مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

المجتمع الإنساني في القرآن الكريم
ـ 8
السيد محمد باقر الحكيم



الإنسان والمجتمع الإنساني هدف أساس في القرآن الكريم لما حظي به الكائن البشري من كرامة عند الله، ومكانة في الكون، وقدرة على الخلافة. وسور القرآن الكريم تتناول جوانب شتى مما يرتبط بالإنسان والمجموعة البشرية في إطار عقائدي تارة واجتماعي وتاريخي وأخلاقي تارة أخرى.
والباحث تناول في الحلقات السابقة مباحث تمهيدية ودخل في موضوع الاستخلاف وفصل القول في نظرية خلافة الإنسان على ظهر الأرض ثم عرج على مصطلح المجتمع وتحدث عن عناصر المجتمع الإنساني في نظرية الشهيد الصدر. ثم تحدث عن الثورة والتغيير بالشريعة وقاعدة التغيير في المجتمعات الإنسانية وفي هذه الحلقة يتناول أنواع المثل العليا التي تتحرك الساحة الاجتماعية من خلالها.
ـ(35)
مراحل تحول المثل المحدود إلى تكراري وتمر الأمة والمجتمع خلال الفترة الزمنية التي يتبادل فيها المثل المحدود والتكراري المواقع بأربع مراحل:
مرحلة فاعلية المثل الأعلى الأولى: إن الإنسان حينما يكون صورة عن المستقبل تمثل خطوة إلى الأمام في مسيرته، فإنه يتحرك وبطبيعة الحال نحو تحقيق هذه الصورة الخارجية، وبهذا تكون هذه الصورة فاعلة ومؤثرة في حركته تلك، ولكن هذه الصورة باعتبار أنها مأخوذة من داخل حياة الإنسان، فهي مرتبطة بالحياة الدنيا، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم: بـ(العاجلة)، فهي ذات تأثير محدود، ومن هنا عبر عن هذا المثل بأنه محدود، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وقد صور القرآن الكريم في آيات عديدة، حالة مثل هذا الإنسان وحركته التي يستهدف بها العاجلة وما يحققه من هذه الحركة، كما في قولـه تعالى: ﴿من كان يريد العاجلة عجلنا لـه فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا لـه جهم يصلها مذموما مدحور﴾(1)، فمن يرى أهدافه في حدود هذه الدنيا العاجلة، قد يعجل الله لـه ما يريد، فيحصل على المكاسب الآنية المحدودة التي يطمح إليها، غير أنها مكاسب عاجلة دنيوية يعقبها العذاب والخسران، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بجهنم في الدنيا، حيث تشيع المظالم ويعم الفساد ويتحقق الدمار، ويعيش فيها الإنسان حياة الشقاء والمعاناة والضرر، كما نشاهد ذلك الآن في كثير من أرجاء الدنيا المختلفة.
كما يعيش عذاب الآخرة ـ أيضاً ـ وهي جهنم الآخرة، لأن الله سبحانه وتعالى فقد أعد لهؤلاء الدنيويين الذين لا يرون إلا هذا المثل العاجل من المشركين بالله
ـ(36)
والمرتدين على الفطرة الإنسانية، والذين اتخذوا غير الله تعالى آلهة لهم، أعد لهم الخزي والعذاب الأليم في الآخرة أيضاً.
ثم تشير الآية إلى سعي المؤمن المشكور: ﴿ومن أراد الأخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكور﴾(2)، لتبين أن للمؤمنين مثلاً أعلى ـ أيضاً كما سوف نشير إلى ذلك ـ وإن لهذا المثل فاعلية ومحركية تجعل المؤمن متحركاً وساعياً، باتجاه مثله الأعلى الحق وبصورة مستمرة وغير منقطعة ولا محدودة، ومن هنا استحقت هذه الحركة وهذا السعي المدح والثناء والشكر.
وهكذا تعطي الآية المباركة اقاعدة العامة المتعلقة بهذه المرحلة (مرحلة فاعلية المثل الأعلى)، من خلال قولـه تعالى: ﴿كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظور﴾(3)، فسواء كان مثل الإنسان الأعلى حق أو باطل، وسواء كانت أهدافه متعلقة بالعاجلة أو بالآخرة، فإنها تكون مؤثرة في حركته، وأن الله تعالى لن يقطع عطاءه عنها، ولكنها ستكون من حيث الحدود والنتائج، لا محالة مختلفة ومرهونة بالمثل الأعلى نفسه.
ومثل الآية السابقة في الدلالة، قولـه تعالى: ﴿ اعلموا إنّما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأمول والأولد كمثل غيب أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتره مصفرا ثم يكون حطما وفي الأخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضون وما الحيوة الدنيا إلا متع الغرور﴾(4)، فلهذه الصورة الذهنية المتمثلة بالعاجلة وبالحياة الدنيا تأثير على حركة الإنسان وعلى حركة الكون ككل، فيكون موجباً لا عجاب الكفار، ثم يصفر، فيكون لـه هذا الدور في الهيجان والحركة والفاعلية، ولكنها حركة وفاعلية محدودة بحدود العاجلة، لا أكثر من ذلك (5).
ـ(37)
مرحلة الانقسام الثانية: انقسام المجتمع، فبعد أن كان كل المجتمع في المرحلة الأولى، القادة فيه وجمهور الأمة يشاركون في تحقيق الصورة المستقبلية والمثل الأعلى الذي يطمحون إليه، انقسموا في هذه المرحلة إلى قسمين:
قسم السادة والكبراء الذين كانوا قادة لحركة مجتمعهم في المرحلة السابقة.
وقسم المطيعين والمتقادين لأولئك السادة، وهؤلاء هم جمهور الأمة الذين فقدوا القدرة على الحركة باتجاه مثلهم الأعلى، وأصبحوا مجرد أتباع لأولئك السادة الكبراء.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المرحلة أو الحالة، بقوله تعالى: ﴿وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل﴾(6).
وما حدث هذا التقسيم في المجتمع، إلاّ لأن المثل الأعلى المحدود في هذه المرحلة قد أصبح غير قادر على التأثير على الأمة ككل وعلى حد سواء، بل انحصر تأثيره في أولئك الذين هم على رأس الهرم والسلطة لارتباط مصالحهم به، وأما بقية الأمة فقد تكون قد فقدت أي مصلحة لها بهذا المثل، ومن هنا فقد قدرته على التأثير في حركتها، فتحولت إلى مجرد طبقة مطيعة ومنقادة وتابعة للسادة والكبراء ليس إلاّ (7).
قد يكون السادة والكبراء أقدر على إدارة المجتمع واستثماره وإعماره، وتحقيق المصالح العامة لـه وللأمة، لولا أن نفترض بهم عنصر الاستغلال والاستكبار من ناحية، ونفترض بحياة الأمة التي يراد إيجاد التأثير بها الحياة الطويلة المتمثلة بالحياة الدنيوية والأخروية معاً.
ـ(38)
مرحلة الامتداد التاريخي الثالثة: نشوء الطبقية السياسية، فإن سلطة السادة الكبراء، تتحول إلى سلطة طبقة تتوارث مقاعدها عائلياً أو طبقياً أو وراثياً بشكل من أشكال الوراثة، وحينئذٍ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الأغراض الكبيرة المشغولة بهمومها الصغيرة.
ثم إن هذه الطبقة المترفة، سوف تتمسك بالمثل الأعلى المحدود داخل المجتمع لارتباط مصالحها به، فتحوله إلى مثل تكراري فيما بعد.
كما تكون هناك طبقة أخرى من الناس مستضعفة ومستغلة تألف هذه الحالة، ولا دور لها في الحياة، إلاّ الطاعة والانقياد لتلك الطبقة الحاكمة والمترفة.
وبهذا يتحول المجتمع إلى طبقتين، طبقة مترفة، وأخرى مستضعفة، ويستمر هذا التقسيم الاجتماعي تاريخياً.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المرحلة، بقوله تعالى: ﴿وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثرهم مقتدون﴾ (8)، فهؤلاء المترفون هم نتاج آبائهم، وهم الامتداد التاريخي لهم، وكذلك يكون غيرهم من المستضعفين نتاجاً لوضع آبائهم الاجتماعي وامتداداً تاريخياً لهم أيضاً (9).
مرحلة الطغيان والصراع< الرابعة: وجود الطغيان، لأن الأمة بعد أن تتفتت وتتمزق وتتحول إلى طبقات وتفقد ولاءها لمثلها التكراري تدريجياً ـ كما ذكرنا ـ تدخل في المرحلة الرابعة التي يسيطر فيها المجرمون على مقاليد الأمة ـ بصورة مطلقة ـ أولئك الذين توارثوا الاستغلال والاستكبار حتى تحول إلى حالة ثابتة، تعبر عن الطغيان
ـ(39)
والاستبداد والأجرام والاستهتار بكل المحرمات والقيم والمثل، ولا يرعون للأمة عهداً ولا ذمة ولا حرمةً ولا حقاً من حقوقهاً، وقد أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون﴾(10).
وبذلك يحدث الصراع في المجتمع، ليأخذ المستكبرون ـ حينئذٍ ـ دور التدمير والقمع والإفساد المطلق في الأرض، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنها تدمير﴾(11).
إن هذه المراحل الأربعة ـ التي أشرنا إليها ـ نجدها واضحة في مجمل حركة التاريخ البشري التي أشار إليها القرآن الكريم.
كما شاهدناها ـ أيضاً ـ في بعض الأمثلة من تاريخنا المعاصر حين سيطر النازيون ـ أبان الحرب العالمية الثانية ـ كطبقة تحكمت في مصالح المجتمع، وكيف أنهم حاولوا تدمير كل المثل التي تمسك بها المجتمع الأورپي من خلال حرب عالمية شاملة شنوها على كل الأوضاع القائمة آنذاك.
وتصور هذه المرحلية، وإن كان أمراً منطقياً في حركة التاريخ وتطوره، ولكنه ليس أمراً ضرورياً في حركة التاريخ، يخضع هذه التطور ـ أحياناً ـ لعوامل ذات طابع فردي وذاتي في هذا الإنسان الحاكم أو هذه الجماعة من الناس، ويرتبط ذلك بالعوامل الثلاثة السابقة واجتماعها أو انفرادها في التأثير.
القسم الثالث: المثل الأعلى المطلق وضع القرآن الكريم، الله سبحانه وتعالى أمام حركة الإنسان الاجتماعية، وجعله مثلاً لـه في هذه الحركة، فهو يصير إليه في حركته ويلاقيه في الحساب،
ـ(40)
والثواب والعقاب، والدرجات العالية من الرضوان الأكبر، أو العذاب الأليم في جهنم، قال تعالى: ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فلمآقيه﴾ (12)، فالإنسان ـ حسب التصور القرآني ـ لابد أن ينتهي في حركته إلى الله تعالى ﴿... وإلى الله المصير﴾ (13).
وخلاصة هذا السير إلى المثل الأعلى وحقيقة المثل الأعلى ونتائجه وآثاره، والفرق بينه وبين القسمين الآخرين من المثل، يمكن أن نجده في النقاط التالية (14).
1 ـ الإنسانية كجماعة ومجتمع تسير نحو الله سيراً مقروناً بالتعب والجهد والمجاهدة، وهو ما يسمى بالمصطلح القرآني بـ(الكدح)، كما أشارت إليه الآية الكريمة السابقة، وذلك لأن هذا السير ليس سيراً عادياً، بل هو سير ارتقائي، لذا كان مقروناً بالتعب والنصب(15).
العبادة لله تعالى 2 ـ والآيات الكريمة، ومنها هذه الآية الشريفة تدل على وجود حقيقة ثابتة في الخارج تسير إليها الإنسانية، وإن هذه الإنسانية تتقدم إلى الله تعالى في مسيرتها، سواء كانت تؤمن بالمثل الأعلى المطلق، أو كانت تؤمن بالمثل الأخرى المحدودة أو التكرارية.
غاية الأمر أن الفرق بينهما ـ كما سوف يتبين ـ أن السير إذا كان واعياً ومدركاً للمثل المطلق، فهو سير عبادة لله تعالى بلغة الفقه والشريعة، لأن سير نحو الله ومدركاً لذلك، بخلاف الآخر، فإنه لا يكون عبادة، لأنه ليس واعياً لله تعالى ومدركاً لـه في هذا السير، فالذي يميزه هو الوعي للمثل الأعلى وأنه سير في إطاره (16)، وإلاّ فإن السير في كل الأحوال لابد أن ينتهي إلى هذه الحقيقة
ـ(41)
الثابتة، ويقترب منها تدريجياً.
وهذا المسير الواعي هو الذي يعبر عنه القرآن الكريم بـ(سبيل الله) و(الصراط المستقيم).
المسير الواعي للإنسان 3 ـ وإذا كان السير واعياً للمثل الأعلى المطلق وهو الله تعالى، فسوف تترتب عليه مجموعة من الآثار والنتائج:
أ ـ المسؤولية أمام الله تعالى، لأنه حقيقة ثابتة يسير الإنسان إليها، فلابد أن يكون مسؤولاً أمامها، كما سوف نشرحه إن شاء الله.
ب ـ أن المثل الأعلى المطلق وهو (الله) ليس لـه حدود أو نهاية جغرافية، لأنه المطلق الحقيقي، وبذلك فهو موجود على طول الطريق وليس في نهايته أو وسطه فحسب، وبقدر ما يتقدم الإنسان في هذا الطريق يجد مثله الأعلى بصورة أوضح وأكمل.
وفي المثل الأعلى غير الله تعالى، وإن كان الله موجوداً في الطريق أيضاً، كما أشارت إلى ذلك (آية السراب)، حيث يجد الله عنده فيوفيه حسابه، لأن الله حقيقة ثابتة في الوجود، ولكن الفرق في طبيعة السير أنه عبادة أو غير عبادة، فيتكامل به أو يتسافل ويقترب به من الله تعالى أو يبتعد عنه، ومن ثم فحجم وشكل اللقاء بالله تعالى يكون مختلفاً في المثل الإلهي عن المثل الأعلى غير الإلهي.
ج ـ ولما كان الهدف هو الله سبحانه وتعالى وهو المطلق، فالسير إليه سوف يكون سيراً مطلقاً لا نهاية لـه، ويكون الاقتراب منه مستمراً بقدر التقدم في الطريق إليه، ولكنه يبقى ـ بطبيعة الحال ـ اقتراباً نسبياً ومجرد خطوات طويلة أو قصيرة على الطريق إليه، دون أن يتمكن الإنسان اجتياز الطريق كله، لأن
ـ(42)
الإنسان محدود، ولا يمكن للمحدود أن يصل إلى اللامتناهي وهو الله بصورة مطلقة.
وبذلك ينفتح أمام الإنسان باب الإبداع والتطور المستمر الذي لا يتوقف عندما يكون واعياً لهذه الحقيقة الكونية الثابتة اللامتناهية، ويعمل على التوفيق بين وعيه لها، وبين حقيقتها اللامتناهية.
التغيير الكمي والكيفي د ـ ويتحقق بذلك تحول وتغيير (كمي) في هذه المسيرة، يحث يقوم الإنسان ـ مضافاً إلى ما يتصف به من عنصر الإبداع وروح التقدم المستمر في الطريق ـ عند اجتيازه لهذا الطريق بإزالة كل الآلهة المزورة وكل الأصنام والأقزام الموضوعة في طريقه، والتي تقف عقبة بينه وبين الله تعالى وتقدمه في هذه المسيرة اللامتناهية.
وهذا هو ما يفسر لنا ظاهرة تاريخية أشار إليها القرآن الكريم على شكل سنة من السننن التي تتحكم في مسيرة التاريخ الإنساني.
وهذه الظاهرة هي أن الأنبياء كانوا يواجهون دائماً بموقف  الطغاة المترفين في مجتمعاتهم، كقطب معارض لهم، لأن الأصنام والأقزام الموضوعة في طريق الإنسان حينما تتحول إلى تمثال، تجد مجموعة من الناس مدافعين طبيعيين عنها ـ كما أشرنا ـ لارتباط مصالحهم وشهواتهم وكيانهم المادي بها، بحيث يصبحون هم المستفدين منها على حساب هؤلاء الناس المساكين، الذين جعلوا هذا التمثال إلهاً لهم ومبرراً لوجودهم، قال تعالى: ﴿وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثرهم مقتدون﴾ (17)، وقوله تعالى: ﴿وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بم
ـ(43)
أرسلتم به كفرون﴾ (18)، وقاله تعالى: ﴿ وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الأخرة وأترفنهم في الحيوة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون﴾ (19).
هـ والى جانب هذا التغيير (الكمي)، يتحقق تغيير وتحول (كيفي) في حركة الإنسان، وهو تقديم الحل الموضوعي الوحيد للتناقض الإنساني الذي يعيشه بين المصالح المادية الخاصة ورغباته وميوله التي تدفعه إلى الاستغلال والطغيان والإخلاد للأرض والالتصاق بها، والمصالح العامة للجماعة والمجتمع الإنساني ومسيرة التكامل الروحي الأخلاقي في حركته المعنوية والروحية، لأن الإنسان مركب من حفنة تراب وروح، والتراب يشده إلى الأرض والشهوات والغرائز، والروح تشده إلى الله تعالى والتكامل والأخلاق الإلهية، ويمكن حل هذا التناقض من خلال الشعور بالمسؤولية الموضوعية، حيث ينشأ لديه لأول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على مرّ الأعلى لـه واقع موضوعي خارجي. لأن المسؤولية الحقيقية لا تقوم إلا بين جهتين: مسؤول، ومسؤول لديه أعلى. وبدون ذلك لا يمكن أن يكون شعوره بالمسؤولية موضوعياً، لأن المثل الأخرى إنما هي إفراز بشري ونتاج للإنسان نفسه، ولا يمكن للإنسان أن يشعر بصورة موضوعية بالمسؤولية تجاه ما ينتجه ويفرزه بنفسه.
نعم قد يشعر بذلك بصورة وهمية وخيالية، سرعان ما يتبدد لأي طارئ، فهي كما قال القرآن الكريم عنها: ﴿ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنت وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان...﴾ (20)، فقد يصنع المثل المحدود قوانين وعادات وأخلاق، ولكنها مجرد غطاء ظاهري يتحلل الإنسان من التزاماتها،
ـ(44)
كلما وجد مجالاً لذلك، بخلاف المثل الأعلى الإلهي الذي يعمق الشعور بالمسؤولية، بحيث يحس الإنسان من خلاله أنه بين يدي إله قادر سميع بصير، محاسب ومجازٍ على الظلم  يثيب على الإحسان والعدل.
وهذا التغيير الكيفي (الشعور بالمسؤولية) ليس مجرد أمر عرضي وثانوي وأخلاقي في مسيرة الإنسان، بل هو شرط أساسي في إمكان نجاح هذه المسيرة، لما يقدمه من حل موضوعي للتناقض الإنساني الدائم بين روحه وجسده، وبين حفنة التراب والنفخة الإلهية فيه، كما تشير إلى ذلك الآيات القرآنية، قال تعالى:﴿ الذي أحسن كل شيءٍ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين _ثم جعل نسله من سلسلة من مآء مهين _ثم سوه ونفخ من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون﴾ (21)، فالإنسان مجموع نقضيين في محتواه النفسي وبحسب تركيبته الداخلية يضعة في موضع الفتنة والابتلاء ليتكامل من خلالها، ولا يمكن أن يتحقق هذا التكامل الذي يحل هذا التناقض إلاّ من خلال الشعور بالمسؤولية الموضوعية المنفصلة عن ذاته.
العصمة واستقامة الأنبياء
وهذا التغيير الكيفي هو الذي يفسر لنا ظاهرتين اجتماعية وعقائدية:
أما الظاهرة الاجتماعية، فهي ظاهرة صمود واستقامة الأنبياء على مر التاريخ، فقد كانوا دائماً أصلب الثوار وأنظفهم وفوق كل مساومة ومهادنة أو التاريخ يمنة ويسرة، بل كانوا مثال الصبر والصمود والاستقامة، ولم يعرف تاريخهم أن أحدهم تعرض للانهيار أو التراجع، مع أن التاريخ الإنساني شهد الأمثلة على انهيار الكثير من الثوار والمصلحين، والسبب في صبرهم وصمودهم واستقامتهم، هو أن شعورهم بالمسؤولية الموضوعية كان عالياً،
ـ(45)
تجسد في كل كيانه ومشاعره وأفكاره وعواطفه.
وأما الظاهرة العقائدية، فهي ظاهرة اشتراط العصمة في الأنبياء، فإن العصمة هي: عبارة عن هذا الشعور العالي الواعي الراسخ في الإنسان، بحيث يعصمه عن الأخطاء أو الانحراف أو الضعف أمام الضغوط الداخلية والخارجية.
دور الدين في المجتمع الإنساني
4 ـ وبهذا الفهم يمكن أن نعرف بإن دور الدين في المجتمع الإنساني هو عبارة عن تنمية الحركة الاجتماعية كماً وكيفاً، وذلك من خلال:
أ ـ فتح آفاق وأبواب الإبداع أمام مسيرة الإنسان في هذا الطريق اللامتناهي، بحيث تتحول هذه المسيرة إلى تقدم مستمر في التكامل الروحي والمعنوي.
ب ـ تعبيد الطريق الطويل أمام هذه المسيرة بإزالة الالتباس وجميع العوائق من الأصنام المزيفة والآلهة المصطنعة والمثل المنخفضة التكرارية أو المحدودة، التي تحاول أن تجمد حركة الإنسان أو توقفه في وسط الطريق، وبذلك يصبح دين التوحيد حامل لواء المعركة ضد هذه الآلهة، وضع جميع القيود الأُخرى التي تفرض على العقل أو الإرادة، ومنها الطغاة والمستبدين والمترفين، ليطلق حركة الإنسان من قيودها وحدودها الضيقة، ويستأصل مصالح الطغاة والمترفين.
ج ـ حل التناقض القائم في الإنسان بين روحه وجسده، وبين ميوله وشهواته ومصالحه المادية الضعيفة، والتكامل الروحي والأخلاقي في مسيرته إلى الله تعالى، وذلك من خلال الشعور بالمسؤولية الموضوعية أمام الله تعالى الذي هو المثل الأعلى الحقيقي المطلق، وطرح فكرة التعويض بالأجر والثواب والعقاب على الإثم وتجاوز الحدود الإلهية والمصالح الاجتماعية.
ـ(46)
عناصر العقيدة الاجتماعية
5 ـ وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الأعلى الحق يتوقف على عدة أمور، وهي:
التوحيد
أ ـ الرؤية الواضحة الفكرية لهذا المثل الأعلى، وهو ما يتمثل بعقيدة التوحيد التي تنطوي على الإيمان بالله سبحانه، الذات التي تتحدد فيها كل صفات الكمال، من العلم والقدرة والعدل.. التي تمثل الغايات والطموحات والتطلعات البشرية.
وهذه العقيدة تعلمنا كيف نتعامل مع صفات الكمال هذه، لا بوصفها حقائق عينية ثابتة في الواقع منفصلة عن حياتنا فحسب، بل بما هي صفات وأخلاق تمثل الغاية والهدف للمسيرة العملية والسلوك الإنساني التكاملي، وبما هي ـ أيضاً ـ هداية في الطريق الطويل للإنسان نحو الله سبحانه.
المعاد
ب ـ طاقة روحية ومعنوية مستمدة من هذا المثل الأعلى تكون رصيداً ووقوداً مستمراً للإرادة البشرية على مر التاريخ، وهي مستمدة من الله تعالى ـ كما ذكرنا ـ وهذه تتمثل بـ(عقيدة يوم القيامة) عقيدة (الحشر والامتداد والبقاء)، حيث يتعلم الإنسان أن هذه الساحة الصغيرة الدنيوية مرتبطة مصيرياً بساحات أخرى (برزخية) عالم البرزخ و(حشرية) عالم الحشر والنشور والآخرة، ويه ساحات عظيمة وهذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية والوقود الرباني، الذي ينعش إرادة الإنسان ويحفظ لـه قدرته على التجديد.
ـ(47)
النبوة
ج ـ أن هذا المثل الأعلى، لما كان منفصلاً عن الإنسان وله وجود عيني واقعي في كل زمان ومكان، فهو يفرض ضرورة وجود صلة موضوعية حقيقية لا مزيفة بن الإنسان وهذا المثل الأعلى، وهذه الصلة تتجسد في النبي ودور النبوة.
فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركب بين الرؤية الواضحة للمثل الأعلى في عقيدة التوحيد والطاقة الروحية المستمدة من الإيمان يوم القيامة، ثم يحمل ذلك إلى البشرية ليكون الوسيلة والصلة مع الله تعالى، والبشير والنذير من الله تعالى لها.
ولابد لـه من إقامة الدليل والحجة على ذلك، في مقابل بعض الأدعياء والطغاة الذين نصبوا أنفسهم وسطاء.
الإمامة
د ـ أن البشرية بعد أن تأتيها الرسالة الإلهية، قد تختلف في هذه الرسالة ـ كما يشير القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة وتحدثنا عنها ـ فلا يكفي البشير والنذير لها، لان مرحلة الاختلاف تعني مرحلة وجود الآلهة المضللة على الطريق وانتصاب المثل المنخفضة أو التكرارية المحرفة، ولابد لها من أجل الخلاص أن تخوض معركة ضد الآلهة المخادعة، فتحتاج إلى قيادة تتبنى هذه المعركة، وهذه القيادة هي ك (الإمامة).
فالإمام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة، ودوره يندمج مع دور النبوة في مرحلة من مراحل النبوة ـ هي في أكبر الظن بدأت مع نوح ـ عليه السلام ـ ولكن دوره يمتد حتى بعد النبي إذا خلت الساحة منه، وبعد لا تزال المعركة قائمة، من أجل
ـ(48)
القضاء على تلك الآلهة المصطنعة، أو كان يتوقع عمليات الخداع والتضليل والتحريف.
أصول الدين الخمسة
وعلى ضوء هذه الأمور، يمكن أن نكون رؤية واضحة لما نسميه بأصول الدين الخمسة على مذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ:
1 ـ(التوحيد) الذي هو: عبارة عن رؤية واضحة للمثل الأعلى، ورؤية واضحة للطريق إليه.
2 ـ(العدل) الذي هو: صفة من صفات المثل الأعلى، على حد صفات الكمال الأخرى كالعلم والقدرة وغيرها، ولكنه اختص من دونها بالذكر والتأكيد، لأن العدل هو: الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية مسارها العملي التربوي المطلوب في التكامل الاجتماعي، ولذا كان لـه مدلوله الأكبر في الجانب العقائدي.
3 ـ(النبوة) التي هي: الصلة الضرورية الموضوعية بين الإنسان والمثل الأعلى.
4 ـ(الإمامة) التي هي: القيادة للمسيرة في مواجهة الآلهة المزيفة أو المحرفة وهي: تكون موجودة مع النبوة وبعدها، إذا كانت المعركة قائمة أو متوقعة.
5 ـ(المعاد) والإيمان بيوم القيامة وهو: الذي يمثل الطاقة الروحية والوقود الرباني والامتداد في الحياة والمسيرة، والشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية.
وبذلك يمكن أن نعرف بأن أصول الدين تساهم في تركيب المثل الأعلى وفي تقديم صورة العلاقة الاجتماعية ذات الأبعاد الأربعة ـ كما ذكرناها آنفاً ـ(الإنسان، والإنسان الآخر، والطبيعة)، الله المستخلف لهذا الإنسان.
ـ(49)
وبذلك توضح ـ أيضاً ـ دور الإنسان في المسيرة التاريخية، فهو مركز الثقل فيها، وبوجوده الروحي والنفسي يمثل المركز الثقيل، وأن الأساس في بناء الوجود الروحي والمحتوى الداخلي لـه، هو المثل الأعلى الذي يتبناه.
وأن التغيير الاجتماعي، إنّما يتحقق بتغيير هذا المحتوى الداخلي، أي بتغيير المثل الأعلى للإنسان، وأن المثل الأعلى الحق للإنسان هو الله تعالى الذي يمثل بعداً رابعاً في العلاقة الاجتماعية.

الهوامش
1 ـ 3 ـ الإسراء: 18 ـ 20.
4 ـ الحديد: 20.
5 ـ لابد من الانتباه هنا إلى أن حياة الإنسان ليست محدودة بهذه الحياة الدنيا، ولذلك فحديث القرآن الكريم هو حديث عن ذلك المثل الأعلى، العاجل والآجل، بملاحظة هذا الامتداد الواسع لحياته.
6 ـ الأحزاب: 67.
7 ـ المدرسة القرآنية: 174، الدرس العاشر.
8 ـ الزخرف: 23.
9 ـ المدرسة القرآنية: 175، الدرس العاشر.
10 ـ الأنعام: 123، المدرسة القرآنية: 175، الدرس العاشر.
11 ـ الإسراء: 16.
12 ـ الانشقاق: 6.
13 ـ آل عمران: 28.
14 ـ هذه النقاط استخلصت من الدرس الحادي عشر من المدرسة القرآنية للشهيد الصدر: 179 ـ 200.
15 ـ ولكنه ليس من الضروري أن يكون ارتقائياً، بل قد يكون تسافلياً، والظاهر أن النصب
ـ(50)
والتعب باعتبار وجود قانون الامتحان والابتلاء الذي وضع الله الله تعالى الإنسان في إطاره: ﴿إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلنه سميعاً بصيراً﴾، الإنسان: 2.
16 ـ وبذلك يكون السير سيراً ارتقائياً وتكاملياً، وإلاّ فإن السير يكون تسافلياً، وإن كان ينتهي في كل منهما إلى الله تعالى ليلاقي الإنسان بذلك جزاءه.
17 ـ الزخرف: 23.
18 ـ سبأ: 34.
19 ـ المؤمنون: 33.
20 ـ يوسف: 40
21 ـ السجدة: 7 ـ 9.


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية