مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

التطرف في الاسلام(*)
د. أحمد صدقي الدجاني

مفهوم التطرف التطرف في اللسان العربي من الطـَرَف وهو »الناحية«، »ومنتهى كل شيء«. وتطرّف »أتى الطرف« و»جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط«. وكلمة »التطرف« تدعو إلى الخاطر كلمة »الغلّو« التي تعني تجاوز الحد. وهو من »غلا« »زاد وارتفع وجاوز الحد«. ويقال الغلو في الأمر والدين »لا تغلو في دينكم« (4: 171 ، 5: 77).
شاع استخدام كلمة التطرف ترجمة للكلمة الإنجليزية extremism في العقد الماضي في منطقتنا و تردد معها استخدام كلمة »الاصولية« ترجمه للكلمة الانجليزية fundamentalism والأصولية في معجم وبستر »مصطلح أطلق على حركة احتجاج ظهرت في القرن العشرين، تؤكد على ضرورة التفسير الحرفي للكتاب المقدس كأساس للحياة المسيحية الصحيحة. وهو يطلق أيضا على أية حركة أو اتجاه يشدد بثبات على التمسك الحرفي بمجموعة قيم ومبادئ أساسية«. ولم يقدّر لهذا المصطلح أن يشيع في منطقتنا لاختلاف دلالة »الأصولية« في اللسان العربي التي توحي بالتمسك بالأصول، وهو أمر محمود، فكان أن استخدم مصطلح »التطرف« للدلالة على التشدد وتجاوز الحد في الدين.
»التطرف« مصطلحاً هو ضد مصطلح »الوسطية« الذي هو من الوسط »الواقع بين طرفين« كما يقول الأصبهاني في مفردات غريب القرآن. وهو يحمل في طياته معنى »العدل«. وفي القرآن الكريم (وكذلك جعلناكم أمة وسط) (2: 143) أي عدلاً.
إذا كان مصطلح »التطرف« يدعو إلى الخاطر »التشدد وتجاوز الحد«، فإن مصطلح »الوسطية« يدعو إلى الخاطر »العدل« و»السماحة« . ولفظ السماحة في لسان العرب »يطلق على سهولة التعامل فيما اعتاد الناس في المشادّة«. كما يقول سماحة الشيخ جمال الدين جعيط مفتي الجمهورية التونسية في بحثه »الإسلام دعوة أصيلة في السماحة والتعايش السلمي« الذي قدّمه مؤخرا في مؤتمر بمصر.  وقد ذكر فيه تعريف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور للسماحة في كتابه »أصول النظام الاجتماعي في الإسلام«، التي هي وسط بين الشدة والتساهل. ولفظها هو أرشق لفظ يدل على هذا المعنى. يقال سمح فلان، أي جاد بمال له بال. وهي تدل على »خلق الجود والبذل«. وينتهي إلى القول: »فأصل السماحة يرجع إلى التيسير والاعتدال، وهما من أوصاف الإسلام«.
  المقصود بالإسلام ينصرف الذهن  أول ماينصرف إلى أن المصقود هنا هو دين »الإّسلام« حين يتحدث »آخر« عن »التطرف في الاسلام« و نلاحظ ان قوى الهيمنة والطغيان من هذا »الاخر« تجهد في محاولة اتهام من يقاومون هيمنتها وطغيانها من المسلمين بأنهم متطرفون وأن هذا التطرف ناجم عن دينهم الإسلامي الذي يحثهم على »الجهاد«. وقد ركزت هذه القوى الطاغوتية حملتها الإعلامية على الدين الإسلامي في مواجهتها للمقاومين لطغيانها، وحاولت ولا تزال تحاول وصم المقاومة بأنها »إرهاب« بمعنى »الإرعاب والترويع واستهداف المدنيين الأپرياء«. وألقت ظلالا سوداء على كلمة »الجهاد« بخاصة، وصولاً إلى تحريف معنى »الجهاد« في أذهان من يتسلط عليهم إعلامها، وتشويه معنى »الاستشهاد في سبيل الله«. فهؤلاء »الاستشهاديون« في ذلك الإعلام هم »انتحاريون« ، وهم يمارسون »إرهابا« وليس »جهادا« يبغي دفع العدوان وتحرير الأرض ومقاومة الطغاة المعتدين. وبئس ما يطرحه إعلام القوى الطاغوتية، وما أبعده عن الحقيقة، ويا لتطرفه في التحيز في المصطلح واعتماده المعيارين شأن المطففين الذين هم إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالو هم أو وزنوهم يخسرون.
ينصرف الذهن أيضاً إلى أن المقصود »بالإسلام« حين يقرن الآخر التطرف به، هو »الحضارة العربية الإسلامية« ودائرتها الحضارية. وهي الحضارة التي انطلقت من رؤية كونية مؤمنة بالله سبحانه خالق كل شيء، واعتمدت اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم لسانا للتعبير عن العلم، وشارك في بنائها مختلف »الأقوام« الذين تضمهم ديار الإسلام على اختلاف »مللهم« وانتموا إليها. ولما كانت قيم هذه الحضارة تـُعلي من شأن »العدل« والمساواة بين جميع خلق الله، فإن المنتمين إليها ينعطفون إلى »مقاومة« الظلم والجور الذي تحاول قوى الطغيان فرضه عليهم وتسليمهم به. وهذا ما يجعل هذه القوى الطاغوتية تلمزهم بالتطرف وتسمي مقاومتهم إرهابا.
استحضار ماورد في كتاب الله بشأن التطرف والغلو من جهة والوسطية والسماحة من جهة أخرى.
لقد مرت بنا في مطلع هذا الحديث الآية التي تنهى عن الغلو، وكذلك الآية التي تعلي شأن الوسطية. والحق أن علماء أجلاء عديدون عنوا بدراسة موضوع التطرف، في العقد الماضي بخاصة، وأفاضوا في الحديث عن التوجيه القرآني في الحض على الوسطية والنهي عن الغلو والتطرف. ومن هؤلاء الشيخ د. يوسف القرضاوي ود. محمد عمارة، وآخرون كثيرون. ونكتفي في هذا المقام أن نستحضر ماكتبوه من شرح لما نزل به الوحي في هذا الموضوع، وأن نلاحظ أن التوجيه القرآني كان دوماً يحث على الاعتدال فالله سبحانه لا يكلف نفسا الا وسعها. وهو يعلي من شأن اليُسر. وهو ينهى عن البخل والشح لأنهما تطرف في التعامل مع المال. كثيرة هي الأحاديث النبوية التي تشرح ذلك وتدعو إلى الرفق »إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق. ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه« (رواه أحمد). وقد جاء الفقه ليؤكد على تمثل روح التيسير والسماحة وليجعل من القواعد الأصولية قاعدة المشقة تجلب التيسير وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات. ويحفل فقه المعاملات بما يحث على الأخلاق الحميدة وينهى عن السخط والضجر والفحش والشطط والمغالاة، وغير ذلك من صور التطرف.
  ظاهرة التطرف في عالمنا المعاصر وأسبابه يشهد عالمنا المعاصر بروز ظاهرة التطرف فيه على عدة صعد وفي عدد من المستويات. وقد بلغت هذه الظاهرة بفعل ثورة العلم التقني حداً غير مسبوق في فظاعة ما ينجم عنه. إذ لم يعرف تاريخ الإنسان مثل هذا التوظيف »للتقنية« في إيقاع الأذى بالإنسان وأمه الأرض. وبلغت ايضاً بفعل ثورة الاتصال حداً غير مسبوق في شدة وطأة أخبارها على الإنسان أينما كان، حيث يقوم الإعلام بنقل هذه الأخبار بالصورة والصوت فور وقوع حدث معبّر عن التطرف أو ناجم عنه.
أول ما يلفتنا ونحن نتأمل في هذه الظاهرة »التطرف الرسمي« على مستوى الدول التي تتحكم فيها قوى هيمنة وطيغان، سواء في تعاملها مع »المقاومين« لهيمنتها وطغيانها أو في تعاملها مع »مواطنيها« في أحوال »الطوارئ« التي تقوم هي بتحديدها. وينبثق عن هذا التطرف الرسمي ما اصطلح على تسميته أممياً »إرهاب الدولة الرسمي«. وقد بلغ في »عصر العولمة« الذي نعيشه اليوم مدى بالغ الخطورة.
فأما المدى الذي بلغه »التطرف الرسمي« وما يقترن به من »إرهاب الدولة«،  في التعامل مع »المقاومين« الساعين إلى العدل والذين يناضلون من أجل تحرير الوطن من المحتل الغاصب، فإننا نراه في مواقف قوى الهيمنة والطغيان وممارستها في »حرب العولمة« التي أعلنتها بعد زلزلة 11/9/2001 في نيويورك وواشنطن. وكذلك نراه في مواقف »الصهاينة« العنصريين التابعين لتلك القوى والمشاركين فيها وممارساتهم تجاه الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية منذ أن أقامت قوى الهيمنة والطغيان »دولة« لهم على أرض فلسطين عام 1948م.
نستحضر أمثلة على المواقف، فيتداعى إلى الخاطر ما صرح به الرئيس الأمريكي في الشهور الماضية حول »القضاء على الطفيليات الإرهابية« وأنه »يتعين على كل إرهابي أن يعيش هاربا« ، »وأن من ليس معنا فهو ضدنا«. ويتداعى إلى الخاطر أيضا ما صرح به رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي حول »قهر الفلسطينيين وسحقهم حتى يستسلموا وعندها نفاوضهم« . أما الممارسات فقد رأيناها في عملية »أناكوندا« (الأفعى) التي قامت بها القوات الأمريكية في أفغانستان يوم 2/3/2002، ورأيناها قبل ذلك في معاملتها للأسرى حين نقلتهم فاقدي الحواس إلى قاعدة »غوانتينامو«، وفي قيام وزير الدفاع الأمريكي بـإغلاق الكهوف في جبال أفغانستان على من فيها. كما رأينا  في الاجتياح الإسرائيلي للمدن الفلسطينية منذ يوم 29/3/2002م وفي مذبحة مخيم جنين بخاصة التي اقترفها الصهاينة.
لقد أدانت الشرعية الدولية »إرهاب الدولة الرسمي« الذي يعبر عن تطرف الدول. ومثل على ذلك القرار الأممي رقم 40/61 الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأربعين. وقد شرحناها  في كتابنا مستقبل الصراع العربي الصهيوني وفيه »الطلب إلى جميع الدول أن تفي بالتزاماتها التي يفرضها عليها القانون الدولي، بالامتناع عن تنظيم الأعمال الإرهابية في دول أخرى، أو التحريض عليها، أو المساعدة على ارتكابها، أو المشاركة فيها أو التغاضي عن أنظمة تنظيم داخل أراضيها بغرض ارتكاب مثل هذه الأعمال« (بند 6). وفيه أيضاً »أن تهتم بالقضاء التدريجي على الأسباب الكامنة وراء الإرهاب الدولي، وأن تولي اهتماما خاصاً لجميع الحالات، بما فيها الاستعمار والعنصرية، والحالات التي تنطوي على انتهاكات صارخة، لحقوق الإنسان والحريات الأساسية  والحالاة التي يوجد فيها احتلال أجنبي التي يمكن أن تولد الإرهاب وتعرض السلم والأمن الدوليين للخطر« (بند 8) . وجاء في مقدمة القرار »وإذ تؤكد من جديد الحق، غير القابل للتصرف، في تقرير المصير والاستقلال لجميع الشعوب الخاضعة لنظم استعمارية وعنصرية ولغيرها من أشكال السيطرة الأجنبية، وإذ تقر شرعية كفاحها، ولاسيما حركات التحرير الوطني، وفقا لمقاصد ومبادئ الميثاق ولإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقا لميثاق الأمم المتحدة«.
واللافت للنظر أن »دولة الكيان الاستعماري الصهيوني« وهي تمارس »إرهاب الدولة الرسمي«  تعمد إلى وصف المقاومة التي تواجهها بأنها »إرهاب«. وهذا ما قامت به الإدارة الأمريكية التي تقود العولمة في عالمنا حين أعلنت حرب العولمة التي نعيشها وأسمتها »الحرب ضد الإرهاب«. ولافت أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها بريطانيا لديهما مراكز تدريب على الإرهاب والعنف. وقد فصّل الحديث عن ذلك جورج مرن بايوت في الغارديان اللندنية يوم 28/10/2001م الذي كشف تورط صناع السياسة في أمريكا منذ عام 1946 في إدارة مواقع تدريب على الإرهاب والعنف. (الرياض 24/1/2002 مقال الحقيقة المحرمة د. عبد الله الطويرقي) . وشرح  أ. د. عبد الكريم غرايبة في مقاله »الإرهاب والرعب والاستبداد« مايقوم به مخططو القتل في البنتاغون (القدس العربي 8/1/2002م).
كما يروّج هذا التطرف الرسمي المتجلي بـإرهاب الدولة الرسمي مقولة »أن كل مقاومة لطغيانهم هي إرهاب«، فـإنه يروّج مقولة أن »العنف« هو حكر على الدولة دون غيرها. فهي الوحيدة التي يحق لها أن تمارس العنف لأنها جاءت عبر نظام مؤسسي، ولأن الحكومة فيها تأتي عبر انتخابات يشارك فيها الناس. وتفترض هذه المقولة أن ماتقوم به هذه الحكومة المنتخبة من طغيان وعدوان أمر عادي يلبي مصالحها، ومفروض من ثم على من يتعرضون للطغيان والعدوان ألا يلجأوا إلى العنف في محاولة تحقيق مطالبهم. وهي تفتح لهم من أجل ذلك باب التفاوض الذي لا تباشره إلا إذا أعلنوا توقفهم عن »العنف« و»الإرهاب« على حد زعمها أي عن كل أشكال المقاومة. وتعمد »دول الاستعمار الاستيطاني العنصري إلى القول بأنه ماتقوم به هو تعبير عن إرادة مواطنيها، والذين هم مستعمرون مستوطنون غاضبون، وأنها بحكم كونها »ديمقراطية« (كذا!!) تستجيب لهذه الإرادة.
قصدنا تفصيل هذه المقولة الضالة لكي نرى مدى »التطرف« الذي يحكمها ولا يترك سبيلا أمام المقاومين للطغيان والعدوان الرسمي إلا أن يتطرفوا في مواجهة الطغاة المعتدين سواء كانوا من الشعوب المستهدفة بالطغيان أو من مواطني هذه الدول.
اللا فت للنظر أيضا أن هذا »التطرف الرسمي« يدأب على وضع مواطني دولته تحت وطأة ما يتعرضون له من خطر. ويصادفني وأنا أكتب هذه السطور مانقلته وكالات الأنباء من أن »المخابرات البريطانية تحذر من هجمات إرهابية جديد«، وأن رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي يعلن »أن هناك خطراً قائماً« فعلاً بوقوع اعتداء نووي على الولايات المتحدة. ولكنه أشار إلى أنه لا يملك معلومات بشأن الأعداد لأي اعتداء نووي محتمل«. (الأهرام 9/5/2002).
نتأمل في التطرف الذي يعيشه عالمنا المعاصر على مستوى الأفراد. فنجد أنه لا يكاد يمر يوم دون وقوع حادثة أو أكثر تعبر عن هذا التطرف. فهذا انفجار في إسبانيا. وهذا طالب في بلدة ألمانية يطلق الرصاص على طلاب ومدرسين في مدرسته. وصفحات الحوادث في الصحف في مختلف دوائر عالمنا الحضاري ملأى بالأمثلة على ذلك. وبعض هذه الحوادث يذهب إلى مدى بعيد، مثل ذلك الانفجار الذي استهدف أو كلاهوما سيتي 19/4/1994م وأودى بحياة 168 أمريكيا  وخمسمائة جريح. وقد تبين أن »تيموثي ماكفاي« قام به انتقاما لقيام شرطة تكساس عام 1993م بقتل ثمانين متطرفا أمريكيا في دورة عنف.
لقد تجلى هذا التطرف على مستوى الأفراد في دائرة الحضارة الغربية أيضا في تصاعد مايسمى اليمين السياسي وفي برامجه التي تظهر فيها العنصرية والتحيز ضد الآخرين.
نستطيع في ضوء ماسبق أن نضع أيدينا على سبب تكون هذه الظاهرة في عالمنا. فجنوح قوى الهيمنة إلى الطغيان وإخلالهم بالميزان واعتمادهم العدوان يعبر عن تطرف في حد ذاته ويؤدي إلى انتشار مناخ يعشعش فيه التطرف على صعيد الأفراد. ولافت أنه في ظل هذا المناخ تنتشر صناعة أفلام العنف والرعب في السينما والتلفزة، فتنفخ في ظاهرة التطرف.
  تجلي ظاهرة العنف في دائرتنا الحضارية دائرة الحضارة العربية الإسلامية هي واحدة من دوائر الحضارات في عالمنا ومتوقع أن تتأثر بظاهرة التطرف التي تبرز في عالمنا. ولكن هناك خصوصية لدائرتنا تستحق أن يتوقف أمامها. وهي أن قوى الهيمنة الدولية التي استهدفتها باستعمار استيطاني صهيوني عنصري منذ  الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي لا تزال مصممة على دعم كيانه الإسرائيلي ومحاولة فرضه قيادة لنظام شرق أوسطي يتحكم في كل دولنا. وكانت ديار الإسلام قد تعرضت منذ القرن السادس عشر الميلادي للغزو الاستعماري الأوروبي الذي تتالت موجاته واحدة تلو الأخرى.
لقد شهدت دائرتنا الحضارية صحوة تمثلت في حركة إحياء ديني. تماماً كما شهدت ظاهرة تطرف إلى جانبها. وكانت الظاهرتان محل دراسة في عدد من المحافل الفكرية. وأذكر أنني دُعيت إلى الكتابة عن أسباب التطرف الديني في البلاد العربية عام 1993م فتناولت الظاهرتين بالنظر والدراسة وشرحت أسباب التطرف الديني.
فمن هذه الأسباب ماهو كامن في طبيعة الاجتماع الإنساني، ومنها ماهو طارئ بفعل مؤثر. وهذا المؤثر قد يكون خارجياً وقد يكون داخليا. وفيه في الحالين ماهو سياسي وما هو اقتصادي اجتماعي وماهو فكري ثقافي وماهو عقيدي.
نقف بداية أمام ماهو كامن في طبيعة الاجتماع الإنساني، فتتجه أنظارنا إلى جيل الشباب، ونحن نستحضر خصائصه، ونسبة الشباب في البلاد العربية مرتفعة تقارب نصف السكان. ومن بين خصائص جيل الشباب التي أشار إليها فخر الدين الرازي صاحب كتاب الفراسة »استبداد الغضب فيهم، ومتى كان الأمر كذلك فإنه يقل الخوف فيهم لأن الخوف والغضب لا يجتمعان. وقد يتجه بهم هذا إلى ارتكاب الظلم الجهار وإن عاد عليهم بالخزي والعار. وقد يتجه بهم إلى الرحمة إذا عرفوا من الإنسان كونه مظلوماً. وبالجملة فتوقع الرحمة منهم أشد من توقعها من الشيوخ«. وهذه الخاصية تقترن بخاصية »إفراط حسن الظن بالنفس إلى درجة الاعتقاد بكمالها« وبخاصية »حب السرور والصداقة والصفاء، وقد يتجه بهم هذا الحب إلى تحصيل اللذة وللميل إلى الهزل والعبث، كما قد يتجه لتحصيل المنافع العقلية«. ولما كانت الأمة العربية على »الصعيد العمري« أمة شابة حيث نصف أپنائها على الأقل هم دون الخامسة والعشرين، فإن  من المتوقع أن يوجد فيها نزوع إلى التطرف بين شبابها يخرج من مكمنه بفعل مؤثر. فماهي هذه الأفعال المؤثرة في حالة البلاد العربية؟
1- تجمع الكتابات التي تناولت التطرف الديني في البلاد العربية بالدراسة على أن أحد الأسباب الرئيسية في تغذيته هي الممارسات الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية في فلسطين المحتلة والمنطقة العربية عموما. فهذه الممارسات تمثل فعلا مؤثرا خارجيا يتحدى الامة بعامة وجيل الشباب بخاصة. وهي تؤثر بشكل مباشر على عدة ملايين من العرب واقعين تحت الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وجنوب لبنان والجولان السورية، ومن ثم على بقية العرب في مختلف البلاد العربية. وأبرز مايميز هذه الممارسات عنصريتها وعدوانيتها وتأثيرها في مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية الثقافية والعقيدية للعرب مسلمين ومسيحيين. والتقارير عن هذه الممارسات  موثقة في الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى في عالمنا. ويستطيع المتأمل في الخط البياني لهذه الممارسات منذ عام 1967م وللسياسات الإسرائيلية التي تحكمها أن يلاحظ توافقه مع الخط البياني للتطرف الديني، وقد رأينا كيف زادت نسبة هذا التطرف في أعقاب تشبث إسرائيل باحتلال الأراضي العربية بعد حرب 1973م، ثم في أعقاب يوم الأرض في فلسطين المحتلة عام 1976م، ثم في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1978 وعام 1982م وليس لنا أن نستغرب حدوث مزيد في أعقاب هذه العمليات الحربية العدوانية الإسرائيلية على لبنان في الأسبوع الأخير من شهر تموز ـ يوليو 1993م. ثم رأينا كيف زادت هذه النسبة مع تصعيد الإرهاب الإسرائيلي الرسمي وغير الرسمي للمقاومين للاحتلال منذ عام 1967 وللمنتفضين منذ عام 1987م.
2- سبب رئيسي آخر في تغذية التطرف الديني في البلاد العربية هو سياسات الهيمنة الأجنبية في المنطقة، التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. فهذه السياسات التي تمكّن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وتسكت عن ممارساته المتحدية للشرعية الدولية، وتحول دون قيام الأمم المتحدة بدورها في مواجهة العدوان، وتعتمد معيارين في مواقفها؛ تثير الغضب والنقمة وتدفع إلى اللجوء للفكر المتطرف ومن ثم ممارسة العنف في مواجهتها. ويستطيع المتأمل في الخط البياني للتطرف الديني في البلاد العربية أن يلاحظ العلاقة القائمة بين صعوده ومواقف الولايات المتحدة من الصراع العربي الصهيوني ومن قضايا عربية أخرى. فالموقف الأمريكي إبان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م أسهم في تغذية التطرف الديني الذي تزايد عند قدوم البحرية الأمريكية إلى بيروت عام 1983م وفرض اتفاق 17/5/1983 م على لبنان، وعبّر عن نفسه بعمليات استشهادية. والأمر نفسه يصدق على الموقف الأمريكي في حرب الكويت وما تلاها. ولقد أوصل »التصميم« الأمريكي لعملية التسوية الجارية للصراع العربي الصهيوني التي بدأت في مدريد يوم 30/10/1991م إلى تصعيد التوتر في المنطقة من خلال تصعيد إسرائيل إرهابها وتصاعد المقاومة والانتفاضة في مواجهة هذا الإرهاب . أدى ذلك إلى اتساع دائرة التطرف . ولا يقتصر تأثير سياسات الهيمنة الأجنبية على الصراع العربي الصهيوني، بل يشمل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية الثقافية والعقيدية في مختلف الدول العربية. فسياسات صندوق النقد الدولي مثلا في هذه الدول هو عامل مؤثر في تغذية التطرف بما تفرضه من شروط. وسياسات الإعلام التغريبي المفروضة على هذه الدول تولد ردود أفعال متطرفة. وهكذا الحال مع سياسات التدخل في السياسات الداخلية للدول العربية.
3- سبب رئيسي ثالث في تغذية التطرف الديني في البلاد العربية هو التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في عقدين من السنين، وقد شملت هذه التغيرات الثروات النفطية التي تعرضت لموجات متتالية من المد والجزر، والسياسات الاقتصادية التي انتقلت من سيطرة الدول إلى سيطرة السوق، وسياسات أخرى تعليمية وإعلامية. وأدى ذلك كله إلى تكثيف حركة الهجرة من الريف إلى المدينة وانتشار الأحياء العشوائية الفقيرة في المدن. كما أدى إلى معاناة الشريحة الوسطى في المجتمع بفعل التضخم المستمر. ومن الملاحظ أن هذه الأحياء العشوائية تشهد وجود نسبة عالية من المتطرفين الدينيين فيها. وذلك بفعل عجز بعض سكانها عن التكيف مع قيم المدينة المختلفة عن قيمهم الريفية، وبفعل تفشي البطالة بين هؤلاء السكان والشباب منهم بخاصة، وبفعل ملاحظتهم الفوارق الطبقية الحادة القائمة بينهم وبين الشريحة الغنية جداً المستفيدة من الانفتاح أو الغارقة في الفساد. كما أن من الملاحظ أيضاً أن نسبة عالية من منظري التطرف ومفكريه وعناصره هي من الشريحة الوسطى المتمسكة عادة بقيم المجتمع والمحافظة عليها. وقد أدت هذه التغيرات على صعيد »الوطن العربي الكبير« إلى حركة انتقال عمالة إلى الدول النفطية تعرضت لضغوطات شديدة مختلفة دفعت البعض إلى التطرف الديني. ومن بين هذه الضغوطات تلك الناجمة عن قوانين الإقامة والتنقل والعمل التي تحكمها نظرة قطرية تسقط من حسابها تماما فكرة »المواطنة العربية« المستقرة في أعماق كل عربي. وهكذا نجد أن التطرف الديني في هذه الأحوال هو رد فعل على »عنف الحرمان« الذي يتعرض له الفرد.
4- السبب الرئيسي الرابع الذي نراه يفعل فعله في تغذية التطرف في البلاد العربية، ويمثل كسابقه فعلا مؤثرا داخليا هو ماتعانيه غالبية أنظمة الحكم  في البلاد العربية من افتقار للشورى والديمقراطية على الرغم من مضي عدة عقود من السنين على إقامة نموذج الدولة الحديثة فيها؛ وتتفاعل في تكوين هذا السبب عوامل داخلية وخارجية. وهو يؤدي إلى إصابة الحكومات والشعوب على السواء بمرض »الحرمان« الذي تحدث عنه محمد كامل حسين في كتابه »الوادي المقدس«. كما يؤدي إلى أصابة الدول التي تعاني منه بمرض »نقص المناعة الأمنية«، فيظهر فيها »العنف المؤسسي« مقترناً بعجز مطبق عن الحوار مع جيل الشباب وعن إفساح المجال له كي يعبر عن نفسه ويخدم بلاده. وهكذا يقع كثير من الشباب ضحية هذا العنف المؤسسي، فتنمو في أوساطهم ظاهرة التطرف الديني. ومن الملاحظ أن هذا العنف المؤسسي يشتد مع تعثر هذه الأنظمة في تحقيق أهدافها المعلنة في التنمية الاقتصادية والتعددية السياسية، تماما كما يقوى مع وقوعها في أسر التبعية والديون  بفعل سياسات دول الهيمنة العالمية.في كيفية التعامل مع التطرف واضح أن معالجة أسباب التطرف هي الكفيلة بـإيجاد مناخ تزدهر فيه الوسطية. ومما يساعد على ازدهار الوسطية في المجتمعات اعتماد الحوار القائم على حرية التعبير سبيلا للتفاهم بين التيارات الثقافية الموجودة فيها. وما أعظم الأخطار التي تنجم عن قصور في هذا الحوار. ونستيطع أن نميز في واقعنا الثقافي المعاصر ثلاثة تيارات ثقافية.
نزداد فهماً لهذه التيارات الثقافية الثلاثة حين نستحضر نشأتها مع بداية الغزوة الاستعمارية الغربية لدائرتنا الحضارية ووطننا العربي، وما طرأ عليها من أحداث على مدى قرنين، فالسياسة الاستعمارية عمدت إلى التركيز على حقل التربية والتعليم وأسست مدارس التبشير وعلمت طلاب هذه المدارس اللغات الأوروبية وما اصطلحت على تسميته حضارة الدول الغربية المعنية، فرنسية كانت أو ألمانية أو إيطالية أو بريطانية. وهكذا خرجت طلابا مهيئين بحكم ما تعلموه أن يكونوا إنغماسيين. وقوّى هذا الاتجاه نظام البعثات إلى بلاد الغرب. وناصبت السياسة الاستعمارية حين احتلت البلاد وتسلطت معاهد العلم القائمة العداء، فتهيأ طلابها بحكم وطأة هذا التسلط لأن يقع بعضهم في أسر الانكماش. واتسعت الهوة بين التيارين مع ممارسات المستعمر الهادفة لذلك. وحدث في الربع الثاني من القرن العشرين أن شهد تيار الانغماس بروز مدرستين فيه بفعل الخلاف الذي احتدم في الغرب بين »الليبرالية الرأسمالية« و»الاشتراكية الماركسية« وكان »تيار الاستجابة الفاعلة« الثالث يشق طريقه أثناء ذلك، ويجذب إليه أفرادا متميزين من التيارين، من بينهم مبعوثون عبروا مرحلة »العكوف« التي تجاوزوا أثناءها مجتمعهم إلى مرحلة »العودة« إلى مجتمعهم والتلاحم معه.
حين نستحضر تاريخ أمتنا في القرنين الأخيرين، نرى بوضوح الأثر الكبير للواقع الثقافي العربي بتياراته الثلاثة على مختلف جوانب الحياة في وطننا العربي، وقد انعكس هذا الأثر على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والعقيدية، ذلك بفعل ما للثقافة من فعل. وهكذا رأينا كلا من هذه الجوانب موزعا بين توجهات انكماشية وأخرى انغماسية وثالثة مستجيبة فاعلة.
لقد استشعرت الأمة منذ برزت فيها هذه التيارات الثلاثة الثقافية بين ابنائها، الحاجة إلى حوار بينهم يستهدف تجاوز سلبيات الاختلاف وتوظيف إيجابياته للنهوض بحياتنا. وقد قوي هذا الاستشعار للحاجة إلى هذا الحوار في  فترات تضخمت فيها السلبيات بسبب ضعفه وانعكست على مختلف مجالات حياتنا، تخبطا في السياسات الاقتصادية، وإخلالا في السلام الاجتماعي والعلاقة بين شرائح المجتمع، وتفردا سياسيا يرفض التعددية والمشاركة ويقع في هاوية التسلط، وسطحية فكرية تعتمد الحكم المطلق على الأفكار وتقطع الطريق أمام تلاقحها، وتطرفا عقيديا لا يعرف السماحة وينزع إلى الإكراه. وتستوقفنا فترات أخرى شهدت مباشرة هذا الحوار وقطفت الأمة خلاله ثمراته الطيبة، وحدة وطنية على صعيد كل قطر، ونهوضا في مختلف مجالات الحياة، وقدرة على مواجهة المستعمر المعتدي، وتقدما في طريق تحقيق مشروع الأمة الحضاري بأهدافه الستة تحريراً، وتوحيدا للجهود، وشورى وديمقراطية، وعدلا، وتنمية، وتجددا حضاريا، ولكن ما كانت أٌقصر تلك الفترات، وتلفتنا في الواقع الثقافي القائم جهود مباركة مكثفة على الصعيد الأهلي تعنى بتقدم هذا الحوار. ومع ذلك فإن الانطباع العام الذي  تخرج به نظرة المراقب أن  للواقع الثقافي العربي المعاصر هو أن الحوار بين التيارات الثقافية العربية المعاصرة دون المستوى المطلوب بكثير، وقد نجم عن قصوره في ربع القرن الأخير تفاقم أزمات سياسية في عدة أقطار عربية تفجر بعضها عنفا، وطرح بقوة قضية الهوية.
في مقدمة أخطار قصور الحوار غلو في الرأي والموقف، يتزايد ويتصاعد مع استمرار القصور في الحوار، يتجلى في التطرف والبعد عن الوسطية، ويولد ردود أفعال، ويؤدي هذا الغلو إلى اهتزاز الهوية في المجتمع، ومن ثم إلى المساس بوحدة المجتمع الوطنية، ويحول بذلك دون الوصول إلى المشروع الوطني الذي يلتقي عليه المجتمع.
الأمثلة على الأزمات السياسية التي تنشأ عن تفاعل هذه الأخطار، نراها في أماكن مختلفة من عالمنا، في أقليم  الباسك وإسبانيا في شبه جزيرة أيبريا، وفي إيرلندا الشمالية وبريطانيا، وفي الفلبين وفي البلقان ونذرها تتالى في الأمريكيتين، كما نراها في دائرتنا الحضارية الإسلامية، في تركيا وفي أفغانستان وفي كشمير. ونراها في قلب هذه الدائرة في وطننا العربي في الجزائر بعد أن اكتوينا بنارها في لبنان، ونرى نذرا لها في أكثر من قطر عربي.
الغلو في الرأي والموقف، الناجم عن قصور الحوار بين التيارات الثقافية، تجلى في كتابات أهل القلم من التيارين الانغماسي والانكماشي تناولت قراءة تاريخنا والحديث عن واقعنا واقتراح مايكون عليه مستقبلنا. وما أسخن المعارك التي نشبت بسبب هذه الكتابات. ويتداعى إلى الخاطر مثلا عليها، اعتبار البعض غزو بونابرت لمصر وحملته العسكرية عليها وعلى فلسطين بداية النهضة في مصر. وقد بلغ الأمر بواحد من المغالين أن نسب إلى هذه الغزوة بناء »مؤسسة« الديوان الذي كان قائما عبر تاريخ طويل، فضلا عن أمور أخرى لا سند تاريخي لها، ساكتاً في الوقت نفسه عن جرائمه الفظيعة، وكونها عدوانا صارخا، وها نحن لانزال نرى بقايا هذا الغلو بمناسبة مضي قرنين على ذلك العدوان الصارخ، متمثلا في قضية الاحتفال بذكراه.
هذا الغلو الناجم عن قصور الحوار يصيب برذاذه أكثر ما يصيب لسان الأمة، فيمس أحد  أركان الهوية الثلاثة، ومن ثم ركن عقيدة الأمة وركن تراثها. وإذا كان حافظ إبراهيم تحدث بلسان لغتنا العربية وهي تنعى حظها بين أهلها عام 1903م:

وناديت قومي فاحتسبت حياتي
عقمت فلم أجزع لقول عُداتي
وما ضِقت عن أيٍ به وعظاتِ
وتنسيق أسماء لمخترعاتِ

 

رجعت لنفسي فاتهمتُ حصاتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
وسعتُ كتاب الله لفظاً وغايةً
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ
 
فإن غلو دعاة الفرنكفونية اليوم مسّ حرمات اللسان العربي، الأمر الذي دعا صالح الخرفي إلى القول مستحضرا دور رابطة العلماء والشيخ بشير الإپراهيمي في الحفاظ على العربية:
زُفَّ بالروح، أصبح اليوم رهناً
حسرة (الضاد) في رحيلك عنّا
كنت منها تزلزل الدار، رُكنا
غرُبة الضاد واقعاً جرَّ حُزناً
غيلة اليوم أقربون وأدنى
خنتم العهد في الغد المتمنى
 

 

رسل (الضاد) هل دروا أن حرفا
يا أبا (الضاد) يا بشير الأماني
تشتكي (الضاد) غربةً في حماها
فرحة (الضاد) في الدساتير سادت
غالها الأبعدون بالأمس، لكن
يا دعاة التفرنس اليوم، مهل
ما أخطر هذا الغلو حين يحكم سياسات تتبناها حكومات في تعاملها مع التيارات الثقافية المختلفة في المجتمع، فتعمد إلى حرمان واحد منها من التعبير عن نفسه، وترفض الحوار معه فارضة عزلة وحصاراً، ومقاومة حوارات التيارات الأخرى معه، ومحاولة استمالتها في إحكام العزلة والحصار عليه.. الأمر الذي يؤدي إُلى لجوئه للنزول تحت السطح والوقوع في أسر رد فعل مغالٍ.. وفي ظل هذا الوضع يتعرض المجتمع بسبب التضييق على حرية التعبير المسؤولة إلى »نقص مناعة«، يؤدي إلى بروز عنف في العلاقة التي تحكم السلطة والناس. ويؤثر هذا العنف على مختلف جوانب الحياة في المجتمع، وعلى جيل الشباب بخاصة. ذلك أن بعض هؤلاء الشباب ينساقون إلى دورة العنف، هذا بحكم نزوع جيلهم إلى المغالاة، كما يفر بعضهم منها بعيدا عن المشاركة في الحياة العامة، وأحيانا عن الحياة نفسها بالعيش في عالم واهٍ تصنعه كيماويات »تسطل«.
في ظل نقص الحوار بين التيارات الثقافية، وغلبة الغلو والمغالاة والمغالين على النطق بلسان كل منها والتعبير عنها، تعاني مناهج التربية والتعليم من عجز من إقامة جسور الحوار في المجتمع وتمثل ثقافاته وحضارته، الأمر الذي يؤدي إلى اهتزاز الهوية، وبفعل الإعلام المعبر عن عزلة كل تيار فعله في هذا الاهتزاز واصلاً به إلى مداه، وفاتحا الباب أمام صراع ثقافي لا يلبث أن يتفجر حربا أهلية، تفسح المجال لتدخل عامل خارجي يستغلها لإضعاف الأمة والتسلط عليها واستنزافها اقتصادياً بتسويق أسلحته لها، وتمزيقها نفسيا بفعل العداء المستشري بين الأخوة.
لقد وصل الأمر في ظل هذا الصراع الثقافي في بعض الأقطار إًلى أن يبرز التساؤل بين بعض أپنائه »أهو عربي الهوية أم نصف عربي؟ أم غير عربي؟« في حمى الاقتتال. وحدث في الاقتتال الذي نشب في أكثر من قطر المساس بحرمات كثيرة واقتراف جرائم بشعة. وكم احتاج إيقاف الحرب المتفجرة التي نشبت من جهود وكانت مباشرة الحوار هي السبيل إلى الاتفاق. ويتداعى إلى الخاطر هنا ما كتبه كريم بقردوني في كتابه »لعنة وطن: من حرب لبنان إلى حرب (الخليج)، كمثل من بين أمثلة كثيرة، في فصل »هوية وطن« عن »مسالة علاقة لبنان بمحيطيه العربي« التي ثارت في أوساط تيار ثقافي بعينه فبدت أمامه »علامة استفهام محورية ومعضلة مطروحة قبل الاستقلال اللبناني وبعده، وقبل الحرب اللبنانية وبعدها«. وهو يقرر أن السنين الخمسين المنصرمة »علمتنا أن الاتفاق بين اللبنانيين حول حد أدنى من الحوار كان حافزا رئيسيا من حوافز الاستقلال عام 1943م، كما أن الاختلاف حول هذا الحد الأدنى كان دافعاً أساسيا من دوافع الحرب عام 1975م«. ونحمد الله أن الحوار بين أهلنا في لبنان أوصل إلى إنهاء تلك الأزمة بتأكيد هويته والاتفاق على دوره وخصوصيته في إطار الكل. ولكن محنة قطر عربي آخر لاتزال على أشدها تنتظر الحوار الشامل الذي يؤكد الهوية ويوصل إلى الاتفاق على »جامع مشترك« للدور والخصوصية. كما أن نذر محن أخرى تمثل أحياناً هنا وهناك، مهدده بالتفكيك والتفتيت، ومذكرة بصراعات نشبت في دائرتنا الحضارية حين توقف الحوار بين أپناء الحضارة الواحدة واصطنع التناقض بين أركان الهوية الثلاثة.تقوية جسور الحوار الحاجة ماسة اليوم لتقوية الجسور التي قامت بين جزر تيارات ثقافتنا العربية المعاصرة في بحر وطننا العربي الكبير في دائرة حضارتنا العربية الإسلامية الواسعة، ولتوسيع هذه الجسور وإقامة جسور أخرى، كي تتقارب الموائد المتباعدة المنفصلة وتتصل. فما السبيل لمتابعة الجهود الرامية إلى الوصول بالحوار القائم بين التيارات إلى المستوى المطلوب؟
منطلق  هذا السبيل ومبدأه هو التسليم بأن الحوار فرض لازم وجَّه الله الخالق سبحانه بني آدم إليه ليتعارفوا ويتعاونوا على البر والتقوى. وهو تعالى يسمع هذا التحاور ويدعوا مباشريه إلى أن يكون بالقول المناسب وبالتي هي أحسن تحكمه الحكمة والاقتناع بان الاختلاف القائم بين المتحاورين من سنن الاجتماع الإنساني، وأن ما يعبر عنه من تنوع يغني الحياة، وأن جميع أفراد الأمة في سفينة واحدة، وأن الحوار الرشيد له آدابه، ومنها صيانة حرية التعبير عن الرأي واحترام الرأي الآخر واستهداف الحقيقة، وأن هذا الحوار يمثر أطيب الثمار. وهذا ما يصدقه تاريخ ازدهار العمران والحضارات، ومنها حضارتنا العربية الإسلامية التي شهدت مجالس من أمثلتها ما حفظه لنا أبو حيان التوحيدي في »الإمتاع والمؤانسة« وفي »مقابساته« وما حدثنا عنه أحمد أمين في فجر الإسلام وضحاه وظهره، ويومه، وغيره من مؤرخي الأفكار، وما شهده تاريخنا الحديث.
سياج هذا السبيل التي تصونه وتحميه، وتحول دون الخروج عنه واتباع سبيل تفرّق بنا إلى سبل أخرى يضعف فيها الحوار ويقف، هو التزام »السلطات« بحرية التعبير المسؤولة، والحرية قرينة المسؤولية واعتراف »السلطات« قبل ذلك بكل حقائق التنوع في المجتمع.
يعترض التقدم في السبيل الموصل لازدهار الحوار بين تيارات ثقافتنا العربية ضغط قوى طغيان خارجية علينا لفرض حوار مع عدو يحتل الأرض ويمارس العنصرية ويجاهر بالعدوان، باسم حوار السلام ويزعم بلوغ هدف ترسيخ ثقافة سلام، وما ذاك بحوار، وإنما هو »إملاء«. وما ذاك »السلام« إلا إستسلام، وثقافته »رضوخ«. وتعمد قوى الطغيان هذه إلى استمالة نفر من المثقفين للانخراط في هذه »التمثيلية« مستخدمة أساليب ترغيب ثم ترهيب، وقصدها أن تغطي بها عدوان المعتدي الصهيوني ، وتمكنه من المضي فيه، وأن تعكر صفاء مناخ الحوار الحق في أوساطنا وتلبد سماؤه بالغيوم.
إن التقدم بالحوار يقتضي استحضار الثوابت التي يكون منها الانطلاق والبدء، ونصب عينها تعزيز الهوية وتحقيق المشروع الوطني. وهذا يتطلب أن يأخذ الحوار مكانه اللائق به في مناهج تربية الأجيال وتعليمها احتراما وممارسة عملية، في البيت والمدرسة والمجتمع،  وقد أولى الفكر التربوي العربي هذه المناهج عنايته، ويبقى أن يبذل جهد لتعميمها نظريا وتقديم الأمثلة العملية لها. ولابد هنا من التأكيد على أن هذه التربية تبدأ منذ مرحلة الطفولة الأولى، وإن من بين حقوق الطفل علينا أن يحاورنا ونحاوره ونجيبه على أسئلته المتتالية التي من خلالها يصل إلى المعرفة.
هذا التقدم يتطلب أيضا أن يخدم الإعلام الحوار، ويساند عملية التربية والتعليم. وأثر الإعلام اليوم قوي في ظل ثورة الاتصال، وللتلفزة والسينما والحاسب جاذبيتهم، وهناك مجال واسع رحب لتقديم صورة صحيحة من خلالهم  للحوار المثمر، وهذا يتطلب الحذر من الوقوع في أثر حوار الصم وما بدأ يشيع من »مصارعات حوارية« تحت اسم الراي والرأي الآخر.
التقدم بهذا الحوار يتطلب فيما يتطلب أن يلتزم »السلطان« بالحوار، يحترمه ويوليه عناية ويمارسه ويحرص على مسلتزماته، ويتجمل بالصبر. ومستلزماته كما سبق أن أوضحنا حرية تعبير مسؤولة واعتراف بحقائق التنوع وحق الاختلاف وصولا إلى واجب الالتزام الفردي. وهذا الالتزام السلطاني الرسمي هو السبيل إلى ممارسة الشورى والديمقراطية وقطف ثمارها الطيبة، أصوب الآراء والتلاقي على تحقيق المشروع الوطني ومشروع الأمة الحضاري وبلوغ الأمن الاجتماعي.
لن نمل نحن أهل الفكر من الحديث عن قصور الحوار على هذا الصعيد، ومن التنبيه على مخاطر هذا القصور. وسنبقى ندعو إلى أن تكون »السياسة الأمنية« الرسمية في إطار السياسة العامة جزءا منها وليس حاكما عليها مهيمناً. وهذا يتحقق حين تغتني هذه السياسة الأمنية الرسمية بالفكر وآراء المفكرين. واللافت أن المؤسسات المعنية لاتزال في غالبيتها مغفلة تلبية حاجتها هذه.
إن من أهم جوانب الحوار الرسمي هو ذلك الذي يتصل بجيل الشباب في المجتمع، وعلى صعيده يجب أن يتجلى التجمل بالصبر في أروع صوره. ذلك لأن لجيل الشباب خصائصه التي من بينها نزوع إلى الغلو والتطرف. وهذا النزوع لا يتعامل معه بالقمع الذي يورث العنف. وإنما بتوظيفه لصالح المجتمع من خلال الحوار، ولن يفتأ الشيخ المفكر يذكر بحق جيل الشباب على جيله وجيل بلوغ الأشدّ بينما هو يتابع پأسى ما ينساق إليه »السلطان« أحياناً من »عنف« في التعامل مع بعض أپنائنا من الشباب. ويسلم الشيخ المفكر بأن الغلو في مجموعه ليس حسنا ولكن السماح به من خلال حرية الفكر يمكن أن يخفف منه ويأتي به إلى الوسطية والاعتدال، هذا فضلا عن أن في الشباب »حدس« أشار إليه ابن الخطاب كما ذكر الماوردي في أدب الدنيا والدين، تشتد حاجة صاحب القرار للاغتناء به حين يبلور قراره، وقد أوضح جمال البنا في حديثه عن الإسلام والحرية أنه إذا كان الغلو في مجموعه سيء، فإن حرية التعبير عنه تفسح المجال لاستكشاف مالا يستكشفه النقاش المألوف، واستشهد بما قاله شوقي في رثاء أمين الرافعي:

قد يكون الغلو  رأيا أصيلا
في الشباب الطموح والتأميلات
 

 

قيل غال في الرأي قلت هبوه
وكم استنهض الشيوخ وأذكى
 

وبعد..
فإن هذا الحديث عن الحوار بين تيارات الثقافة العربية المعاصرة يدعو إلى الخاطر ماجاء به الهدي الإًلهي من تعليم الله الخالق مخلوقه، الإنسان البيان، وإخباره نبيه ورسوله(ص) »والله يسمع تحاور كما« حين جادلته الصحابية رضي الله عنها في زوجها واشتكت إلى الله، وأن الكثير من آيات الكتاب المبين جاءت في صورة حوار شمل نماذج شتى، فنحمد الله سبحانه ونصلي على رسله وخاتمهم محمد بن عبد الله، ونستلهم من ذلك عزيمة للمضي في سبيل الحوار الموصل إلى تحقيق مشروع أمتنا الحضاري الذي يلتقي عليه أپناء الأمة من مختلف تيارات ثقافتهم، ليسهموا في عمران عالمنا.---------------------
*-  ألقي الموضوع في الدورة الثانية عشرة للمؤتمر العام لمؤسسة آل البيت للفكر الاسلامي الذي عقد في 4 و6/8/2002 . تحت عنوان »مستقبل الاسلام في القرآن الهجري الخامس عشر«.

 
 


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية