مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

ذاكرة الأمة   
بين حجية المصلحة المرسلة
وحجية الإجماع
السيد محمد تقي الحكيم
أحد كبار المفكرين والعلماء في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف

أن من بواعث تراص أفراد الأمة وانصهارها وتقدمها وتطورها هو شفافية التقليد وحريته حسب ضوابطه الشرعية.

فالاختلاف في الرأي لا يفسد في الود قضية كما يذهب القول الشائع.

كما أن فتح باب الاجتهاد يقرب ولا يباعد ، ويترك باب التوافق واسعاً في الطرح الأصولي والفقهي بين المذاهب الإسلاميّة.

فالاختلاف ضرورة لا يمكن دفعها عن البشر، والاختلاف في الرأي لا يستدعي الصراع والخصام المذهبي مادام أصحابه يسيرون ضمن نطاق الاجتهاد بموضوعية تامة ، ومادامت الأهواء السياسية وغيرها بعيدة عنه.

وقد ذكر المفكر الإسلامي الراحل آية الله السيد محمد تقي الحكيم (1)في كتابه الأصول العامة للفقه المقارن أن الإمام الطوفي ذكر في مجال الاستدلال على (حجية المصلحة المرسلة) وتقديمه رعاية المصلحة على ما جاء في السنة النبوية من نصوص كأصل للتشريع أو استنباط الأحكام الشرعية، وكذلك قدم حجية رعاية المصلحة المرسلة على حجية الإجماع بأدلة ووجوه. ونعيد هنا نشر بحث «حجية رعاية المصلحة المرسلة» المستل من الكتاب المذكور؛ تعميما للفائدة.

(274)

(الأدلة والوجوه التي ذكرها الامام الطوفي عند تقديمه حجية رعاية المصلحة المرسلة على حجية الإجماع).

الوجه الأول : أن مفكري الإجماع قالوا برعاية المصالح ، فهو أذن محل وفاق، والإجماع محل خلاف ، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه».

ويرد على هذا الاستدلال عدم التفرقة بين رعاية المصلحة وبين الاستصلاح كدليل ، فالأمة ، وإن اتفقت على أن أحكام الشريعة مما تراعى فيها المصالح ، ولكن دليل الاستصلاح موضع خلاف كبير لعدم إيمان الكثير منهم بإمكان إدراك هذه المصالح مجتمعة من غير طريق الشرع...

 فدليل الاستصلاح أذن ليس موضع وفاق ليقدم على الإجماع.

الوجه الثاني : أن النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعاً ، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه ، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرطاً فكان اتباعه أولى ، وقد قال عزّوجلّ : «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» (2) ، «أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء»(3) وقال عليه السلام : «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» ، وقد قال عز وجل في مدح الاجتماع : «وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بني قلوبهم ولكن الله ألف بينهم» (4)، وقال ـ عليه السلام ـ  : «كونوا عباد الله إخوانا».

ومن تأمل ما حدث بين أئمة المذاهب من التشاجر والتنافر ، علم صحة ما قلنا ، حتّى أن المالكية استقلوا بالمغرب ، والحنفية بالمشرق، فلا يقار أحد المذهبين أحداً من غيره في بلاده إلاّ على وجه ما ، وحتى بلغنا أن أهل جيلان من الحنابلة إذا دخل إليهم حنفي قتلوه ، وجعلوا ما له فيئا حكمهم في الكفار ، وحتى بلغنا أن بعض بلاد ما وراء النهر من بلاد الحنفية ، كان فيه مسجد واحد للشافعية وكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد فيقول : أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق ؟ فلم يزل كذلك ، حتّى أصبح يوماً وقد سد باب ذلك المسجد بالطين واللبن فأعجب الوالي ذلك».

«ثم أن كلا من اتباع الأئمة ، يفضل إمامه على غيره في تصانيفهم ومحاوراتهم

(275)

حتّى رأيت حنفياً وصف مناقب أبي حنيفة، فافتخر فيها باتباعه ، كأبي يوسف ومحمد وابن المبارك ونحوهم ، ثم قال يعرض بباقي المذاهب:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم   إذا جمعتنا يا جرير المجامع

وهذا شبيه بدعوى الجاهلية وغيره كثير ، وحتى أن المالكية يقولون : الشافعي غلام مالك ، والشافعية يقولون : أحمد بن حنبل غلام الشافعي ، والحنابلة يقولون: الشافعي غلام أحمد بن حنبل.

«وقد ذكره أبو الحسن القرافي في الطبقات من اتباع احمد».

«والحنفية يقولون : أن الشافعي غلام أبي حنيفة لأنه غلام محمد بن الحسن، ومحمد غلام أبي حنيفة» ، قالوا لو لا أن الشافعي من اتباع أبي حنيفة لما رضينا أن ننصب معه الخلاف وحتى أن الشافعية يطعنون بأن أبا حنيفة من الموالي ، وأنه ليس من أئمة الحديث ، وأحوج ذلك الحنفية إلى الطعن في نسب الشافعي وأنه ليس قرشيا بل من موالي قريش ، ولا إماما في الحديث لأن البخاري ومسلما أدركاه ولم يرويا عنه ، ومع انهما لم يدركا إماما إلاّ رويا عنه ، حتّى احتاج الإمام فخر الدين والتميمي في تصنيفهما مناقب الشافعي إلى الاستدلال على هاشميته، وحتى جعل كل فريق يروي السنة في تفضيل إمامه ، فالمالكية رووا: «يوشك أن تضرب أكباد الابل ولا يوجد أعلم من عالم المدينة». قالوا :وهو مالك ، والشافعية رووا : «الأئمة من قريش ، تعلموا من قريش ولا تعالموها» ، أو «عالم قريش ملأ الأرض علما» ، قالوا : ولم يظهر من قريش بهذه الصفة إلاّ الشافعي والحنفية ، رووا : «يكون في أمتي رجل يقال له النعمان هو سراج أمتي ، ويكون فيهم رجل يقال له محمد بن إدريس هو أضر حتّى من ابليس». والحنابلة رووا: «يكون في أمتي رجل يقال له أحمد بن حنبل يسير على سنتي سير الأنبياء » أو كما قال فقد ذهب عني لفظه».

«وقد ذكر أبو الفرج الشيرازي في أول كتابه المنهاج «واعلم أن هذه الأحاديث ما بين صحيح لا يدل ، ودال لا يصح . أما الرواية في مالك والشافعي فجيدة لكنها لا تدل على مقصودهم لأن عالم المدينة أن كان اسم جنس فعلماء المدينة كثير ولا اختصاص لمالك دونهم ، وأن كان اسم شخص فمن علماء

(276)

المدينة الفقهاء السبعة وغيرهم من مشايخ مالك الذين أخذ عنهم وكانوا حينئذ اشهر منه ، فلا وجه لتخصيصه بذلك وإنّما  حمل أصحابه على حمل الحديث عليه كثرة اتباعه وانتشار مذهبه في الأقطار ، وذلك إمارة على ما قالوا ، وكذلك الأئمة من قريش لا اختصاص للشافعي به ، ثم هو محمول على الخلفاء في ذلك ، وقد احتج به أبو بكر يوم السقيفة ، وكذلك تعلموا من قريش لا اختصاص لأحد به».

«أما قوله : «عالم قريش يملأ الأرض علماً » فابن عباس يزاحم الشافعي فيه ، فهو أحق به لسبقه وصحبته ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم له في قوله : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» فكان يسمى بحر العلم وحبر العرب ، وإنّما  حمل الشافعية الحديث على الشافعي لا شتهار مذهبه وكثرة اتباعه، على أن مذهب ابن عباس مشهور بين العلماء لا ينكر» .

«وأما الرواية في ابن حنيفة وأحمد بن حنبل فموضوعة باطلة لا أصل لها ، أما حديث «هو سراج أمتي» فأورده ابن الجوزي في الموضوعات ، وذكر أن مذهب الشافعي لما اشتهر أراد الحنفية اخماله ، فتحدثوا مع مأمون بن أحمد السلمي وأحمد بن عبدالله الخوشاري وكانا كذابين وضاعين ، فوضعا هذا الحديث في مدح أبي حنيفة وذم الشافعي ، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره».

«وأما الرواية في احمد بن حنبل فموضوعة قطعا لانا قدمنا أن احمد كان أحفظ الناس للسنة وأشدهم بها أحاطه حتّى ثبت انه كان يذاكر تأليف ألف حديث وأنه قال : خرجت مسندي من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث وجعلته حجة بيني وبين الله عزّوجلّ ، فما لم تجدوه فيه فليس بشيء».

«ثم أن هذا الحديث الذي أورده الشيرازي في مناقب احمد ليس في مسنده، فلو كان صحيحا لكان هو أولى الناس بإخراجه والاحتجاج به في محنته التي ضيق الأرض ذكرها».

«فانظر بالله أمرا يحمل الاتباع على وضع الأحاديث في تفضيل أئمتهم وذم بعضهم ، وما مبعثه إلاّ تنافس المذاهب في تفضيل الظواهر ونحوها على رعاية المصالح الواضح بيانها الساطع برهانها ، فلو اتفقت كلمتهم بطريق ما لما كان شيء مما ذكرنا عنهم».

(277)

ومع الغض عما في نصه هذا من خطابية وتطويل قد لا تكون له حاجة ، أن الاختلاف ضرورة لا يمكن دفعها عن البشر، وهو لا يستدعي الصراع والخصام المذهبي ما دام أصحابه يسيرون ضمن نطاق الاجتهاد بموضوعية تامة ، وما دامت الأهواء السياسية وغيرها بعيدة عنه.

وهذا النوع من الصراع بين اتباع المذاهب كانت من ورائه دائماً عوامل لا ترتبط بالدين .

وكانت السياسة من وراء أكثرها وكثير من هؤلاء المصطرعين لم يكونوا من العلماء المجتهدين ، وإنّما  كانوا مرتزقة باسم الدين لانسداد أبواب الاجتهاد في هذه الفترات التي ارخ لها ، وحيث يوجد الغرض والهوى والجهل ، ومحاولات الاستغلال من تجار الضمائر والمبادئ توجد التفرقة والصراع ، وأمثال هؤلاء المفرقين من العلماء إنّما  هم دمى بيد السلطة تحركها كيفما تشاء .

وإلا فان العالم الصحيح لا يضره الاختلاف معه في مجالات استنباطه وربما سر لعلمه بقيمة ما يأتي به الصراع من تلاقح فكري ، وإنماء وتطور للأفكار التي يؤمن بها .

والعلماء في مختلف المجالات العلمية يختلفون ، وما سمعنا خلافاً أوجب الصراع فيما بينهم باسم العلم فضلاً عن أن يدب الصراع إلى أبناء شعوبهم فيقتتلون ، اللهم إلاّ إذا كانت السلطات من ورائه كما هو الشأن في موقف سلطة الكنيسة من بعض العلماء المكتشفين أمثال غاليلو.

والشيعة أنفسهم رأوا طوائف من علمائهم وهم بحكم فتح أبواب الاجتهاد على أنفسهم كانوا يختلفون ، وينقد بعضهم آراء البعض الآخر ، ومع ذلك كله نرى تقديسهم لعلمائهم يكاد يكون منقطع النظير.

وما استشهد به من الآيات والروايات على المنع من الاختلاف اجنبي عن هذا النوع من الاختلاف الذي يقتضيه البحث الموضوعي ، لأن المنع عن هذا النوع منه تعبير آخر عن الدعوة إلى الجمود واماتة الفكر والنظر في شؤون الدين ، وهو ما ينافي الدعوة إلى تدبر ما في القرآن والنظر إلى آياته ، بل ينافي الدعوة إلى تدبر ما في الكون والحث على استعمال العقل ، وهو ما طفحت به كثير من الآيات

(278)

والأحاديث ، لأن طبيعة التدبر واستعمال الفكر تدعو إلى اختلاف الرأي.

فالاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف الذي يدعو إلى التفرقة وتشتيت كلمة الأمة ، أي الاختلاف الذي يستغل عاطفيا لتفرقة الشعوب لا الاختلاف الذي يدعو إليه البحث الموضوعي وهو من أسباب الالفة والتعاطف بين أربابه ، ففي الاستدلال خلط بين نوعي الاختلاف.

ومع التغافل عن هذه الناحية فإن دعواه بأن رعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه فهو سبب الاتفاق ـ لا اعرف لها وجها ، لأن المصالح الحقيقية التي يتطابق عليها العقلاء محدودة جدا، وما عداها كلها موضع خلاف بل هي نفسها موضع لخلاف كبير في مواقع تطبيقها كما سبق بيانه في مبحث العقل فكيف يكون النظر فيها موضعا لاتفاق الكلمة وبخاصة إذا وسعنا الأمر إلى عوالم الظنون بها والأهام ، وهل تكفي مواضع الاتفاق منها لإقامة شريعة إذا تجردنا عن النصوص .

وبهذا يتضح الجواب على ما أورده على نفسه من أشكال وأجاب عليه ، فكون الاختلاف رحمة وسعة مما لا أشكال فيه أصلا إذا كان في حدود البحث الموضوعي ، والذي يدل عليه كل ما يدل على وجوب المعرفة المستلزمة حتما للاختلاف من آيات وأحاديث ، ومعارضتها بمفسدة الأخذ بالرخص لا تعتمد على أساس .

 

__________________________________

1 ـ العميد الأسبق لكلية الفقه في النجف الأشرف وعضو المجمع العلمي العراقي ، توفي في النجف الأشرف خلال شهر صفر 1423 هـ .

2 ـ آل عمران : 103.

3 ـ الأنعام : 159.
4 ـ الأنفال : 63.
  
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية