مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الوحدة الدينية الخاتمة
السيد محمد باقر الحكيم


تمهيد
العالمية والخاتمية والخلود من أبرز صفات الرسالة الاسلامية، والعالمية هي عدم اختصاص الخطاب الديني بجماعة معينة أو زمان ومكان محددين، وهي تعبير عن مرحلة تكاملية في مسيرة الرسالة الإلهية. وتتميز عالمية الاسلام عن بقية الأديان العالمية الإلهية بالانتقال إلى مرحلة التطبيق العملي وتثبيت الضمانات اللازمة لاستمرار المشروع الحضاري الاسلامي واتساع نطاق الخطاب ليشمل البشرية جمعاء. وثمة مشاكل أمام العالمية كالنـزعة القومية واستبداد الكيان السياسي والتمييز الطبقي والتجزئة. وتعتبر مدرسة آل البيت (ع) رائدة في مكافحة هذه المشاكل وإزالتها من المجتمع.
والخاتمية لا تعني فقط انقطاع الوحي بل تعبّر ايضاً عن تطور في الحياة الانسانية وفي المضمون الرسالي.
والخلود يعني الاستمرار والبقاء والوراثة ونستطيع أن نجد معالمه في العناصر والأسس التي اعتمدتها الرسالة الاسلامية، منها: العقل، والتوازن بين الثابت والمتغير، ومنح العلم والمعرفة قيمة حقيقية، وصياغة الأمة الوسط.
بعد أن تناول السيد محمد باقر الحكيم صفة العالمية التي اتصف بها الدين في أبحاث سابقة وبحث المشكلات التي تواجهها هذه الصفة مثل المشكلة القومية، والتجزئة والانشقاق، والاستبداد في الكيان السياسي الاسلامي، والطبقة السياسية والدينية، ومشكلة التجزئة في الأمة الاسلامية والاختلاف في شعائرها. وصل سماحته إلى بحث الخاتمية بما تمثله من انقطاع الوحي ونهاية النبوّات، ثم إلى صفة الخلود كبعد ثالث للرسالة الاسلامية والذي يعني الاستمرار والبقاء والهيمنة والوراثة (... لنظهره على الدين كله ولو كره المشركون) وذكر خمسة عناصر للخلود:
1ـ العقل الانساني.
2ـ تلبية الحاجات الانسانية.
3ـ منح العلم والمعرفة.
وبعد أن اخضع العناصر الثلاثة الأولى للبحث يبحث سماحته العنصر الرابع وهو عنصر الأمة والجماعة الواحدة، والعنصر الخامس (الإمامة والدولة) في هذه الدراسة.العنصر الرابع ـ الأمة والجماعة الواحدة(1)
لقد أعطت الرسالة الإسلامية (الأمة) موقعاً خاصاً في الأهداف الرسالية، وفي النظام الاجتماعي، فقد جعل الله تعالى الإنسان خليفة له في الأرض، وعليه أن يقوم بواجب هذه الخلافة، كما شرحنا ذلك في الباب الأول من هذا الكتاب، وذكرنا هناك ماذا تعني هذه الخلافة.
وقد جاءت الرسالات الإلهية لهداية الإنسان إلى الله تعالى الذي يمثل الكمال المطلق. وعندما وقع الاختلاف بين الناس، كان أحد الأهداف الأساسية المهمة للرسالات الإلهية هو حل هذا الاختلاف، والوصول بالإنسان إلى الوحدة في العبادة لله تعالى والصراط المستقيم الواحد الذي يوصله إلى الله تعالى وإلى الكمالات الإلهية، التي تعني أن يعبد الإنسان الله تعالى وحده: (وما خلقت الجنّ والانس إلا ليعبدون)(2)، وأن يقيم الحق والعدل في سلوكه وحركته ومجتمعه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقسط...)(3).
ولا شك أنّ حركة الأنبياء والرسالات الإلهية سوف تنتهي إلى تحقيق هذا الهدف الإلهي في نهاية المطاف: (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أنّ الارض يرثها عبادي الصّالحون)(4).
وكانت الرسالة الإسلامية هي الرسالة الخاتمة التي يتحقق فيها هذا الهدف بأذن الله: (وعد اللّه الّذين ءامنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الارض كما استخلف الّذين من قبلهم وليـمكّننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم مّن بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)(5).
وبذلك يكون الإنسان والأمة والجماعة هي هدف التغيير والتكامل والوحدة، بالنسبة إلى الرسالة الإسلامية.
ولكن كيف يتحقق ذلك التغيير الاجتماعي العام ؟
وهنا يبدو ـ أيضاً ـ من الرسالة الإسلامية، أنّ التغيير يتحقق من خلال عاملين أساسيين:
أحدهما: الرسول الذي يتحمل مسؤولية إبلاغ الرسالة والعمل على تزكية الناس وتعليمهم.
والآخر: الإنسان نفسه الذي يستقبل هذه الرسالة ويتغير بها نفسياً وروحياً، فإنّ تغيير المجتمع إنّما يكون من خلال تغيير الأفراد: (... إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم...)(6).
إذن فالإنسان، كما هو هدف التغيير الاجتماعي، فكذلك هو أداة التغيير الاجتماعي ـ أيضاً ـ وأنّ التغيير لا يتحقق ـ بحسب الإرادة والسنة الإلهية ـ بالقوة والقهر: (... ولو شآء الله لجعلكم أمّةً واحدةً...)(7)، وقوله تعالى: (... ولو شآء لهداكم أجمعين)(8)، وقوله تعالى: (إن نّشأ ننزّل عليهم مّن السّمآء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين)(9)، وقوله تعالى: (... أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين)(10).
كما أنّه سبحانه وتعالى شاء أن يختار من الناس ويصطفي من بني الإنسان الرسل والأنبياء(عليهم السلام)ليقوموا بهذه المهمة، ولم يجعل ذلك عن طريق آخر كالملائكة أو القوى الغيبية الأخرى.
ولعل هذا التصور النظري لموقع الأمة والجماعة في الرسالة الإسلامية الخاتمة هو الذي فرض أسلوباً خاصاً في الخطاب القرآني، جعله خطاباً موجهاً إلى الأمة والناس والجماعة، أكثر مما هو خطاب موجه للنبي أو الخاصة والنخبة، بالرغم مما يتحمله الرسول من مسؤوليات وأعباء متميزة، وتقوم به النخبة المصطفاة من دورها الرئيس في المجتمع الإسلامي.
ومن هذا المنطلق النظري، امتازت الرسالة الإسلامية في هذا المجال (مجال الأمة)، بتأكيد بعدين رئيسين فيها:
الأول: بعد وحدة الأمة والجماعة الإنسانية، وإيجاد العوامل الرئيسية التي تحقق هذه الوحدة الإنسانية فيها.
الثاني: بعد تشخيص الدور أو الأدوار التي يجب أن تقوم بها الأمة في المجتمع الإنساني المتكامل، الذي يمثل الهدف للرسالة الإسلامية.
وسوف نشير إلى البعد الأول منهما في هذا الموضع، ونتناول البعد الثاني عندما نتحدث عن الدولة والحكومة الإسلامية، حيث يمثل دور الأمة أحد العناصر المهمة في شكل هذه الدولة.وحدة الأمة والجماعة
يمكن أن نلخص عوامل وعناصر وحدة الأمة والجماعة في الرسالة الخاتمة بالأمور التالية:
أولاً: (الأخوة الإيمانية)، فإنّ الرسالة الخاتمة أكدت وحدة البشرية في أصولها، وألغت جميع فوارق العرق والجنس واللغة والتاريخ والجغرافيا والأرض والتراب والمصالح والمنافع الخاصة، قال تعالى: (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم مّن ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ اللّه عليمٌ خبيرٌ)(11)، وقد ورد عنه(ص) قوله: "... كلكم لآدم وآدم من تراب.. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى"(12).
ولكن البشرية ـ بسبب ظروفها وحياتها ـ أصبحت بعيدة عن هذا الأصل الواحد الذي كان يجمعها اجتماعياً؛ فلابد من إطار واحد لمجتمعها، وقد وضعت الرسالة الخاتمة هذا الإطار الواحد على أساس وجود الامتياز بين الحق والباطل، والإيمان بالله تعالى، والكفر به: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون)(13)، حيث يراد للمجتمع الإنساني أن يكون سلوكه على أساس الحق، وأن يكون مصيره وتكامله بالسير نحو الله تعالى: (يا أيّها الانسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه)(14).
وانطلاقاً من هذه الرؤية، وضعت العلاقة الإيمانية أساساً لوحدة الأمة والجماعة، فأصبح المسلمون أخوة بإيمانهم: (إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلّكم ترحمون)(15)، وقوله(ص): "إنّما المؤمنون أخوة بنو أب وأم وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون"(16)، وقوله(ص): "المؤمنون إخوة، تتكافى دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم"(17).
ثانياً: (ولاء المؤمن للمؤمن)، إنّ إطار الأخوة الإيمانية الذي يقوم على أساس قاعدة الإيمان، يحتاج إلى محتوى يحقق هذه الوحدة في الجماعة، ويمنحها القوة والقدرة الفاعلة في الحياة الاجتماعية والتكامل في المسيرة الإنسانية، لأنّ مجرد العلاقة العقائدية والفكرية لا تكفي وحدها لتحقيق الآثار والنتائج الاجتماعية لهذه الوحدة.
ومن هذا المنطلق، جعلت الرسالة الخاتمة محتوى علاقة الأخوة الإيمانية هو ولاء المؤمن للمؤمن، قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض...)(18).
والولاء يعني: المودة والحب، والالتزام والعهد، والحماية والنصرة، فهي علاقة ذات بعد عاطفي ونفسي، ينتهي إلى حب الله تعالى ورسوله، كما أنّها ذات بعد عقدي وعهدي والتزام اجتماعي، وفي الوقت نفسه ذات بعد عملي يتمثل بالحماية والنصرة للمؤمن. وكل هذه الأبعاد دلت عليها النصوص القرآنية والحديثية، وهي مستنطقة ومستنبطة من فكرة الولاء نفسها(19).
ثالثاً: وضع نظام كامل للعلاقات الاجتماعية بين أبناء الأمة والجماعة المسلمة بمختلف مستوياتها، كما أنّه يشمل هذا النظام الناس خارج إطار الأخوة الإيمانية من أهل الكتاب وغيرهم، وهو نظام محكم وقوي وشامل يقوم على أساس من النظرة الإنسانية الشاملة والعقيدة الإيمانية والمسؤولية الاجتماعية والحيوية.
ومن مبادىء هذا النظام، التكامل الاجتماعي والمسؤولية الجماعية تجاه قضايا المجتمع، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواجبات الكفائية التي يتحملها المجموع، والقيم الأخلاقية، والمشاعر النبيلة، وحسن المعاشرة(20).
رابعاً: وضع نظام للشعائر الإسلامية له أبعاد اجتماعية، من أجل صياغة حركة الأمة بصورة جماعية، وتنسيقها، وكسر الحواجز بين أبنائها، ومنحها الصبغة الدينية العبادية التي تتناسب مع الوحدة الدينية الخاتمة، مثل: صلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، والعيدين، وحج بيت الله الحرام، وغيرها من أماكن العبادة والزيارة، مما له دور كبير في تحقيق هذه الوحدة مضموناً وشكلاً(21).
خامساً: تشخيص وتحديد علاقة الحاكم والمحكوم، باعتبار أنّ أحد العناصر الرئيسية في وحدة المجتمعات الإنسانية والاختلاف فيها، هي قضية الحكم والعلاقة القائمة بين الوالي والرعية والحاكم والمحكوم، وقد قامت الرسالة الإسلامية بتحديد هذه العلاقة بصورة دقيقة وواسعة، مما يكون له دور كبير في المساهمة لتحقيق هذه الوحدة الاجتماعية، ومن أهم خصائص هذه العلاقة هي طاعة الحاكم في إطار طاعة الله تعالى، وعقد البيعة له، ووحدة الإمامة، ومسؤولية الحاكم في الرعاية الروحية والمعنوية والمعيشية والعلمية تجاه جميع أوساط الرعية على حد سواء، وقد تناولنا هذا الموضوع في بحث مستقل، ونتناول جانباً منه في بحث الدولة الإسلامية.مشاهد لوحدة الأمة
ويمكن أن نلاحظ جانباً من تجسيد هذه الوحدة في المشاهد القرآنية التالية:
أ ـ مشهد الوحدة في المسيرة الاجتماعية في العقيدة، من خلال الاعتصام بحبل الله سبحانه وتعالى: (يا أيّها الّذين ءامنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مّسلمون * واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا...)(22).
وهذا المشهد يؤكده مشهد آخر وهو التمسك بالعروة الوثقى التي تمثل القوة والثبات: (... فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميعٌ عليمٌ)(23).
ب ـ مشهد الوحدة في القلوب وعواطفها ومشاعرها وانسجامها بعضها مع بعض في الموقف والحركة، وذلك من خلال وجود العامل الغيبي المتمثل بالنعمة الإلهية والتأييد والنصر الرّباني.
قوله تعالى: (... واذكروا نعمت اللّه عليكم إذ كنتم أعدآءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً...)(24).
ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة الغيبية عندما يشير في آية أخرى أنّ من المستحيل (اجتماعياً) تحقيق هذا التآلف بالوسائل المادّية:
(... هو الّذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين * وأ لّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعاً ما أ لّفت بين قلوبهم ولكنّ اللّه أ لّف بينهم إنّه عزيزٌ حكيمٌ)(25).
ج ـ مشهد الأمة الواحدة تاريخياً واجتماعياً، من خلال تحويلها في جذرها العقائدي والأخلاقي وأهدافها في الحياة وأصولها الإنسانية إلى أمة الأنبياء(عليهم السلام)، فإنّهم بالرغم من اختلافهم في الزمان والمكان واللغة والأقوام، ولكن تربطهم الأهداف الاجتماعية، والغايات والمقاصد الإنسانية الواحدة، والوسائل الشريفة، والعقيدة والمفاهيم الواحدة، بحيث تتكامل النظرة الشمولية الاجتماعية العالمية للأمة الإسلامية عموماً في جذور التاريخ الإنساني، مع النظرة الشمولية العالمية أفقياً في استيعابها للأقوام والشعوب المتعددة في عصر الرسالة الإسلامية: (إنّ هذه أمّتكم أمة واحدةً وأنا ربّكم فاعبدون)(26)، (وإنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً وأنا ربّكم فاتّقون)(27).
وإنّ هذه الوحدة القائمة على الأصل الإنساني وعقيدة الإله الواحد والحياة الأبدية، والتكامل الأخلاقي، تتبدل إلى الفرقة والتمزق اجتماعياً وعملياً عندما تفقد هذه العوامل الموحدة لها، فتتقطع إلى أحزاب وجماعات:
(فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً كلّ حزب بما لديهم فرحون)(28)، (إنّ الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لّست منهم في شيء إنّما أمرهم إلى اللّه ثمّ ينبّئهم بما كانوا يفعلون)(29)، (... ولا تكونوا من المشركين * من الّذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كلّ حزب بما لديهم فرحون)(30).
د ـ مشهد امتداد وانبساط الولاء لله تعالى، والبراءة من أعدائه، إلى جميع تفاصيل الحياة الاجتماعية الإنسانية ليوحدها في إطار عملي واحد وجعله محوراً لها، انطلاقاً من فكرة الولاء لله تعالى ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الشركاء والأنداد له تعالى، حيث يعتبر موقف إبراهيم(عليه السلام)في التبري من قومه، بسبب عبادتهم للأنداد القدوة والأسوة في ذلك، ولكن مع تطوير واسع في الشمول والامتداد الاجتماعي لجميع مناحي الحياة الإنسانية، ويبدو ذلك واضحاً من المقارنة بينهما عندما نقرأ هذه الآيات الكريمة:
(يا أيّها الّذين ءامنوا لاتتّخذوا آباءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبّوا الكفر على الايمان ومن يتولّهم مّنكم فأولئك هم الظالمون * قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحبّ إليكم مّن الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)(31).
(قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاؤا منكم وممّا تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبداً حتّى تؤمنوا باللّه وحده إلاّ قول إبراهيم لابيه لاستغفرنّ لك ومآ أملك لك من اللّه من شيء رّبّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير)(32).
(إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين ءامنوا الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون * ومن يتولّ اللّه ورسوله والّذين ءامنوا فإنّ حزب اللّه هم الغالبون)(33).
ويبدو ذلك واضحاً عندما نتابع آيات الولاء في القرآن الكريم، لنجد في ذلك شمولاً لجميع التفاصيل في الحياة الإنسانية.العنصر الخامس ـ الإمامة والدولة
من الأسس والعناصر الرئيسية في الوحدة الدينية الخاتمة هو: (الإمامة).
والإمامة تتحد مع النبوة ـ أحياناً ـ في الشخص، وتفترق عنها أحياناً أخرى، وهي: في الرسالة الخاتمة عنصر ملازم لا ينفك عنه، فالنبي الخاتم(ص) كان إماماً منذ البداية، كما كان إبراهيم(ع) إماماً في نهاية المطاف ; ثمّ استمرت الإمامة بعد النبي الخاتم في الرسالة الخاتمة، بالرغم من توقف وعدم استمرار النبوة فيها.
مسؤوليات النبوة والإمامة
والإمامة تشترك مع النبوة في المهمات الأساسية التي تتحملها النبوة الخاتمة التي أشار إليها القرآن الكريم، وهي (تلاوة الآيات ـ البلاغ) و(التزكية) والتطهير للأمة والجماعة و(تعليم الكتاب والحكمة)، قال تعالى: (هو الـّذي بعث في الامّيّين رسولاً مّنهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مّبين)(34).
ولا شك أنّ كلّ ذلك مما يستلزم أن يكون الرسول والإمام مستوعباً للرسالة بكاملها ومحافظاً عليها، ليكون قادراً على إبلاغها وتعليمها والتزكية والتطهير بها.
كما أنّ الرسول والإمام لابد أن يكون مسؤولاً عن إعطاء التوجيه والإشراف والرقابة على مسيرة الأمة، بمقدار ما يكون الأمر متعلقاً بالرسالة(35) وأهدافها، ليمكنه أن يحقق التزكية والتطهير بها.
كما أنّه لابد أن يكون مسؤولاً عن (التدخل لمقاومة الإنحراف واتخاذ كل التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة)(36)، لأنّ ذلك من لوازم التزكية والتطهير.الفرق بين النبوة والرسالة
والنبوة قد تتحد مع الإمامة في الشخص ـ كما قلنا ـ وقد تفترق عنه، وعندئذ تتميز النبوة عن الإمامة في عدة أمور:
1 ـ أنّ النبي يكون حامل رسالة من الله تعالى تأتيه من خلال الوحي الإلهي، أما الإمام فإنّه مستودع لهذه الرسالة من قبل النبي، وإن كان معيناً من قبل الله تعالى في ذلك.
2 ـ أنّ النبي يكون دليل نبوته والحجة التي تثبت هذه النبوة من عند الله تعالى هي: (المعجزة)، وأما الإمام فإنّ ما يثبت إمامته عند الناس والحجة التي له على الناس، إنّما هو النص من النبي على الإمام بأمر الله تعالى.
نعم، قد تقترن الإمامة بالأمور الغيبية الخارقة للعادة والقوانين التجريبية التي تشبه المعاجز، ولكن الأصل في الحجّة ليس ذلك، وإنّما هو النص.
3 ـ أنّ منكر النبي يكون خارجاً عن الإسلام، بخلاف منكر الإمامة، فإنّه لا يكون خارجاً عن الإسلام، وإنّما يكون خارجاً عن الإيمان الكامل، والسبب في ذلك هو: أنّ الإمامة امتداد للرسالة، وتثبت من خلال نص النبي عليها، فهي بدرجة من الوضوح أقل من درجة الوضوح في النبوة.
4 ـ أنّ الدور الأساس الذي يقوم به النبي هو إرساء وتثبيت دعائم الرسالة وإبلاغها للناس، وأما الإمام الذي يأتي بعد النبي ولا يكون نبياً، فدوره هو الاستمرار في عملية البناء والتغيير، فدور النبي هو دور التأسيس، ودور الإمام فإنّه البناء على ذلك الأساس، ولذا جاء تأكيد رسول الله(ص) في هذا الجانب، بما ذكره لعليٍّ(ع)من أنّه(ص) يقوم بالقتال على التنزيل، وأما دور عليٍّ(ع)، فهو القتال على التأويل(37).
وذلك أنّ هدف النبي الأساس هو تغيير المجتمع الإنساني بالرسالة، وهذا يمر بمرحلتين:
الأولى: إبلاغ الرسالة والتأسيس لها.
الثانية: التغيير الاجتماعي بالرسالة الذي لا يستوعبه عمر النبي ـ عادة ـ فيحتاج إلى إكمال هذا الدور بالإمام.
وقد فرضت هذه المسؤوليات في النبوة الخاتمة عدة قضايا وأمور رئيسية: استمرار الإمامة
القضية الأولى: هي ضرورة استمرار الإمامة بعد النبوة لعدة أسباب نذكرها بصورة موجزة(38):
1 ـ ما ذكرناه آنفاً، من أنّ عملية التغيير الاجتماعي ـ ومنها الإطاحة بالطواغيت والأصنام الاجتماعية، وجهاد النفس، والتزكية الاجتماعية ـ لا يستوعبها عمر النبي ـ عادة ـ الأمر الذي يفرض وجود الإمامة بعد النبي، لانقطاع النبوة في الرسالة الخاتمة.
2 ـ أنّ الاختلاف على مستوى العبادة والتطبيق للأحكام الشرعية، والمفاهيم الاجتماعية، ظاهرة لازمة في التاريخ الإنساني لا ينفك عنها بنص القرآن: (... ولايزالون مختلفين * إلاّ من رحم ربّك...)(39)، وبالنص النبوي المتواتر: "النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس"(40)، فلابد من وجود الإمامة ; لإقامة الحجّة ومعالجة هذا الاختلاف في الدين، وهذا وإن كان أقل حدة وشدة في الرسالة الخاتمة ـ لما ذكرناه من عوامل وضمانات ـ منه في الرسالات السابقة، ولكنّه قائم على كل حال.
3 ـ أنّ تطبيق الحكم الشرعي بصورة كاملة كما تفرضه المرحلة الأخيرة (الوحدة الدينية الحقيقية)، التي بشر بها جميع الأنبياء(ع)، ومنهم النبي الخاتم(ص)، وهي مرحلة الإمام المهدي المنتظر(ع)، سواء في مرحلة التمهيد لها، أو تطبيقها، تحتاج إلى هذه الإمامة أيضاً. الإمامة في أهل البيت(ع)
القضية الثانية: أنّ هذه الضرورة في استمرار الإمامة وبقاءها فرضت قضية أخرى ـ أيضاً ـ وهي: أن تكون الإمامة في أهل البيت(ع) ـ أيضاً ـ لأنّهم المؤهلون لها دون غيرهم، لعدة أسباب وعوامل أساسية تقتضيها شروط الإمامة ومحتواها.
وهذا من الأبحاث الكلامية التي لا يسع هذا الكتاب تناوله، ولذا نحيله إلى كتابنا المشار إليه في الهامش السابق.وحدة الإمامة
القضية الثالثة: أنّه من أجل أن تقوم الإمامة بدورها المطلوب في تحقيق الوحدة الدينية الخاتمة، أصبح من الضروري أن تكون الإمامة في الأمة واحدة غير متعددة ; وهذا مما أجمع عليه المسلمون.
وقد أشارت إلى ذلك النصوص القرآنية، سواء في قصة موسى(ع) حيث جعل هارون وزيراً لموسى(ع) لا عدلاً له، أو في الصيغة التي طرحها القرآن الكريم عن النبوات في مختلف أدوارها، حيث لم نشهد تعدد الإمامة فيها في أي عصر وعهد.
كما أكدت ذلك النصوص التي وردت عن أهل البيت(ع) في هذا المجال، ومنها: ما ورد في إمامة الحسن والحسين(ع)، حيث فرض أنّ أحدهما لابد أن يكون هو القائم بالأمر، فعن الحسين بن أبي العلا، قال: قلت لأبي عبدالله(ع): "تترك الأرض بغير إمام؟ قال: لا، قلنا له: تكون الأرض وفيها إمامان؟ قال: لا، إلاّ إمام صامت لا يتكلم، ويتكلم الّذي قبله"(41).
الولاية للرسول والإمام
القضية الرابعة: أنّه من أجل أن يصبح دور الإمامة في تحقيق الوحدة الخاتمة فاعلاً ومؤثراً، فرضت البيعة للإمام على كل المسلمين ويلتزم فيها المسلم بالطاعة للإمام بصورة مطلقة في إطار الحكم الشرعي، بحيث قرنت طاعته بطاعة الله تعالى.
فقد ورد عن رسول الله(ص) متواتراً وبإجماع المسلمين، قوله(ص): من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (42)، أو من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (43).
كما ورد في القرآن الكريم، أنّ الطاعة ملازمة لإرسال الرسول: (ومآ أرسلنا من رّسول إلاّ ليطاع بإذن اللّه...)(44). وأنّ طاعة الرسول والإمام (أولي الأمر) مقرونة بطاعة الله عزّ وجلّ أيضاً، قال تعالى: (يأيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً)(45).
وقال تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم...)(46).
وقال تعالى: ـ في سياق الآية السابقة (ومآ أرسلنا من رّسول
إلاّ ليطاع بإذن اللّه...) ـ (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مّمّا قضيت ويسلّموا تسليماً)(47).
والحديث عن الإمامة والطاعة للإمام، يجرنا للحديث عن مشروع الدولة الإسلامية الذي يعتبر من أهم خصائص الرسالة الإسلامية الخاتمة، سواء في المحتوى والمضمون، أو في مجال التطبيق العملي الخارجي، كما أنه في الوقت نفسه يعتبر من أهم عناصر تحقيق الوحدة الخاتمة، وتقليص دائرة الاختلافات فيها.
ولذا نلاحظ أنّ الرسالة الإسلامية تمكنت ـ بإذن الله من دون بقية الرسالات ـ من إقامة الحكم الإسلامي في عصر صاحب الرسالة، وبقي هذا الحكم قائماً إلى زماننا هذا، وسوف يبقى حقيقة قائمة في وسط المسلمين روحياً ومعنوياً إلى أن تتحقق مرحلة ظهور الحجّة المهدي القائم(ع) في تحقيق الوحدة الحقيقية الخارجية الكاملة.
كما أنّ هذا الحكم كان له تأثير كبير في نشر الرسالة الإسلامية وتوطيد دعائمها.
ولأهمية الحديث عن الحكم الإسلامي، اقتضى أن نعقد له فصلاً مستقلاً بما يتناسب مع هذا الموضوع، كما تناولناه بصورة أكثر تفصيلاً في كتاب مستقل(48).--------------------------
(1) تناولنا هذا الموضوع بالبحث في عدة مواضع من أبحاثنا، منها الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق، ودور أهل البيت(ع) في بناء الامة الصالحة، والمنهاج الثقافي، ونتناوله هنا بالحديث بصورة موجزة إكمالاً للنظرية التي طرحناها حول الرسالة الخاتمة.
(2) الذاريات: 56.
(3) الحديد: 25.
(4) الأنبياء: 105.
(5) النور: 55.
(6) الرعد: 11.
(7) المائدة: 48.
(8) النحل: 9.
(9) الشعراء: 4.
(10) يونس: 99.
(11) الحجرات: 13.
(12) تحف العقول: 30.
(13) السجدة: 18.
(14) الإنشقاق: 6.
(15) الحجرات: 10.
(16) الكافي 2: 165، حديث: 1.
(17) أمالي المفيد: 186 ـ 187، حديث 13.
للمزيد من التوضيح، راجع في هذا العامل والعامل الذي يليه، الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين: 82 ـ 91، وكذلك كتاب الأخوة الإيمانية من منظور الثقلين، للمؤلف.
(18) التوبة: 71.
(19) لقد أشرنا إلى توضيح ذلك في كتابنا الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين: 85 ـ 91، وكذلك الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق: 90 ـ 92، وكتاب الأخوة الإيمانية من منظور الثقلين.
(20) لقد تناولنا هذا النظام الاجتماعي بصورة تفصيلية في كتابنا دور أهل البيت(ع) في بناء الجماعة الصالحة 1: 465 ـ 516، وشرحناه في الجزء الثاني: 11 ـ 44، الطبعة الأولى.
(21) تناولنا بحث نظام الشعائر والعبادات بشيء من التفصيل في كتابنا دور أهل البيت(ع) في بناء الجماعة الصالحة 2: 155، الباب السابع.
(22) آل عمران: 102 ـ 103.
(23) البقرة: 256.
(24) آل عمران: 103.
(25) الأنفال: 62 ـ 63.
(26) الأنبياء: 92.
(27) المؤمنون: 52.
(28) المؤمنون: 53.
(29) الأنعام: 159.
(30) الروم: 31 ـ 32.
(31) التوبة: 23 ـ 24.
(32) الممتحنة: 4.
(33) المائدة: 55 ـ 56.
(34) الجمعة: 2.
(35) و(36) خلافة الإنسان، للشهيد الصدر: 25.
 (37) حيث ورد عنه(ص) قوله: "يا عليّ أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي، تقضي ديني وتنجز عدتي وتقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، يا عليّ حبّك إيمان وبغضك نفاق ولقد نبّأني اللّطيف الخبير أنه يخرج من صلب الحسين تسعة من الأئمة، معصومون مطهّرون، ومنهم مهديّ هذه الأمة، الّذي يقوم بالّدين في آخر الزمان كما قمت به في أوله"، كفاية الأثر: 135، وعنه البحار 36: 331، حديث:190، وقد ورد مضمون القتال على التأويل والقتال على التنزيل في عدد من النصوص التي رواها الفريقان، راجع تاريخ ابن عساكر 3: 127 ـ 136، ومستدرك الصحيحين 3: 122، قال الحاكم: هذا حديث صحيح.
(38) يمكن مراجعة ـ في شرح هذه الأسباب والاستدلال عليها ـ كتابنا دور أهل البيت(ع) في الحياة الإسلامية (الإمامة).
(39) هود: 118 ـ 119.
(40) مستدرك الصحيحين 3: 149، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
(41) بصائر الدرجات: 486، حديث: 11، وعنه البحار 23: 51، حديث: 102.
(42) ذكر المجلسي(قدس سره)في البحار 23: 76 ـ 95، باب وجوب معرفة الإمام، وقال في صفحة:94، ما لفظه: (روى كثير منهم ـ أي علماء الجمهور ـ أنّه(عليه السلام)قال: من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
ولكنّ لم ترد هذه الرواية عن طرق الجمهور إلا في مسند أحمد بن حنبل، وذكرها بعضهم، ثم حذفت بعد ذلك منه في بعض الطبعات الأخرى ـ وهذا من الأساليب الخطيرة التي استخدمت في تزوير الحقائق في العصر الحديث ـ وقد ذكرها ـ أيضاً ـ صاحب مجمع الزوائد الذي هو من كتب الأحاديث الجامعة المتأخرة لأهل السنة، وكذلك ذكرت في كنز العمال.
وجاء في التاج الجامع للأصول 3: 46، عن صحيح مسلم ـ أنّ النبي(ص) قال: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"، وأكثر الروايات بهذا الصدد، جاءت بعنوان من مات وليس في عنقه بيعة ـ إما لإمام أو بصورة عامة ـ مات ميتة جاهلية.
أما رواية "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية"، فهي لم ترد إلا بصورة محدودة جداً في كتب علماء الجمهور.
ومن المحتمل جداً أنّ عملية التزوير قد جرت لتلك الروايات التي وردت في موضوع (البيعة)، حيث كانت في الأصل قد وردت في معرفة الإمام، ولكنّ من أجل إبعاد أذهان الناس عن عنوان الإمام، حوّلت هذه الروايات وزورت، بحيث أصبحت لها مداليل أخرى.
(43) التاج الجامع للأصول 3: 46، عن صحيح مسلم، وهي روايات كثيرة، كما يعرف ذلك من مراجعة كنز العمال 6: 45 ـ 66، أحكام الإمارة وآدابها.
(44) النساء: 64.
(45) النساء: 59.
(46) الأنفال: 46.
(47) النساء: 65.0
(48) وهو كتابنا الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق.


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية