مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الغزو الثقافي
المقدمات والخلفيات والنتائج(1)
نبيل علي صالح
باحث في سوري


 
مرت على الحياة الاسلامية مرحلة تاريخية مضيئة من الازدهار والتطور الثقافي والعلمي والحضاري، شملت جميع أبعاد ومواقع حركة الأمة والمجتمع. وقد كان الغرب خلال تلك المرحلة ـ التي امتدت لقرون طويلة ـ مستغرقاً في حالة نوم عميق، خضع خلالها لاجواء سلبية مظلمة، وسيطرت عليه ثقافة الكسل والاسترخاء والتعب، وعشعشت في داخله قيم التخلف والجهل والظلام. لكن على ما يبدو ان المشهد قد انعكس، وتبدلت صوره وتلاوينه المختلفة، فدخل المسلمون في اجواء التخلف نفسها. وقد كان ذلك نتيجة طبيعية لانشغالهم عن فهم حقائق ونواميس التطور الرباني في التواصل والانفتاح الواعي والمدروس على الآخر، وانهماكهم في ملذات الحياة الدنيا، وانسياقهم وراء ترهات الحياة وأباطيل الوجود. وقد أدى بهم ذلك الى العودة للوراء، ووقوعهم فريسة سهلة تحت سيطرة الغزو الثقافي والسياسي والاقتصادي للآخر، الذي استمر في فرضها عليهم منذ بدايات الغزو الصليبي  وحتى يومنا الحالي، الذي نشهد فيه طغيان وسيادة أعلى مراحل هذا الغزو لبلادنا الاسلامية تحت شعارات انسانية وهمية ومزيفة.
وفي هذا المجال شكلت مقولة الغزو الثقافي نموذجا عملياً للجدل الذي دار ولا يزال دائراً بين مختلف القوى والتيارات الثقافية والسياسية والعربية والاسلامية على مستوى التحقق من وجود هذا النوع من الغزو - حيث لا يزال بعضهم يشكك بوجوده اصلاً - ثم فهم طبيعته، ومرتكزاته العلمية، وأساليب مواجهته. وقد انهمكت دوائر ثقافية ـ وحتى سياسية ـ كثيرة عندنا بتسخين او تخفيف حدة التعامل مع هذه المسألة الهامة، التي تتصل ـ كما قلنا ـ بالتقدم والتطور (أو التأخر) الحضاري الاسلامي ككل، خصوصاً بعد أن عاد الإسلام الى الساحة الواسعة، وتجذرت امتداداته الحية في صلب الواقع، واستأنف دوره الحضاري الرائد بعد انتصار الثورة الاسلامية المباركة في ايران عام 1979 بقيادة الامام الخميني الراحل (قده).
وبديهي ان ينصبّ الاهتمام الراهن حول علاقة الاسلام بالثقافات الاخرى ـ ومنها الثقافة الغربية المهيمنة حالياً ـ وتتركز الدراسات الفكرية على ضرورة دراسة وتحليل مواقع واجواء ورموز الغزو الثقافي والاعلامي المعاصر؛ باعتباره أهم الاسلحة التدميرية التي يعمل الآخر على الاستفادة القصوى من تأثيراتها السلبية على عالمنا الاسلامي، وتحريكها ضده من اجل الابقاء على تخلفه وهامشيته في مواقع الحياة كلها، والتحذير من المشاركة العملية الفاعلة الى جانب الغرب في بناء الحضارة الانسانية.
ويبدو هذا الأمر أكثر وضوحاً أمامنا من خلال فهمنا لطبيعة القاعدة التي بنت (وتبني) الثقافة الغربية عليها وجودها باستمرار، وهي ـ بالدرجة الأولى ـ قاعدة الغزو الثقافي الدائم، والحضور الاعلامي الضاغط والمكثف في كل الاتجاهات والمواقع التي نحن على صلة بها بطريقة مباشرة او غير مباشرة، بما يؤدي ـ في النهاية ـ الى تمييع ثقافة الشباب الملتزم بالاسلام كنهج حضاري ورسالي في امتداد الحياة كلها، وهدر طاقاتهم، وتسفيه مواهبهم،
وتشويه السلوك الاجتماعي العام للمسلمين، وفرض رؤية وجودية وكونية مادية جديدة عليهم تتناقض ـ جملة وتفصيلاً ـ مع معايير وابعاد ومعطيات ثقافتنا الاسلامية القائمة على قاعدة الوسطية والتوازن الدقيق بين الروح والمادة.
وعلى خلفية هذه المواجهة الحضارية الشاملة بيننا وبين الغرب (التي نتمنى أن يكون الحوار بالتي هي أحسن عنوانها وقاعدتها الاساسية) يأتي هذا الكتاب: (الغزو الثقافي) الذي يظهر فيه مؤلفه ـ سماحة الامام السيد : علي الخامنئي ـ متابعاً دقيقاً ، وراصداً وواعياً لموضوع الغزو الثقافي، وذلك من موقعه الرسمي والشعبي، ومسؤوليته الرسالية العالية.
لقد جاءت طروحات ومباحث هذا الكتاب ـ بمجملها ـ واقعية وصريحة كونها انطلقت من خلال انسان مسؤول عاش شبابه في حركية الثورة الاسلامية، وكان من الاسلاميين الأول الذين انفتحوا على قضايا الاسلام في العصر الراهن، فامتلك ـ نتيجة لذلك ـ ذهنية اسلامية مستنيرة وعصرية في فهمها الملتزم لقضايا الاسلام والانسان. أي انه كان يلاحق الامور، ويتابع مجريات الأوضاع على أرض الواقع اليومي بتفاصيله وتشعباته كلها بعيداً عن حالة المنظِّر الثقافي العام، الذي قد يفكر في الاجواء الثقافية الضبابية، التي يمكن أن تكون بعيدة ـ في معظم الأحيان ـ عن حقائق الحياة وتجارب الواقع.
وبطبيعة الحال نحن لا نستطيع أن نعتبر هذا الكتاب اكاديميا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، لأنه جاء على شكل منطلقات وبيانات وخطابات ورؤى فكرية ومواقف عملية حيال مسألة الغزو الثقافي، تكونت لدى سماحة الإمام السيد الخامنئي خلال مدة من الزمن، حتى تجمعت ونضجت ـ على خلفية هذه المتابعة ـ نصوص كثيفة وغنية تمت اعادة تنظيمها وتنسيقها واعدادها من جديد لتخرج بهذه الحلة الفكرية المثمرة.
لقد قسّمت مباحث الكتاب الى ثلاثة فصول، حمل الأول منها عنوان: مقدمات تأسيسية في مقولتي الغزو الثقافي والتبادل الثقافي(2) وفيه تناول المؤلف افكاراً نظرية وتطبيقية ـ تتصل بمفهومي الغزو والتبادل الثقافي ـ ضمن خمسة عناوين رئيسية:
1ـ مفهوم الغزو الثقافي. (3)
2ـ اهمية الايمان بوجود الغزو الثقافي وضرورة النهوض لمواجهته. (4)
3ـ الفوارق بين التفاعل الثقافي والغزو الثقافي. (5)
4ـ الخلفية التاريخية والجذور العلمية والثقافية لايران المسلمة:
أ ـ الصلة التاريخية بين العلم والدين وانفصالهما عن بعضهما.
ب ـ ازدهار العلم هدف أساسي للثورة الاسلامية. (6)
5ـ مسؤولية الشباب الخطيرة في تحقيق النمو العلمي.(7)
أما الفصل الثاني من الكتاب فقد تمحور الحديث فيه حول قضية (العالم الاسلامي والغزو الثقافي) (8). حيث تم تقسيمه الى اربعة اقسام هي:
القسم الأول: لمحة تاريخية عن خط مواجهة الثقافة الاستكبارية للثقافة الاسلامية. (9)
القسم الثاني: علل وجذور الغزو الثقافي الاستعماري للعالم الاسلامي. (10)
القسم الثالث: الغزو الثقافي الاستعماري للعالم الاسلامي ـ الوسائل والأدوات. (11)
القسم الرابع:
1ـ نهوض المسلمين لاحياء حاكمية الاسلام.
2ـ تبيين الحقائق الاسلامية عن طريق الفن والوسائل الادبية.
3ـ اتفاق المسلمين ووحدة كلمتهم.
4ـ تصدير الثورة معناه بث الثقافة الاسلامية الاصيلة. (12)
نأتي الآن الى الفصل الثالث والأخير من هذا الكتاب الذي دار فيه الحديث حول (الثورة الاسلامية والغزو الثقافي) ضمن ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نبذة عن تاريخ الغزو الثقافي في ايران.
القسم الثاني: علل وجذور الغزو الثقافي المناهض للثورة الاسلامية.
القسم الثالث: وسائل وأدوات العدو في الغزو الثقافي المضاد للثورة الاسلامية. (13)
وكخلاصة عامة ومفيدة لمجمل ما جاء في الكتاب نجد ضرورة ملحة في تثبيت اهم أفكار وعناصر الرؤية المفاهيمية التي احتوتها مباحثه .. وهي:
أولاً: التركيز الدائم على اسلامية الايرانيين، وضرورة تعلمهم من المحيط الحضاري الذي يعيشون فيه، ويتفاعلون معه، أي ان صفة الايرانية او الاسلامية او أية صفة أخرى يجب ألا تمنع الانسان من التعلم والانفتاح على الآخرين في مواقع قوتهم، في أفكارهم الجيدة، وطروحاتهم المفيدة للانسانية جمعاء.
ثانياً: التفريق بين مقولتي (الغزو) و(التبادل) باعتبار ان الغزو يعني اجتثاث اصول الثقافة الخاصة والقضاء عليها نهائيا، او على الأقل النظر اليها كثقافة هامشية (لامركزية)  في مقابل اعتبار الثقافة الغربية هي الثقافة المركزية الوحيدة المؤهلة لقيادة العالم. بينما تعني مقولة التبادل ضرورة الانفتاح الواعي والمدروس على الآخر، ومد جسور التعاون والتواصل الثقافي والحضاري معه من موقع الندية والتكافؤ لا من موقع المحاكاة  والتماهي والذوبان في منظومته الروحية والمفاهيمية.
ثالثاً: إذا كان الغرب مسؤولاً عن المقدمات الاساسية لآليات وأساليب هذا الغزو، فإن المسلمين مسؤولون بشكل اكبر عنه، ويتحملون قسطاً اوفر من مسؤولية هزائمهم وسقوط مشاريعهم التحديثية في هذا المجال. لأننا ـ كمسلمين ـ نهيئ له (للغرب) الاساليب والآليات المناسبة التي تمنحه مساحة واسعة من حرية الحركة والامتداد على اراضينا، من خلال تضعيفنا لانفسنا. فلضعفنا وبضعفنا يحدث الغزو، وينمو، ويكبر ومن ثم ينتشر.
رابعاً: نحن نعترف بوجود الغرب كقوة حضارية متقدمة علينا في علومها وصناعاتها وتقنياتها، وقد يمتلك اصحابها افكاراً وأشياء افضل مما هو موجود في دائرتنا الحضارية الاسلامية، لذلك فالمطلوب هو أن نحث الخطى، ونشمر عن السواعد، ونتغلب على الصعاب، ثم ننطلق باتجاه امتلاك عناصر وتطبيقات وأدوات تقدم تلك الحضارة من خلال ارادتنا الواعية والحرة، ومن دون قسر او اكراه.
مما تقدم يبدو لنا أن عناصر تلك الرؤية الموضوعية المتوازنة لمسألة حساسة وخطيرة كمسألة (الغزو الثقافي والاعلامي) تعبر عن متابعة حركية دؤوبة وحية، ونابضة بالحس الواعي والمسؤول لجميع ملفات واجواء الواقع الحضاري الاسلامي والانساني المعاش حالياً، في ظل مناخ سياسي واجتماعي واعلامي عالمي، يعمل على تأصيل  الفردية، والتعصب، والدوران حول محور الغرائز والانانيات، ومحاولة تعميق ثقافة الكسل والاسترخاء والجمود بين الشعوب المستضعفة كلها.
ولهذا وجدنا الكتاب يتعامل مع قضية الغزو الثقافي من خلال اعتبارها حقيقة واقعة لامفر امامنا من ضرورة وعيها ودراستها وتحليلها علمياً وموضوعياً، والاسراع الى اتخاذ الاجراءات العملية المناسبة لمواجهتها، والتخلص من آثارها السلبية واجوائها الضاغطة على الفكر والانسان في عالمنا الاسلامي، طبعاً ليس بالانغلاق على النفس والتقوقع على الذات، ولكن بتعميق قيم الانفتاح الواعي والتواصل الممنهج والمدروس مع الآخر. وهذه نقطة ايجابية لمصلحة الكتاب الذي قلنا عنه سابقاً بأن مؤلفه يميز تمييزاً واضحاً وذكياً بين مقولتي (التبادل) و(الغزو) ومقولتي (الانفتاح) و(الانغلاق).
وفي هذا السياق نؤكد على مسألة (نقدية) مهمة جداً؛ وهي أنه يجب علينا جميعاً ـ خصوصاً من هم في مواقع المسؤولية والعمل الرسالي ـ ألا نستغرق كثيراً في الحديث عن مقولة (الغزو) بحيث تتحول هذه المسألة امام أجيالنا من كونها مظهراً سلبياً ـ يجب وعي معطياته الداخلية، ومحاولة تطويق اسسه ومرتكزاته في مواقعها الأولى ـ الى حالة في النفس تتحرك في الداخل الشعوري والوجداني لتلك الأجيال الصاعدة ـ التي تمتلك طاقات ومواهب هائلة ـ كعقدة مرضية او عاهة نفسية مستديمة لاشفاء منها، بحيث تبدو الغاية الأساسية لها في التمويه على الواقع الفاسد والظالم، والاختباء خلف مقولات (المواجهة) و(التحدي) و(الدفاع عن الذات) لتمرير مشاريع وصفقات خاصة مشبوهة، يمكن أن تتحرك في داخل اجوائنا الاسلامية لتسقط وعينا الاسلامي الفعّال بديننا ومبادئنا ومشروعنا الحضاري الانساني.
وهذا أمر واقعي وطبيعي يمكن ان تعاني منه أية حضارة او أمة، إذ أن هناك ـ على مستوى امتنا العربية والاسلامية ـ كثيراً من المؤسسات والاشخاص والمواقع الكبيرة ـ ممن ينتمون اسمياً الى تلك الأمة، ويمارسون عملهم في مواقع المسؤولية العالية ـ يحاولون التستر خلف تلك الشعارات، والاختباء وراء تلك المقولات الصحيحة والمحقة بهدف رعاية مصالحهم، وتثبيت أقدامهم وقواعدهم المهتزة هنا وهناك.
لذلك ـ وفي مقابل تصحيح رؤية الوضع العام السائد حاليا بخصوص تلك القضايا ـ لابد من مراعاة جانب التفاهم الثقافي والحوار الحضاري مع الآخر في عالم متداخل ومتشعب، فيه الكثير من الثقافات المتنوعة المنتشرة في كل حدب وصوب. ونحن ـ طبعاً ـ نؤكد على أهمية هذه النقطة بالرغم من وجود الكثير من النخب الثقافية والسياسية التي تشكك اصلاً بمصداقية هذا التوجه الهادف والمسؤول.
وبطبيعة الحال يجب أن نفهم بأن المعنى الحقيقي لمفهوم التبادل والتفاهم الثقافي والحضاري مع الآخر لا يعني مطلقاً أن نقلده، لأن تقليده لن يتيح لنا سوى التشويه والانحراف والغاء الأنا الحضارية والثقافية الخاصة بنا (وهذا ما يريده الغرب اساساً) وكذلك لا يعني أن نقفز فوق منجزات وتطبيقات الحضارة الغربية ـ كما ذكرنا سابقاً ـ ولكنه يعني ـ في أحد تعبيراته ـ أن نستجيب فعلياً للتحديات التي تواجهنا من خلال الخروج من حالة القصور والعجز المطبق، الذي نعايشه، بالتحرر من العادات والقيم والمبادئ البالية التي تصادر العقل، وتعطل الفكر، وتوقف مسيرة التقدم والازدهار الحضاري. الحل هو بالحوار والتفاهم والتصالح (العلمي) مع الغرب، وفك الارتباط العلمي القائم بين روحانية وثقافة هذا الغرب من جهة، وعلومه وانجازاته التقنية والتكنولوجية من جهة ثانية، تماما كما قامت اليابان ـ وغيرها من الدول المتقدمة التي رفضت الاندماج والذوبان في الثقافات الاخرى ـ بتحمّل مسؤولية بناء ذاتها الحضارية وفق مناهجها وثوابتها التاريخية، وانطلقت لتصنع عالميتها من خلال خصوصيتها الثقافية.
لذلك علينا أن نعمل على تعميق الممارسة الابداعية لثقافتنا الاسلامية وهويتنا الحضارية على نحو فاعل ومنتج وخلاق يفتح امامنا السبل والمجالات الواسعة من اجل أن نصنع حداثتنا، ونبرز عالميتنا بما يتناسب مع وضعنا وذاتنا ونسيجنا التاريخي والعقائدي الاسلامي.
وبالنتيجة نحن اصحاب ثقافة عالمية وحضارة كونية رضينا بذلك أم لم نرض. فنحن نشهد احداث العالم، ونتفاعل مع اوضاعه ومجرياته كبيرها وصغيرها. أي أننا نشارك في الحركية العالمية لهذا العصر الكوني بصورة من الصور، كما تشارك سائر الأمم والدول فيه، مع فارق اساسي: وهو أن كل مجتمع يمارس عالميته انطلاقاً من خصوصيته (رؤيته الكونية) المنتجة والقادرة على المساهمة في عملية التجديد والابداع الحضاري العالمي.
وبديهي جدا ان نؤكد هنا على ان عالمية الحضارة ـ وضرورة تفاعلها مع الحضارات الاخرى ـ لا تلغي امكانية وجود اجواء للصراع او للتنافس (الانتقام) الحضاري بين الأمم الحضارية البشرية على امتداد الساحة الكونية الكبرى. وفي هذا المجال من الطبيعي أن يكون للغزو الثقافي والاعلامي ـ خصوصاً في عصر العولمة، ومجتمعات الثورة المعلوماتية الحالية ـ دور أساسي في هذا الصراع الكوني.
من هنا نؤكد على ضرورة ان تمارس حضارتنا الاسلامية ـ التي ساهمت في عملية النمو والابداع الحضاري العالمي فيما مضى من التاريخ الانساني ـ خصوصيتها الشاملة على نحو فاعل وخلاق يتيح لها أن تواجه بقوة مقولة الغزو ـ وغيرها من مقولات وقضايا الصراع والتنافس ـ وتصنع حداثتها الاسلامية، وتبرز عالميتها الانسانية، وتؤكد حضورها الفعال، وتنشر سلطانها، وتعمم خصائصها.
ان مواجهة غزو الآخر ـ المتفوق علمياً وصناعياً ـ لا يكون ـ كما أسلفنا ـ بالتقوقع على الذات، والانغلاق على قيمها وتعاليمها الخاصة، او ممارسة هذه الخصوصية بطريقة تتأكد فيها هامشيتها، ويساء فهمها، كما هو شأن مجتمعاتنا وبلداننا الاسلامية التي اذا ارادت ان تصنع حدثاً، فإنها تنطلق لابراز قوة وضخامة الآخر بما قد يسقط ـ نفسياً وواقعياً ـ معالم وعناصر الممانعة الحية لدينا، الأمر الذي سرعان ما يرتد علينا وبالاً ونكالاً. وقد جعل هذا الأمر معظم سياساتنا الداخلية والخارجية سلسلة متواصلة من الأخطاء والكوارث والازمات.
اننا نؤكد مع الكتاب ـ ان الغزو الثقافي مسألة واقعية، لها جذورها وأجواؤها المسيطرة حالياً، ولا نستطيع ان نهرب من مواجهتها، وفيها يتحرك الغرب مدعوماً بأيديولوجية شاملة ـ معززة بسلطات معرفية هائلة، وبمختلف ضروب القوة الثقافية والعسكرية والاقتصادية ـ من اجل تنصيب (ايديولوجية) ـ عن طريق الغزو ـ خياراً وحيداً للبشرية كافة. وبالمقابل نجد أن عالمية حضارتنا وانسانيتها هي مسؤولية خطيرة وجسيمة ملقاة على عاتقنا جميعاً، ولا يمكننا التهرب منها، فأما أن نتحملها، ونحس أداءها، وممارستها ـ على طريق اسقاط مقولات الصراع ومنها مقولة الغزو الثقافي ـ أو ننعزل وننكفئ وننحو باللائمة على الغرب وأهله.
من هنا ينبغي علينا أن نعمل ـ في سياق انتاج القوة الفكرية والعلمية للنهوض بواقعنا ومواجهة الآخر انفاذاً لقوله تعالى: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ..) (14) على أساس أن ننتج حلولاً لقضايا الانسان المعاصر، حتى نستطيع أن نواجه المشكلة بالحلول الواقعية الني نمتلكها من تراثنا ومن واقعنا الراهن، من أجل صنع عالم اسلامي مثقف بالإسلام في ما يحتاجه الاسلام من الثقافة المعاصرة، لأن وجود معرفة وثقافة اسلامية عاشت في مامضى من الزمان لا يكفي للانتقال الى مرحلة حضارية جديدة، لأن المثقفين الاسلاميين في الواقع الثقافي الماضي كانوا يعالجون مشاكل وتحديات ذلك العصر، بما لديهم من ثقافة ومخزون فكري، وقد انتج العصر الحالي مشاكل وقضايا حياتية كثيرة، فلابد لنا أن نعرف كيف يمكن أن نواجه هذه التحديات العصرية المتنوعة بعقلية اسلامية معاصرة، تعرف كيف تنطلق المشكلة، وما هي اهدافها ودوافعها، وطرق علاجها. وهذا الكلام لا يفترض بنا أن نسقط امام العصر، ونخضع لمقولاته وتعقيداته وأجوائه السلبية، بل أن نعرف ماذا في داخله، ليكون لنا حس معاصرته. لأننا إذا عرفنا الداء لابد وأن نعرف الدواء. وهذا أمر لن يتم ما لم نعرف لغة هذا العصر، وذهنيته. وذلك من خلال ان ننزل الى أرض الواقع، ونعايش التجربة الإنسانية الحية في مواقع انطلاقتها وامتداداتها، لا أن نبقى بعيدين عنه (عن العصر)، ومنغلقين على أنفسنا بداعي الحرص الشديد على نقاوتنا وطهارتنا، والحفاظ على اصالتنا وحضارتنا، والخوف الشديد على ذاتنا من غزو الآخر.
ونحن نعتقد ـ استكمالاً للحديث السابق عن أساليب المواجهة ـ ان ممارسة النقد العلمي والموضوعي لافكارنا وممارساتنا العلمية، وذاتنا الحضارية، وتعميق الحس النقدي للانسان المسلم، هو أحد أهم تجليات المواجهة الحضارية المبدعة مع الآخر، لأن بناء حضارتنا لا يقوم فقط ـ كما أكد الكتاب ـ على تضخيم ايجابيات الواقع وغض النظر عن سلبياته الكثيرة، بل يقوم ـ الى جانب تعميق النهج والخطوات الايجابية ـ على قاعدة مواجهة الحياة والواقع بطريقة النقد العقلاني الهادئ والمتوازن، الذي يدفعه الانسان المسلم الى محاكمة الأمور بقوة المنطق والحكمة والتوازن والمسؤولية، لا بمنطق القوة والعاطفة والاتهامات الجاهزة للآخر، ويرشده الى السبل الكفيلة ببناء أسس نقدية واقعية تسمح بنمو ثقافة منتجة جديدة، وقادرة على تقديم الحلول العملية للمشاكل المطروحة حالياً، بما فيها الحل الضروري لازمة انسداد افق التغيير والتحرر، سواء أكان تحرراً عقلياً أم مادياً.-----------------------------
(1) تأليف الإمام السيد علي الخامنئي، ترجمة: خالد توفيق، دار الولاية للثقافة والاعلام، قم ـ 1419هـ  ، 253 ص.
(2) الكتاب، ص 35 ـ 80.
(3) الكتاب، ص 37 ـ 38.
(4) الكتاب، ص 38 ـ 56.
(5) الكتاب، ص 56 ـ 65.
(6) الكتاب، ص 65 ـ 74.
(7) الكتاب، ص 74 ـ 77.
(8) الكتاب، ص 83 ـ 158.
(9) الكتاب، ص 83 ـ 92.
(10) الكتاب، ص 95 ـ 100.
(11) الكتاب، ص 103 ـ 120.
(12) الكتاب، ص 123 ـ 155.
(13) الكتاب، ص 159 ـ 249.
(14) الأنفال: 6.
 
 


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية