مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

مستقبل الاسلام في القرن الواد والعشرين
أ. د. هاشم نشابة
استاذ جامعي


 

يشتمل هذا البحث على أفكار قد تبدو متفرقة، إذ يربط بينها هاجس الرغبة في الإجابة على السؤال الكبير الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين »لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟« وإنه من المؤسف والمؤلم في آن واحد، أن الإجابة على هذاالسؤال لم تكن يوما وافية أو مقنعة أو متفقا عليها. ولعل السؤال الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان هو من تلك الأسئلة التي تكمن أهميتها في طرحها لا في الإجابة عليها.

ذلك أن معايير التقدم والتأخر نسبية، والحضارات الإنسانية، تتفاعل فتأخذ من بعضها وتتفاعل بشكل مستمر، بحيث تصبح كل حضارة مدينة لما سبقها وما تفاعلت معه من حضارات معاصرة له، لتورث الإنسانية حضارة أو حضارات جديدة… فلا صدام ولا صراع بين الحضارات بل تفاعل وتكامل.

ثم إن الإسلام كدين هو بخير، لأنه دين الحق. والإسلام بخير لأنه دين العدل والسلام، ولأنه دين مكارم الأخلاق. وإن الله حافظ هذا الدين وميسر له من المؤمنين به من يحافظون عليه. (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) .

المشكلة أو القضية هي في المسلمين. وإن القائل بأن ليس من فرق بين الإسلام والمسلمين كالقائل بأن الفكرة والتطبيق شيء واحد. غير أن هذا التفريق بين الإسلام والمسلمين لا يعني أپدا أن المسلمين لا يؤثرون في مجرى التاريخ الإسلامي، أو أنهم لا يؤثرون على صورة الإسلام، وإنما نقصد، أن ليس لفئة من المسلمين أن تصادر الإسلام، أو أن تعتبر أن هذا الدين ملك لها وحدها. أو أنها هي وحدها التي تمثله، فالدين لله، وقد أراده سبحانه (رحمة للعالمين).

ولعلّ القصد من هذا الموضوع التذكير بأن المستقبل يُصنع اليوم، ولذلك فإذا تحدثنا عن المستقبل، فإنما نريد أن نتحدث في الوقت نفسه عن الحاضر، ونحلله ونتساءل إلى أي حال سيؤدي بنا هذا الحاضر الذي نعيش.

ولما كان المستقبل مستودع طموحات المسلمين ومعقد آمالهم – كما التاريخ مستودع تراثهم – فإن المستقبل الذي نطمح إليه كعرب وكمسلمين هو، من وجهة النظر هذه، نقيض الحاضر.

فمن أي من هذه الجوانب نتناول موضوع مستقبل الإسلام؟ أمنَ الجانب الديني الذي يحتّم علينا أن نقول بأن المستقبل هو لصالح الإسلام لأنه »دين المستقبل«؟ أم ننظر إلى المستقبل على أساس أنه نتيجة الواقع الذي نعيشه اليوم؟ وصورة المستقبل في هذه الحال قاتمة مظلمة. أم ننظر إلى المستقبل من حيث أنه يحتمل كل الإمكانات، فلا الحتمية الدينية تقرره، ولا الواقع المعاش يحدد معالمه، بل إن إرادة الشعوب هي وحدها التي تقرر ماسيكون عليه؟

لعل هذه النظرة الأخيرة هي الأقرب إلى مانريد، لا لأن الحتمية الدينية غير صحيحة، ولا لأن الواقع المعاش لا يصنع المستقبل وإنما لأن النظرة الإرادية للمستقبل هي أكثر فائدة للمسلمين في حاضرهم وفي مستقبلهم القريب على الأقل. فإن كانت أحداث الماضي الإسلامي هي إلى حد بعيد نتيجة تصرفات المسلمين، فإن أحداث المستقبل ستكون نتيجة فعل إرادي للمسلمين في حاضرهم وفي مقبلات الأيام. فالتاريخ – سواء كان تاريخ الماضي أو تاريخ المستقبل – هو من صنع الإنسان، وإن الله تعالى يوفقنا إن نحن أحسنا فهم رسالته، ويعاقبنا إن نحن تخلينا عنها. قال تعالى: (فَمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).

لذلك رأيت أن أتناول هذا الموضوع انطلاقا من مراقبة الخطوط الكبرى لإيجابيات الواقع الذي تعيشه الأمة وسلبياته، على أمل أن يسهم ذلك في رسم صورة المستقبل على أساس الإستفادة من الإيجابيات ومعالجة السلبيات.

فلننظر إلى حاضر الإسلام من حيث إيجابياته وسلبياته لعلنا بذلك نستشرف المستقبل الذي ينتظرنا.

 

الإيجابيات:

إلايجابية الاولى: الحاضر الإسلامي أن النمو العددي للمسلمين هو أكثر من نمو أي دين آخر. فإن قيل بأن العبرة اليوم في النوع لا في العدد، فلا يجوز، مع ذلك، أن نهمل العدد ونستخف به. لأن عدد المسلمين الذين يتزايدون بسرعة مذهلة لا يتزايدون بسبب التوالد وحسب، وإنما بسبب إعتناق الإسلام من قِبَل غير المسلمين أيضا. وهذا التزايد لا يتم في دول العالم الثالث وحسب، وإنما يتم في الدول النامية أيضا. ثم إن نوعية المسلمين الجدد مميزة حتى حسب المعايير المادية الصرفة. وفي مطلق الأحوال، فإن الإسلام يعتز بأتباعه ويتباهى، يعتز بعددهم ويتباهى بـإيمانهم أيا كان منشأهم وكيفما كانت أحوالهم. ألم يقل جل جلاله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ؟ ثم ماهو معيار النوعية التي يقاس بها البشر؟ فربّ إنسان فقير في أفريقيا أقرب في حياته إلى الفضيلة من إنسان ثري في أميركا. والمستضعفون في الأرض ليسوا بالضرورة أسوأ من حيث النوع من الذين يستقوون ويسيطرون ويظلمون. وإن كنا نؤمن بانتصار الخير على الشر فلابد لهؤلاء المستضعفين، إن حزموا أمرهم وأقبلوا على العلم وتمسكوا بالقيم، أن يكون لهم الدور الأكبر في قيادة الإنسانية. وأخيرا لا ريب أن العدد هو أحد مصادر القوة والمنعة، ولذلك فإن تزايد عدد المسلمين في العالم هو من الإيجابيات التي لا يجوز الإستخفاف بها عند تقويم حال الأمة الإسلامية.

الإيجابية الثانية: هي الثروة المادية المتوفرة في العالم الإسلامي. ولن أدخل في التفاصيل لسببين: الأول أن المقام لا يتسع لذلك، والآخر، فلأنني لا أريد أن يؤخذ بيان الثروة الهائلة المتوافرة في العالم الإسلامي على محمل الإنتقاد غير المباشر للأنظمة أو الحكومات التي لا تحسن الإستفادة من الثروات المتوافرة لديها. ويكفي القول بأن هذه الثروات لابد أن تستغل عاجلا أو آجلا، إستغلالا مجزيا من قبل الحكومات والشعوب الإسلامية، التي تمتلكها فيرتد ذلك خيرا على الحكومات والشعوب وعلى الناس كافة.

الإيجابية الثالثة: هي في التقدم العلمي الذي تشهده الدول الإسلامية في العالم. فقد خطت هذه الدول خطوات واسعة، وإن كان مايزال أمامها خطوات، في طريق التعلم في جميع مراحله، ودخلت شعوب إسلامية عديدة عصر التكنولوجيا والمعلوماتية من بابه الأوسع، وحققت إنجازات باهرة. فأثبتت دول اسيوية إسلامية، مثلاً، أن التكنولوجيا الحديثة ليست عصية عليها، وأن الاسلام لا يقف عائقا في سبيل ذلك بل هو الدافع للرقي وطلب العلم وتطوره.

الإيجابية الرابعة: هي في الميدان الإجتماعي . وأبرز الإيجابيات في هذا الميدان هي تحرير المرأة من الجهل، ومشاركتها في بناء المجتمع، وفي جميع نشاطاته. وكل الدلائل تشير إلى أن هذه المسيرة النسائية مستمرة وتتقدم بسرعة، وأنه لايمكن بعد اليوم إيقافها، حتى وإن وضعت في وجهها العراقيل.

الإيجابية الخامسة: هي الميدان السياسي. فالوعي السياسي يتنامى في العالم الإسلامي. ومع أن مسيرة الديمقراطية تتعثر في بلدان كثيرة، فإن تعثرها هو غالبا بسبب الدول نفسها التي تدعي الحرص على الديمقراطية. وهذه حالة غير طبيعية لابد، عاجلا أو آجلا، أن تزول، بحيث يفسح المجال للدول الإسلامية في أن تقرر مصيرها بحرية بعيدا عن القهر أو الإستبداد فلا يجوز أن تـُشجَّع الديمقراطية عندما يكون ذلك لصالح الدول العظمى، ويفضّل عليها الحكم الإستبدادي حيث لا تخدم الديمقراطية هذه المصالح.

هذه كبرى الإيجابيات، ولعل هناك غيرها، ولكن ما ذكرناه منه كافيا لإشاعة مناخ من التفاؤل عند النظر إلى المستقبل. وربّ قائل بأن المشكلة ليست في التفاؤل بالمستقبل، بل هي في إمكانية تحقيق الآمال في المستقبل القريب. فأي جدوى لتفاؤل يرى الخير في مستقبل بعيد قد لا يتحقق إلا بعد قرن أو يزيد. ثم إن التفاؤل لا يكون تفاؤلا علميا إلا إذا اتضحت الرؤية وتوافرت الأسباب المؤدية للتقدم، ووضعت له الخطط على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وبوشر بالتنفيذ. عند ذلك يصبح للتفاؤل معنى.. كل ذلك يتطلب ثقافة تؤمن بالتقدم ومتطلباته. فالتقدم هو بالدرجة الأولى حالة فكرية وإرادية تغرس في الأفراد وفي الشعوب، في المنزل وعلى مقاعد الدراسة وعبر وسائل الإعلام.

 

السلبيات:

وأما سلبيات الواقع الإسلامي فهي مع الأسف أكثر من الإيجابيات، وكثرتها هي التي تشيع عند البعض التشاؤم حتى القنوط.

ولن أفيض في ذكر هذه السلبيات، فهي معروفة، والترويج لها والإعلان عنها قائم على قدم وساق، ولأسباب شتى، بعضها نبيل وبعضها غايته لإثارة البلبلة في النفوس، وإضعاف الإرادة القومية والوطنية، ونشر روح الإستسلام بين الشعوب الإسلامية. ولذلك لابد من التأكيد بأن أي ذكر للسلبيات التي تعيق تقدم الشعوب الإسلامية لا يستهدف توفير شروط النهضة ومعالجة أسبابها وتقديم الحلول لها، هو عمل لا خير فيه ولا جدوى.

السلبية الاولى: ولعل أكبر سلبيات الواقع الإسلامي المعاصر هو حالة التفرق والتبعية التي تشكو منها الدول والشعوب الإسلامية. فنحن نواجه – متفرقين – مشكلات الحاضر والمستقبل، وكل دولة إسلامية تبرر تفردها في مواجهة هذه المشكلات بأن وضعها مختلف عن وضع أية دولة إسلامية أخرى. وهو منطق يغري بالقبول. ولكن هذا المنطق يؤدي في النهاية إلى تغليب المصالح الوطنية على مصالح الأمة. بل لعله يؤدي إلى قيام حروب بين الدول الإسلامية. ولنا أكثر من شاهد على ذلك. إن هذا المنطق لابد من تغييره على أساس تعزيز الثقة بين الدول الإسلامية، وتوثيق عرى التعاون بينها في شتى الميادين. بل لعلنا نطمح إلى قيام »ميثاق تضحية« - إن جاز التعبير – ينصر فيه القوي من الدول الإسلامية ضعيفها في شتى المجالات.

السلبية الثانية: التي تواجهنا هي أن أقوياء العالم هم ضد المسلمين، إن لم نقل ضد الإسلام. وقد يحتد هذا العداء أو قد يخف، حسب الظروف والمصالح، ولكنه عداء قائم، ويبدو أنه سيبقى قائما في المستقبل المنظور. بل إن بعض الدول والشعوب المستضعفة هي أيضا ضد الإسلام والمسلمين، إما طمعا في كسب رضى الأقوياء أو بتأثير صورة الإسلام المشوهة، التي تبثها وسائل الإعلام المعادية للإسلام والمسلمين.

في مثل هذه الحال فإن مستقبل الإسلام مع دول العالم يكمن في قدرة الدول الإسلامية على الإستفادة من عولمة الإعلام لتصحيح صورة الإسلام والمسلمين. ولكن الدعاية والإعلام وحدهما لا يكفيان، بل إنهما لا يصبحان ذا أثر فعال إلا عندما يعكسان الواقع. فأول متطلبات نجاح أية حملة إعلامية أو دعائية هو الصدق. فنحن لا نستطيع أن ندعي الديمقراطية والعدل والحرية والإنفتاح – وهي الركائز التي تبنى عليها أية حملة لتصحيح صورة الإسلام والمسلمين – إن لم نكن فعلا ديمقراطيين في أنظمتنا، عادلين في تعاملنا مع الآخرين، أحرارا ونحترم الحريات، ومنفتحين على العالم دون حرج أو إدعاء.

السلبية الثالثة: هي في كون الحضارة المادية والتكنولوجية في يد غيرنا. وجميع الدلائل تشير إلى أن هذه التكنولوجيا ستبقى في يد غيرنا إلى أمد بعيد. بل أن من المستبعد أن تحرز الدول الإسلامية السبق في هذا الميدان. لذلك لابد لنا من أن نحرز السبق في ميدان حضاري آخر غير ميدان التكنولوجيا. وإننا نستطيع مثلاً، إذا استوحينا ديننا وحضارتنا أن نكون سباقين في العدل والأمانة وحسن المعاملة، وهي ميادين لا تحتاج إلى تكنولوجيا، بل العكس هو الصحيح، أي أن التكنولوجيا هي التي تحتاج إليها. إن من الممكن تجاوز تخلفنا النسبي في الحضارة المادية والتكنولوجية إذا أحرزنا سبقا في ميدان القيم، ولكن هذا السبق يتطلب تكوينا فكريا وتربويا مبنيا على تعليم القيم والإيمان بها، قبل تعليم وسائل الإنتاج وتقنياته، ولكن دون إهمالها. ولذلك فإن مستقبل الإسلام والمسلمين رهن بقدرتنا على إيجاد نظرية تربوية متكاملة تتمثل فيها قيم الإسلام السامية. والأهم من ذلك، أن نتمكن من نقل هذه النظرية إلى أجيالنا الناشئة فيتفاعلون معها، بل يسهمون في بلورتها بحيث تصبح فعلا ممثلة لأسمى طموحاتهم، عندئذ تضيق الشقة بين المثال والواقع، أي بين الإسلام والمسلمين، وهذا هو الهدف الأسمى لكل حضارة في علاقتها مع المنتمين إليها.

السلبية الأخيرة: في واقعنا الحضاري، ولعلها الأهم بين جميع السلبيات الآنفة الذكر وهي سلبية نظرية لا ميدانية ولا عملية، عنيتُ فقدان الرؤية، فإن افتقدت الرؤية ضاع الجهد. فإذا اتصل فقدان الرؤية بالحضارة كان ذلك نذير الفشل الأكبر. فنحن كمسلمين لم نكوِّن لأنفسنا رؤية واضحة للشخصية الحضارية الإسلامية المعاصرة، ثم لن نكوِّن بالتالي تصورا لتطور هذه الشخصية في المستقبل، وسبل تقدمها نحو الكمال، ولأن الشخصية الحضارية الإسلامية المعاصرة غير واضحة، فإن مواقفنا قلقة، مترددة بين الحداثة والتقليد، بين التغريب والتأصيل ، بين العصرنة ورفضها … إن مواقفنا أشبه بفرس امرئ القيس »مقبلة مدبرة معا كجلمود صخر حطه السيل من علِ«.

يقول رضوان السيد: (1) أنه لم يصدر في الأربعين سنة الأخيرة إلا ثلاث محاولات جادة باللغة العربية عن مفهوم الحضارة والعلاقات بين الحضارات، هي كتابات مالك بن نبي بين 1955 و1962، ودراسة قسطنطين زريق عام 1964 في معركة الحضارة، ودراسة للدكتور حسين مؤنس عام 1977 بعنوان: الحضارة دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها.

إن صحّ هذا القول، وهو في نظري صحيح، فإن مسيرة تقدم العالم العربي والإسلامي في القرن الواحد والعشرين لايمكن أن تكون مسيرة واضحة أو حثيثة، وحريّ بنا ونحن نعدّ للمستقبل أن ننكب على دراسة رسالة الحضارة العربية والإسلامية، وعلاقتها بالشعوب والحضارات الأخرى في هذا القرن. عسانا بذلك أن نتبين معالم الطريق نحو مستقبل يكون فيه الخير لنا وللناس كافة.

 
---------------------
(1) أنظر ((المسألة الحضارية ومظاهر المأزق العربي الإسلامي)) في مجلة الاجتهاد عدد خريف وشتاء العام 2001 / 2002م 1422هـ ، ص 304..


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية