مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الموسوعات الفقيه
دراسة مقارنه في المنهج الموسوعي
أ. الشيخ خالد الغفوري
رئيس تحرير مجلة فقه أهل البيت(ع)

تمهيد:
لقد دخل المنهج الموسوعي في التدوين دائرة فقهنا الاسلامي منذ عدّة عقود، وقد نهضت بعض المشـــاريع الفقهية بهذه المهمة وقدّمت بعض الانجازات الموفّقة في هذا السبيل وأحدثت بذلك انعطافاً في منهجية التدوين الفقهي واسلوب العرض، ممّا ساهم كثيراً في نشر وترويج الفكر الفقهي والثقافة الشرعية؛ إذ أن أحد أسباب انحسار المعارف الفقهية عن الساحة العلمية والثقافية هو طريقة التدوين القديمة حيث الاغلاق في العبارات واللغة التخصصية واستعمال المصطلحات التي لا يعرفها إلا ذو الخبرة الفقهية وأيضاً تناثر المعلومات وصعوبة تحصيلها حتى على ذوي الاختصاص الفقهي، واسلوب الكتابة المملّ والمتعب، فإن الطريقة التقليدية في التدوين إمّا أن تتخذ اسلوب الاختصار وضغط العبارات، وإمّا أن تتخذ اسلوب الشرح الموسّع للمتون القديمة المختصرة والتي قد يطغى فيها بيان العبارة على بيان الفكرة والمطلب العلمي. ويندر أن نعثر على تصنيف فقهي يخلو من هذه الايرادات.
ومهما يكن من أمر فقد استطاعت الطريقة الموسوعية في التدوين الفقهي التغلّب على هذه المشكلات وتجاوز هذه العقبات، وحققّت بذلك نجاحات كبيرة، يمكن الاشارة اليها باختصار:
أولاً: لقد كان للتدوين الموسوعي دور ملحوظ في نشر الثقافة الفقهية بين المسلمين، فانه من الواضح حاجة الفرد المسلم الملحّة الى معرفة الاحكام الشرعية، باعتباره مسؤولاً ومكلّفاً يجب عليه امتثال أحكام الله وهو مطالب بتطبيقها، وتطبيق الاحكام يتوقف على معرفتها، فلو لم تعرف تلك الاحكام لتعذّر امتثالها ممّا يؤدي الى تعطيل الشريعة عملياً بشكل كلي أو جزئي.
ثانياً: كما ان التدوين الموسوعي يساهم في تجلية النظام الاسلامي الذي شرّعه الله لعباده، فلو طرحت الاحكام الشرعية بالمستوى الاكاديمي وعبر المنهجية الحديثة، لتيسّر للدول والمجتمعات اعتمادها في قوانينها ودساتيرها، سيما عند مقارنتها بالقوانين الوضعية التي غزت مجال التنظيم والتقنين في بلداننا الاسلامية، وسوف تبرز حينئذٍ نقاط القوة في قوانين الاسلام وتشريعاته، ممّا يمّهد الأرضية لامكانية طرح الاسلام كنظام عالمي ودولي في مواجهة الحضارات المادية.
ثالثاً: ان التدوين الموسوعي يعدّ خطوة في سبيل التقريب بين المذاهب الاسلامية المختلفة، وذلك على صعيدين:
الصعيد الأول: التعـريف بآراء وفتاوى المذاهب الاسلامية ممّا يجعل المتبنيات الفقهية في متناول اليد لكل من اراد الاطلاع عليها، ونحن نعلم علم اليقين أن كثيراً من حالات التنازع والخصومة بين المذاهب الاسلامية ناشئة من الجهـل وعدم المعرفة الكاملة والصحيحة بما تتبناه من نظريات ومواقف فقهية، فقد يعوّل البعض على ما يسمعه أو على ما يقرأه في كتب غير معتبرة فينسب ذلك الى المذاهب الاخرى.
الصعيد الثاني: تحديد نقاط الالتقاء ونقاط التباين في المواقف الفقهية مما يـفتـح آفاقاً جديدة لتصورات الفرد المسلم ونظرته الى أخيه المسلم من اتباع المذاهب الاخرى، نتيجة لما يرى من الاتحاد في الموقف أو شدة القرب أو اتحاد دليل ومدرك الحكم الشرعي، وحينئذٍ سوف تتحسن الصورة التي يحملها المسلم تجاه اخوتـه من سائر المذاهب بسبب اطلاعه على عناصر الوحدة ونقاط الالتقاء واتحاد الفتوى.
رابعاً: ولا يقتصر دور التدوين الموسوعي على تلك الحيثيات، بل سيكون له تأثير كبير على علم الفقه نفسه، فان طرح الشريعة بلغة العصر ستؤدي حتماً الى جرّ الفقه الى الاجواء العصرية والميادين المعاشة ومعالجة قضايا الحياة ومواكبة حركتها، بل يمكن من خلال التدوين الموسوعي طرح إثارات علمية في سبيل فتح أبواب البحث فيها، وتفعيل الذهنية الفقهية في هذا الاطار.
من هنا تبرز ضرورة العمل على إصدار موسوعات الفقه المقارن بين سائر المذاهب وأيضاً موسوعات الفقه المقارن مع الفقه الوضعي.
إذن، فلا نبالغ لو قلنا بأن العمل الموسوعي في الدائرة الفقهية هو عمل تاريخي ومشروع عظيم لا يقاس بغيره من الكتب والتصانيف، ومن المناسب أن تُعقد الدراسات التحليلية لنقد وتقويم التجارب والانجازات الموسوعية في عالمنا الاسلامي من الناحية المنهجية ومن الناحية المضمونية. وهذا المقال في الواقـع يعبّر عن خطوة في هذا المجال نأمل أن تلحقها خطوات أوسع وأشمل، ولا يخفى أن استيعاب الموسوعات جميعاً لا يتيسّر لي كفرد، من هنا اقتصرت على دراسة ثلاثة نماذج موسوعية مهمة:
الاولى:موسوعة جمال عبدالناصر التي صدر أول أجزائها عام 1386هـ وتجاوزت أجزاؤها العشرين، وهي موسوعة فقه مقارن توفّرت على التعرّض لآراء المذاهب التالية: 1- الحنفية 2- المالكية 3- الشافعية 4- الحنابلة 5- الشيعة الامامية 6- الزيدية 7- الاباضية 8- الظاهرية.
وقد شرعت بعنوان (آبد)
الثانية: الموسوعة الكويتية التي صدر أول أجزائها عام 1400هـ، وبلغت اجزاؤها الاربعين ولا يزال العمل مستمراً لاصدار الاجزاء الباقية وهي موسوعة اقتصرت على عرض آراء المذاهب الاربعة فقط:
1- الحنفية 2- المالكية 3- الشافعية 4- الحنابلة.
وقد شرعت بعنوان (ائمة).
الثالثة:موسوعة الفقه الاسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) التي صدر أول اجزائها أخيراً ـ 1423هـ ـ وستتلوه أجزاءاً اخرى، وقد دوّنت لعرض الآراء الفقهية لمذهب الامامية، وإن تعرّضت ضمناً إلى آراء سائر المذاهب كما سنشير إلى ذلك. ولعلّ من السابق لأوانه نقد وتقويم هذه الموسوعة بصورة دقيقة ولمّا يصدر عدد معتدّ به من الاجزاء، إلاّ أن هناك مؤشّرات كثيرة وامتيازات بارزة توفّرت عليها يمكن استلال نظرة إجمالية من خلالها.
وقد شرعت بعنوان (ائمة).مسؤولية هذه الدراسة:
ليس المراد من هذه الدراسة هو المقارنة مع جميع الجهات المضمونية والمنهجية، بل ان دائرة البحث في هذه الدراسة هو تحليل عناصر المنهج في كل واحدة من هذه الموسوعات من خلال المقارنة بينها، والهدف من ذلك هو تنضيج العمل الموسوعي في الدائرة الفقهية؛ وذلك عن طريق تحديد عناصر القوة وعناصر الضعف في المنهج المعتمد في التدوين الموسوعي.
وسنطرح هذه الدراسة المقارنة ضمن النقاط التالية:
النقطة الأولى: استيعاب المصطلحات:
اشتملت موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع) على(24) مصطلحاً.
في حين قابلها في موسوعة عبدالناصر (8) مصطلحات، وفي الموسوعة الكويتية(19) مصطلحاً.
النقطة الثانية: الضابطة في انتخاب المصطلح:
إنّ انتخاب العنوان ليس أمراً عشوائياً، بل يخضع لضوابط معيّنة كما اُشير إلى ذلك في مقدمة موسوعة الفقه الإسلامي طبقاًلمذهب أهل البيت (ع) ويلمس القارئ هذه الدقة في الانتخاب من خلال العناوين التي وردت في المجلّد الأول.
في حين نرى أنّ كلاً من موسوعة عبدالناصر والموسوعة الكويتية قد اشتملت على بعض العناوين التي لا تصلح أن تكون مفاتيح ومداخل للأبحاث الفقهية، أي أنّها تفقد صفة العنوانية، من قبيل لفظة (آل) التي وردت في الموسوعتين(1)؛ فإنّها كسائر الألفاظ الاُخرى التي لا خصوصية لها، ومجرّد وقوعها في (الوقف) أو (الوصية) لا يكفي لعنوانيتها، وكذلك مثل لفظ (قوم) و(بنو فلان).
هذا في الوقت الذي لا يعطى للفظ (آل البيت) أو (آل محمد) سمة العنوانية الذي لا شك في صلاحيته لذلك؛ باعتبار أن له منشأً قرآنياً وحديثياً وفقهياً، إضافة الى كونه مصطلحاً إسلامياً مأنوساً في الأذهان.
وأيضاً ورد في الموسوعة الكويتية عنوان (آداب الخلاء)(2)، ومن الواضح أنّ الآداب الواردة في الفقه كثيرة وتشمل أكثر أبواب الفقه ولا ميزة لـ(آداب الخلاء) عن (آداب البيع والشراء) و(آداب السفر)...
فالمناسب هو ما ورد في موسوعة الفقه الاسلامي طبقاً لمذهب أهل
البيت(ع) حيث جعل العنوان مطلقاً، وهو (آداب)(3).
وكذلك ورد في موسوعة عبدالناصر عنوان (آسن) مع إهمال عنوان (آجن) الذي هو الأشهر.
النقطة الثالثة: تقسيم المصطلحات:
إنّ عملية تصنيف المصطحات تصنيفاً ثنائياً أو ثلاثياً أو رباعياً لا بدّ من اعتمادها على بعض الاُسس، وإلاّ لفقدت السمة المنهجية حينئذٍ، وقد امتازت موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) بتصنيف دقيق قد بيّنت خلفياته مسبقاً في المقدمة.
في حين نــرى أنّ الموسوعة الكويتية قد عمدت إلى بعض العناوين فجعلته عنواناً أصلياً أو فرعياً، في حين كان الأنسب جعله من قسم عناوين الدلالة، من قبيل عنوان (آباء)(4)؛ فإنّ المطالع لهذا البحث لا يرى أية مناسبة لإفراده، والطريقة المنهجية تقتضي إرجاع البحث في (آباء) بشكل كامل الى عنوان (أب).
وكذلك حينما نطالع عنوان (آبار)(5) الذي لم يظهر لنا أيّة مناسبة لانتخاب صيغة الجمع هنا؛ فان الذوق يقتضي إرجاع هذا البحث بصورة كاملة الى عنوان (بئر) كما هو واضح.
مضافاً إلى أنّنا قد عثرنا على بعض الموارد التي اُرجع فيها البحث الى عناوين لم ترد في المجلّدات الاُخرى، من قبيل (آكلة)(6) التي اُحيل البحث فيها إلى عنوان (أكِلة) الذي لم يرد أصلاً في الموسوعة، بل ورد عنوان (أكولة) وهو لا ربط له بـ(آكلة) كما هو واضح، ولعلّ ذلك كان عن غفلة وسهو.
وأما موسوعة عبد الناصر فلم تهتمّ بتقسيم العناوين، بل تعاملت مع العنوانية تعاملاً واحداً واعتبرتها أصلية، واستوعبت البحث في كل عنوان يُذكر، وهناك إحالات في موارد نادرة جدّاً.
ولا يخفى أنّ هذا يعتبــر خـللاً منهجياً كبيراً ابتليت به (موسوعة عبدالناصر)، في حين حاولت الموسوعة الكويتية التخلّص من هذا الإشكال إجمالاً مع قطع النظر عن الملاحظات التي أوردناها.
ونحن نرى أن موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع) كانت موفقة جدّاً في مراعاة هذه الضوابط المنهجية.النقطة الرابعة: هيكلية البحوث:
إنّ ممّا تمتاز به الطريقة الموسوعية في التدوين مسألة تنظيم المطالب داخل البحث الواحد ضمن هيكلية فنّية، ونحن نلاحظ أن موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) قد توفّرت على هيكلية رائعة وممتازة، حيث تتجلّى فيها الجامعية لكل الفروع والمطالب الفقهية، والأساس العلمي الذي على ضوئه توزّعت تلك المباحث. ولنختر بعض النماذج التي من خلالها يمكن تلمّس هذه الخصوصيات.
النموذج الأول:
ورد في بحث (آنية) تحت فقرة (ثانياً ـ الأحكام) ما يلي:
تقع الآنية مورداً لأحكام فقهية عديدة يمكن تقسيمها:
تارة من حيث الموضوع إلى ما يتعلّق بالآنية من حيث المادة، أي بالنظر إلى ذاتها، وما صُنعت منه، ككونها من الذهب والفضة أو المواد النفطية أو غير ذلك، وإلى ما يتعلّق بالآنية من حيث الحالات الطارئة عليها كتنجّسها أو غصبيتها، وإلى ما يتعلّق بالآنية من حيث هي.
واُخرى من حيث نوع الحكم الى حكم استعمالها وحكم الاقتناء لها أو التزيين بها، أو تعلّق الزكاة بها وغير ذلك.
وفيما يلي نسير في البحث طبق التقسيم الأوّل:
فنبحث أولاً عن أحكام الآنية بالنظر إلى ذاتها: تارة من حيث استعمالها، واُخرى من حيث سائر الأحكام.
ثم نبحث ثانياً عن أحكام الآنية من حيث الحالات الطارئة عليها.
ثم نبحث ثالثاً عن جملة من آداب الآنية من حيث هي (7).
لكن عندما نقارن ذلك بما ورد في الموسوعتين يتجلّى لنا الفرق بوضوح:
أمّا موسوعة عبدالناصر فقد شرع في بحث (آنية)(8) ببيان (مدلول الكلمة) ثم فقرة (أحكام استعمال الآنية) التي ضمّت عدّة فروع لم تفرز عن بعضها ولم تفرد بعنوان خاص. واختتم البحث بفقرة (اختلاط الأواني)، وانتهى كل شيء.
وأما الموسوعة الكويتية فنرى بحث (آنية)(9) قد اشتمل على الفقرات التالية:
(أولاً ـ التعريف)، (ثانياً ـ أحكام الآنية من حيث استعمالها) وبحث فيه أنواع الآنية ثم آنية غير المسلمين، ثم (ثالثاً ـ حكم اقتناء آنية الذهب والفضة)، و(رابعاً ـ حكم إتلاف آنية الذهب والفضة)، و(خامساً ـ زكاة آنية الذهب والفضة).
وهذه الهيكلية وإن كانت أفضل بكثير مما ورد في موسوعة عبدالناصر، إلاّ أننا نلاحظ عليها ما يلي:
1- ورد في النوع السابع: عنوان (الأواني من غير ما سبق)، وهو ليس عنواناً فنياً ولا يلجأ إليه إلاّ عندما تضيق السبل، مضافاً إلى أنّه هناك تداخل واضح بينه وبين النوع الرابع: (الآنية النفيسة من غير الذهب والفضة).
2- تقسيم الآنية النفيسة إلى قسمين: أ ـ النفيسة لذاتها. ب ـ النفيسة لصنعتها.
وهذا يرد عليه ـ مضافاً إلى عدم كون القسمة حاصرة ـ أنّ هذا التقسيم لا ينسجم مع التقسيم الأصلي، حيث عقد العنوان لبيان أحكام الآنية بالنظر إلى ذاتها (مادتها).
3- انّ الفقرات الثالثة والرابعة والخامسة تختص ببيان أحكام نوع خاص من الآنية وهو آنية الذهب والفضة، فهذه الفقرات ليست في عرض النقطتين الاُولى والثانية.
النموذج الثاني:
ورد في موسوعة الفقه الاسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) تحت عنوان (آلات)(10) الفقرات التالية:
(أولاً ـ التعريف) و(ثانياً ـ الحكم الإجمالي) ويتفرّع إلى قسمين: أ ـ بيان كلّي لأحكام الآلات بصورة عامّة. ب ـ بيان الأحكام الإجمالية للآلات بحسب العناوين الخاصّة، وقد اُورد تحت ذلك (21) عنواناً خاصاً.
في حين اشتمل بحث (آلة) في موسوعة عبدالناصر(11) على (5) عناوين خاصّة، فقط.
وأما الموسوعة الكويتية(12) فقد تضمّنت الفقرات التالية: (التعريف)، ثم (الحكم التكليفي لاستعمال الآلات)، ثم (آلات العمل وزكاتها)، ثم (آلة العدوان وأثرها في تحديد نوع الجناية).
ونلاحظ على منهجية الموسوعة الكويتية بخصوص هذا العنوان ما يلي:
1- أنّ ترقيم الفقرات بدأ بعد التعريف، في حين أن الترقيم في بحث (آنية) بدأ من التعريف لا بعده، حيث ورد: (أولاً: التعريف:).
2- ورد تحت فقرة (الحكم التكليفي لاستعمال الآلات) [الفرع ب ]، وقد اُشير فيه إلى حكم بيع السلاح، وهذا ليس استعمالاً كما هو واضح، فليس من الصحيح إدراجه تحت العنوان المتقدّم. وكذا الكلام في [الفرع د]؛ إذ ذكر المنع من بيع آلة العلم، وهذا لا علاقة له بالاستعمال.
3- اُشير إلى (5) عناوين خاصة من عناوين الآلات، هذا العدد قليل كما هو واضح، ولعلّ المراد الإشارة إلى أهمها.
4- كما أنّ الفقرتين الثانية والثالثة ـ وهما (آلات العمل وزكاتها) و(آلة العدوان وأثرها في تحديد نوع الجناية) ـ لا داعي لإفرادهما بل كان من المناسب إدارجهما بعد العناوين الخمسة المتقدّمة.
النموذج الثالث:
ورد في الموسوعة الكويتية عنوان (آبار)(13)، وقد قُسّم البحث فيه إلى ستة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الآبار وبيان أحكامها العامة.
المبحث الثاني: حفر الآبار لإحياء الموات وتعلّق حق الناس بمائها.
المبحث الثالث: حد الكثرة في ماء البئر، وأثر اختلاطه بطاهر، وانغماس آدمي فيه طاهر أو به نجاسة.
المبحث الرابع: أثر وقوع حيوان في البئر.
المبحث الخامس: تطهير الآبار وحكم تغويرها.
المبحث السادس: آبار لها أحكام خاصة.
ونلاحظ على ذلك ما يلي:
1- انّ تقسيم المقالة إلى مباحث هو أشبه ما يكون بالكتاب، ولا يُلجأ إلى ذلك إلاّ عند الاضطرار.
2- لقــد جمع في (المبحث الأول) بين التعريف والأحكام، وهــذا جمع بين أمــــــرين لا جامع بينهما.
3- لم يبيّن تحت هذا العنوان الأحكام العامة، بل اُشير الى بعض الأحكام.
4- إنّ المباحث الاُخرى عبارة عن بيان للأحكام أيضاً، فما هو الوجه في إفرادها وجعلها في مقابل المبحث الأول، إلاّ إذا كان المراد هو ذكر الأحكام مفصّلاً، غير أنّه كان ينبغي التصريح بذلك.
5- في المبحث الثالث يبدو أن الكاتب قد وقع في حرج وضيق شديدين، فلم يستطع أن ينتخب عنواناً مختصراً معبّراً عن الأحكام التي يراد ذكرها.
النموذج الرابع:
ورد في الموسوعة الكويتية مصطلح (آل)(14)، والملاحظ أن المنهجية التي اتبعت فيه شبيهة الى حدّ ما ببحث (آبار) من حيث تقسيم المقال إلى خمسة مباحث، ويمكن التعليق على ذلك بما يلي:
1- ورد في (المبحث الثاني: أحكام الآل في الوقف والوصية) عنوان: (المراد بآل محمد (ص) عامّة)، وتلته أربعة عناوين ترتبط بآل البيت، وكلّ هذه العناوين الخمسة لا ربـط لها بالمبحث الثاني. هذا في الوقت الذي يخصّص المبحث الثالث (لمـوالي آل البيت والصـدقات) ويليه عنوانان (دفع الهاشمي زكاته لهاشمي) و(عمالة الهاشمي على الصدقة بأجر منها)، ولا ربط لهذين العنوانين بالمبحث الثالث. وأيضاً تلت المبحث الخامس (الصلاة على آل النبي(ص) ) ثلاثة عناوين هي في مستوى هذا العنوان فلا داعي لالحاقها تحته.
2- ان مجموع بحث (آل) استوعب (9.5) صفحة، وما يقرب من (7) صفحات منه ترتبط بالأحكام المتعلّقة بـ(آل البيت)، فلا أدري لماذا لم يفرد (آل البيت) بعنوان مستقلّ إمّا بجعله مصطلحاً مستقلاً، أو على الأقلّ عنونة إحدى الفقرات بـ(الأحكام المتعلقة بآل البيت)؟
3- لقد وردت فقرتان: الاُولى: (المراد بآل محمد (ع) عامّة)، والثانية: (آل محمد(ص) الذين لهم أحكام خاصّة). فهل المراد أنّ من تقدّم ذكرهم في الفقرة الأولى لا حكم خاصاً لهم وأنّ المذكورين في الفقرة الثانية هم الذين لهم أحكام خاصة؟
علماً بأنّ المذكورين في الفقرتين هم (آل علي وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث) إلاّ أنّه اُضيف إليهم في الاُولى (آل أبي لهب).
وفي الثانية اُضيف اليهم الموالي والأزواج مع عدم الاتفاق على ذلك.
ثم إنّ الحكم المذكور في الفقرة الثانية هو حرمة الصدقة، وهذا ما عقد له الكاتب عنواناً خاصاً في الفقرة التي تلي هذه الفقرة بلفظ (حكم أخذ آل البيت من الصدقة)، وهذا اضطراب وتشويش غريب.
4- كان الأنسب أن يقسم البحث حول (آل البيت) إلى البحث المفهومي حول المراد بهذا المصطلح، وإلى بحث الأحكام المتعلقة بهم كما ورد في موسوعة الفقه الاسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع).
النقطة الخامسة: وحدة السياق:
لقد اتّسمت موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع) بوحدة السياق والخطة المعتمدة في ترتيب وصياغة البحوث؛ حيث يبدأ كل مقال أولاً ببيان الأبحاث التصـورية، وهي التعـريف وما يلحقه من أبحاث، وثانياً بيان الأبحاث التصديقية من الأحكام الشرعية وما يلحق بها من أبحاث.
وكل واحد من هذه الأبحاث مقسّم إلى وحدات أدقّ، فالأبحاث التصورية تبدأ عادة بالتعريف الذي بدوره ينحلّ إلى التعريف اللّغوي والتعريف الإصطلاحي، وربما استلزم الأمر بيان بعض الإيضاحات، كما ورد ذلك في بحث (آنية) حيث ذكـر تحت فقرة (إيضاحات): أربع نقاط في سبيل الإحاطة بكلّ زوايا الموضوع الذي يراد بيانه وتعريفه بشكل كامل. ومن هذا القبيل أيضاً ماورد في بحث (أئمة) تحت فقرة (أسماء الأئمة وتأريخهم)؛ إذ أنّ الغرض هو بيان المصطلح بشكل تام، وقد بيّن بوضوح السبب في ذكر هذه الفقرة، وما هو الارتباط بينها وبين ما تقدّم، وما هي علاقتها بالبحث الفقهي. ولننقل ما جاء من بيان تحـت هذه الفقـرة: لقـد أوضحنا أنّ الأئمة بالمعنى الخـاص قد حُدّد شـرعاً على نحـو القضية الخارجية، فلابدّ من بيان مصاديق هذا المفهوم التي تنحصر في الأئمة الاثـني عشر(ع)، وقد نصّ النبي (ص) على أنّ عدد الأئمة الذين يلون من بعده إثنا عشر ـ كما روى عنه ذلك أصحاب الصحاح والمسانيد ـ ... (15).
وأيضاً نطالع فقرة (الألفاظ ذات الصلة) التي يؤتى بها عادة في سبيل الكشف عن المعنى المبحوث عنه بشكل أكثر جلاءً؛ لذاً نرى حالة الربط بين هذه الألفاظ وبين العنوان الرئيسي، فنطالع في بحث (آداب) في فقرة (الألفاظ ذات الصلة) المقارنة المعقودة بين الآداب وبين الأخلاق، وأيضاً بينها وبين السنن، وبينها وبين الحِكَم والعِلَل.
وإليك ـ كنموذج ـ المقارنة الاُولى: الأخلاق: وهي قد تطلق بمعنى الأفعال والآداب الحسنة، وبهذا فهي قد ترادف الآداب بالمعنى اللّغوي أو تكون قسماً منها، وقد تطلق بمعنى الملكات النفسانية الراسخة في النفس فتكون هي منشأ الآداب ومقتضيها (16).
وهذه المنهجية وإن لاحظناها في الموسوعة الكويتية أيضاً إلاّ أنها ليست بذلك المستوى من العمق والدقّة، كما أنّ المُراجع يحس بالتفاوت الكبير بين منهجية البحث من عنوان لآخر، كما أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدّم.النقطة السادسة: بيان العنوان والمصطلح:
إن الموسوعة ـ أي موسوعة ـ بالمفهوم العصري تتركّب عادة من عنصرين: العناوين، والبحوث. والعناوين في الحقيقة لها دور هام باعتبارها مفاتيح ومداخل للوصول إلى المعلومة المطلوبة، فهي طريق موصل إلى المطلوب.
ولا تشذّ موسوعة الفقه عن هذا الأمر، بل يتأكّد دور العناوين والمصطلحات فيها أكثر من الموسوعات المختصّة بسائر المعارف والعلوم؛ لكون العنوان غالباً ما يقع موضوعاً لحكم شرعي، فيكتسب قيمة وأهمية اُخرى. فلابدّ من بيان دائرة المفهوم والمصطلح الذي جعل نافذة وباباً للدخول إلى المعلومات الفقهية.
من هنا نجد العناية الفائقة التي أولتها موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع) لبحث العنوان وبيان تعريفه لغة واصطلاحاً، وما هي العلاقة بين المعنيين، وهل هناك معنى اصطلاحي أو لا؟
والبتّ فـي مثل هذه المسائل يتوقّف على الأدلّة والشواهد والغوص في موارد الاستعمال اللّغوي والفقهي. فبيان التعريف هو عملية علمية وليس الإتيان به للتبرّك أو مماشاة مع الموسوعات الاُخرى.
ونرى أيضاً الحرص على استيعاب البحث اللغوي من ناحية الأصل اللّغوي والصيغة والمعنى. ولنأخذ نموذجين لذلك:
النموذج الأول:
لقد جاء في تعريف (الآداب) لغة مايلي: وأمّا معنى الأدب فقد ذكروه بعدّة بيانات، منها:
1- الظرف وحسن التناول، وقد ذكره الفيروز آبادي.
2- ملكة تعصم من قامت به عما يشينه، حكاه في تاج العروس عن شيخه.
3- انّه يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الانسان في فضيلة من الفضائل، قاله أبو زيد.
4- استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً، أو الأخذ، أو الوقوف مع المستحسنات، أو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك، حكي عن التوشيح.
5- حسن الأخلاق وفعل المكارم، حكي عن الجواليقي.
6- أدب النفس والدرس، ذكره البطليوسي.
ثم يجتهد الكاتب في إعطاء نتيجة للقارئ ليمهّد بذلك مقدّمات بحثه، فيقول: وأدق هذه التعابير أولها، بل أشملها كما نبّه عليه في تاج العروس. فحقيقة الأدب هي الظرافة في الأداء وحسن التناول، وأما سائر التعابير فهي إمّا بيان للأثر، أو بيان لموارد الاستعمال، وليست معاني في مقابل ما ذكره من قبيل إطلاق الآداب علـى علوم العربية وإن كان هذا الإطلاق مولّداً حدثَ بعد الإسلام؛ لذا قيل في تعريف الأدب: انه علم يُحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظاً أو كتابة.
وعلوم الأدب عند المتقدّمين اُصولها: اللّغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والعَروض والقافية. وفروعها: الخط والإنشاء والمحاضرات والبديع.
ثم أضاف: وقد يراد بالآداب مطلق علوم اللّغة حتى غير العربية، بل قد تطلق على سائر العلوم أو على خصوص المستظرف منها؛ ولعل المناسبة في هذا الإطلاق والحيثية الملحوظة فيه هي ظرافة الكلام وحسن أدائه، لذا قيل في تعريفه: بأنّه عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.. كما أنّ إطلاق التأديب على تعليم الآداب ـ بإطلاقاتها المختلفة سعة وضيقاً ـ وعلى التهذيب، وعلى العقوبة والمجازاة على الاساءة، يتناسب مع الظرافة أيضاً؛ لما يترتّب على ذلك من الظرافة، وإن أمكن إرجاعه إلى الدعاء.
وبعد أن يتصدّى الكاتب لبيان المعنى الإصطلاحي في بحث يربو على الثلاث صفحات يقول: ويتلخصّ من مجموع ما تقدّم: أنّ الإطلاق الشائع في الفقه للآداب يراد به ـ خصوصاً عند إضافتها إلى عنوان من العناوين الواقعة متعلّقاً لحكم شرعي ـ ما يكون به كمال ذلك العنوان وحسنه ومطلوبيته شرعاً، وهذا يعني أخذ حيثيتين في مفهومه:
أ ـ أن يكون الأدب بهذا المعنى إضافياً؛ أي صفة وهيئة لفعل أو موضوع شرعي.
ب ـ أن يكون دخيلاً في كمال ذلك العنوان وحسنه ومطلوبيته شرعاً، سواء كان إلزامياً أو غير إلزامي (17).
ولا اُريد التعليق على هذا النموذج فإنّه حافل بالنقاط الجديرة بتسليط الأضواء عليها، وإنّما أقول: إنّ هذا الاعتناء الشديد يعتبر خدمة كبيرة ليس في حدود علم الفقه فحسب بل للّغة العربية أيضاً؛ إذ من الصعب تحصيل هذه المعلومات اللّغوية في معجم أوقاموس أو أيّ موسوعة لغوية اُخرى.
النموذج الثاني:
(آل البيت)(18)، حيث خصّصـت (16) صفحـة لبحـث التعريف لغة واصطلاحاً، وبُيّنت الأحكام بصورة إجمالية ضمن نصف صفحة فقط.
والسـبب هو أن المسألة المهمة هنا هي بيان المراد من هذه اللفظة الذي كان محلاً للخلاف بين الطائفتين الشيعة والسنّة. فقد جاء في بيان المعنى الإصطلاحي ما يلي: المراد من (آل البيت) لدى المسلمين بصورة عامّة هم آل بيت النبي (ع)، وقد ثبتت لهم بعض الخصوصيات والأحكام، وليس المراد بيت السكنى، بل المراد بيت النسب. ولكن وقع خلاف بين الإمامية وأهل السنة في تحديد دائرة هذا المفهوم خارجاً وتعيين مصاديقه. وسيتضح أنّ هناك قدراً مسلّماً ومتفقاً عليه، وهم أصحاب الكساء الخمسة، لكن الاختلاف في دخول غيرهم معهم.
ثم يواصل الباحث بحثه في بيان المراد بهذه اللفظة، حيث عقد فقرتين: الاُولى (موقف الإمامية)، والثانية (موقف أهل السنة). وذكر (9) إتجاهات لأهل السنّة في ذلك، وينطوي تحت الإتجاه السادس منها أربعة أقوال، فيصبح مجموع الآراء في المراد بـ (آل البيت) لدى أهل السنة (12) قولاً.
وسلك الباحث هنا مسلكاً منطقياً في بيان كلّ قول؛ حيث تعرّض إلى الأدلّة التي يبتني عليها كلّ قول، وما يمكن أن يورد على ذلك من مناقشات.
والذي أستهدفه من إيراد هذا النموذج هو التأكيد على أنّ ادّعاءَ معنى اصطلاحي ما، مسألة علمية تحتاج إلى إثبات وإلى برهنة، وبيان المعنى الإصطلاحي سلباً أو إيجاباً لا تقلّ عن الإفتاء وبيان الأحكام؛ لاننا ذكرنا أن كثيراً من هذه العناوين متعلَّقة للأحكام الشرعية.النقطة السابعة: استيعاب المطالب:
وهذه الميزة ظاهرة للعيان في موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل
البيت(ع)، وخيـر مصداق لذلك بحث (آنية) الذي استوعب (175) صفحة، ممّا يوفّر جهداً على الباحثين، ويكفيهم مؤونة البحث عن المصادر والمعلومات المتناثرة.
بينما لم يستوعب بحث (آنية) في الموسوعة الكويتية أكثر من (25, 7) صفحة. في حين استوعب في موسوعة عبدالناصر (5, 9) صفحة فقط.
النقطة الثامنة : الخلفية التأريخية للمسائل الفقهية:
لقد توفّرت موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع) على بيان تاريخ المسألة الفقهية، ومتى بدأت، وكيف طرحت أولاً، ثم ماهي التطورات التي طرأت عليها، ودعم ذلك بالأدلّة والشواهد. ولم نر مثل هذا الاهتمام في الأوساط العلمية التقليدية (الحوزوية) ولا الأوساط الأكاديمية.
ولنورد أحد النماذج الذي استعرض فيه السير التأريخي لإحدى المسائل الفقهية، وهي حكم استعمال آنية الذهب والفضة، فقد بين تطور هذه المسألة ضمن خمس محطّات، هي:
1- مرحلة ما قبل الشيخ الطوسي، فإنّ الفقهاء المتقدمين يصرّحون بحرمة الأكل والشرب، ولم يتعرّضوا لحكم سائر الاستعمالات.
2- والشيخ الطوسي هو أوّل من صرّح بحرمة مطلق الاستعمال بل وحرمة الاقتناء أيضاً، وتبعه من تلاه. نعم، ما يذكره السيد الرضي قد يكشف عن وجود مثل هذا الموقف قبل الشيخ.
3- هذا وقد تردّد المحقق الحلّي في حرمة اتخاذها لغير الاستعمال كالاقتناء والادّخار أوّلاً ثمّ اختار المنع، وكذا العلاّمة. لكن بقي الموقف بالنسبة إلى الاستعمال كما هو؛ ومن هنا ادّعي عدم الخلاف في حرمة مطلق الاستعمال.
4- وما أن جاء دور المحقّق الأردبيلي حتى نراه يستحسن القول بكراهة الاستعمال لولا أن ذلك يصطدم بالإجماع وظهور بعض الأخبار، إلاّ أنّ المتيقن منها الاستعمال، لا مطلق الاتخاذ والقنية، وإن كان مقتضى الاحتياط فيه الترك أيضاً. ونلمس أثر هذا التشكيك على أتباعه كالسبزواري، وكذا نلمس أثر ذلك على المجلسي.
5- ولم تؤثّر هذه التشكيكات على نظر المشهور، بل استمرت الفتوى بحرمة مطلق الاستعمال حتى جاء دور المعاصرين، فحصر نزرٌ منهم الحرمة في الأكل والشرب وأجاز سائر الاستعمالات ـ وإن احتاط بعضم في ذلك ـ في حين تابع البعض الآخر ما هو المتعارف من إطلاق التحريم لسائر الاستعمالات(19).
ومن الجدير ذكره أنّ تسليط الأضواء الكاشفة على الجانب التأريخي للمسألة يفتح آفاقاً واسعة أمام الباحث والمحقق في الجانب الفقهي، ومن خلال ذلك يمكن امتلاك نظرة أكثر واقعية في تقييم النظريات الفقهية ومدى تأثر الفقهاء بعضهم بالبعض الآخر.النقطة التاسعة: الموضوعية:
على الرغم من أنّ منطقة البحث في موسوعة الفقه الإسلامي هو بيان الأحكام في دائرة مذهب أهل البيت(ع) كما هو واضح من اسم الكتاب، إلاّ أنّ الباحثين لم يألوا جهداً في بيان الموقف الفقهي للمذاهب الإسلامية الاُخرى، فقد جاء في بحث (آمين): ذهب العامّة إلى أنّ التأمين عقب الحمد في الصلاة سنّة، وذهب بعضهم إلى وجوبه على الإمام في الصلاة الجهرية، وأمّا فقهاؤنا فقد اتّفقت كلمتهم على عدم كونه سنّة، بل عدم مشروعيته في الصلاة، حتى أصبح ذلك موقفاً واضحاً للمذهب (20).
وأيضاً جاء في بحث (آجن) الاستدلال بالإجماع على طهارة ومطهريّة الماء الآجن، وأنّه لا خلاف في ذلك بين المسلمين، إلاّ من إبن سيرين فمنع منه(21).
وكذلك نرى في البحث نفس الاستدلال بما رواه الجمهور من أنّ النبي (ص) توضّأ من بئر بضاعة(22).
وأيضاً نطالع في بحث (آنية) ما يلي: لاشكّ في أنّ استعمالها ] آنية الذهب والفضة[ في الجملة محظور لذاته عند جميع المذاهب المعروفة.
ثم أشار إلى خلاف داود حيث حرّم الشرب خاصة(23).
وفي بيان حكم ولوغ الكلب ورد ما يلي: وعلى أيّة حال فلا كلام عندنا وعند أكثر الفقهاء من العامّة في نجاسة الكلب عيناً ونجاسة سؤره ونجاسة الإناء الذي ولغ فيه...
ثم حكى بأن ذلك هو قول أكثر أهل العلم إلاّ من شذّ، وبه قال في الصحابة علي(ع) وابن عباس وأبو هـريـرة. وروي ذلـك عن عروة بن الزبير، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور وأبي عبيد وأحمد.
وبعد ذلك نقل عن الزهري ومالك وداود وابن المنذر القول بطهارة الماء الذي ولغ فيه الكلب(24).
وبصورة عامة نرى الاهتمام بآراء المذاهب الاُخرى وعدم الاقتصار على بيان موقف الإمامية ـ بالرغم من أن الكتاب لم يقصد منه الدراسة المقارنة ولا العموم والإطلاق ـ بحيث لا تكاد تجد مسألة تخلو من الإشارة إلى رأي أهل السنة.
وفي قبال ذلك نرى الموسوعة الكويتية التي تحمل عنواناً مطلقاً (الموسوعة الفقهية) قد اقتصرت على المذاهب الأربعة وأهملت الفقه الإمامي وفقه سائر المذاهب الاسلامية الاُخرى بشكل تام ولم يشر إليها من قريب أو من بعيد ولا في مسألة واحدة.
وممّا يثير العجب أنّ الكاتب عندما يعالج مسألة (إقفال باب الاجتهاد) تراه يخالف المذاهب الأربعة المعروفة ويوافق في ذلك رأي الإمامية، ومع ذلك تغافل عن الإشارة الى مذهب الإمامية الذي تفرّد بالقول بفتح باب الاجتهاد، حيث كتب يقول: والذي ندين الله عليه أنّه لابدّ أن يكون في الاُمة علماء متخصصون، على علم بكتاب الله وسنة رسوله ومواطن الإجماع.. لترجع إليهم الاُمة فيما نزل بها من أحداث وما يجدّ من نوازل...
وأضاف: ولكنا نقول: إن القول بحرمة الاجتهاد وإقفال بابــه جملـــة وتفصيلاً لا يتّفق مع الشريعة نصاً وروحاً، وإنما القولة الصحيحة هي إباحته، بل وجوبه على من توفّرت فيه شروطه؛ لأن الامة في حاجة إلى معرفة الاحكام الشرعية فيما جدّ من أحداث لم تقع في العصور القديمة (25).
وبالرغم من الجرأة الأدبية التي توفّر عليها الكاتب حيث دفعته غيرته الدينية الى قول الحق واختيار ما أدّى اليه فهمه واستنباطه من الأدّلة الشرعية، وهذه مبادرة شجاعة تستحق الإكبار والثناء.
بيد أنه كان من المتوقع منه أن يعزّز موقفه هذا بموقف مذهب أهل
البيت (ع) بهذا الشأن؛ لكي لا يكون موقفه بدعة وقولاً شاذاً لدى المسلمين، فلماذا تجاهل عن عمد التنويه لذلك؟
وهذا أمر ينبغي أن يتنـزّه عنه الفقيه والباحث في الفقه الاسلامي.
أجل، قد تحلّت موسوعة عبدالناصر بالانفتاح على سائر المذاهب بالمقدار المتيسّر لها؛ باعتبارها موسوعة مقارنة.النقطة العاشرة: مستوى البحث:
لقد تميّزت موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع) بأنّها قدّمت البحوث الفقهية على مستوى عال من ناحية بيان الأحكام وكذلك من ناحية بيان الاستدلال والمطارحات، وأيضاً من ناحية انعكاس الاتجاهات والنظريات الفقهية المتعدّدة، ولم تتوقّف في حدود البيان السريع والإجمالي.
بخلاف موسوعة عبدالناصر والموسوعة الكويتية التي قدّمت بحوثها بمستوى أدنى.
وليس الغرض من ذلك نقد الموسوعتين، فإنّ المخاطب فيهما يختلف عن موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع) وإنما المراد الإشارة إلى هذه الميزة فحسب؛ فإن الموسوعة الأخيرة استهدفت المخاطب الذي هو في أعلى درجات التخصص، وإنْ كان السعي فيها هو تبسيط العبارات وسهولة البيان؛ فقد تميّزت أبحاث هذه الموسوعة بالمسحة الاجتهادية. ولنذكر نموذجين لذلك:النموذج الأول: عمق الاستدلال:
ولنأخذ عنوان (التطهير بآنية الذهب والفضّة) كنموذج لبلورة تصورٍ لمدى العمق الذي توفّرت عليه الموسوعة:
أوّلاً: تقسيم الاتجاهات الفقهية وحصرها في خمس، وهي:
1- الصحة مطلقا.
2- البطلان مطلقا.
3- التفصيل بين الارتماس وغيره.
4- التفصيل بين صورة الانحصار فالبطلان مطلقاً وبين عدم الانحصار حيث الصحة إذا كان بنحو الارتماس.
5- التفصيل السابق مع إلحاق صورة الصبّ بالارتماس.
ثانياً: بيان المباني الفنّية لهذه الأقوال المختلفة؛ حيث ورد ما يلي:
اً- إنّ مبنى القول الأوّل يمكن أن يكون أحد وجهين:
الوجه الأوّل: أن يكون المحرّم خصوص استعمال الآنيتين في الأكل والشرب، لا مطلقاً...
الوجه الثاني: ويتوقف على قبول أمرين:
الأوّل: أن يدّعى أنّ عنوان الاستعمال المحرّم غير متّحد في الوجود مع ما هو محقق التطهير من الغسل أو المسح...
الثاني: إمكان الأمر الترتّبي.
2ً- ومبنى القول الثاني... دعوى صدق الاستعمال المحرّم على نفس بما في الآنية حتى إذا كان بنحو الاغتراف منها...
3ً- ومبنى القول الثالث مجموع أمرين:
الأوّل: انّ التطهير بنحو الارتماس متحد مع الاستعمال المحرّم؛ لأنّه بنفس استعمال للآنية، بخلاف التطهير بنحو الصبّ أو الاغتراف منها.
الثاني: إمكان الأمر الترتّبي...
4ً- ومبنى القول الرابع مجموع أمرين:
الأوّل: هو الأمر الأوّل المتقدّم...
والثاني: القول بعدم إمكان الأمر الترتّبي مطلقاً، أو في خصوص المقام...
5ً- ومبنى القول الخامس: نفس مبنى القول الرابع مع إضافة أنّ التطهير بنحو الصبّ من الآنية على الأعضاء يعدّ كالارتماس بنفسه استعمالاً للآنية، فيتحد فيه الحرام مع الواجب، فيبطل حتى مع عدم الانحصار (26).
وواضح لأهل الاختصاص الفقهي أنّ هذا البيان في منتهى العمق، ولا يوجد فيما بين أيدينا من المصادر الفقهية من تعرّض إلى هذه المباني بهذا الشكل من التفصيل والاستيعاب وبهذا المستوى من الدقّة.النموذج الثاني: المطارحات العلمية:
إذ لم يقتصر في الموسوعة على عرض الاتجاهات الفقهية وخلفياتها الاستدلالية، بل اُشير إلى بعض المناقشات والردود تارة بصورة إجمالية وعلى نحو الإشارة، واُخرى مفصّلاً.
فمن ذلك ما ورد في مناقشة الاستدلالات على بطلان الصلاة بقول آمين؛ إذ ذُكر تسعة وجوه استدلّ بها بعض الفقهاء لاثبات البطلان إلاّ انها كلّها مردودة ومناقش فيه(27).النقطة الحادية عشرة: استيعاب الاتجاهات الفقهية:
من المناسب أن نبيّن بأن معرفة الأقوال الفقهية في مسألة ما، تارة تستند إلى النظر إلى ماهو الظاهر من عبارات الفقهاء في مقام بيان حكم تلك المسألة وتتوقف عند هذه الحدود لا أكثر، فلا يعدو أن يكون ذلك مجرّد عرض وتعداد بسيط لكلمات الفقهاء، واُخرى تستند إلى النظر إلى أبعد من ذلك، فيغوص الباحث إلى الادلّة والمباني الكامنة وراء تلك الآراء ليستلّ منها الموقف.. ولا يخفى بأن النظرة الثانية هي نظرة تفتقر إلى مؤونة اجتهادية وتضلـّع بعملية الاستنباط.
وأليك النموذج التالي في بحث (آمين): حيث طرح سؤال حول ماهي الأقوال في المسألة(28)؟ وتنطلق عملية الإجابة على هذا السؤال من خلال مراجعة كلمات الفقهاء في هذا الصدد ابتداء من الاسكافي ومروراً بالشيخ الطوسي وأتباعه ثمّ المحقق والعلاّمة والكركي والفاضل الاصبهاني وكاشف الغطاء والمحقق النجفي والانتهاء بكلمات فقهاء المرحلة الأخيرة والمعاصرين.
وهذا ما يعطي بُعداً توثيقياً للنتيجة التي يراد استخلاصها، وهي: ثبوت حكمين لقول (آمين) أحدهما: الحرمة تكليفاً، والآخر: بطلان الصلاة به وضعاً.
ثمّ تبدأ عملية التحليل للاحتمالات الممكنة في مرادات الفقهاء، وأي هذه الاحتمالات هو الأرجح، وقد اُشير هنا إلى ثلاثة احتمالات في المراد من الحرمة التكليفية، وما هي الفروق المترتبة عليها، واُشير أيضاً إلى منشأ القول بالحرمة الوضعية ] البطلان [ والمباني في ذلك.
وبعد هذا البحث العميق حيث يغوص الباحث في ثنايا الاستدلالات العميقة تبدأ عملية استرجاع النصوص مرّة اُخرى تحت عنوان (قراءة جديدة للأقوال)، فقد جاء ما يلي: ويتضح من مجموع ما تقدّم أنّ المستظهر أوّلاً من كلمات الأصحاب وإن كان تعدّد الأقوال وكثرتها في قول آمين عقب الحمد في الصلاة ـ من القول بالجواز أو الكراهة أو الحرمة تكليفاً ووضعاً أو الحرمة تشريعا والبطلان وضعا أو الحرمة دون البطلان أو البطلان دون الحرمة ـ إلاّ انّه بالدقة ترجع الأقوال والكلمات إلى قولين في المسألة، لا أكثر... (29).----------------------
1 ـ موسوعـة جـمـال عبدالناصر 1: 57 ـ 64. الموسوعة الكويتية 1: 97 ـ 107.
2 ـ الموسوعة الكويتية 1: 94.
3 ـ موسوعة الفقه الاسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) 1: 215.
4 ـ الموسوعة الكويتية 1: 77.
5 ـ المصدر السابق: 78.
6 ـ المصدر السابق: 97.
7 ـ موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) 1: 328.
8 ـ موسوعة عبدالناصر 1: 84 ـ 93.
9 ـ الموسوعة الكويتية 1: 117 ـ 125.
10 ـ موسوعة الفقه الاسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع) 1: 251 ـ 279.
11 ـ موسوعة عبدالناصر 1: 65 ـ 79.
12 ـ الموسوعة الكويتية 1: 107 ـ 109.
13 ـ المصدر السابق : 78 ـ 91.
14 ـ المصدر السابق : 97 ـ 107.
15 ـ موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت(ع) 1: 125.
16 ـ المصدر السابق : 220.
17 ـ المصدر السابق : 215 ـ 220.
18 ـ المصدر السابق: 235 ـ 251.
19 ـ انظر: المصدر السابق : 331 ـ 338.
20 ـ موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت (ع): 283.
21 ـ المصدر السابق: 213.
22 ـ المصدر السابق : 212.
23 ـ المصدر السابق: 328 ـ 329.
24 ـ المصدر السابق: 425 ـ 426.
25 ـ الموسوعة الكويتية 1: 42 ـ 43.
26 ـ المصدر السابق : 356 ـ 359.
27 ـ المصدر السابق : 299 ـ 303.
28 ـ المصدر السابق : 284.
29 ـ المصدر السابق: 303.


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية