مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الوحدة الدينية الخاتمة
السيد محمد باقر الحكيم


 

تمهيد

من خلال الأبحاث السابقة، يمكن أن نتبين أن المسيرة البشرية والمجتمع الإنساني مر بعدة مراحل أساسية، كان للدين دور خاص فيها، يمكن الإشارة إليها بالعناوين التالية:

الأولى: الوحدة الفطرية، وهي: تلك المرحلة التي كانت تقوم العلاقات الاجتماعية فيها على أساس الفطرة الإنسانية، وما أودعه الله سبحانه وتعالى في الإنسان من توجهات ذاتية، وكان دور الدين فيها هو تأكيد هذه التوجهات والنوازع الإنسانية وهدايتها.

الثانية: الاختلاف البدائي من خلال ما فرضته تطور الأوضاع الاجتماعية للإنسان، من تزاحم في الغايات والرغبات، وحب للذات، وطغيان في السلوك، والذي أدى إلى ظهور الشرك والوثنية البدائية، وهي حالة يؤرخ لها بظهور حالة المجتمع الإنساني الأول.

الثالثة: الوحدة الدينية التي قامت على أساس العقيدة الدينية في الإله الواحد، والأخلاق والقيم، وتنظيم السلوك الإنساني بالشريعة والقانون، وهي مرحلة قد نؤرخ لها بنوح ـ عليه السلام ـ، كما يبدو من القرآن الكريم عندما يتحدث عن شرع الدين

(114)

الذي وصى به نوحاً ـ عليه السلام ـ: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...» (1).

الرابعة: الاختلاف الوثني الذي تطور وتجسد بالظاهرة الفرعونية، حيث طرح الإنسان نفسها إلهاً مثل أعلى للمجتمع الإنساني يعبد من دون الله تعالى، ويصبح اطاراً يصاغ المجتمع الإنساني في حدوده وقيمه وتشريعاته.

وقد عرفنا خصائص التمزق والفرقة في المجتمع الفرعوني الذي يمثل مرحلة (الاختلاف الثاني)، وأن الدين جاء في مرحلة متقدمة ـ أيضاً ـ لمعالجة هذا النوع من الاختلاف.

الخامسة: الوحدة الدينية الاجتماعية، التي قامت على أساس العقيدة الإلهية الواحدة والشريعة الربانية، مضافاً إليهما عنصرين أساسيين جديدين، هما: المؤسسة الدينية، والإمامة الدينية، حيث بدأت هذه الوحدة ـ على ما يبدو ـ في زمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ  الذي أقام المؤسسات التوحيدية، وتمكن من أحكامها وتثبيت دعائمها في المجتمع الإنساني مثل: (الكعبة الشريفة)، وأماكن العبادة الأخرى التي بقي منها (بيت المقدس)، وأسس الإمامة الدينية، لقيادة المجتمع الإنساني، حيث تكاملت بصورة واضحة في موسى ـ عليه السلام ـ، وما جاء على يده من تشريعات اجتماعية تمثل مشروعاً للدولة والمجتمع والأمة.

السادسة: الاختلاف في الدين وتفسيره وفهمه وتطبيقه، وهي ظاهرة بارزة وواضحة في المجتمع الإسرائيلي وما تمثل به من اختلاف ونزاع وتفرق وتمزق تحدث عنه القرآن الكريم بصورة واضحة ومفصلة. وكانت رسالة عيسى ـ عليه السلام ـ  وما جرى له، وعليه وبعده، تجسيدا واضحا لهذه المرحلة من المجتمع الإنساني.

السابعة: الوحدة الدينية الخاتمة، التي قامت على أساس وحدة العقيدة والإمامة والدولة والأمة والمجتمع، وهو ما جاءت به الرسالة الإسلاميّة الخاتمة.

وهذه المراحل السبع قد تتداخل في بعض أبعادها في الزمان أو المكان، بحيث تبدأ مرحلة منها ولما تنته المرحلة السابقة، أو تبقى بعض مخلفات وآثار وظواهر مرحلة سابقة في ظروف مراحل لاحقة متطورة، سواء في جانب

(115)

الاختلاف أو الوحدة.

ولكننا عندما ننظر إلى المجتمع الإنساني وتطور مسيرته التاريخية ونريد أن نؤرخ له من خلال القرآن الكريم، يمكن أن  نلاحظ بوضوح أن المجتمع الإنساني خضع في تاريخه لمعادلتين أساسيتين كان لهما تأثير في تطوره وتكامله، أو تدهوره وتسافله من ناحية، وفي الظواهر التي اتسمت بها مسيرته من ناحية أخرى:

أحدهما: معادلة الهوى والهداية الإلهية من خلال الوحي الإلهي (الرسالات الإلهية).

وثانيهما: معادلة الوحدة والاختلاف بجميع مراحلها وصورها وأشكالها، ونلاحظ ـ أيضاً ـ أن كلا من هاتين المعادلتين وطرفيهما مترابطتان، لأن الثانية تمثل الظهر للمعادلة الأولى، وكانا يمران بمراحل وأشكال قد يجتمع بعضها إلى جانب بعض، ولكنهما بتسمان في الوقت نفسه بالتطور والتكامل وتبادل التأثير فيهما، والسبب في كل ذلك هو أن الله سبحانه وتعالى جعل قانون الامتحان والابتلاء من القوانين الثابتة في مسيرة البشرية، وعنصرا من عناصر تكاملها، ومن ثم فالهوى والاختلاف لابد أن يكونا خطين ثابتين موجودين في هذه المسيرة، وكلما تطورا تدخلت الهداية الإلهي لمعالجتهما بما يتناسب مع هذا التطور، والى جانبهما الهداية الإلهية وما أراده الله تعالى برحمته من الوحدة وعناصرها في المجتمع الإنساني، هذا ما أكده القرآن الكريم في قولـه تعالى: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾(2).

وقد كانت الرسالة الخاتمة مشتملة على عناصر الوحدة الأساسية التي تنتهي بالإنسان إلى الهدف الكامل من وجود البشرية على الأرض، وهي الوحدة الخارجية الاجتماعية التي وعد الله سبحانه وتعالى بها المؤمنين الصالحين: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾ (3).

(116)

وهذه المرحلة، وهي: مرحلة الإمام المهدي المنتظر ـ عليه السلام ـ، واليوم الموعود به الناس على لسان الأنبياء والمرسلين ـ عليهم السلام ـ.

ونحتاج من أجل توضيح هذه الصورة في الرسالة الخاتمة أن نشير إلى عدة أمور:

الأول: في بيان العناصر الأساسية في هذه الوحدة الدينية الخاتمة.

الثاني: في المنهج والطريق الذي ذكره القرآن الكريم للوصول إلى هذه الوحدة.

الثالث: بيان الخصائص التي تتميز بها الوحدة الحقيقية الخارجية عن الوحدة الدينية الخاتمة.

 

أسس الوحدة الإلهية

بعد أن عرفنا خصائص التمزق والفرقة في المجتمع الفرعوني، ومرحلة الاختلاف في الدين، يحسن بنا أن نتناول بالبحث العناصر الرئيسية التي اهتمت بها الرسالة الخاتمة الإلهية ؛ لمعالجة ظاهرة الاختلاف والخصائص التي تميزت بها عن الرسالات الإلهية السابقة.

فقد اهتمت الرسالة الخاتمة الإلهية بعدة عناصر وأسس رئيسية، حاولت من خلالها معالجة ظاهرة الاختلاف في المجتمع الإنساني من أجل عودته إلى حالة المجتمع الواحد، ويمكن تلخيص هذه الأسس بالعناصر الأربعة التالية:

الأول: عقيدة التوحيد الإلهي.

الثاني: القيم والمبادئ التوحيدية المنبثقة عن تلك العقيدة، والتي يقوم على أساسها المجتمع الإنساني.

الثالث: الشريعة الواحدة الإلهية.

الرابع: الأمة والجماعة الواحدة التي تمثل مادة المجتمع الإنساني.

الخامس: الإمامة والدولة والنظام الواحد الذي يمثل الإطار للمجتمع الإنساني.

(117)

العنصر الأول ـ عقيدة التوحيد

عرفنا سابقا أن العقيدة التوحيدية كانت ولازالت تمثل عنصراً مهما في تحقيق الوحدة الإنسانية على مر العصور والمراحل الإنسانية ؛ ولكن الرسالة الخاتمة اعطت هذه العقيدة التوحيدية أبعادا جديدة، سواء في الوضوح أو التفاصيل أو الشكل أو الضمانات أو التأثير في الكون والمجتمع الإنساني، أو العلاقة بهما، بحيث جعلتها عقيدة راسخة واضحة ومؤثرة في الحياة الاجتماعية الإنسانية،وقادرة على معالجة الكثير من أسباب الاختلاف ومستوياته ؛ ويمكن أن نلاحظ ذلك في النقاط التالية:

الأولى: الوضوح والشمول في العقيدة التوحيدية في منظومة متكاملة من الإله المتصف بصفات الجمال والجلال، والمسمى بالأسماء الحسنى الذي تتمثل علاقته بالملائكة والرسل بعلاقة الربوبية والعبودية، والذي ينزل الكتب على رسله عن طريق الوحي الإلهي، ذي الصور والأشكال المتعددة، وهذا الإله هو مركز النظام التكويني والتشريعي معا، ويرتبطان به بصورة دائمة ومستمرة كما أن المخلوقات جميعا (الناس والكون بكل وجوده) تنتسب إليه، وتخضع لإرادته، وتخشع لعظمته وتسبح بحمده.

وهو يدعو إلى إقامة الحق والعدل بين الناس، ويأخذ للمظلوم ظلامته من الظالم، وينتقم للمظلومين من الظالمين، وقد أعد لذلك يوم الجزاء والحساب والدار الآخرة، حيث كان الحكم والفصل النهائي فيها لهذا الإله الواحد (مالك يوم الدين) والحياة الأخرى هي: الحياة الحقيقية للإنسان، وفيها تتحقق الأهداف المنشودة، في الراحة والاستقرار والكمالات الإلهية.

وأن هذه العقيدة التوحيدية تترسخ وتتكامل بالالتزام بالشريعة الإلهية والحدود الشرعية، وبدون ذلك تتناقض وتضعف حتّى تتحول إلى الشرك والنفاق.

أن هذه الصورة الواضحة (الوحدوية) البينة الجلية بكل هذه التفاصيل لا نجد مثيلا لها في الرسالات الإلهية السابقة ؛ وأن كانت أصولها وجذورها وبعض

(118)

معالمها موجودة ثابتة.

ومن هذا المنطلق ينبه القرآن الكريم ويؤكد في آيات عديدة: خطورة ظاهرة التفرق في الدين والتحريف الذي تعرض له بسبب الاختلاف فيه من قبل الجماعات التي التزمت به وآمنت به ؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى فقدان العقيدة نفسها، وأن الالتزام بالصراط المستقيم، الذي جاء به الإسلام، وتقوى الله هو المنقذ من هذا الاختلاف والتفرق.

«وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصّكم به لعلكم تتقون»(4)

«شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...» (5).

ومن هذا المنطلق نجد القرآن الكريم، أكد على هذا المفهوم العقيدي في تصوره للوحدة داخل المجتمع الإسلامي ووضع صورتها في هذا الإطار، لأنها وحدة حقيقية يمكنها أن تحفظ للمسيرة البشرية قدرتها وطاقاتها وتكاملها في جميع الأبعاد، وأن تكون هذه الوحدة والاتفاق في الله ومن أجل الله وفي سبيل الله.

الثانية: المحافظة على المضمون العقائدي بهذه التفاصيل من الضياع والتحريف، من خلال النص القرآني المنزل من قبل الله تعالى، والذي وضعت  ضمانات لحفظه من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان: «أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحفظون» (6)، كما وضعت ضمانات لجعله ميسوراً لدى عامة المسلمين، بحيث يصبح الخط الثقافي العام الثابت فيهم.

وندرك أهمية ذلك في معالجة الاختلاف وإيجاد الوحدة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تعرضت له الرسالات الإلهية من تحريف خطير في جانب العقيدة، بسبب التزوير والضياع الذي تعرضت له الكتب السماوية السابقة ؛ وحجب معرفتها عن عموم الناس وحصرها بطبقة معينة هي طبقة الأحبار والرهبان، الذين كانوا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وهو ما عرفناه في المرحلة السابقة، أي: في مرحلة

(119)

 الاختلاف في الدين.

الثالثة: تشخيص المرجعية الدينية الفكرية في عرض وفهم الإسلام المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، وكذلك معرفته وتفسيره؛ وهم: أهل البيت ـ عليهم السلام ـ  الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً: «.. إنّما  يريد الله ليذهب الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» (7). وقد أكد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في نصوص كثيرة واضحة هذه المرجعية الدينية الفكرية، منها: حديث الثقلين المتواتر: «اني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتّى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» (8)، كما كان الخلفاء والمسلمون يرجعون إليهم عمليا في الكثير من الشؤون الدينية(9).

الرابعة: تشريع الشعائر الإسلاميّة العبادية بصورة محددة وواضحة، وهو ما امتاز به الإسلام عن غيره من الرسالات الإلهية كالصلاة اليومية، وصوم شهر رمضان، وأحياء الحج الإبراهيمي، وتوضيح صيغته التوحيدية، والإنفاق في سبيل الله (الزكاة والخمس)، بحيث أصبحت هذه العبادات ـ التي كان لها أصول في الرسالات الإلهية السابقة ـ بصيغها المحددة الموقوفة من أركان الإسلام، ولها أدوار اجتماعية مهمة ومعنوية توحيدية.

الخامسة: إعطاء العقيدة والإيمان بعدا عمليا اجتماعيا في حركة الإنسان اليومية ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ بحيث يتكامل الإيمان من خلال السلوك، وينعكس الإيمان به على سلوك الإنسان وإعماله ونشاطه.

وقد امتد هذا التطور العقيدي في الرسالة الإسلاميّة على مستوى الوضوح والتفاصيل الذي شاهدنا بعض معالمه في عقيدة التوحيد، إلى باقي مفردات العقيدة الإلهية وهي: الرسول، حيث نجد تفاصيل في شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وطبيعة علاقته بالله تعالى وكيفية صلته وارتباطه بالرسالة التي يحملها، وبالناس الذين يدعوهم إليها، ومسؤولياته تجاهها، ومواصفاته وغير ذلك من الشؤون التي لا نجدها في الرسالات السابقة.

(120)

كما أصبحت قضية (الإمامة) ومسؤوليتها في هذه الرسالة أكثر وضوحاً وذات تجسيد عملي، حيث يقوم الرسول الامام ـ إلى جانب إبلاغ الرسالة ـ بمسؤولية أخرى وهي: مسؤولية قيادة عملية التغيير الاجتماعي التي يحطم فيها الأصنام والطواغيت بصورة مشتركة، وأصبح للصنمية والطغيان المستهدف أمثلة ومفردات جديدة ذات بعد اجتماعي، مضافا إلى بعدها العقائدي.

وأصبح ـ أيضاً ـ للعدل الاجتماعي وأقامته بين الناس وضوح أكبر.

وبهذا أصبحت الإمامة ضرورة مستمرة وباقية بعد انقطاع الوحي بالرسالة وتمامها وخاتميتها ؛ لبقاء هذه الأهداف ووضوحها.

واتضح بذلك ـ أيضاً ـ موقع عقيدة الدار الآخرة من ناحية، وتأثيرها في بناء الإنسان للمجتمع الإنساني الصالح، حيث يلاحظ انه لم تطرح قضية اليوم الآخر بهذه السعة والتفصيل والنتائج والآثار في الرسالات السابقة.

 

العنصر الثاني ـ المبادئ والقيم التوحيدية

لا يخفى أن المبادئ والقيم التوحيدية والأخلاق الإلهية تمثل القاعدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الإنساني بعد العقيدة في الرسالة الإسلاميّة، ولذلك جاء الحديث في القرآن الكريم عن التزكية والتطهير في عدة مواضع، منها: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها..» (10)، وجاء الحديث ـ أيضاً ـ عن التعليم للكتاب والحكمة: «هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آيته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة وأن كانوا من قبل لفي ضلل مبين» (11)، حيث نرى الآية أن التعليم للحكمة جاء بعد التزكية والى جانب التعليم للكتاب، واحد المعالم الواضحة للحكمة هو الأخلاق.

وقد ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قوله:﴿إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق﴾ (12).

وتكامل الإنسان في حياته الدنيوية والأخروية إنّما  يتحقق من خلال الأخلاق الفاضلة، فهي أساس للشريعة، بمعنى: أنها تكون منطلقا لها، كما أنها هي هدف للشريعة يراد تحقيقه من خلالها.

(121)

وقد امتازت الرسالة الإسلاميّة على الرسالات الأخرى بتأكيد هذا الجانب بصورة واضحة، لأنه أحد أهم ظواهر مرحلة الاختلاف في الدين هو الاختلال في الميزان الأخلاقي للجماعات الدينية، كما عرفنا ذلك في دارستنا لمرحلة الاختلاف في الدين.

ويمكن أن نلاحظ هذا التأكيد للقيم والأخلاق في تأكيد القيم والمبادئ التالية:

1 ـ عبادة الله تعالى، وإمكان تحويل جميع تفاصيل حياة الإنسان وسلوكه إلى التعبير عن هذه العبادة وإدخال قصد القربة فيها.

مضافا إلى ذلك ما وضعه الإسلام من تصميم للشعائر العبادية المحضة ومراسيمها العامة، الذي لا نجد نظيرا لها في أي رسالة إلهية.

أضف إلى ذلك ما يذكره القرآن الكريم من مشهد عبادة جميع الكون لله تعالى وتسبيح السموات والأرض وما فيهن لله عزّوجلّ: «تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وأن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا»(13).

وهذه العبادة تعبر عن اتجاه الإنسان للتخلق بأخلاق الله تعالى (المثل الأعلى المطلق) والمصير إليه في حركة قائمة مستمرة وبصورة عميقة وشاملة، يتحرك فيها الإنسان بكل تفاصيل حياته وبصورة يومية(14).

2 ـ التقوى، وهي: مبدأ تقوية وتنمية الوازع الداخلي في الإنسان للاستقامة على جادة الشرع والعمل بما أمر الله تعالى والترك لما نهى عنه، بصورة يكون فيها الإنسان مسؤولاً عن عمله أمام الله تعالى المطلع على جميع الخفايا والسرائر، وقد يعبر عنها: بـ(العدالة)، وهي تشكل ـ كما ذكرنا ـ ضمانة من أهم الضمانات الإجرائية في السلوك الفردي الاجتماعي للإنسان.

وقد تم التأكيد عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بدرجة عالية، سواء من حيث الكم وذكرها في كل الأحوال والمناسبات، أو من حيث الأهمية وما يترتب عليها من نتائج وآثار: (أن خير الزاد التقوى).
 

(122)

وهذه التقوى من أهم المبادئ للوحدة، لأنها تقوى لله الواحد، فهي ذات اتجاه واحد.

3 ـ تقوية الإرادة الإنسانية والعزم على إنجاز العمل والقيام به، وذلك من خلال منهج جهاد النفس (الجهاد الأكبر) الذي يجعل الإنسان قادرا على مواجهة مختلف الضغوط الداخلية كالشهوات والميول وطغيانها المتمثل بالهوى، وكذلك مواجهة الضغوط الخارجية كالإرهاب والقمع الذي يمارسه الطغاة.

مضافا إلى قدرته على إنجاز الأعمال الصعبة والبعيدة الأمد، لأن التغييرات الاجتماعية لا تحصل ـ عادة ـ بصورة سريعة ودفعية، وإنّما  تتحقق بصورة تدريجية ولوقت طويل نسبيا.

ويتكامل مبدأ تقوية الإرادة الإنسانية، مع مبدأ التقوى في تحقيق النتائج والأهداف الاجتماعية الكبيرة من ناحيتين:

أحداهما: أن قوة الإرادة تشكل ضمانة لتحقيق التقوى والالتزام بالأحكام الشرعية والأوامر والنواهي الإلهية.

ثانيهما: أن انسجام الإرادة الإنسانية، مع التقوى والإرادة التشريعية الإلهية تستلزم التأثير في الكون المحيط بالإنسان ونزول النصر الإلهي، وتنزل الملائكة وجنود السماوات والأرض، إلى جانب حركة الإنسان الاجتماعية والفردية، (15)، كما نصت على ذلك الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذنهم بما كانوا يكسبون﴾. (16)، وقولـه تعالى: ﴿أن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة إلاّ تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون﴾ (17).

وبذلك تصبح الإرادة الإنسانية ذات الاتجاهات المتعددة ـ والتي تؤدي إلى الصراع عادة ـ عاملا للتوحيد، عندما تكون منسجمة مع الإرادة الإلهية التشريعية.

وقد أكدت الرسالة الإسلاميّة على هذا المبدأ ـ أيضاً ـ في نصوص كثيرة وممارسات عديدة تحدثت عن الصبر، والاستقامة، والعزم، والثبات، والجهاد...

4 ـ العلم والمعرفة والعقل التي تمثل الطريق للهداية إلى الله تعالى (المثل

(123)

الأعلى)، وتشخيص الحكم الإلهي الواحد والموقف الشرعي الواحد والمصالح والمفاسد الواقعية الواحدة، والموازنة بينها، وتحصن الإنسان من الحيرة والضلال والانحراف والاختلاف.

5 ـ الوفاء بالعهد والميثاق، وهو مما ينمي في الإنسان الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى والطبيعة، وأخيه الإنسان في إطار تأكيد الالتزامات الأولية التي يكون الإنسان ملتزما بها من خلال وجوب الطاعة لله تعالى ولرسوله ولأولي الأمر، وكذلك في إطار الالتزامات الثانوية التي يلزم بها الإنسان نفسه من خلال العهود والمواثيق والعقود والإيقاعات، بحيث ينظم بذلك حياته وعلاقاته في المجتمع ويحقق الوحدة والانسجام.

وهذا الوفاء وان كان يمثل أحد مفردات تربية الإرادة الإنسانية وتقويتها، لكنه أحد المبادئ المهمة التي أكدها القرآن الكريم والإسلام الحنيف لمعالجة الاختلال في توازن الوحدة الاجتماعية في مرحلة الاختلاف في الدين، حيث يكون الانسجام مع العهد والميثاق الإلهي.

ولذا نشاهد الخطاب المؤكد في هذا المجال تجاه بني إسرائيل سلبا وإيجاباً، وهم يعبرون عن المصداق الأمثل لمرحلة الاختلاف في الدين.

كما أنّه  يعالج الاختلال في توازن الوحدة الاجتماعية عند تضارب اتجاه الارادات الإنسانية، فيحقق الانسجام بينها من خلال العهود والمواثيق بين الناس أو مع ولي الأمر.

6 ـ مبدأ الحق والعدل اللذين يمثلان الركنين الأساسيين للأحكام الشرعية، لأنها تابعة في تفاصيلها إلى الحق والعدل.

وبذلك أوجد الإسلام التكامل والتوازن في هذا الجانب من الوحدة، فلم يترك القيم والمثل تتسم بالغموض، بل حددها في صيغ معينة تهدي إليها وهي: الشريعة، كما أن الشريعة لم تترك ضمن حدود وصيغ جامدة وقيود حديدية، بل فسرت القيم والمبادئ فأصبحت القيم والمبادئ اتجاهات توجه مسار الصيغ الشرعية وتوضحها وتفسرها للتحرك معها.

(124)

فالشريعة الإسلاميّة تكمل دور القيم في الحياة الإنسانية، من خلال إيجاد الصيغة الواحدة المنظمة للحياة والقيم، تفسر وتوضح مسار الشريعة وتعطيها المرونة الكافية لمعالجة الاختلاف في كل زمان ومكان.

 

العنصر الثالث ـ الشريعة الواحدة الإلهية

نجد الرسالات الإلهية، ومنها: الرسالة الخاتمة اهتمت بالتشريع، ولكن كان هذا الاهتمام في الرسالة الخاتمة أكثر تفصيلا ووضوحا، وذلك لتحقيق وحدة الناس ومعالجة الاختلاف الذي يعيشه المجتمع الإنساني في هذه المرحلة، بسبب تجاوز القيم والاختلاف في تفسيرها، فكان نزول الوحي الإلهي بالشريعة التي تنظم حركة الإنسان وعلاقته بالطبيعة وأخيه الإنسان معا، كما تعمل على حل المشاكل والاختلافات التي تطرأ على هذه الحركة أيضاً.

ولكن تميزت الشريعة الإسلاميّة بمجموعة من المميزات الأساسية:

الأول: الوضوح في التشريع الإسلامي، حيث اقترنت التشريعات الإسلاميّة بعدة عوامل رئيسية تمنحها هذا الوضوح:

أ ـ هو بيان وشرح الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ شخصيا لها، مع تكوين (مشروع) جماعة المتفقهين والمبلغين لها، لتوضيحها وشرحها، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ (18).

ب ـ هو التطبيق والتجربة الخارجية لها في زمن صاحب الرسالة، حيث اتيحت للرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ فرصة واسعة نسبياً، لتطبيق الأحكام الشرعية في المجتمع الإسلامي، ويمكن أن نلحظ ذلك فقهيا في الكثير من أصول وكليات الفقه في العبادات والمعاملات التي يتفق عليها المسلمون ؛ بالرغم مما تعرض له الفقه الإسلامي من مشكلات عديدة.

ج ـ تشخيص المرجعية الدينية الفقهية في الكتاب الكريم والعترة الطاهرة، واختصاص علي ـ عليه السلام ـ  من بين أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالعلم والمعرفة والقضاء،

(125)

وهذه المرجعية الدينية ـ المتمثلة بالإمام علي ـ عليه السلام ـ   وأولاده عليهم السلام من بعده، بحيث يتم الرجوع إليهم في حل المشكلات لفهم الشريعة (19).

الثاني: الشمول والسعة في تناول الشريعة لمختلف إبعاد الحياة الإنسانية، بحيث لا نجد هذه السعة والشمول، في أي من الرسالات الإلهية السابقة، فقد تناول هذا الشمول السلوك الفردي والجماعي للإنسان، سواء في عبادته أو معاملاته أو مأكله ومشربه، ملبسه ومسكنه، وكل أشكال سلوكه، أو في علاقته مع الطبيعة، أو أخيه الإنسان الآخر، وسواء في الحكم أو السياسية أو الاقتصاد أو الأسرة أو المجتمع، إلى غير ذلك مما يعرفه الإنسان.

وقد تم تحقيق هذا الشمول:

أولا: ببيان الأحكام التفصيلية في القضايا المنظورة.

وثانياً: بيان القواعد والأصول العامة، التي يمكن أن  يرجع إليها الإنسان عند الحاجة في القضايا غير المنظورة.

وثالثاً: بيان الأحكام على مستوى الواجب والحرام والمكروه والمستحب والمباح.

ورابعاً: بيان الأحكام على مستوى تزاحم المصالح أو الارادات وبيان الأولويات والحالات الاستثنائية كالضرر والعسر والحرج.

الثالث: المرونة في الشريعة، بحث تكون قادرة على الاستمرار ومواكبة الظروف المتطورة والمستجدات في الحياة الإنسانية، من خلال مراعاة الحاجات الثابتة في الحياة الإنسانية التي توضع لها الأحكام الثابتة والحاجات المتغيرة أو المتحركة في حياة الإنسان، حيث تم تغطيتها تشريعياً بمراعاة هذا التغيير في موضوعات الأحكام وربطها بعللها ومصالحها، وتشخيص العناوين الثانوية (الاستثنائية الطارئة) وتقديمها، ومنح الصلاحيات المطلوبة لولي الأمر في إطار القواعد العامة واتجاهات الحكم الشرعي ومقاصده.

الرابع: وضع الضمانات الإجرائية والتنفيذية، التي يمكن تلخيصها:

أولاً: تطوير وتنمية الوازع الذاتي الداخلي للإنسان المسلم، من خلال تأكيد
 

(126)

مبدأ (التقوى) والورع عن محارم الله وتقوية الإرادة الإنسانية عن طريق الجهاد الأكبر وضبط النفس والسيطرة على طغيان الشهوات والميول.

ثانياً: تأكيد مبدأ التعويض الإلهي للبذل والعطاء والصبر على الطاعة واجتناب المعصية، وتحمل الجهد والنصب في سبيل الله والآخرين، ومصلحة الجماعة، قال تعالى: ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له إضعافا كثيرة...﴾(20).

وكذلك تأكيد القيم والمبادئ الإسلاميّة التي تشكل ضمانة في الأجراء، وفي تشخيص اتجاهات الشريعة، وكذلك تفسير الحكم ومعرفة الحكمة فيه.

ثالثا: بالدولة والنظام الإسلامي، الذي سوف نتناول الحديث عنها بصورة مستقلة، لأنها تمثل عنصراً مهما في تحقيق هذه الوحدة.

رابعاً: في تأكيد مبدأ رقابة الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمبدأ يمثل مسؤولية عامة، تتحملها الأمة في مراقبة الحاكم من ناحية، ومراقبة السلوك للإنسان الآخر من ناحية ثانية، وسوف نتعرف على مزيد من التوضيح في البحث عن العنصر الرابع.

خامساً: الجهاد الأصغر الذي يشمل القتال ـ أيضاً ـ في بعض الحالات الخاصة المحددة فقهيا.

 

الوحدة ومبدأ الحق والعدل

لقد عرفنا أن مبدأ الحق والعدل يمثلان المحتوى الحقيقي للشريعة، لأنهما يلخصان القيم والمبادئ الإسلاميّة فيما يتعلق بالحركة الفردية والاجتماعية للإنسان، كما انهما يمثلان طريق التكامل الإنساني الفردي والجماعي، والوصول إلى الله (المثل الأعلى)، ونحتاج أن نقف عندهما قليلا، لنتبين دورهما في تحقيق الوحدة الإسلاميّة.

(127)

الحق

أما الحق، فإن الله سبحانه وتعالى هو الحق المطلق، ولا يصدر منه إلاّ الحق، وهو يمثل الحقيقة الثابتة في مسيرة الكون والحياة، وهو أمر واحد قائم في الواقع المنفصل عن رغبات الإنسان وميوله، ويكشف الحكم الشرعي هذا الحق الذي يتطابق مع ما يضر الإنسان وينفعه وما يصلح حياته ويفسدها، فيكون الحكم الشرعي طريق الإثبات للحق، على قاعدة (مطابقة الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد الواقعية)، ويكون ربط سلوك الإنسان بالقوانين والتشريعات الصادرة منه سبحانه وتعالى سببا لتحقيق مصالح الإنسان نفسه، وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في آيات عدة، منها: قوله تعالى: ﴿إنا انزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله...﴾(21) وذلك من اجل أن يكون الحكم بين الناس وتنظيم علاقاتهم وفق الحق الذي يعلمه الله تعالى لا بما يراه الناس أو يحبونه، لأنهم قد يرون ويحبون لأنفسهم ما يضرهم ولا ينفعهم، قال تعالى:﴿وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم..﴾(23).

كما أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في مجمل حركة الكون ـ أيضاً ـ قال تعالى: ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن...﴾(23).

وقد تم تأكيد دور الحق في حل الاختلاف بنوعيه:

في قوله تعالى: ﴿كان الناس أمة وحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين اوتوه من بعدما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذي آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بأذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾(24).، فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الكتاب الذي جاء بالحق، إنّما  جاء ليعالج ظاهرة الاختلاف التي وجدت في المجتمع البشري، سواء الاختلاف البدائي أو الاختلاف في الدين، وذلك لأن الحق أمر واحد، بخلاف الهوى والميول والمصالح والمنافع الخاصة، فإنها متعددة ومختلفة، كما إنها لا تتطابق دائما مع مصالح الناس عامة، ومن أجل ذلك كان كل ما هو خلاف الحق باطلا لا يبقى ولا يصلح ولا ينفع.

(128)

وقد عبر القرآن الكريم عن الاختلاف في الدين المنهي عنه بلبس الحق بالباطل، قال تعالى: ﴿ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وانتم تعلمون﴾(25).

 

القسط والعدل

وأما القسط والعدل، فقد أنزلت الشرائع الإلهية لتنظيم علاقات الإنسان بينه وبين أخيه الإنسان، وبينه وبين الطبيعة في إطار العلاقة بالله تعالى عبوديته. ولكن هذه العلاقة قد تتعرض لمشكلة الاختلاف بسبب تضارب المصالح والمنافع بين الناس وأرادتهم ورغباتهم، فكان إيجاد التوازن في هذه العلاقة هدفا من أهداف الشريعة الإسلاميّة، ومبدأ من مبادئ الرسالة الإسلاميّة.

وقد تم تأكيد هذا المبدأ وأهميته بصورة خاصة، من خلال تأكيد مفاهيم القسط والعدل، وأنه هدف الرسالات الإلهية: ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزات ليقوم الناس بالقسط.﴾(26).

﴿وان حكمت فأحكم بينهم بالقسط أن الله يحب المقسطين﴾.(27) ﴿أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي..﴾(28).

أو من خلال التشريع الذي يحفظ هذا الهدف ويحقق هذا التوازن في الواقع الاجتماعي.

أو من خلال توضيح سعة دائرة العدل والقسط في حياة الإنسان، فلم يلحظ في ذلك مجرد علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ـ كما هو الحال في التشريعات الوضعية عادة ـ بل لاحظ ذلك ـ في علاقته مع الله تعالى، ومع نفسه، ومع الطبيعة أيضاً، حيث قد يكون الإنسان متجاوزا للحدود مع الله تعالى، فيكون ذلك من أعظم الظلم، لقوله تعالى: ﴿.. يبني لا تشرك بالله أن الشرك لظلم عظيم﴾ (29).

وقد يكون الإنسان ظالما لنفسه عندما يتجاوز في سلوكه حدود مصالحه الحقيقية دون مبالاة وانسجاما مع الميول والشهوات، وقد يكون ظالما للكون والطبيعة التي حوله، أو ظالما لماله عندما يتجاوز في تصرفاته حدود الحق، مثل: الإتلاف والإسراف.. الخ.
 

(129)

وهذا المبدأ يتكامل مع مبدأ الحق الذي يضمن المصالح العامة والخاصة للإنسان في حركته الفردية والاجتماعية.

كما يتكامل مع مبدأ التعويض في الدار الآخرة، عندما يقتضي حفظ التوازن والعدل والقسط في الحياة الاجتماعية، أن يقوم الفرد الإنساني بتضحيات خاصة ـ من أجل الآخرين، أو من اجل المجتمع ـ بالنفس، أو المال، أو الجاه والاعتبار.

 

الضمانات الإجرائية

وقد امتازت الرسالة الخاتمة في مجال القيم والمبادئ ـ مضافا  إلى الوضوح والسعة والشمول والتأكيد ـ بوضع الضمانات الإجرائية في هذا المجال التي يمكن أن نلخصها بالأمور التالية:

الأول ـ القرآن الكريم: الذي بقي محفوظاً  بنصه الكامل المقدس، ومأتم من تأكيد إشاعة ثقافته بين الأمة، حيث لم يبق محصورا في الطبقة الخاصة من الأحبار والرهبان، وذلك من خلال تأكيد قدسيته وإشاعة تلاوته وحفظه وفهمه وتدارسه.. كما ذكرنا.

الثاني ـ القدوة الصالحة:المتمثلة بمصاديق عديدة:

أولاً: (أهل البيت عليهم السلام ) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، حيث كانوا يمثلون التجسيد الكامل العملي لهذه القيم والمبادئ: ﴿.. إنّما  يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير﴾ (30)، وعلى رأس أهل البيت ـ عليهم السلام ـ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الذي وضعه الله تعالى أسوة للمسلمين: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثير﴾(31).

وكان أحد الأبعاد المهمة في الرسالة الخاتمة تأكيد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ على أهل البيت ـ عليه السلام ـ  الذي أريد منه هذه القدوة العملية في حياة المسلمين، وذلك مضافا إلى بعدي الإمامة والمرجعية الفكرية فيهم اللذين أشرنا إليهما سابقا.

ومن الواضح أن القدوة الحية المعاصرة التي يشاهدها الإنسان في حياته ـ مثل أهل البيت ـ عليهم السلام ـ اكثر تأثيرا من القدوة الغائبة التي يسمع عنها الإنسان من

(130)

خلال المواقف المحدودة.

ثانيا: الاقتداء بالأنبياء ـ عليهم السلام ـ السابقين، مثل: إبراهيم ـ عليه السلام ـ، أو من سبقه، أو لحقه منهم، كما أكد على ذلك القرآن الكريم، في قوله تعالى: ﴿أولئك الذين هدى الله فبهدهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا أن هو إلاّ ذكرى للعالمين﴾ (32)، حيث يلاحظ أن هذه الآية الكريمة جاءت في سياق الحديث عن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، قبل إبراهيم ـ عليه السلام ـ، وبعده.

ثالثاً: الاقتداء بالرجال الصالحين من الصحابة الخيرين السابقين من المهاجرين والأنصار، أو التابعين لهم بإحسان من العلماء والفقهاء والعباد والزهاد، الذين توارثوا العلم والأخلاق والصلاح جيلا بعد جيل.

الثالث ـ الضمانات الأخرى: التي وضعت لتطبيق الشريعة الإسلاميّة التي ذكرناها سابقا، مثل: النظام الإسلامي الذي يقوم على أساس القيم والمثل، ومثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنمية الوازع الديني، وغيرها من الضمانات.

 

(131)


1 ـ الشورى: 13.

2 ـ هود: 118 ـ 119.

3 ـ النور: 55.

4 ـ الأنعام: 153.

5 ـ الشورى: 13.

6 ـ الحجر: 9.

7 ـ الأحزاب: 33.

8 ـ  صحيح الترمذي 5: 663، رقم: 3788، وغيره. وفي هذا الحديث بحث من جوان مهمة حيث أن حديث الثقلين هو من أفضل ما روي من أحاديث في هذا المجال، من حيث الدلالة والسند والوثاقة حتّى بلغ حد التواتر على ما ذكر بشأنه بعض العلماء والمحققين.

راجع كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة 2: 52 ـ 63.

9 ـ راجع كتابنا علوم القرآن، لتوضيح وتفسير والاستدلال على هذه المرجعية الدينية.

10 ـ التوبة: 103.

11 ـ الجمعة: 2.

12 ـ مجمع البيان 10: 333، وعنه بحار الأنوار 16: 210.

13 ـ الإسراء: 44.

14 ـ يمكن مراجعة بحث العبادات والشعائر، من كتابنا دور أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في بناء الجماعة الصالحة، الجزء الثاني، لنتعرف على صورة إجمالية للعمق والشمول في العبادة الإسلاميّة.

15 ـ وقد تناولنا هذا التكامل بين هذين المبدأين في الأبحاث السابقة.

16 ـ الأعراف: 96.

17 ـ فصلت: 30.

18 ـ التوبة: 122.

19 ـ هذا الموضوع تناوله علماؤنا الأعلام (قدس سرهم) بالبحث التفصيلي وتناولناه ـ أيضاً ـ

 

(132)

 

في بعض المحاضرات، وكذلك في علوم القرآن: 255 ـ 262.

20 ـ البقرة: 245.

21 ـ النساء: 105.

22 ـ البقرة 216.

23 ـ المؤمنون: 71.

24 ـ البقرة: 213.

25 ـ البقرة: 42.

26 ـ الحديد: 25.

27 ـ المائدة: 42.

28 ـ النحل: 90.

29 ـ لقمان: 13.

30 ـ الأحزاب: 33.

31 ـ الأحزاب: 21.
32 ـ الأنعام: 90.
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية