مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

قضاء الإمام علي ـ عليه السلام
أول محكمة تمييز في الإسلام
الشيخ مصطفى ملص
عضو تجمع العلماء المسلمين في لبنان


مكة والتنافس بين أهله

قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، بعدما أسس دولة الإسلام في الجزيرة العربية حي المجتمع مجتمع قبائل وعشائر ، فكما كانت بقية أرض الجزيرة العربية كذلك كانت مكة والمدينة وسواهما من الحواضر، قبائل وعشائر وعائلات عموماً متنافسة وأحياناً متحالفة، تبعاً لتقاطع المصالح أو تعارضها.

وفي مكة أم القرى أي القرية الرئيسية، التي توازي في عرفنا اليوم العاصمة، حيث بالإضافة إلى البيت الحرام، القرار الأهم والاقتصاد والسياسة وغير ذلك مما تتميز به العواصم عن سواها من البلدان، كانت قريش هي القبيلة المسيطرة التي لا تنازع بما تتمتع به من مركز نفوذ وإدارة للحرم، وما يعنيه من مكانة دينية عند العرب، وأيضاً ما تتمتع به من سيطرة على تجارة الجزيرة العربية والروابط الاقتصادية مع كل من الشام واليمن وفارس والروم.

غير أن قريش القبيلة الواحدة كانت مقسمة إلى عائلات وبطون وأفخاذ فعند ظهور الإسلام وإظهار النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لدعوته كان هناك هاشم وبنو عبد شمس وبنو عدي وبنو تيم وغيرهم، وكان هناك تنافس وسباق بين أهل هذه البطون والأفخاذ بني هاشم وبني عبد شمس. حيث كان كل طرف يسعى لأن تكون له الكلمة الأولى والامتياز الأهم في مكة.

(156)

ومما يظهر من خلال سير العائلات في مكة أن بني عبد شمس كانوا يصارعون للتقدم على بني هاشم، الذين كما يبدو كانت الزعامة تنقاد إليهم انقياداً، لصفات تميزوا بها عن أقرانهم ولتاريخ آبائهم الموصوف بالجود والكرم والحمية والنجدة.

وظهر النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ من بني هاشم، ودعا إلى عبادة الله الواحد الأحد وترك عبادة الأصنام وتوحيد القبائل العربية في أمة واحدة تحمل الإسلام إلى بقية العالم لتتكون بعد ذلك أمة الإسلام، التي لا فضل فيها لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى، فكل الناس سواسية، وكل الناس عباد الله، وهذا بحد ذاته شكل نقضاً لما هو متعارف عليه في مكة آنئذ ؛ حيث كان الناس قبائل متفاوتة وأحرار وموالي وسادة وعبيد مما أدى إلى قيام ردة فعل شديدة من قبل الذين رفضوا دعوة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لما اعتبروه من انها تهدف إلى اضعافهم والقضاء على مصالحهم وسيادتهم على بقية القبائل في الجزيرة العربية.

وكان من نتيجة هذا التنافض بين دعوة الإسلام ومصالح المشركين ورفض المجتمع القرشي بمعظمه للدعوة الجديدة، حيث لم يؤمن إلاّ نفر قليل من الناس خلال ثلاث عشرة سنة من عمر الدعوة في مكة، حصول الهجرة إلى المدينة ـ يثرب التي رغم تناقضات أهلها فيما بينهم، ووجود أكثر من دين فيها استطاعت أن تحتضن دعوة الإسلام، وأن تقيم أول مجتمع إسلامي تحول إلى دولة منظمة بمقاييس ذلك العصر، ثم عاد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى مكة فاتحاً بعد سلسلة من المعارك والمواجهات انتهت بقتل معظم من سموا بالصناديد؛ وهم كبار الرجال أو القادة المشركين. ودخل المسلمون مكة فاتحين، وأظهر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ تسامحاً كبيراً؛ إذ عفى عن معظم الذين حاربوه وآذوه وأخرجوه من بلده، إلا نفراً قليلاً أمر بالقضاء عليهم نظراً لما ارتكبوه من جرائم تشبه في عصرنا الحاضر ما يسمى بجرائم الحرب.

دخل جميع أهل مكة في الإسلام ؛ حيث وجدوا أنّه لا مناص من قبول الأمر

(157)

الواقع، وانضموا إلى صفوف المسلمين. ولكن وكما يبدو فإن ما كان من تنافس قبل الإسلام لم ينته بدخول الجميع في الدين الجديد، إذ اعتبر البعض أن بني هاشم قد انتصروا في المواجهة وتمكنوا من إخضاع خصومهم، وهذا يعني أن هؤلاء الخصوم أو بعضهم لم يفهموا روح الدين الإسلامي وحقيقة الدعوة الجديدة، وراحوا يتحينون الفرص من أجل استعادة مكانتهم وإزاحة منافسيهم.

إن هذه الصورة بالتأكيد تنطبق على البعض ولا تنطبق على الجميع، حيث أن أغلبية الناس من أهل مكة قد أسلموا وحَحسُنَ إسلامهم. ولكن بعض التقاليد والأعراف ظلت كامنة إلى حد ما في بعض النفوس، مما أثر فيما بعد على العلاقة مع أقرباء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وذريته من بعده.

 

مكانة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ

حدد القرآن الكريم المكانة العظيمة للنبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ، فهو القدوة والأسوة والمثل الذي ينبغي اتباعه. وهو صاحب القضاء النافذ والإرادة العليا، «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيداً» (1). ومن يرد قضاء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فهو كافر.

ولعل الميزة الأهم التي جعلها الإسلام للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ هي وجوب المحبة من قبل كل مؤمن ومؤمنة: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه». وهذه المحبة من الأمور الميسرة، فالناس مفطورون على محبة ما يحقق لهم ذاتهم ومصالحهم وما يريحهم وعلى محبة من يحبهم ويسعى في سبيل أمنهم وراحتهم وضمان مستقبلهم.

وإذا نظرنا إلى شخصية النبي الأكرم محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ نجده من خلال نفسيته وسيرته وأعماله وأقواله وعلاقاته بالآخرين، لا يحمل أي صفة من الصفات المنفرة التي ينفر الناس منها بالفطرة، بل نراه يتمتع بكل الصفات التي تحببه

(158)

إلى الناس وتقربه إلى القلوب، وتجعل المحيطين به يتعلقون به أشد التعلق، بل ويؤثرونه حتّى على أنفسهم وأبنائهم.

«قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتّى يأتي الله بأمره» (2).

وقد كان ـ صلى الله عليه وآله ـ كما وصفه القرآن الكريم رقيقاً رحيماً بالناس لا يحب ما يشقيهم، «ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك» (3).

«لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم» (4).

«محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم» (5).

وهذه الصفات يذكرها القرآن الكريم أمام المؤمن بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ وأمام المنكر لها. ولو كانت غير موجودة فيه لقام من ينكر نبوته، مكذباً لذلك، ولكنهم لم يكذبوا هذه الصفات، وإنما رموه مرة بالجنون ومرة بالسحر، وغير ذلك من الأمور التي لا مقاييس محددة لها.

فحب النبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ أو حب صفاته من الأمور الفطرية التي فطر عليها الإنسان السليم العقل والحواس، والتي لا يمكن لإنسان أن يصرف عنها إلاّ بحقد قديم دفين، أو عقد نفسية أو بمرض في النفوس أو القلوب أو الصدور. لقد أحب المسلمون رسولهم ورضخوا لأمره واستجابوا له، ومع ذلك لم يكن ـ صلى الله عليه وآله ـ ليستغل ذلك في جلب منفعة لنفسه أو لأحد أقربائه مهما كانت درجة قرابتهم منه، بل لم يكن يميز نفسه عن أحد منهم بأي متاع أو مكسب أو دنيا، بل كان يجافي الدنيا ويأمر أهله بمجافاتها، حتّى أن ابنته الحبيبة إلى قلبه فاطمة الزهراء (رض) تطلب منه أن يأتيها بمن يخدمها ليخفف عنها بعضاً من تعبها، فإذا به يأمرها بالصبر والذكر والتحمل.

وفي بعض المرات حينما كان يتصرف عليه الصلاة والسلام تصرفاً تخفى

(159)

أبعاده على المحيطين به، فيبدون اعتراضاً أو استفهاماً أو استغراباً كان جوابه لهم ـ صلى الله عليه وآله ـ ينزل على قلوبهم برداً وسلاماً ويزدادون له حباً وبه تعلقاً. كما حصل مع الأنصار بعد غزوة حنين؛ حينما أعطى الغنائم للمكيين حديثي الإسلام، ولم يعط الأنصار أصحاب الفضل والسبق، فوجدوا في أنفسهم عليه فلما بين لهم الأمر، قالوا رضينا برسول الله قسماً.

ولقد بين لنا رب العزة جل وعز أن حب الله للناس مرتبط بحبهم لرسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأتباعهم له فقال: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله» (6).

وهكذا تكون العلاقة جدلية بين حب الناس لله وحبهم لرسوله وحب الله لهم، فبدون ذلك الحب ليس هناك إيمان وإذا نقض من أي طرف من أطرافه سقطت المعادلة كلها.

 

حب آل محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ

وردت عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أحاديث كثيرة تفيد وجوب حب آل بيته وتقديرهم واحترامهم ولقد ذكر القرآن الكريم أن مودة قرابة النبي هي البدل الذي يطلبه عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى» (7).

أما الأحاديث فمنها ما أورده الطبري «محب الدين » في كتابه ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى.

1 ـ عن عبد العزيز بإسناده أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «من حفظني في أهل بيتي فقد اتخذ عن الله عهداً» أخرجه أبو سعيد والملا.

2 ـ وعنه أيضاً قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «استوصوا بأهل بيتي خيراً فإني أخاصمكم عنهم غداً، ومن أكن خصمه أخصمه ومن أخصمه دخل النار» (8)، أخرجه أبو سعيد والملا في سيرته.

3 ـ عن ابن عباس (رض) قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «لو أن رجلاً صف بين الركن والمقام، فصلى وصام لقي الله مبغضاً لأهل بيت محمد دخل النار»(9).

أخرجه ابن السري.

(160)

4 ـ عن أبي سعيد (رض) قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «من أبغض أهل البيت فهو منافق». أخرجه أحمد في المناقب.

5 ـ عن جابر بن عبدالله (رض) قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي ولا يبغضنا إلا منافق شقي». أخرجه الملا.

6 ـ عن علي ـ عليه السلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «يرد الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين السبابتين» (10) أخرجه الملا أ. هـ

هذه النصوص التي أوردها محب الدين الطبري في كتابه الآنف الذكر ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى. تدل على المكانة التي يجب أن تفرد لآل البيت ـ عليهم السلام ـ في قلب كل مؤمن من الحب والتقدير والاحترام.

 

كيف كان التعاطي مع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ؟

كان أهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ محط احترام ومحبة وتقدير عند أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ. ومن خلال الاطلاع على سيرة هؤلاء الرجال أنهم كانوا يكنون لبعضهم بعضاً كل الحب والتقدير والاحترام، وهذا لا يعني عدم الاختلاف حول العديد من المسائل. ووجدت أن مكانة علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ هي مكانة الأعلم فيما بينهم، وأنه من دون الناس كان يرجع إليه في كل أمر مشكل، وكل قضية ملتبسة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، بل انه الوحيد الذي نقل انه كان يملك صلاحية نقض أحكام الخلفاء الذين سبقوه، بما يملكه من علم وما يقدم من حجة وما يزيل من التباس وبالمقارنة مع ما هو كائن اليوم فقد كان علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ قبل توليه الخلافة يمثل ما تمثله اليوم محاكم التمييز التي تملك الحق في إبرام الأحكام ونقضها.

 

مكانة الإمام علي ـ عليه السلام ـ من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ

دلت الأحاديث على مكانة أمير المؤمنين العظيمة عند رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فقد أخرج الترمذي في صحيحه في أبواب المناقب في مناقب علي بن أبي
 

(161)

طالب ـ عليه السلام ـ جملة من الأحاديث يستفاد منها مكانته من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ. فعن سعد بن أبي وقاص بإسناده أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي» (11). قال هذا حديث حسن صحيح.

وفي حديث طويل أخرجه الترمذي في صحيحه أيضاً عن عمران بن حصين قال: «بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ جيشاً واستعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فقالوا إذا لقينا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أخبرناه بما صنع علي، وكان المسلمون إذا رجعوا من السفر بدأوا برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، فسلموا عليه ثم انصرفوا إلى رحالهم، فلما قدمت السرية سلموا على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، فقام أحد الأربعة فقال يا رسول الله ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا، فأعرض عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته فأعرض عنه، ثم قام الرابع فقال مثلما قالوا، فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والغضب يعرف في وجهه فقال: ما تريدون من علي، ما تريدون من على، ما تريدون من علي، إن علياً مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي» (12).

وله أيضاً من حديث أبي الطفيل عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

وجاء في صحيح مسلم في باب «من فضائل علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ، ما يلي: «.. عن سهل بن سعد قال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في عينيه ودعا له فبرأ، حتّى كان لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي يا رسول الله، أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا ؟ فقال: أنفذ على رسلك حتّى تنزل

(162)

ساحتهم، ثم أدعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حمر النعم» (13).

وفي ذخائر العقبى ذكر الطبري حديثاً عن عائشة أنها سئلت: أي الناس كان أحب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ؟، قالت فاطمة عليها السلام، فقيل: من الرجال ؟ قالت: زوجها إن كان ما علمت صواماً قواماً ؟. (14) أخرجه الترمذي.

ونختم في هذا العنوان بمؤاخاة النبي بين المهاجرين والأنصار ومؤاخاته مع علي ـ عليه السلام ـ. ففي ذخائر العقبى عن ابن عمر قال: آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بين أصحابه، فجاء علي تدمع عيناه فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد. قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «أنت أخي في الدنيا والآخرة» (15).

وهكذا نجد مكانة علي عند رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ هي المكانة الأولى بين الرجال، حباً واختصاصاً بالفضل والتقريب.

 

مكانة الإمام علي العلمية

ذكر صاحب ذخائر العقبى أنّه لم يكن أحد من الصحابة يقول: سلوني غيره. وروي عن سعيد بن المسيب قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله يقول سلوني إلاّ عليا أخرجه أحمد في المناقب والبغوي في المعجم وأبو عمر ولفظه: ما كان أحد من الناس يقول سلوني غير علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ. وعن أبي الطفيل قال: شهدت علياً يقول سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل. أخرجه أبو عمر (16). أ. هـ.

إن تصرف أمير المؤمنين هذا هو تصرف العالم الواثق من علمه، المستشعر لعظم المسؤولية في تبليغ هذا العلم الذي استودعه، لذلك تراه يحث الناس على السؤال لأن العلم بين أمرين بين السؤال والجواب. لكن ما هو مستند هذه

(163)

الثقة العظيمة التي تمتع بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ؟

إن مصدر هذه الثقة هو رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، الذي قال فيما رواه الترمذي بسنده عن علي ـ عليه السلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «أنا دار الحكمة وعلي بابها»(17).

والذي قال لابنته فاطمة ـ عليها السلام ـ عندما دخل عليها وهي شاكية فقال: كيف تجدينك ؟ قالت: لقد اشتدت فاقتي وطال سقمي. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: وجدت بخط أبي في هذا الحديث قال: أو ما ترضين أني زوجتك أكرمهم سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً (18).

وهذه المكانة العلمية لم يكن أحد ينازعه إياها أو يدعي أنّه أكثر منه علماً ولا مساوياً له، فقد سلم له الجميع، حتّى أن أحدهم كان إذا سئل عن مسألة أشكلت عليه طلب من السائل أن يسأل عنها علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.

فعندما سئلت عائشة عن المسح على الخفين قالت للسائل: ائت علياً فاسأله. «أخرجه مسلم» (19).

وهذا ابن عباس حبر الأمة يقول: والله لقد أعطي علي تسعة أعشار العلم، وأيم الله لقد شاركهم في العشر العاشر «أخرجه أبو عمر».

وأما خير شهادة في أعلمية علي بن أبي طالب فهي شهادة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ما رواه علي ـ عليه السلام ـ، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «ليهنك العلم أبا الحسن، لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهل». أخرجه الرازي (20).

إن هذه المكانة قد أهلت ـ عليه السلام ـ ليتبوأ دور العالم والفقيه الذي يرجع إليه في كل أمر، بل والذي يملك حق المبادرة لتصويب الأحكام وبيان الحقائق، وتفنيد الحجج.

ولكننا مع ذلك نلاحظ أنّه رغم تمتعه بكل تلك المميزات ؛ فإنه لم يكن الشخص المرغوب فيه عند البعض، وكان يستبعد وينتقد من قبل أناس لا يساوونه قدراً ولا علماً ولا نسباً. وقد شعر أن أصحابه قلة قليلة فأوثر عنه قوله الشهير: «ما ترك لي الحق صاحباً».

(164)

ولئن انطلقت الأقوال والإشاعات والمؤامرات ضد علي ـ عليه السلام ـ فإنه كان له في رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ السند والمحامي والمدافع الذي لا شك لحظة واحدة في أن علياً هو أعلم الناس وأصدق الناس وأتقى الناس لذلك كان قوله لمن اشتكوا إليه عمل علي: «ماذا تريدون من علي، ماذا تريدون من علي ماذا تريدون من علي إن علياً مني وأنه منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي»(21).

وكان يؤكد على حكمته: «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (22)، بل انه قال فيه ما لم يقله في سواه فعن ذر بن حبيش عن علي قال: لقد عهد إلي النبي الأمي ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق...» (23).

إن الصراع الذي كان سائداً في مكة قبل الإسلام لم ينته تماماً مع مجي الإسلام ودخول الناس فيه، فقد لعبت القبلية والعشائرية دورها في عدم إنزال علي بن أبي طالب المنزلة التي يستحقها عند البعض فقد صار علي ـ عليه السلام ـ رمزاً لبني هاشم وهو المقدم فيهم والمبرز علماً وورعاً والمؤهل للقيادة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وكان هناك من يطمح ليستولي على هذه القيادة وينتزعها من بني هاشم، فعمد إلى معاداة علي والكيد له.

ولعل السبب الأهم في الجفاء وحتى البغض الذي لاقاه علي ـ عليه السلام ـ هو بلاؤه في الحروب مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وشدته على القوم، فكل هذه العوامل ساهمت في ذلك الجو من الإعراض الذي قوبل به علي ـ عليه السلام ـ، وهو في كل ذلك مظلوم، فقد وضع الإسلام علياً في مكانة عظيمة، وكان همه الإسلام، وكان هم أعدائه الدنيا ومتاعها.

ولعل القول الذي قاله أبو سفيان في مجلس عثمان بن عفان عندما آلت إليه الخلافة عندما سألهم أفيكم أحد من غيركم ؟ «أي من غير بني أمية ؟» فقالوا: لا. فقال تمسكوا بها وتلقفوها كالكرة...! إن مثل هذا الكلام يدل دلالة واضحة على ما أشرنا إليه.

ولكن رغم كل ذلك فقد كان الناس محتاجين إلى علم علي وفقهه وحكمته وقضائه، ولم يكن هو يحتاج لأحد بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

(165)

قضاء الإمام علي في زمن النبي ـ صلى الله عليه وآله

القضاء بالإضافة إلى أنّه علم فهو موهبة من الله عزّوجلّ، والمواهب خصائص يختص بها الله من يشاء من عباده. والعلم يغذي الموهبة ويعطيها أبعاداً واسعة فكيف إذا اجتمع العلم والتقوى ومخالفة الله عزّوجلّ مع الموهبة، وكيف إذا اقترن كل ذلك بالمهابة، لقد اجتمعت كل تلك الصفات في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ، فكان أعظم قاض عرفه الإسلام بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

وقد أدرك رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ شخصية علي ـ عليه السلام ـ فولاه القضاء وهو حديث السن ؛ فقد ورد عنه أنّه قال: لما بعثني إلى قوم تكون بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء، قال: إن الله سيهدي لسانك ويثبت قلبك. قال: فما شككت في قضاء بين اثنين». خرجه احمد (24).

وقرر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أن علياً ـ عليه السلام ـ هو أقضى هذه الأمة، فهو أقضى الأولين والآخرين فيها، ولا يستطيع أحد أن ينازعه زعامة القضاء والبراعة فيه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فعن أنس (رض) أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «أقضى أمتي علي». أخرجه البغوي في المصابيح الحسان (25).

وعن عمر قال: «أقضانا علي». أخرجه السلفي.

وعن معاذ بن جبل (رض) قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لعلي ـ عليه السلام ـ: «تخصم الناس بسبع ولا يحاجك أحد من قريش أنت أولهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية وأعظمهم عند الله مزية» أخرجه الحاكم (26).

فهل بعد هذا البيان النبوي قول لقائل ؟ وهل بعد هذه الشهادة شهادة أعظم منها ؟ وقد جاءت الوقائع التي فيها علي بن أبي طالب بقضائه تدل على دقة التقدير النبوي لهذه الشخصية العظيمة في مجال القضاء. كما في غيره من المجالات التي زكاه فيها ـ صلى الله عليه وآله ـ.

(166)

ونذكر على سبيل المثال بعضاً من قضائه ـ عليه السلام ـ زمن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ:

عن إبراهيم بن هاشم النوفلي عن السكوني، عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال: بعث النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ علياً إلى اليمن وإذا زبية (27) قد وقع فيها الأسد، فأصبح الناس ينظرون إليه ويتزاحمون ويتدافعون حول الزبية، فسقط رجل في الزبية، وتعلق بالذي يليه، وتعلق الآخر بالآخر، حتّى وقع فيها أربعة، فجرحهم الأسد، وتناول رجل الأسد بحربة فقتله، فأخرج القوم موتى، فانطلقت القبائل إلى قبيلة الرجل الأول الذي سقط وتعلق فوقه ثلاثة، فقالوا لهم: أدوا دية الثلاثة الذين أهلكهم صاحبكم، فلولا هو ما سقطوا في الزبية، فقال أهل الأول: إنّما تعلق صاحبنا بواحد فنحن نؤدي ديته، واختلفوا حتّى أرادوا القتال، فصرخ رجل منهم أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب» ـ عليه السلام ـ وهو منهم غير بعيد فأتاهم ولا مهم، وأظهر موجدة. وقال لهم: لا تقتلوا أنفسكم ورسول الله حي، وأنا بين أظهركم، فإنكم تقتلون أكثر مما تختلفون فيه، فلما سمعوا ذلك منه استقاموا، فقال: إني قاضٍ فيكم قضاء فإن رضيتموه فهو نافذ ، وإلا فهو حاجز بينكم ، من جاوزه فلا حق له حتّى تلقوا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، فيكون هو أحق بالقضاء مني، فاصطلحوا على ذلك، فأمرهم أن يجمعوا دية تامة من القبائل الذين شهدوا الزبية، ونصف دية، وثلث دية، وربع دية، فأعطى أهل الأول ربع دية من أجل أنّه هلك فوقه ثلاثة، وأعطى الذي يليه ثلث دية من أجل أنّه هلك فوقه اثنان، وأعطى الثالث نصف الدية من أجل أنّه هلك فوقه واحد، وأعطى الرابع الدية تامة لأنه لم يهلك فوقه أحد، فمنهم من رضي ومنهم من كره، فقال لهم علي: تمسكوا بقضائي إلى أن تأتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فيكون القاضي فيما بينكم، فوافوا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالموقف فثاروا إليه فحدثوه وحدثهم، فاحتبى ببرد عليه ثم قال: أنا اقضي بينكم أن شاء الله، فناداه رجل من القوم: إن علي بن أبي طالب قد قضى بيننا، فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: ما هو ؟ فأخبروه، فقال هو كما قضى فرضوا بذلك (28).

كما روي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كان جالساً مع جماعة من أصحابه فجاءه

(167)

خضمان، فقال أحدهما: يا رسول الله إن لي حماراً وإن لهذا بقرة، وإن بقرته قتلت حماري. فبدأ رجل من الحاضرين فقال: لا ضمان على البهائم.فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: إقضِ بينهما يا علي. فقال علي لهما: أكانا مرسلين أم مشدودين أم أحدهما مشدود والآخر مرسلاً ؟ فقال: كان الحمار مشدوداً والبقرة مرسلة وصاحبها معها، فقال علي: على صاحب البقرة ضمان الحمار. فأقر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ حكمه، وأمضى قضاءه (29).

 

درجة قضاء علي ـ عليه السلام ـ أيام النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ

عين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ في منصب القضاء زمن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، وكان ـ عليه السلام ـ يدرك أن فصله في أية قضية من القضايا لا يكون مبرماً، لهذا نراه عندما يقضي في مسألة فإنه كان يخبر أطرافها بأن بإمكانهم في حال عدم قبولهم بالحكم الذي يصدره، مراجعة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ليتولى فصل القضية بنفسه.

فكان علياً في قضائه زمن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان يشبه ما يسمى اليوم بمحكمة البداية التي تقبل أحكامها أو القضايا المعروضة أمامها النظر من قبل محكمة عليا.

فقد رأيناه عندما تصدى لقضية الأربعة الذين ماتوا في مسألة زبية الأسد في اليمن يعرض عليهم أن يقضي بينهم بقضائه، فإن أعجبهم ما قضى به انفذوه وإن لم يعجبهم كان هذا القضاء حاجزاً بينهم حتّى يرجعوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فيقضي بينهم بقضائه الفصل والنهائي الذي لا يقبل المراجعة أبداً.

وكان بعض الناس لا يقبل بما يقضي به علي ـ عليه السلام ـ، ويظن أنّه قد جار عليه بقضائه فكانوا يرفعون الأمر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فماذا كان موقف النبي من أقضية علي رضي الله عنه ؟!

من استقراء جميع القضايا التي قضى فيها علي ـ عليه السلام ـ بحكمه وعرضها على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لا نجد قضية واحدة رد فيها حكم علي ـ عليه السلام ـ.
 

(168)

وفي مسألة القوم الذين وقع عليهم الحائط فقتلهم، وكان فيهم امرأة مملوكة وأخرى حرة، وللحرة طفل من حر، وللمملوكة طفل من مملوك، ولم يعرف المملوك من الحر فقرع بينهما، وحكم بالحرية لمن خرج عليها سهمها، وبالرقية لمن خرج عليها سهمها ثم أعتقه، وجعل مولاه مولاه «كذا» وحكم به في ميراثهما بالحكم في الحر ومولاه. فأمضى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ هذا القضاء وصوبه«أي قال بصوابه» (30).

في قضية الرجل الذي نفحه الفرس فمات وهكذا نجد أن دعاء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: اللهم اهد قلبه وسدد لسانه قد أتى ثمرته اطمئناناً من قبل علي الذي روى الحديث فقال: «ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين فلم يخطئ علي ـ عليه السلام ـ في قضاء قضاه. وكأن القضاء كان عنده سليقة» !.

 

قضاء الإمام علي ـ عليه السلام ـ في عهد الخلفاء

بوفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ والتحاقه بالرفيق الأعلى في الجنة توقف وحي السماء، وصار العلم علماً بالكتاب والسنة، والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال لعلي ـ عليه السلام ـ: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي » فلا نبوة بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فهو خاتم النبيين. فمن كان أعلم الناس بالكتاب والسنة من بين أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ ؟ أنّه بدون منازع علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وهي منزلة أخبر عنها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «أنا دار الحكمة وعلي بابها »، وقال لا بنته فاطمة كما مر معنا أنّه زوجها بأعلمهم وقد أدعى علي هذه المنزلة، فكان يقول سلوني.. سلوني، ورغم كثرة أعدائه ومبغضيه فلم يتجرأ أحد على الاعتراض على دعواه أو الرد عليها، حتّى أن خصومه المباشرين كانوا إذا سئلوا عن مسائل وعجزوا عن الجواب كانوا يحيلون السائل على علي ـ عليه السلام ـ فكان يجد الجواب الشافي.

بالإضافة إلى ذلك فقد اعترف الجميع بأن علياً ـ عليه السلام ـ أقضى الناس بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فكان عمر بن الخطاب يقول: «أقضانا علي » (31).

(169)

ولقد كان قضاؤه في عهد أبي بكر يسيراً فلم تنقل الروايات إلاّ النزر اليسير، وكذلك في عهد عثمان بن عفان. ويبدو أن عهد عمر بن الخطاب (ره) قد حفل بالدور الأكبر لعلي ـ عليه السلام ـ، لذلك سنركز على دوره القضائي في عهد عمر بن الخطاب (ره).

 

قضاء علي في عهد عمر

كنا قد أشرنا إلى أن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ يتمتع بشخصية القاضي بكل أبعادها، وهو مالم يكن موجوداً عند غيره، ومنهم عمر بن الخطاب (ره) وكان عمر يصدر أحكاماً على المتخاصمين فيها خلل كبير يدل على عدم دراية إما بالأصول ؛ أصول القاضي، وإما بالنصوص التي يجب أن تطبق على القضية. وهذا لا ينتقض من شخصية عمر ولا من مكانته فليس مطلوباً من كل إنسان أن يكون بارعاً في كل شيء وماهراً في الأمور جميعها وملكات الأفراد تختلف من شخص لآخر.

فكانت أقضية عمر هذه إذا وصلت إلى علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ردها، وبين وجوه الخلل فيها وأصدر فيها الحكم الصحيح المعلل. لأن علياً كان يعلل أحكامه. أي أنّه يبين الوجوه التي استند إليها، والأسباب، والنصوص.

وكان عمر يظهر دائماً إعجابه بما يقضي به علي ـ عليه السلام ـ، ويعترف بأعلميته وأهليته للقضاء، واشتهر عنه قوله «لا أبقاني الله لمعضلة لم يكن لها أبو الحسن» (32). وكان ينفذ أحكامه دون تردد.

وكان في بعض الأحيان تعرض عليه قضايا فيمتنع عن النظر فيها ويرفعها إلى علي ليرى فيها رأيه. لقد نقل صاحب كتاب الأعيان عن القاضي نعمان في شرح الأخبار عن أبي عثمان النهدي قال: جاء رجل إلى عمر فقال إني طلقت امرأتي في الشرك تطليقة وفي الإسلام تطليقتين فما ترى ؟ فسكت عمر فقال له الرجل ما تقول. قال كما أنت حتّى يجي ء علي بن أبي طالب، فجاء علي فسأله، فقال: هدم الإسلام ما قبله هي عندك على واحدة (33).

(170)

وذكر الطبري في ذخائر العقبى عن محمد بن الزبير قال: دخلت مسجد دمشق فإذا أنا بشيخ قد التوت ترقوتاه من الكبر، فقلت يا شيخ من أدركت ؟ قال عمر (ره) فقلت فما غزوت معه ؟ قال: غزوت اليرموك. قلت فحدثني شيئاً سمعته. قال: خرجت مع فتية حجاجاً فأصبنا بيض نعام وقد أحرمنا، فلما قضينا مناسكنا ذكرنا ذلك لأمير المؤمنين عمر، فأدبر وقال اتبعوني حتّى انتهى إلى حجر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فضرب حجرة منها فأجابته أمرأة فقال: أتم أبو حسن قالت لا. فمر في المقتاة فأدبر وقال اتبعوني حتّى انتهى إليه، وهو يسوي التراب بيده، فقال: مرحبا يا أمير المؤمنين، فقال إن هؤلاء أصابوا بيض نعام وهم محرمون، فقال ألا أرسلت إلي. قال أنا أحق بإتيانك. قال: يضربون الفحل قلائص أبكاراً بعدد البيض فما نتج منها أهدوه. قال عمر: فإن الإبل تخدج. قال علي والبيض يمرض. فلما أدبر قال عمر: اللهم لا تنزل بي شديدة إلاّ وأبو الحسن إلى جنبي (34).

ونقل جملة من المسائل التي عرضت على عمر فقضى ببعضها بحكمه ثم نقض علي ـ عليه السلام ـ الحكم أو ردها عمر مباشرة إلى علي ـ عليه السلام ـ ليحكم فيها أو اختلف فيها وقضى فيها علي بقضائه. وهي كما نقلها صاحب كتاب أعيان الشيعة السيد محسن الأمين في كتابه:

1 ـ في مناقب ابن شهر اشوب: أنّه أتي إلى عمر برجل وامرأة قال لها الرجل يا زانية فقالت: أنت أزنى مني فأمر بأن يجلدا، فقال علي: لا تعجلوا على المرأة حدان لغربتها لأنها قذفته وحد لإقرارها على نفسها، وليس على الرجل شيء.

2 ـ عن الرضا ـ عليه السلام ـ «قضى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في محصنة فجربها غلام صغير فأمر عمر أن ترجم فقال علي: لا يجب عليها الرجم إنّما يجب عليها الحدّ لأن الذي فجر بها ليس بمدرك».

3 ـ أمر عمر برجل يمني محصن فجر بالمدينة أن يرجم، فقال علي: لا يجب عليه الرجم لأنه غائب عن أهله، إنّما يجب عليه الحدّ فقال عمر: لا

(171)

أبقائي الله لمعضلة لم يكن لها أبو الحسن.

4 ـ ما في عجائب أحكامه.. عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ: أتي عمر بامرأة تعلقت بأنصاري تهواه فلم تقدر على حيلة، فصبت بياض البيض على ثيابها وجسمها ثم جاءت إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين إن هذا أخذني في موضع كذا ففضحني، فهم عمر أن يعاقب الأنصاري فقال: يا أمير المؤمنين تثبت في أمري فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى ؟ فنظر علي إلى بياض البيض على ثوبها فقال: ائتوني بماء مغلي فأمر بصبه على ذلك البياض، فإذا هو بياض البيض وأقرت المرأة بذلك (35).

ومن هذه الأقضية ما أورده محب الدين الطبري في كتاب ذخائر العقبى عن عبدالله بن الحسن قال: دخل علي على عمر وإذا امرأة حبلى تقاد لترجم، قال: ما شأن هذه قالت يذهبون بي يرجموني فقال أمير المؤمنين: لأي شيءٍ ترجم ؟

إن كان لك سلطان عليها فمالك سلطان على ما في بطنها، فقال عمر: كل أحد أفقه مني ثلاث مرات. فضمنها علي حتّى ولدت غلاماً ثم ذهب بها إليه فرجمها (36).

وعن زيد بن علي عن أبيه عن جده قال: أتي عمر بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها، فتلقاها علي فقال: ما بال هذه، قالوا أمر عمر برجمها فردها علي وقال: هذه سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها، ولعلك انتهرتها أو أخفتها ؟، قال: قد كان ذلك قال: أو ما سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: لأحد على معترف بعد بلاء، انه من قيد أو حبس أو تهدد فلا إقرار له فخلي سبيلها (37).

وعن أبي ظبيان قال: شهدت عمر بن الخطاب (ره) أتي بامرأة قد زنت فأمر برجمها فذهبوا بها ليرجموها، فلقيهم علي فقال: ما لهذه ؟ قالوا زنت فأمر عمر برجمها، فانتزعها علي من أيديهم، فردهم، فرجعوا إلى عمر فقالوا ردنا علي قال: ما فعل هذا علي إلاّ لشيء فأرسل إليه فجاءه، فقال: ما لك رددت هؤلاء ؟ قال: أما سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: « رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتّى

(172)

يستيقظ وعن الصغير حتّى يكبر وعن المبتلى حتّى يعقل ؟ » فقال: بلى. فقال: هذه مبتلاة بني فلان، فلعله أتاها وهو بها، فقال عمر: لا أدري: أنا أدري، فترك رجمها. (38).

 

تصنيف دور علي ـ عليه السلام ـ

إن هذا الدور الذي لعبه علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ طيلة عهد الخليفة عمر بن الخطاب (ره) والذي يستند إلى ما تمتع به من شخصية تتميز بكل ما يجب أن يتميز به القاضي، من سعة أفق وعلم ودراية بأصول التقاضي وبالفقه وبكتاب الله وسنة نبيه محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ، هو دور المرجع الأعلى في القضاء، الذي له سلطة فوق سلطة الخليفة الذي يقر له دائماً بهذه المرجعية ولا يمنعه شغله لا على منصب في دولة الإسلام من أن ينتقل بنفسه إلى حيث يكون علي ليعرض عليه قضية أشكلت عليه أو أدرك أنّه ليس بمستطاعه إصدار الحكم الصحيح فيها،فيطلب إليه أن يصدر حكمه فيها.

وعندما كان عمر (ره) يصدر أحكاماً في قضايا معينة وهو يظن أنّه فصل فيها وفقاً لكتاب الله وسنة نبيه محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ، كان علي ـ عليه السلام ـ يملك سلطة التدخل ووقف تنفيذ الحكم الصادر عن الخليفة ثم تعاد القضية إلى المناقشة ليدلي فيها علي برأيه وقضائه. وليكون ما يحكم به علي ـ عليه السلام ـ هو الحكم النافذ ولم يكن عمر بن الخطاب وهو الخليفة يجد أية غضاضة في أن يتدخل علي ـ عليه السلام ـ لنقض أحكامه وتغييرها.

ولم ينكر عمر بن الخطاب دور علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ومكانته وكان يصرح دائماً بفضله وعلمه ومكانته.

 

الخاتمة

هذا بحث متواضع أردت به أن أبين مكانة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ عند أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والدور الكبير الذي لعبه على عهد الخليفة

(173)

عمر بن الخطاب وهو الدور الذي نستطيع أن نشبهه بالدور الذي تلعبه المحاكم العليا في أيامنا هذه أو محاكم التمييز، فإذا شئنا أن نصف الدور القضائي لعلي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ بأنه دور المرجع القضائي الأعلى في الدولة الإسلاميّة، فإذا قضى الآخرون فإنه يملك أن يراجع أحكامهم، وأن يصدر حكمه الذي يصبح حكماً مبرما بمجرد أن يصدره، إذ أنّه يملك قدرة عظيمة على تعليق الأحكام وبيان الأوجه التي استند إليها والأدلة من الكتاب والسنة. ولو لم يكن علي ـ عليه السلام ـ يحوز الثقة الكاملة بدينه وعلمه وقضائه لما احتل هذه المكانة العالية.

ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى الفتاوى التي كان يصدرها أمير المؤمنين فقد كانت فتواه لا تقل إصابة ودقة عن قضائه.

نعم لقد اختلفوا حول الخلافة ولمن ينبغي أن تكون، وقد لعبت عوامل كثيرة دورها في إبعاد علي ـ عليه السلام ـ عن منصب الخلافة طيلة ثلاثة عهود، منها عوامل متعلقة بذاته، ومنها ما هو متعلق بتاريخه لا سيما بلاؤه في المشركين مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، ومنها ما هو عائد إلى ما كان سائداً قبل الإسلام، وهناك أمور أخرى لا مجال لذكرها، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن علياً ـ عليه السلام ـ هو الأعلم والأتقى والأشجع والأقضى، وأنه مرجع لا غنى عنه لأمة محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ، وأنه صاحب خصال حميدة وتاريخ وسبق في الإسلام ـ عليه السلام ـ.

ورغم أن علياً ـ عليه السلام ـ لم يكن راضياً عن تولي سواه لمنصب الخلافة إلاّ أنّه كان يرى أن الإسلام هو الأصل، وأن الأهمية هي في الأمة وحفظ دينها، لذلك تراه عندما يتهدد خطر الردة الإسلام يسارع لإعطاء البيعة، والمساهمة في درء الخطر عن دولة الإسلام وأمته ودينه وتراه خير وزير ومعين ومشير لمن سبقه من الخلفاء، لا يبخل عليهم برأي ولا بعلم ولا بقضاء ولا بنصيحة كنصيحته لعمر بن الخطاب بأن لا يذهب بنفسه لحرب الروم، وأن يبقى في المدينة.

إن الرعيل الأول قد عرفوا كيف يتعاملون ويلتقون ويحصنون الإسلام

(174)

ويحمونه ويوصلونه إلينا إسلاماً محمدياً أصيلاً، ولو اقتضى الأمر منهم بذل الدماء والنفوس والأرواح إن أهل بيت النبي أئمة هذه الأمة دون منازع ولكنهم ما حملوا سلاحاً ولا شقوا عصا الطاعة على خليفة إلاّ عندما انتهكت حرمات الله واستخف بدين الله فخرجوا ليحموا دين الله بأرواحهم وأريقت دماؤهم.

 



1 ـ سورة الأحزاب: الآية 36.

2 ـ سورة التوبة: الآية 24.

3 ـ سورة آل عمران: الآية 159.

4 ـ سورة التوبة: الآية 128.

5 ـ سورة الفتح: الآية 29.

6 ـ سورة آل عمران: الآية 31.

7 ـ سورة الشورى: الآية 23.

8 ـ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري، ص 18.

9 ـ المصدر السابق، ص 18.

10 ـ المصدر السابق: ص 18.

11 ـ عارضة الأحوذي، شرح صحيح الترمذي، باب مناقب علي، ج 13 ص 175، وفي صحيح مسلم ج 15، ص 169.

12 ـ المصدر السابق نفسه، ج 13 ص 164.

13 ـ صحيح مسلم، ج 15، ص 173.

14 ـ ذخائر العقبى، ص 62.

15 ـ المصدر السابق ص 66.

16 ـ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، مجد الدين احمد بن عبدالله الطبري، ص 83.

17 ـ عارضة الاحوذي بشرح صحيح الترمذي، ج 13، ص 171.

18 ـ ذخائر العقبى، ص 78.

19 ـ نفس المصدر، ص 79.

20 ـ ذخائر العقبى، ص 78.

21 ـ عارضة الاحوذي بشرح صحيح الترمذي، ص 165 «أبواب المناقب» للامام الحافظ ابن العربي المالكي.

22 ـ المصدر السابق، ج 13، ص 171 «أبواب المناقب».

23 ـ المصدر السابق، ج 3، ص 177 «أبواب المناقب».

24 ـ ذخائر العقبى، ص 83.

25 ـ نفس المصدر، 83.

 

(176)

 

26 ـ نفس المصدر، ص 83.

27 ـ الزبية: حفرة تحفر ليقع فيها الأسد فيتم اصطياد.

28 ـ أعيان الشيعة الجزء الثاني ص 122، للامام السيد محسن الأمين.

29 ـ قضاء الإمام علي، لعلي بن محمد دخيل، ص 44.

30 ـ قضاء الإمام علي، علي محمد دخيل، ص 43.

31 ـ راجع كتاب ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى لمحب الدين أحمد بن عبدالله الطبري، ص 83.

32 ـ أعيان الشيعة، ج 2 ص 179.

33 ـ المصدر السابق، ج 2 ص 180.

34 ـ ذخائر العقبى، ص 82.

35 ـ كتاب أعيان الشيعة، ج 2 ص 179.

36 ـ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ص 80 ـ 81.

37 ـ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ص 80 ـ 81.
38 ـ المرجع نفسه. 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية