مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

قيم الحوار والتعايش في الرؤية
الثقافية الإسلاميّة
الشيخ محمد علي التسخيري


حول الرؤية الإسلاميّة

الرؤية الثقافية رؤية هادفة، تنطلق من مرجعية مقدسة للحياة الإسلاميّة فتعطيها شكلها ومضمونها المتميزين. وتستبطن هذه الرؤية مجمل أسس عملية التغيير الاجتماعي الشامل: فهي الإطار الذي يجمع في داخله مختلف مجالات التغيير. ومهما اختلف علماء الاجتماع والنفس وعلم الإنسان والإعلام في تحديد مفهوم الثقافة أو الرؤية الثقافية، فانهم يتفقون على دورها الأساس في رسم تفاصيل حياة المجتمع والفرد، وتحديد أنماطها أي إنها، بكلمة أخرى ؛ العنصر المركب الذي يحدد الأفكار والسلوك والظواهر الاجتماعية، ويعدها الإمام الخميني: «المصنع الذي يصنع الإنسان» و«طريق إصلاح المجتمع» (1)، أو أنها ـ كما يقول المرحوم مالك بن نبي ـ: الدستور الذي تتطلبه الحياة العامة، بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي (2).

من هنا فالتصور الإسلامي يتلخص في تصور الإسلام للحياة، أو أنّه

(134)

«الإسلام حين يصبح الحياة»، كما عبرت ورقة «الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي».(3)

ولهذه الرؤية مرجعية تعطيها مشروعيتها ومضمونها ومنهجها في تطويع الحياة للإسلام، وتتمثل مرجعيتها في القرآن الكريم والسنة الشريفة، فهناك حقائق الخلق والكون، التي تشكل مصدراً معرفياً دائم الحركة.

ولكي تحقق هذه الرؤية نياتها ومقاصدها في بناء الحياة الإسلاميّة، فقد وضعت مهمة رسم خطابها العصري وتحديد مناهجها على عاتق أصحاب الاختصاص، من فقهاء ومفكرين وخبراء ومثقفين إسلاميين، وعلى أسس علمية، تتيح للأصالة استيعاب متطلبات المعاصرة: لكي يكون العصر الذي تعيش فيه المجتمعات الجديدة لصيقاً بالإسلام ورؤيته الثقافية.

ولا يمكن بلورة هذه الرؤية ومراجعتها باستمرار دون عقول أصيلة متحررة من الجمود على الفهم، واجواء منفتحة على النقد البناء والحوار الهادف اللذين يمنحهما مناخ الحرية الفكرية المتوازنة.

 

من هنا فالحوار والتعايش في الرؤية الثقافية الإسلاميّة، محكومان بقيم المرجعية الإسلاميّة الملزمة (القرآن الكريم والسنة الشريفة): فقيمهما الشرعية والعقلية والأخلاقية هي نفسها قيم الدين الحنيف، أو القيم الإنسانية العامة التي لا تتعارض معه.

 

أهمية الحوار

الاختلاف سنة كونية، أعطت للحياة ألواناً مختلفة من التفكير والسلوك، وجعلت التباين بين الناس في رؤاهم ونظرتهم للأشياء هو الأصل، بعد أن كانوا أمة واحدة «وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا» (4)، ومرد ذلك إلى الاختلاف في الطبائع الوراثية والتنشئة والتكوين والتجربة والأهواء وغيرها فليس ممكناً في الواقع وجود شخصين متفقين في كل الأشياء بنسبة مائة بالمائة، كما لا وجود

(135)

لشخصين مختلفين بنسبة مائة بالمائة أيضاً، فالاختلاف والاتفاق قضيتان نسبيتان تتراوح نسبتهما بين الواحد بالمائة والتسع والتسعين بالمائة. وهذا لا يعني عدم وجود حق مطلق، ولكن هذا الحق المطلق هو الذي يحدده الله تعالى فقط، أو من يخولهم من عباده كالأنبياء والأوصياء والملائكة. وكذلك تعتبره الفطرة نافذة إلهية لمعرفة الحق، كما لا يعطي هذا الاختلاف حقوقا متساوية لكل المختلفين في الانتساب للحق ؛ بل أن للاختلاف مرجعية مطلقة ليست من اختراع المختلفين يقول تعالى:

﴿إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ (5)، و ﴿إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون﴾ (6)، فالحكم لله في مواطن الاختلاف، وحكمه عبر عنه في كتابه الكريم، الأمر الذي يلغي مفهوم التعددية في مرجعية الاختلاف بالنسبة للمسلمين.

وهنا يأتي الحوار ليعطي للاختلاف بعداً إنسانياً يضعه في شكله الطبيعي، ولا يسمح له بالتحول إلى طاقة تدميرية، بل أن الحوار يخفض من مستوى سلبيات الاختلاف، ويرفع من مستوى إيجابياته: ليكون الاختلاف في هذا الإطار رحمة وخيرا، ودافعا للإصلاح والمراجعة المستمرة وهذا البعد يمنح الحوار مضمونا مصيريا وموقعا مهما في استمرار الحياة بطعمها المستقر، وإبقاء الجنس البشري بمستوى ما حباه الله من عقل وقدرة على التفكير والاختيار.

أن الحوار أداة للكشف عن الحقائق والأشياء الخفية، ومن خلاله تتم الإجابة عن كثير من علامات الاستفهام والاشكالات العالقة في الذهن، أو تزيد من القناعات الذاتية، كما يمكن من خلاله كشف الباطل ودحضه وكشف مؤثرات بطلانه ودلائله. وبشكل مجمل فان الحوار ينضج الأفكار والقرارات ؛ ففي الجانب الفكري والثقافي ـ مثلاً ينمي الحوار الأفكار ويعمقها، ويشذبها مما يعلق بها من انحراف أو جمود أو شوائب، ويحرك العقل باتجاه الإبداع والتجديد والتحرر، في الحدود التي تفرضها مرجعية الاختلاف. وفي الجانب السياسي والاجتماعي،

(136)

يلعب الحوار الدور نفسه في تنضيج القرار الاجتماعي والسياسي وإشعار الآخرين بالمسؤولية وبأهمية الموقع الذي يحتلونه، بل أن بعض أنماطه تعد في دائرة المسلمين لوناً من ألوان الشورى.

وبالتالي فالحوار في الإسلام يعبر عن قيمة حضارية ؛ لأنه أسلوب الأنبياء في التبليغ والدعوة، فقد انتشر الإسلام بالدعوة والوعظ والمحاجة والقول الحكيم، والذي أوصله إلى أقاصي الدنيا، ولاسيما أفريقيا وشرق آسيا وأميركا، هو الحوار هذه البلدان التي يقطنها اليوم مئات الملايين من الناس، دخلت الإسلام بالحوار، فالإسلام هو دين الحجة ودحض الباطل بأسلوب الحكمة ﴿أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾(7)، ولابد من الإشارة هنا إلى أن الحوار ليس النهج الوحيد في نشر الدين والدعوة والتبليغ، رغم أنّه نهج أساس، ورغم أنّه موقف يتخذه المسلم أساسا في الحركة، إلاّ أن النهج يتغير بتغير موقف الطرف الآخر.

 

مجالات الحوار

تتنوع مجالات الحوار الإسلامي بتنوع أطرافها ووسائلها وموضوعاتها. ولهذا التنوع اكثر من معيار للقيم. فعلى أساس معيار أطراف الحوار، يمكن تقسيمه إلى:

حوار بين الأفراد (عامة الناس، أو النخب، علماء دين ومفكرين وجامعيين ومثقفين وغيرهم).

ـ حوار بين الشعوب.

ـ حوار بين الجماعات.

ـ حوار بين المذاهب.

ـ حوار بين الحكومات (ثنائي أو في إطار المنظمات والمؤسسات).

ـ حوار مع الأديان الأخرى.
 

(137)

ـ حوار مع المدنيات والحضارات الأخرى.

كما ينقسم على أساس معيار الوسائل إلى:

ـ حوار مباشر، يتم بين أطرافه بحضور عامة الناس أو عبر وسائل الإعلام (التلفزيون، الإذاعة..الخ)، وهو الحوار المباشر المفتوح، الذي يصطلح عليه عادة «المناظرة»، أما الحوار المباشر المغلق، فهو الذي يجري بعيداً عن الآخرين، ويقتصر على المتحاورين وبعض المراقبين.

ـ حوار غير مباشر، عبر الصحافة أو الرسائل أو (المراسلات) أو عبر طرف ثالث.

وعلى أساس معيار المادة أو الموضوع، ينقسم الحوار إلى:

ـ علمي (فقهي، عقائدي، أو مختلف العلوم الإسلاميّة والإنسانية والاجتماعية أو البحتة والتطبيقية).

ـ سياسي (ما يرتبط بالشأن السياسي العملي أو النظري).

ـ فكري (ثقافي، اجتماعي وغير ذلك).

ومن خلال استعراض هذا التنوع في الحوار، نريد القول: أن لكل منها أساليبه الفنية وآدابه وقواعده ومنهجه، وبالتالي فإن القيم العلمية والأسلوبية تختلف إلى حد ما بينها ولكن القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية تبقى قاعدة مشتركة لها جميعا، فقد ركزت المرجعية الإسلاميّة، من خلال النصوص، على هذه القيم، وفصلها وشرحها الفقهاء وعلماء الكلام والحديث والأخلاق، كل من زاويته ومدخله العلمي. ومع التطور الهائل والتغييرات المتسارعة في أنماط الحياة وأساليب الحوار والتخاطب، دخلت معادلات قيمية جديدة في صياغاتها، وليست جديدة في أصولها، وهي مما ينبغي اكتشافه وتعريقه وأسلمته.

 

عناصر الحوار

يمكن تقسيم أهم عناصر الحوار إلى الأطراف، الموضوع، الأهداف، الإدارة

(138)

والتحكيم، الزمان، المكان، المنهج، الأسلوب والنتائج. ومن خلال استعراض هذه العناصر بشيء من التفصيل نأتي إلى البعد القيمي الإسلامي حيال كل منها، بالصورة التي تحقق غايات الحوار، كالغاية الفنية المتمثلة بالاعتراف بحالة الاختلاف والتركيز على إيجابياتها وتفتيت سلبياتها، كما ذكرت.

1 ـ أطراف الحوار: ينبغي توفر مجموعة من المؤهلات في شخصية المتحاورين، على الصعد الذاتية والموضوعية، تكفل لنجاح الحوار مدخله الأساس ومن أهم هذه المؤهلات:

أ ـ التساوي في الرغبة والتكافؤ في حرية الطرح، فلابد أن لا يكون أحد أطراف الحوار مقحماً أو مجبراً على الحوار، أو مضطراً له تحت ضغوط التهديد، بأنواعه: الاجتماعي والسياسي، بالسجن أو الموت أو الطرف أو تلبيس التهم، أو تحت ضغوط الحياة والانجرار. فمثل هذا الحوار مهما كانت نتائجه، ليست له قيمة علمية أو دينية أو أخلاقية: لأنه يفتقر إلى ابسط أسس الحوار الحقيقي وآدابه: لأن أطراف الحوار هنا لن تكون متكافئة في القدرة والحرية، فبعضها يحاور من موقع القوة والاقتدار والاستكبار، والآخر من موقع الضعف والاضطهاد، فهناك، اذاً فرق كبير بين الحوار (الثقافي والفكري والسياسي) بين أطراف متكافئة، والحوار بين الغازي (العسكري والثقافي والسياسي) والمنهزم أو المدافع، فالحوار الثقافي والحضاري الحقيقي مثلا يدور في إطار الاحتكاك أو التبادل الثقافي، في حين أن الحوار في إطار الغزو ليس له أي معنى. فالغازي الثقافي يسلب من الحوار كل إيجابياته، ويمكن أن يجري الحوار حتّى خلال المعارك العسكرية، فضلاً عن المعارك الفكرية والسياسية، بهدف إلقاء الحجة على الخصم، شرط ضمان عنصر التكافؤ في حرية الرأي، وإلا يكون حوارا من طرف واحد.

وفي السيرة والتاريخ الإسلامي نماذج فذة من مواقف الحوار إثناء الحرب: لإقناع الخصم ومحاججته ؛ في محاولة لتجنب ويلات الحرب ولكف شرها عن المسلمين.

(139)

ب ـ التسلح بالعلم والمعرفة في موضوع الحوار، فهو أساس لدخول الحوار وكسبه موضوعياً: ﴿ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم﴾(8) فالحوار الحقيقي ينبغي أن توضع له مقدمات موضوعية ويسير وفق أسس علمية، ولا يتحقق هذا الجانب دون تخصص المتحاورين في موضوع الحوار، وأحاطتهم الكافية بحقائقه، ويضرب الله تعالى مثلاً في من يحاور في أمر وجود الله ووحدانيته وهو لا يفقه شيئا في هذا المجال ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾(9). وحتى لو كان الحق مع الطرف الضعيف علمياً: فإن هذا الحق سيضيع بين ثنايا الجهل، وقد تترتب عليه آثار سلبية تؤدي إلى ظهور الباطل بمظهر المنتصر، مما يتسبب في تزييف الواقع وانحراف وجهات نظر عامة الناس. وإذا كان الهدف من الحوار تحقيق فائدة علمية، فينبغي كذلك أن تكون الأطراف ضليعة في مجال موضوع الحوار وهنا يشترط الامام الغزالي على طرف الحوار «أن يناظر مع من هو مستقل بالعلم ليستفيد منه أن كان يطلب الحق» (10).

ج ـ التحلي بسلوكية لائقة، فالغضب والتشنج والتهريج والحقد والرياء والفرح بمساندة الطرف الآخر والاستكبار عن الحق، ستنزع من الحوار كل قيمة وتدخله في دائرة المنازعات والصراع. بينما الصفات المعاكسة كالهدوء والتروي وضبط النفس واللين والمرونة، وعموماً التوازن في المشاعر، سترفع من مستوى الحوار إلى دائرة النجاح والتأثير وتحقيق أفضل النتائج.

وهنا يبين الله تعالى لرسوله الكريم قاعدة عامة في التحاور مع الآخرين، تقف على أساس اللين والمرونة والتسامح: ﴿ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾   (11). فالله تعالى يأمر الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بالتشاور مع من قد أساءوا إليه، بعد أن يعفو عنهم ويستغفر لهم كما أمر من قبل موسى وهارون (عليهما السلام): ﴿أذهبا إلى فرعون أنّه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾(12) ونقل المفضل ـ أحد تلاميذ الإمام جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ  

 

(140)

حادثة تحمل دلالة قيمية مشرفة في هذا المجال: فخلال تحاوره مع أحد الزنادقة، تشنج الموقف وغضب المفضل عليه، فقال له الزنديق:

«إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا ولا بمثل دليلك يجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما افحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا، وأنه الحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا ويتعرف حجتنا، حتّى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا انا قطعناه وغلبناه، دحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير، يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه ردا فإن كنت من أصحابه فخاطبنا مثل خطابه» (13).

2 ـ موضوع الحوار: ينبغي قبيل بدء الحوار تحديد نقاط الابهام والاختلاف، والعادة التي يتعين التحاور فيها: ليكون الموضوع واضحا ومحددا، فالحوار قد ينحرف باتجاهات أخرى ويكون مضيعة للوقت إذا تبين لأطراف الحوار انهم كانوا يتحاورون في موضوعين أو موضوعات مختلفة. وهذا العنصر أطلق عليه العلماء القدامى اصطلاح «تحرير محل النزاع» وقالوا بضرورة تشخيص إبعاد النزاع ؛ ليكون الاستدلال منتجا، وعدوه شرطا منطقيا لا حاجة للاستدلال عليه (14). ويفترض هنا لحاظ جميع الجوانب ذات العلاقة بالموضوع، فهناك جوانب مهمة قد لا تلحظ، ولكنها تترك أثرها على النتائج.

فيجب أذن أن يكون الحوار والدعوة على (بصيرة) يقول تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة إحنا ومن اتبعني﴾ (15).

3 ـ أهداف الحوار، تكمن قيمة الحوار في هدفيته، والمتمثلة في اكتشاف الحقيقة ومعرفتها وبلورة شكلها ومضمونها، على اعتبار أن «الحكمة ضالة المؤمن» وهذا الهدف يعطي للتجرد والنزاهة والموضوعية في الحوار معنى حقيقيا، بالصورة التي يطرحها القرآن الكريم: ﴿وأنا أو اياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» (16). أما الحوار الذي لا يحمل هدفا معينا ولا يترك أثرا علميا أو فكريا، فهو

(141)

عديم القيمة والفائدة وتنطبق هذه القاعدة أيضاً على الحوارات التي تدور حول أمور افتراضية وخيالية ولا علاقة لها بالواقع (17). وتتنوع مناهج الحوار ـ كما سيأتي ـ يتنوع أهدافه، فهناك الحوار النقدي الذي يتلخص في تقويم كل طرف لممارسات الطرف الآخر وأفكاره بشكل نقد موجه. وللنقد من جانبه آداب وشروط، تبقيه في حدوده الشرعية والعقلانية، وتحافظ فيه على روح الانعتاق والتقويم الصحيح والمحاسبة الهادفة والنقد البناء وهناك أيضاً المدارسة التي هي لون من ألوان الحوار، وهدفها يدور حول الموضوع فقط، وليست لها أهداف خاصة أو ذاتية. وبالتالي الوصول إلى نتائج متفق عليها، ولا توجد لدى أطرافها أحكام نهائية سابقة. أما المحاجة فهي حوار الإقناع وإقامة الدليل، وهدفها تفنيد وجهات نظر الطرف الآخر ومحاولة استيعابه وجذبه وهديه، أو إيصال رسالة إلى الآخرين وتنبيههم وتوعيتهم.

4 ـ الإدارة والرقابة والتحكيم: هذا العنصر الغني ضروري جدا لتحسين أداء الحوار وضمان تحقيق أهدافه وتنفيذ نتائجه، فالإدارة لا تدخل طرفا في الحوار، بل تتلخص مهمتها في تنظيم الحوار وضبطه وتوفير الفرص المتكافئة للمتحاورين ومراقبة أساليبهم ومناهجهم، ثم التحكيم بينهم في حالات معينة. وتفرض هذه المهام شروطا ومواصفات في عنصر الإدارة والرقابة والتحكيم أهمها: المقبولية لدى أطراف الحوار كافة، والحياد والموضوعية والتجرد، وحساب النتائج بدقة، وعدم تغليب طرف على حساب آخر، إلاّ في حدود الحقيقة، وحتى لو كان لهذا الجهاز أو بعض أفراده خلفيات فكرية وسلوكية ورؤى تتفق أو تختلف مع أحد الأطراف، فلا ينبغي أن يكون لها مدخلية في الإدارة والتحكيم وهنا نشير إلى قول الإمام علي ـ عليه السلام ـ للحكمين بصفين: (انظرا فإن كان معاوية أحق بها فاثبتاه وان كنت أولى بها فاثبتاني) (18).

5 ـ مكان الحوار: أن عدم وجود أي نوع من المؤثرات التي تنعكس سلبا على أحد الأطراف أو مجموعهم أو على المراقبين، هو ما ينبغي أن يكون عليه

(142)

مكان الحوار. وقد يتمثل هذا المؤثر في أجواء استفزازية أو انفعالية أو صاخبة، أو مؤثرات ناتجة عن أجواء التهويل، فيكون المتحاورون منساقين حينها وراء تأثيرات العقل الجمعي، ومن أمثلة ذلك ما ذكره القرآن الكريم من أجواء الانفعال والاستفزاز التي كان المشركون يخلقونها للتأثير على مسير الحوار الذي يقوم به الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ولاسيما بعد اتهامه ـ والعياذ بالله ـ بالجنون ، فدعاهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى نبذ هذا التهويل والصخب، والتأمل في التهم التي وجهوها له بغية استئناف الحوار في إطار الموعظة الحسنة:

﴿قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة﴾ (19).

ولاشك أن التطور التقني اضاف للتأثيرات البشرية في المكان تأثيرات أخرى سمعية وبصرية وضوئية وهندسية، لا تقل أهمية وتعقيدا في خلق أجواء خاصة وتأثيرات نفسية هائلة على المتحاورين أو الحضور أو المراقبين.

6 ـ زمان الحوار: وهو عنصر مهم في اختيار الموضوعات والأهداف وينبغي في تحديد زمان الحوار مراعاة ظروف أطراف الحوار من النواحي الاجتماعية والنفسية والاستعداد العلمي، وظروف انعكاس الحوار على الآخرين، وأهمية موضوع الحوار زمانياً ؛ فربما يكون لموضوع بعينه أهمية خاصة في زمان ما، ثم تعدم هذه الأهمية في زمان آخر.

7 ـ منهج الحوار: وهو النظام الذي يسلكه الحوار وفقاً لمجموعة من القواعد العامة (20). ومن بديهيات الحوار العلمي أن يكون منهجه واضحا ومرسوما، ويفترض بأطراف الحوار أن تكون متفقة على قواعده ؛ لكي يكون ملزما لها جميعا، كما تذكر الآية الكريمة: ﴿أتجادلونني في أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان﴾(21)، فهذه الأسماء أراد المشركون أن يفرضوها جزءا من منهج الحوار، ولكنها لا يمكن أن تكون ملزمة لمن لا يؤمن بهذا الجزء من المنهج.
 

(143)

ومن ضروريات هذا المنهج أن تكون هناك مبادئ متفق عليها ومفروضات مسلمة، إذا استطاع أي من المتحاورين أن يثبت قوله بها، أو يرجع قول الطرف الآخر إلى التعارض معها، فان الحوار سينتهي إلى نتيجة، وإلا فإذا لم تكن هنا مفروضات مسبقة يتسالم عليها الطرفان عاد الحوار عقيماً، ومن أساليب القرآن في التنبيه على هذه المسلمات قوله تعالى: ﴿أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون﴾ ﴿لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدت﴾، ومن هنا نجد القرآن الكريم يرد على أولئك المنكرين للبديهيات بتنبيههم إلى خطأ ما يعتقدون، إذ يقول تعالى لأولئك المقلدين لآبائهم (دونما منطق): ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون﴾ (22) وبالطبع فان الذي لا يعقل لا يتبع، فالمقياس المتفق عليه هو العقل والهدى الفطري.

ونطرح هنا أهم معايير منهج الحوار العلمي في إطار الرؤية الثقافية الإسلاميّة.

أ ـ التعارف والتوعية ؛ والمقصود منه تعرف كل طرف على حدود معينة من حقائق الطرف المقابل ومعتقداته وآرائه، من مصادرها نفسها، وليس من مصادر غيره، ولاسيما اعدائه، بهدف التمكن من الزامه ما ألزم به نفسه والاحتجاج عليه بمصادره نفسها وكذلك مبادرة أطراف الحوار إلى التعريف بمعتقداتها ووجهات نظرها، ويدخل في هذا الإطار مبدأ التوعية ؛ فالإسلام دين التوعية والتربية، وهو بمقتضى واقعيته وفطريته يقرر لزوم القيام بتوعية كل إنسان يراد له أن ينضم إلى معسكره، وكل مجتمع يراد للإسلام أن ينفذ إلى عمقه.. انه يعرض جوهرته الثمينة ؛ لأنه يعلم أن قيمتها ستنكشف بكل وضوح للجميع، ولذا فهو يرفض التقليد في العقيدة، ويرفض عملية الإكراه العقائدي، ويدعو اتباعه إلى أن يكونوا أقوياء في البصر والبصيرة ويأمر ـ في مجال التعامل مع الآخرين ـ بالدعوة البينة الواضحة قبل كل شيء» (23).

﴿ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال أنني من المسلمين﴾(24)، ﴿قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني﴾(25) وبالنسبة إلى الحوار

(144)

مع غير المسلمين، فإن البداية تتم عبر التذكير بحقائق الرسالة ومعالمها الرئيسة، معززة بالحجج والبراهين، وفي إطار النقاش المنطقي السليم (26). وتنقل كتب الحديث أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ حين بعث الامام علي ـ عليه السلام ـ إلى اليمن قال له: «يا علي لا تقاتلن أدا حتّى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لأن يهدي الله عزّوجلّ على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» (27).

ب ـ الوضوح: أي استخدام المنهج الصحيح بصورة واضحة دون لبس أو تورية أو التواء، وعدم الخلط بين الحق والباطل، حتّى من اجل الوصول إلى الحق كغاية تسوغ الوسيلة!

يقول الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ:

«لا تمزج الحق بالباطل، وقليل من الحق يكفي من كثير من الباطل ».

ومن أساليب الابهام في الحوار كما يقول الامام الجويني:

الاحتيال على المحاور، حتّى يخرجه عن محل تساؤله، وتوجيه كلامه إلى وجوه محتملة (28)، إضافة إلى استخدام المغالطات واسطة في المنهج.

ج ـ الموضوعية: ومن أبرز عناصرها: التجرد ونبذ التعصب والابتعاد عن القناعات السابقة والمواقف المبيتة والأحكام المعدة سلفا خلال تنفيذ الحوار، حتّى لو كانت أطراف الحوار على يقين مطلق بمعتقداتها ووجهات نظرها فهذا التجرد يخلق جوا من الصدق في الوصول إلى الحقيقة كهدف نهائي للحوار، مهما كانت هذه الحقيقة، على النحو الذي يدعو فيه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ الآخرين: «وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» (29).

ومما يذكر أن الخوارج احتجوا على الإمام بأنه يشك في احقيته عندما يقول للحكمين: (انظرا فان كان معاوية أحق بها فأثبتاه) فيجيبهم ـ عليه السلام ـ بالاستناد إلى هذه الآية السابق ذكرها قائلاً بأن ذلك لم يكن شكا منه ولكنه انصف في القول وذكر الآية وعقب عليها بقوله: (ولم يكن ذلك شكا وقد علم الله أن نبيه على الحق) (30).، وهذه الدعوة هي قمة التجرد والاستعداد لتقبل نتائج الحوار، مهما كانت وأينما

(145)

كانت، رغم اليقين المطلق للرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ بصحة معتقداته. يقول الفيض الكاشاني في حديثه عن شروط الحوار:

أن يقصد بها إصابة الحق وطلب ظهوره كيف اتفق، لا ظهور صوابه وغزارة علمه وصحة نظره، فإن ذلك مراء منهي عنه بالنهي الأكيد.

ويضيف:

أن يكون في طلب الحق كمنشد ضالة، يكون شاكرا متي وجدها، ولا يفرق بين أن تظهر على يده أو يدي غيره، فيرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر الحق (31).

وهذا يعني أن الموضوعية لاتتلاقي مع هدف استعراض القابليات العلمية خلال الحوار، أو القدرة على امتلاك أدوات الجدل، أو التنكيل بالخصم. ومن شروط الموضوعية في منهج الحوار تقديم الدليل على الرأي والفكرة برهانا على صحتها وصدقها: «قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين» (32). والشرط الآخر هو التقيد بالحقائق والأفكار التي يعتقدها الطرف الآخر، والاحتجاج بها، وفقا لقاعدة «الزموهم بما الزموا به أنفسهم »، وعدم الاحتجاج بما ينكر المحاور من حقائق الآخر، أو الاعتماد على ما ينقله الخصوم والأعداء وهذا الشرط هو تتمة لمعيار التعارف، كما ذكرنا....

د. اعتماد المشتركات: فلابد، ابتداء من اكتشاف الحقائق والمرتكزات المشتركة بين الطرفين ؛ لتكون قاعدة رصينة يقف عليها المتحاورون، ومقدمات واقعية ينطلقون منها للوصول إلى حقائق كلية: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم» (33).

8 ـ أسلوب الحوار: ويقصد به آداب وسلوكيات المتحاورين وقد قدمنا في الحديث عن أطراف الحوار قسما من المؤهلات السلوكية التي ينبغي أن يكون عليها أسلوب الحوار، كاللين والمرونة وضبط النفس والتوازن في المشاعر وغيرها، إضافة إلى الانفتاح السلوكي المدروس على الطرف الآخر، واحترام
 

(146)

مشاعره ومعتقداته، ومحاورته بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن، فهذه الأساليب كافية لتترك في نفسه انطباعاً جيداً عن شخصية المحاور وطبيعة اهدافه ومعتقداته. أما الأساليب السلبية، كالتحريض وإثارة الفوضى والشغب، والتحامل والتشنج والتعصب الأعمى والتكبر، واستخدام أسلوب المغالطة، والانكماش والتهرب، والاستهزاء والسخرية، فهي مرفوضة في الحوار المنشود، وقد نهى الإسلام عن ذلك: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي احسن» (34)، فكيف بالحوار بين المسلمين أنفسهم !، فقيمة الحوار في الرؤية الإسلاميّة لا تعرف المهاترات والسباب، لتسببها في انعكاسات سلبية حادة. يقول تعالى: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم» (35)، وتدخل هنا قيم سلبية أيضاً، كالاتهام والافتراء والتفسيق والتهديد بالاخراج عن الدين والرمي بالارتداد، دون تمحيص وبحث عقيدي وفقهي واف. فللارتداد التكفير معايير وقواعد دقيقة جدا بحثها الفقه الإسلامي بعناية، بالصورة التي لا يكون فيها هضم لحق أحد وسلب لحقوقه الاجتماعية والإنسانية. فالتسرع في إطلاق الأحكام خلال الحوار، لتحقيق أجواء غير موضوعية، تتقاطع تماما مع الرؤية الإسلاميّة، فضلاً عن أن هذه الأساليب (لا سيما التهديد بالعدوان وسلب الحقوق الاجتماعية والحكم المتسرع وغير المدروس بالردة والكفر) تؤدي إلى وضع عكسي، ونجد إنها تسببت في بروز ردود فعل عنيفة ضد الدين، بالصورة التي حدثت حيال أساليب الكنيسة في التعامل مع الآخرين خلال عصور أوروبا الوسطى، ثم أدت إلى ظهور ألوان فاقعة من الإلحاد والانحراف والعلمانية والسقوط والتطرف.

ونذكر هنا بروعة النص القرآني:

«قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون» (36)، ففي محاولة القرآن لإغلاق صفحة الماضي والعناصر الأخرى التي لا تنفع الحوار، يطرح فكرة أن كل طرف مسؤول بنفسه عن أفعاله، ولكن الجمال في التعبير المؤدب يبدو في المقارنة بين عبارة (أجرمنا) وعبارة (تعملون) ؛ فإن مقتضى التقابل هو التعبير

(147)

بتجرمون، ولكن الاحترام للطرف الآخر أبدل العبارة بـ (تعملون).

والإسلام يأمر بعدم مواصلة الحوار عند تجاوز الطرف الآخر حدود الحوار وآدابه كممارسة الاضطهاد والتهديد والافتراء والتهريج: «أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فاعرض عنهم» (37)، أو إصراره على عدم قبول الدليل والحجة والبرهان، رغم وضوحها وقاطعيتها: «وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين» (38)، حينما يدخل الحوار مرحلة العبث وتضييع الوقت، ويستحيل خلالها تحقيق فائدة بالصورة التي يصف فيها القرآن الكريم حوار رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مع الكافرين: «أن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة» (39).

من جهة أخرى ينبغي الاتفاق بين الأطراف على لغة حوار مشتركة (40)، وعلى مستوى علمي وفكري معين من اللغة ؛ لكي يحصل التكافؤ في إيصال الرأي والرأي الآخر، كما في الحديث الشريف: «نحن معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم». والواقع أن الخطاب الإسلامي الجديد المتطور، ينبغي أن يسود لغة الحوار الإسلامي المعاصر ؛ فلكل مرحلة خطابها ولكل مرحلة لغتها وأساليبها الفنية الناجحة في الحوار، على اعتبار أن هذا الجانب متجدد ويدخل في إطار المتغيرات، شرط أن لا يخرج التجديد عن الثوابت الأسلوبية في الحوار الإسلامي، وهذا التجديد تعبير عن حركية الإسلام وقدرته المطلقة على استيعاب كل متطلبات الزمان والمكان وتلبية حاجاتهما.

9 ـ نتائج الحوار: وهي ما يترتب على الحوار بعد انتهائه من حقائق وأرقام جديدة تعلن عن تفوق أو انتصار أو براءة أحد أطراف الحوار، وتؤدي بالطرف الآخر إلى التحول في الرأي كليا أو جزئيا أو تدفعه لمراجعة ذاتية لآراءه ومعتقداته التي عرضت للنقد والاهتزاز والهزيمة، وكذلك مراجعة أخرى لأساليبه ومنهجه وخطابه. وقد ينتهي الحوار بتراضي الطرفين وتفاهمهما أو تساويهما في النصر والهزيمة، أو إقدامهما على حالة وسط جديد، والمهم هنا هو قبول كل

(148)

أطراف الحوار بالنتائج مهما كانت، وعدم التعصب والاعتزاز بالخطأ وبديهي أن يكون لجهاز الإدارة والتحكيم الدور الأساس في حساب النتائج، بالوسائل الموضوعية التي سبقت الإشارة إليها.

وقد يكون مفيدا هنا طرح تجربة الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية في مجال الحوار، فهذه التجربة دون شك غنية كما ونوعا ولعل نجاح الجمهورية الإسلاميّة في دفع هيئة الأمم المتحدة لاقرار مشروعها بتسمية عام 2001 م عاما لحوار الحضارات، هو تعبير عن نضج تجربة الحوار فيها، وبناء على ذلك، تم تأسيس مركز علمي تخصصي في طهران، يأخذ على عاتقه المساهمة في تنفيذ مشروع الحوار بين الحضارات وسبق للجمهورية الإسلاميّة أن طرحت عدة مشاريع رائدة أخرى، تحولت بمرور الزمن إلى مؤسسات وأجهزة فاعلة، وفي مقدمتها مشروع الحوار بين المذاهب الإسلاميّة، الذي نشط منذ أوائل الثمانينات، ثم تبلور في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وكذلك المؤتمر العالمي السنوي للفكر الإسلامي، ومشروع الحوار بين الأديان الذي تديره أمانة عامة دائمة تعقد ملتقيات ومؤتمرات دورية على مدار السنة. أما في الشأن الداخلي، فإن الحوار الدائم والمناظرات بين الجماعات السياسية والاتجاهات الفكرية والثقافية عبر وسائل الأعلام والصحافة أو في التجمعات والندوات، يكاد يكون النشاط الأساس الذي يميز الساحة الإيرانية. ولعل آلية الحوار والنقد التي أقرتها الثورة الإسلاميّة منذ اليوم الأول، ساهمت كثيرا في كشف السلبيات، وفي النظرة إلى المشاكل والمعوقات نظرة موضوعية وواقعية.

ولازال الحوار والنقد البناء يعطيان لمناخ الثورة مرونة عالية في التعامل مع قضاياها ؛ لتأتي المعالجات والحلول في إطار دراسات واعية تستوعب الرأي والرأي الآخر.
 

(149)

التعايش في الرؤية الإسلاميّة

في أجواء الاختلاف يكون التعايش على أساس التعددية التي يرتضيها الإسلام، هو الحل الكفيل بتجنب مشاكل الصراع والتضارب في الرؤى والأفكار والمعتقدات بشتى ألوانها. ولا يعني التعايش القبول بنسق واحد من التفكير والسلوك، وصهر الجميع في بوتقته، كما لا يعني التنازل عن الحق أو توزيعه على المتعايشين بنسبة متساوية، وفقا لمفهوم التعددية Pluralism الذي يفهمه الغرب، بل يعني أن يحتفظ كل طرف بوضعه الخاص، ويمارس نشاطه الديني أو المذهبي أو الفكري أو السياسي، في إطار الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الإسلام بمضامينها المتوازنة والمرشدة، والتي لا تسمح لأي طرف بسلب حقوق الآخرين أو الإخلال بأمن المجتمع، مهما بلغت قوة هذا الطرف عدة وعددا، والصورة المثلى للتعايش هي صورة دولة المدينة، التي كان اليهودي والنصراني يعيشان فيها بأمان إلى جانب المسلم وفي كنف الدولة الإسلاميّة، وكان الحبشي والرومي والفارسي يتمتعون فيها بكل حقوق المواطنة كالعربي تماماً، وهكذا تعايش المهاجرون إلى جانب الأنصار، وتعايش الأوس والخزرج معاً، بل كان يعيش فيها أتباع التيارات الفكرية والسياسية، التي تشكل لونا من المعارضة، وفي المقدمة تيار المنافقين والمشركين: «قل يا أيها الكافرون * لا اعبد ما تعبدون * ولا انتم عابدون ما اعبد * ولا انا عابد ما عبدتم * ولا انتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين» (41)، لقد كان الجميع يدركون حقوقهم وواجباتهم، ويمارسونها بالصورة التي قننها الإسلام.

وتستند الرؤية الإسلاميّة في مجال التعايش مع الآخرين إلى أساسين رئيسين، هما:

1 ـ المصلحة الإسلاميّة العليا على ضوء الواقع القائم.

2 ـ الصلات والرحمة الإنسانية والعلاقات الأخلاقية.

ويستقي التشريع الإسلامي في كل مجالاته من هذين المعنيين فيعتبران من

(150)

أهم سمات التشريع الإسلامي في شتى جوانبه. أما العناصر الرئيسية التي تحدد نوعية العلاقة بين المسلمين وغيرهم كآلية للتعايش، فأهمها:

1 ـ الأمة المثال: يصف القرآن الكريم الأمة الإسلاميّة بالوسطية، ويريد به المثال الأسمى والامة الشاهدة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، وهذا العنصر يدفع الأمة باتجاه السمو والتكامل في كل المجالات، والاستفادة الأكمل من تجارب الآخرين، ويعني ذلك الانفتاح على كل مجالات الحياة، وحمل رسالة إنسانية حضارية كبرى.

2 ـ المبدئية: وتقضي بنوعين من التعايش: الأول بين المؤمنين، وهو تعايش اخوي، ويعني وحدة الأفراد في مجمل الشؤون. والنوع الثاني مع الآخرين، ويحدد طبيعته مقدار قربهم أو بعدهم عن المبدأ الإسلامي، الذي يحدد مضمون التعايش معهم، كأن يكون وديا حسناً أو يشوبه القلق.

3 ـ نفي السبيل على المؤمنين: ويعني أن أي تصرف أو وضع معاهدة تؤدي إلى تفوق الكافرين على المسلمين يعد ملغياً من أصله: «ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا» (42)، وهذه القاعدة تعد من القواعد الثانوية التي تستطيع الحكم على الأحكام الأولية بمجموعها وهذا التوجه لا يعبر عن نوع من التكبر، إذ تعمل هذه القاعدة على أساس معايير إنسانية.

4 ـ التوعية والدعوة: فالتعايش لا يعني تجاوز حقائق الإسلام التي تؤكد استمرار التوعية والدعوة ويقتضي التعايش المتوازن والعلاقات السلبية بين فئات المجتمع أن تركز النوعية على أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي احسن: «فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم»(43).

5 ـ العدالة: يشكل العدل أهم أصول التصور الإسلامي للواقع، وأهم الأسس عند التعامل الاجتماعي: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله» (44). ولعل الآية الكريمة: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على إلاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» (45)، تعبر بدقة عن أهمية العدل في معادلات التعايش، حتّى في

(151)

حالات التوتر التي يكاد أن ينسى فيها العدل. ومن خلال النظر إلى طبيعة تعامل دار الإسلام مع غير المسلمين، ندرك البعد الإنساني في عنصر العدل. وهو ما يفسر أيضاً وقوف الإسلام إلى جانب المستضعفين والمحرومين في كل مكان.

6 ـ تأليف القلوب: في الأجواء التي يحكمها تأليف القلوب، تنفتح النفوس على الحقيقة وتتقرب إلى الواقع ويعود هذا العنصر إلى تشريع سهم المؤلفة قلوبهم في مصارف الزكاة، والذي فتح المجال للوقوف إلى جانب المستضعفين والدفاع عن قضاياهم واجتذابهم نحو الإسلام، والأنفاق عليهم بما يحقق مصلحة الإسلام العليا، وتعميق التعايش الإيجابي بين مختلف اتجاهات المجتمع.

7 ـ الوفاء بالعهد: ويقصد به الوفاء بكل العهود والاتفاقات التي تعقد بين المسلمين وغيرهم: «واوفوا بالعهد أن العهد كان مسؤل» (46). ومن هذه العقود ما صرح به الإسلام وحدد لها قوانينها العامة، ومنها ما يرى ولي الأمر ضرورتها لتحقيق مصلحة إسلامية عليا ومثال الأولى: عقد الهدنة وعقد الأمان، ومثال الثانية ؛ العقود الاقتصادية والعسكرية وغيرها.

8 ـ التعامل بالمثل: مبدأ جزاء الإحسان بالإحسان، ومبدأ القصاص: مبدءان واقعيان يرتضيهما المنطق الإنساني والتعامل الفردي والاجتماعي (47)، وهدفهما ردع الاعتداء واستقطاب القلوب يقول تعالى:

«الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص * فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» (48). وهو يعني باختصار التعامل مع الآخر بالمثل:

«لا ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم» (49).

ولعل تجربة الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية في مجال التعايش هي من التجارب المهمة على صعيد التطبيق ؛ لما تمثله إيران من دولة تتميز بالتعددية في كثير من المجالات، فهناك اتباع ثلاث ديانات (النصرانية، اليهودية، الزرادشتية)
 

(152)

يعيشون إلى جانب المسلمين، وست قوميات (الفارسية، التركية، العربية، الكردية، التركمانية، البلوشية)، وخمسة مذاهب إسلامية، فضلاً عن الجماعات والتيارات الفكرية السياسية التي اذعنت جميعا لمعادلات الشورى وآلية الممارسة الديمقراطية هذه التجربة الفذة التي أبرزت الوجه المشرق للرؤية الإسلاميّة في مجالي الحوار والتعايش، جديرة بالدراسة والمراجعة المستمرة.

(153)

__________________________________

1 ـ ديدگاههاى فرهنگى امام خمينى (نظرات ثقافية للامام الخميني)، اعداد: اكبر اسدي.

2 ـ شروط النهضة، ص 130.

3 ـ اعدتها منظمة المؤتمر الإسلامي.

4 ـ سورة يونس، الآية 19.

5 ـ سورة المائدة، الآية 48.

6 ـ سورة الزمر، الآية 3.

7 ـ سورة النحل، الآية 125.

8 ـ سورة آل عمران، الآية 66.

9 ـ سورة الحج، الآية 8.

10 ـ الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء في شرح أحياء علوم الدين للغزالي، ج 1 ص 101.

11 ـ سورة آل عمران، الآية 158.

12 ـ سورة طه الآيتان 43 ـ 44.

13 ـ كتاب التوحيد للمفضل ـ انظر أيضاً ـ في مجال أدب المناظرة والحوار ـ ما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأهل بيته في كتاب الاحتجاج للطبرسي.

14 ـ انظر الجويني، الكافية، ص 540، والسعدي، قاموس الشريعة، ج 3، ص 6.

15 ـ يوسف 108.

16 ـ سورة سبأ الآية 24.

17 ـ يقول الغزالي بأن المناظرة لابد أن تدور حول «واقعة مهمة أو مسألة قريبة من الوقوع». انظر المحجة البيضاء، ج 1 ص 100 ولذلك يقطع القرآن النزاع في مسائل لا يراها عملية أو ممكنة كالسؤال عن الروح وموعد الساعة والأهلة فان الإفهام لم تكن بمستوى فهم حقائقها آنذاك.

18 ـ الاحتجاج 276 ـ منشورات نعماني.

19 ـ سورة سبأ، الآية 46.

20 ـ انظر الصحاح في اللغة والعلوم (المعجم الوسيط)، مادة نهج.

21 ـ سورة الأعراف، الآية 71.

22 ـ البقرة 170.

23 ـ للكاتب نفسه، الأسس المهمة في النظام الإسلامي، ص 127.

24 ـ سورة فصلت، الآية 33.

25 ـ سورة يوسف، الآية 108.

26 ـ الشهيد السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ج 1، ص 275.

27 ـ رواها الحر العاملي في الوسائل، ج 11، ص 30.

28 ـ الجويني، الكافية، 542 ـ 549.

(154)

29 ـ سورة سبأ، 24.

30 ـ الاحتجاج للطبرسي ص 278).

31 ـ المحجة البيضاء، ج 1 ص 99 ـ 100، واحياء علوم الدين، ج 1 ص 43.

32 ـ سورة البقرة، الآية 111.

33 ـ سورة آل عمران، الآية 64.

34 ـ سورة العنكبوت، الآية 46.

35 ـ سورة الأنعام، الآية 108.

36 ـ سبأ 25.

37 ـ سورة النساء، الآية 63.

38 ـ سورة هود، الآية 53.

39 ـ سورة البقرة: الآيتان 6 ـ 7.

40 ـ المراد هنا الجانب الفني في اللغة أو الخطاب، كاستخدام المصطلحات التخصصية، والمستوى العلمي في التعبير عن الرأي وأسلوب طرحه، والاستفادة من بعض المعارف والعلوم التخصصية، التي ربما يجهلها الطرف الآخر ؛ فيكون الحوار حينها كحوار الطرشان ـ كما يعبرون ـ

41 ـ سورة الكافرون.

42 ـ سورة النساء، الآية 141.

43 ـ سورة الشورى، الآية 15.

44 ـ سورة النساء، الآية 135.

45 ـ سورة المائدة، الآية 8.

46 ـ سورة الإسراء، الآية 34.

47 ـ انظر للكاتب نفسه، الأسس المهمة في النظام الإسلامي، ص 123. ـ 134.

48 ـ سورة البقرة، الآية 194.
49 ـ سورة الممتحنة، الآية 8.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية