عليه وآله ـ وشتان
بين كلمة مرغوبة تعني الخير وتحمله ، وبين كلمة أخرى تعني الشر
وتسوقه : (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في
جهنم سبعين خريفاً) كما قال محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً .
(34)
الحوار في النهاية: كلمة مناسبة للإنسان الذي اختير أميناً في
الأرض ، وموضوعاً شاغلاً لأهل السماء فهل من سبيل إلى تلاقٍ بين
الإنسان والحوار أو إلى إعادة التلاقي ، وهما معاً للكلمة ومعها
وبها؟
د ـ الإنسان والحوار
كلاهما يقومان على الكلمة ، وتجمعهما الكلمة ، فهل يجوز لنا أن
نقول: الإنسان حوار والحوار إنسان ؟!
إني لأجيب بـ«نعم» ، وأنا واثق أن العلاقة وطيدة ، والحكم رشيد
وعلى أساس الحوار يلتقي الإنسان الإنسان ، لأن الحوار فعلة الإنسان
الرئيسة ، مادامت هذه الفعلة تتعامل مع الكلمة.
أو ليس الإنسان ـ حسب معطيات كلّ الديانات ـ حامل كلمة ، وناقل
كلمة ، ومبلغ كلمة ، وتلك مهمته التي كلف بها أمانةً يسعى إلى
أدائها بكل جدية فمن ﴿أقر﴾ ، إلى ﴿سنلقي عليك قولاً ثقيل﴾(10)، إلى
﴿إن الّذين قالوا ربنا الله ثم استقامو﴾(11)، إلى ﴿ يا أيها الرسول
بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾(12).
وهل هذا إلاّ حوار ، ما دمنا قد عرفنا الحوار وعرفناه على أنّه
«الكلمة» ترجع ويواجه بها؟
فمن أعرض عنها فلم يستقبلها : ﴿وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا
أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبار﴾(13)،
أو استبدل بها سواها في الإرسال: ﴿قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن
كنتم فاعلين﴾ (14) من كان كذلك فقد بعدت عليه الشقة مع إنسانيته،
وأضحى إلى سوء يبعده عن معانيه التي تحمل سره ، وغدا حينها منسلخاً
، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث.
(35)
الحديث أخيراً عن الإنسان والحوار حديث عن نون والقلم ، عن الصحيفة
والحرف ، حديث عن مجلى يظهر إنسانية الإنسان.
يقول «فروم» : «الإنسان بالحب يسمو وبالقيم يسود وبالحوار
يتقدم»(15).
هـ الإسلام والكلمة
الإسلام ـ كغيره من الديانات ـ قام على الكلمة وأسس عليها ،
استقبلها من السماء بأمانة عن طريق الوحي ، وأرسلها إلى الناس
بوفاء عن طريق التبليغ والدعوة والرسالة ولو أحصينا ما جاء في
القرآن الكريم والسنة الشريفة عن الكلمة ، وكونها الأصل المرتكز
والمحور ، لما أبقينا لغيرها شيئاً في عالم المصادر.
فالعلم الذي يفترش جل صفحات القرآن الكريم، والتفكير الذي يشغل
حيزاً كبيراً في أسطر هذا السفر العظيم ، والدعوة التي ملأت أركان
الكتاب الكريم، والسلام والسلم اللذان دعي إليهما الإنسان مراراً
وتكراراً ، والإيمان والتقوى و...لدليل على أن الإسلام كلمة ، لأن
هاتيك المصطلحات التي أتينا على ذكرها تواً ، لا تعني إلاّ الكلمة
فقط ، فإن رقعتها ـ أقصد الكلمة منها ، أي من المصطلحات ـ غدت
الأخيرة هذه حروفاً صوتية ، أو لفظاً دون قول كما يقول النحاة.
ـ والكلمة في الدين الحنيف تتسم بثلاث سمات:
1 ـ الإنتاجية .
2 ـ قابلية التوريث.
3 ـ البعد الرباني .
ـ أما الإنتاجية : فالدلالة والمعنى المحدد المفهوم الذي يرى فيه
العصر
(36)
والمكان، والمؤدي في الأخير إلى سلوك، وإذا لم تملك الكلمة مقومات
الإنتاج فهي الثرثرة المضيعة المضيعة.
ـ وأما قابلية التوريث : فإمكانية النقل والتعليم لمن يعيها:
﴿وتعيها أذن واعية﴾(16)، ﴿وعلّم آدم الأسماء كله﴾(17).
الكلمة في الإسلام لها نسب ، وهكذا ينبغي أن تكون بشكل عام، ومن لا
ينسب الكلمة إلى الله يساءل عن مصدره المعتمد لكلمته ، ولم عدل عن
ربه مصدراً يأخذ عنه ؟! فهل وجد ما ينافي العقل ؟ أم رأى في عقله
ما يمكن أن يمده؟ فليفصح إذا : ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم
صادقين﴾(18).
إن مشكلة الكلمة هذه مشكلة ما قبل الحوار، وعلى الإنسان أن يحل هذه
المشكلة بينه وبين ذاته قبل أن يثيرها مشكلة مستعصية مع غيره:
﴿فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه﴾(19).
قدر لرجلك قبل الخطو موضعه فمن علا موطناًَ عن غرة زلق
ونحن نقول : قدر لكلمتك قبل الحوار مصدرها.
وـ الإسلام والحوار
أس كليهما الكلمة ، والسمة الأهم لكل منهما الكلمة ، وعلى هذا ،
فالإسلام حوار يبتدئ من الذات ومعها ، ويستمر ويتتابع مع الآخر ،
أعني مع الإنسان وينتهي إعلاناً مفاده: ﴿قد تبين الرشد من
الغي﴾(20)، و﴿ فإنأعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ
البلاغ﴾(21).
ـ أما بدايته مع الذات : فاقرأ معي قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ :
﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ،
فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال : هذا ربي فلما أفل قال : لا
أحب الآفلين ، فلما رأى القمر بازغاً قال : هذا ربي
(37)
فلما أفل قال : لئن يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ، فلما رأى
الشمس بازغة قال : هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال : يا قوم إني
برئ مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً
وما أنا من المشركين . وحاجه قومه...﴾(22).
ـ وأما متابعته واستمراره ليتجاوز إلى الآخرة فاقرأ المجادلة : ﴿قد
سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع
تحاوركم﴾(23).
ورتل أيضا : ﴿قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم
من نطفة ثم سواك رجل﴾(24)، واتل أيضاً : ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم﴾(25).
ـ وأما نهايته الإعلانية : ﴿فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى
الله إنا الله بصير بالعباد﴾(26).
و﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾(27).
وها نحن نسوق مثالين مستلين من السيرة النبوية ، أولهما حوار مع
مشرك ، والثاني مع شاب مؤمن يبغي فعل كبيرة ورذيلة.
1 ـ روى ابن خزيمة بإسناده، أن قريشاً جاءت إلى الحصين ، والد
عمران ، وكانوا يعظمونه ، فقالوا له : كلم هذا الرجل ، أي محمداً ـ
صلى الله عليه وآله ـ فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم فجاؤوا معه حتّى
جلسوا قريباً من باب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فقال : «أوسعوا
للشيخ» ، وعمران وأصحابه متوافرون ، فقال حصين : ما هذا الذي بلغني
عنك، أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم؟
فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ «يا حصين ، كم تعبد من إله؟»
فقال حصين : سبعاً في الأرض وواحداً في السماء .
فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : «فإذا أصابك الضر من تدعو؟».
(38)
فقال حصين : الذي في السماء .
فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ «فيستجيب لك وحده وتشركه معهم،
أرضيته في الشكر ، أم تخاف أن يغلب عليك ؟!» .
فقال حصين : ولا واحدة من هاتين.
قال : وعلمت أني لم أكلم مثله .
فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : «يا حصين أسلم تسلم».
فقال حصين : إن لي قوماً وعشيرة ، فماذا أقول؟.
قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : «قل : اللهم إني أستهديك لأرشد أمري
، وأسألك علماً ينفعني».
فقالها حصين فلم يقم حتّى أسلم فقام إليه ابنه عمران فقبل رأسه
ويديه ورجليه ، فلما رأى ذلك النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بكى .
2 ـ روى الإمام أحمد في مسنده والطبراني ، أن رجلاً جاء إلى النبي
ـ صلى الله عليه وآله ـ يستأذنه في الزنا.
فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ «أترضاه لابنتك؟».
فقال الرجل : لا.
فقال : «وكذلك الناس لا يرضونه».
فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ «أترضاه لأمك؟».
فقال الرجل : لا.
فقال : «كذلك الناس لا يرضونه» .
ثم قربه ، ومسح صدره قائلاً : اللهم طهر قلبه ، وحصن فرجه ، واغفر
ذنبه» فقال الرجل : دخلت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وما
شيء احب إلى قلبي من الزنا ، وخرجت وما شيء أبغض إلى قلبي منه .
(39)
ز ـ دائرة الحوار ومجاله
إن دائرة الحوار ومجاله الإنسان كله ، كلّ ما يصدر عنه ، كلّ ما
تفرزه قواه العقلية وقدراته الادراكية ، لا يند عن ذلك منه شيء،
ولا يستبعد منه معطى أوامر أو قضية إنسانية.
ـ قل ما تريد إذا كنت محاوراً، واسمع ما يقال ، وأجب عليه إذا كنت
طرفاً في الحوار.
ـ تحرر من كلّ تحرج وأنت تسأل وتحاور تأتي امرأة من الأنصار النبي
ـ صلى الله عليه وآله ـ فتقول : يا رسول الله ، هل على المرأة من
غسل إذا احتلمت ؟ فقال النبي : نعم .
ثم قال : «رحم الله نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء من التفقه
في الدين».
ـ بادر وأخرج كلّ ما يعتلج في داخلك وأنت تطرق باب الحوار ، وقد
كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يقف أحياناً ويقول:(سلوني أيها
الناس ما شئتم).
ـ كن واضحاً وأنت تحاور : ﴿قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت
بصير﴾(28)، أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال :
بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافداً إلى رسول الله ـ صلى الله
عليه وآله ـ فقدم إليه، وأناخ بعيره على باب المسجد ورسول الله ـ
صلى الله عليه وآله ـ جالس في أصحابه ، وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر
ذا غديرتين ، فأقبل حتّى وقف على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ
في أصحابه.
فقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟
فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ :«أنا ابن عبد المطلب».
فقال : أمحمد؟
قال : (نعم)
قال : يا بن عبد المطلب ، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة ، فلا
تجدن في نفسك؟
(40)
قال :«لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك».
قال : أنشدك الله إلهك ، وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك
: الله بعثك إلينا رسولاً؟
قال : «اللهم نعم».
قال : فأنشدك بالله إلهك ، وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن
بعدك : الله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئاً ، وأن
نخلع هذه الأنداد التي كان آباءنا يعبدون؟
(اللهم نعم)
قال : فأنشدك بالله إلهك ، وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن
بعدك: الله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟
قال : (اللهم نعم).
الإنسان بساحاته كلها مجال للحوار وضمن دائرة الحوار ، لا تغيب منه
ساحة عن شمس الحوار ، ولا تمتنع فيه مساحة من استمتاع بوابل الحوار
الطيب.
ـ من وافقك حاوره ليوافقك عن بينة ، ومن خالفك حاوره ليخالفك عن
معرفة ، فإن رفضت محاوراً فتحول محارباً حتّى تعود محاوراً ، وإن
ظلمت فمنعت من إرسال الكلمة فانطلق مقاتلاً إلى أن تستطيع إرسالها
، وإن أخرجت بالقوة الظالمة من دارك التي تملك موثقا على أنها دارك
، فادفع الفعل بمثله ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم﴾ (29). ﴿ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمن﴾(30).
الحوار: هو الأصل ﴿أدخلوا في السلم كافة﴾ (31)، وأما سواه ـ إذ
تستخدم القوة المادية ـ فعرض طارئ ، شرع للدفع : ﴿وقاتلوا في سبيل
الله الّذين
(41)
يقاتلونكم ول تعتدو﴾ (32)، ولا أريد أن أعد ما يمكن أن يدخل في سجل
الحوار وما لا يمكن أن يحتوي عليه هذا السجل ما دمت قد قلت : إن
الإنسان بكل ما يصدر عنه محل حوار ، فهل يستعد الإنسان؟.
يا أيها الإنسان : إذا كان المرء بأصغرية قلبه ولسانه ، وهما أداتا
الحوار، فليس هو إذاً بالجوارح أو بالفتك..
ألم يأن لبني الإنسان أن يعامل بعضهم كما يعامل الإنسان نفسه حين
تخالفه نفسه : (ولا يؤمن أحدكم حتّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كما
قال محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ فهل رأيت معتدياً على نفسه حين
تخالفه نفسه أو يخالفها؟! وهل يلجأ هذا إلى القوة فينسف نفسه إذا
خالفته ، فإن فعل هذا كان منتحراً ، وكان عقابه خلوداً في نار جهنم
، كما جاء في مجمل أدبيات هذا الإسلام ، بل الأديان كلها.
ـ وقد يقول قائل : فمن الذي يرعى الحوار حتّى لا ينتهي إلى دمار؟
من الذي يضبطه ؟ ومن الذي يتولى عقاب من اشتط من الأطراف ؟ من ؟ من
؟!
وهذا قول معتبر له حظ من النظر ، ونشير في الإجابة إلى وجوب تنصيب
قاض حاكم ، نرجع إليه مقرين بضرورة الالتزام بحكمه واعتماد قراره ،
والقاضي يتخذ شكل فرد أو مؤسسة أو منظمة ، والمهم هو الإذعان له ،
والإيمان بضرورته ، والعمل على إيجاده ، ونأمل اليوم ، من المنظمات
الدولية التي أخذت هذا الدور، أن تلعب الدور بشكل أفضل ، وبجدية
أكثر من خلال إلزام أعضائها بمقرراتها ﴿فإن بغت إحداهما على الأخرى
فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله﴾(33). وتعميم حوار ينصب
على ضرورة التزام الأعضاء بها ، وإلا كانت اسماً عائقاً عن عمل جاد
، وصورة مانعة من فعل حق.
(42)
ح ـ الحوار إرادة ومسؤولية وتحديات
ما كان الحوار في يوم من الأيام مجرد تنظيم يصدره قرار، ولا كان
محض قضية يشرع بمرسوم ، لكنه ـ أولاً وآخراً ـ إرادة نابعة من
الداخل ، تتحمل من أجلها الصعوبات ﴿يا بني أقم الصلاة وأمر
بالمعروف وأنه عن المنكر وأصبر على ما أصابك﴾(34).
الحوار مسؤولية كلمة ، وحصانة كلمة ، وسيادة كلمة ، لأن الكلمة هي
الأصل كما أسلفنا ؛ ولأن الكلمة موقف ، ولأن الكلمة مرتكز السلوك ،
ولأن الكلمة هي كلّ شيء لدى الإنسان.
الحوار تحد في حلبة الكلمة يؤكد على أطرافه البقاء فيها ، وعدم
الخروج منها إلى حلبة السيف أو اللسان أو البارودة أو النووي أو
...
﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا
شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين﴾(35).
الحوار أمانة لا يراد منه الإدانة لكنما الكلمة المقنعة هي الغاية
المرجوة، ولتظهر على أي لسان من ألسنة الفرقاء المتحاورة شاءت .
فنحن في حوارنا لا ندين ، ولكننا نسعى إلى إظهار الذي به ندين :
(لا يكن أحدكم إمعة يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت ، وإن
أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم على إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وأن
أساؤوا ألا تظلموا).
كما ورد عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ :
الحوار إنقاذ من جوع يستفعل ، وعطش يتفشى ، لأن ثمن الطعام والمياه
تحول إلى متفجرة دمرت حاضراً وهددت مستقبلاً.
ي ـ نداء إلى الإنسان من أجل حوار جاد ، من أجل تعايش
أيها الإنسان في كلّ مكان ! ادخل السلام والسلم ، واعمل على أن
يذكرك من
(43)
بعدك داعي لقاء ووفاق ، لا داعي نزاع وفراق ، اسع لمستقبل العالم
ليكون إنسانياً ، أعمل عقلك فيما يبقي لا فيما يفني ، وفيما يجمع
لا فيما يبلع.
أيها الإنسان ! حاور ولايستخفنك السفاكون ، حاور ففي الحوار حياة ،
وفي الحوار تطور نحو الأفضل.
أيها الإنسان ! أمن الناس من جهتك ، وقل لنفسك «كما تدين تدان»
فاختر العمار على الدمار، أدع ، بلغ ، علم فكر ، ولكن إياك أن تقتل
وتفتك وتسفك .لا تمانع من لا يعجبك رأيه من الحديث والنقاش ، وجاهد
لتسمعه كما تسمع من يثني عليك ويمدحك ، والعاقل من أخذ لا من أخذ.
أيها الإنسان ! إلى متى ستظل مهدداً وأنت ترفض الحوار ، لا أريد
مثالية في الحديث ، لكني أرجو الكثير في هذا الشأن لننال من الكثير
القليل ، ليتابع من بعدنا حتّى يغدو القليل كثيراً.
أيها الإنسان ! أنت المحور والقطب والمرتكز والأس ، فإن صلحت صلح
الكون كله ، وإن فسدت فسد الكون كله : ﴿فقال لهم رسول الله ناقة
الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا
يخاف عقباه﴾(36).
فهل تسعى يا إنسان إليه ؟! وإنا معك لساعون.
ك ـ نداء إلى المسلمين من أجل حوار فاعل ، من أجل تعاون
ندعو المسلمين إلى حوار يقرب بعد إذ يعرف ، فالمشكلة في أحكام
متخذة حيال بعضنا ، لا تستند إلى معرفة موثقة عن بعضنا.
أيها المسلمون ! التقوا على مائدة الحوار وليجند كلّ منا نفسه
ليسمع الآخر حتّى يعرفه.
فإلى متى نطرح الحوار أسلوباً جميلاً للتغني دون التبني؟!
(44)
وإلى متى سنظل أسارى جرائم التاريخ التي باعدت بعضنا عن بعض ؟!
والى متى سنبقى نردد المصالحة باللسان ، ونسلك سبيل المسالحة
بالفعل والميدان؟!
والى متى سنتوارى عن ساح المسامحة لنظهر في قعر المسافحة؟!
والى متى سنعيش الفرقة قدراً ننسج خيوطه بدمائنا المسترخصة منا ؟ !
والى متى سيلاحقنا الماضي المرفوض ليغدو الواقع والحاضر المفروض ؟!
لقد سامنا كلّ مفلس ، وانتزعت مهابتنا من قلب عدونا ، حتّى صارت
خطوط التاريخ أقوى في تكويننا من نصوص القرآن ، وذبذبات السياسة في
ملف الزمن السابق أقوى وأعظم أثراً فينا من معاني السنة المشرفة
الداعية إلى الوحدة والاعتصام لقد استبدلنا بالنصوص الأساسية بعض
التطبيقات البشرية الخاطئة ، ونهلنا منها أحكام علاقاتنا وآداب
لقائنا ورفض حوارنا ، حتّى لكان السنة والشيعة هكذا مفرقين قدر
محتوم لا يمكن أن تقاومه آيات القرآن المكلفة لهؤلاء جميعاً
بالتوحيد والاتحاد.
أملي أن نحسم الخلاف بيننا بحوار جاد فاعل قبل أن يحسم علينا ، إن
لم نقل أن نحسم في وجودنا.
يا مسلم ! حاور المسلم ولا تحاربه ، فإذا اتفقتما فتعاونا ، وإذا
اختلفتما فقد أغنيتما إسلامكما ، وتعاونا ، وهل التعاون ـ في
النهاية ـ إلاّ وليد الحوار ، فأين فريضة التعاون ﴿وتعاونو﴾ وأين
قبلها فريضة الحوار ﴿لتعارفو﴾.
فالمسلم أخو المسلم.
ولنلتق دون ألقاب أفلا يكفينا الإسلام؟!!
ل ـ فلنحافظ على الثورة الموحدة المؤلفة الجامعة
بدوام التثوير فينا نحو ديننا وإسلامنا.
(45)
ولن نحافظ على الثورة معطاءة خيرة إلاّ إذا حافظنا على الإنسان
مخلوقاً أسمى صاحب أمانة، خليفة في الأرض له غاية وهدف وقبلهما
منطلق .
لن نحافظ على الثورة إلاّ إذا ثرنا على التفرقة والجهل.
لن نحافظ على الثورة إلاّ إذا بحثنا عن الإسلام الجامع لأبنائه.
لن نحافظ على الثورة إلاّ إذا جعلنا الحب والنصح جناحي الأخوة
المفروضة بيننا وعلينا من خالقنا الرحيم بنا.
لن نحافظ على الثورة إلاّ إذا وعينا خلافاتنا واعتبرناها عامل ثراء
، ووعينا خلافاتنا مع عدونا واعتبرناها سبيل جهاد.
لنكن صرحاء ، فالصراحة أساس، ولنكن رحماء ، فالرحمة وفاء ، ولنحول
عداوة غدت بيننا إلى جهة عدو لدود يتربص بنا الدوائر.
ولنجعل القيم الرائعة مؤسسات نرعاها حتّى تستمر.
ولنذكر فلسطين حتّى لا ننسى الجهاد.
رحم الله الإمام الخميني ثائراً على الباطل ، ومؤسساً لدولة تبغي
الخير والحق ، ومعلماً من معه ومن بعده سبل النجاة المستوحاة من
كتاب الله ، وراعياً لمبادئ ديننا الحنيف ، وهاجرا، كلّ عوامل
الفرقة بين المسلمين ، ومنادياً كلّ طلاب الحق والحقيقة من أجل أن
يجتمعوا تحت راية ﴿ونريد أن نمن على الّذين استضعفوا في الأرض
ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾(37).
(46)
__________________________________
1 ـ التين: 4.
2 ـ لقمان: 20.
3 ـ الكهف: 50.
4 ـ الحجر: 29.
5ـ الشرح: 1.
6ـ طه: 25.
7ـ الكتب العلمية حول الحوار والتفاوض الاجتماعي كثيرة . أنظر :
صراع الحضارات . عالم المعرفة.
8ـ الفرقان: 63.
9ـ البقرة: 83.
10 ـ المزمل: 5.
11 ـ فصلت: 30.
12 ـ المائدة: 67.
13 ـ نوح: 7.
14 ـ الأنبياء: 68.
15 ـ أنظر : الإنسان والقيم ص: 111.
16 ـ الرحمن: 1 ـ 4.
17ـ البقرة: 31.
18 ـ البقرة: 111.
19ـ البقرة: 37.
20 ـ البقرة: 256.
21 ـ الشورى: 48.
22 ـ الأنعام: 75 ـ 80.
23 ـ المجادلة: 1.
(47)
24ـ الكهف: 37.
25 ـ آل عمران: 64.
26 ـ غافر: 44.
27ـ سبأ: 24.
28 ـ طه: 125.
29 ـ البقرة: 194.
30ـ النساء: 94.
31 ـ البقرة: 208.
32 ـ البقرة: 190.
33ـ الحجرات: 9.
34 ـ لقمان: 17.
35ـ البقرة: 23.
36 ـ الشمس: 13 ـ 15.
37ـ القصص: 5.