مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

التقريب
بين المذاهب الاسلامية(*)
أ. د. محمد عمارة
مفكر اسلامي من مصر

في الحديث عن التقريب بين المذاهب الاسلامية، هناك خلط بين المفاهيم المرادة من وراء المصطلحات التي يستخدمها الباحثون في هذا الميدان.. »فالتقريب« بين المذاهب غير »التوحيد« للمذاهب.. وكلاهما متميز عن »احتضان« جميع المذاهب والاستفادة من الملائم في أحكامها واجتهادات مجتهديها.

ثم إن »المذاهب« قد يراد بها »المذاهب الفقهية«.. وقد يراد بها »المذاهب الكلامية«. لذلك، لابد من البدء بتحديد وتحرير مضامين ومفاهيم كل مصطلح من هذه المصطلحات.

»فالتقريب«: هو الانطلاق من تمايز المذاهب المتعددة والمختلفة، مع العدول عن نفي مذهب للمذاهب الأخرى، بالتعصب لمذهب واحد، ورفض ماعداه.. فهو – التقريب – تعايش بين المذاهب المختلفة، مع اكتشاف الإطار العام الجامع لها، ومناطق الاتفاق بينها، وتحديد مناطق التمايز والاختلاف.

أما »التوحيد« بين المذاهب: فإنه يعني دمجها جميعاً في مذهب واحد، ونفي قاعدة التعدد والتمايز والاختلاف..

وبين هذين المصطلحين يأتى »الاحتضان« والاستفادة من المذاهب المختلفة والمتمايزة، باعتبارها اجتهادات إسلامية في إطار علم واحد وحضارة واحدة ودين واحد، والنظر إلى الأحكام التي أثمرتها الاجتهادات المذهبية المختلفة باعتبارها التراث الواحد للأمة الواحدة، ومن ثم الاستفادة بالملائم منها، الذي يلبي حاجات تحقيق المصالح والضرورات المتجددة بحكم تمايز الزمان والمكان وتنوع العادات والتقاليد والأعراف.. أي توسيع دائرة الترجيح بين الأحكام والاجتهادات من نطاق المذهب الواحد إلى جملة المذاهب كلها.. ومفهوم »الاحتضان« هذا من الممكن أن يكون ثمرة من ثمرات »التقريب«.

أما مصطلح »المذاهب«، فإنه يطلق على المذاهب الفقهية، التي هي علم الفروع، واجتهادات الفقهاء في إطار الشريعة الإسلامية الواحدة، التي هي وضع إلهي ثابت عبر الزمان والمكان.. وقد يطلق هذا المصطلح »المذاهب« على المذاهب الكلامية، أي التصورات والاجتهادات التي أبدعها علماء أصول الدين في إطار العقائد الإسلامية، وخاصة »الألوهية« وصفات الذات الإلهية .. و»النبوات والرسالات« وما يتعلق بها من المعجزات.. و»فلسفة العلاقة بين الحق والخلق«، وما يتعلق بها من مكانة الإنسان في الكون، وأفعال هذا الإنسان .. الخ.

هذا عن ضبط مفاهيم ومضامين مصطلحات هذا المبحث من مباحث الفكر الإسلامي.

* * *

أما عن التاريخ الحديث للجهود والدعوات التي بذلت وقامت للتقريب بين المذاهب الفقهية الإسلامية، بهدف الخروج من التعصب لواحد منها ضد ماعداه، والاستفادة من كل الاجتهادات فيها، لتلبية احتياجات التشريع للمستجدات العصرية.. فلعل دعوة الإمام الشيخ محمد عبده (1265 – 1323هـ ، 1849 – 1905م) في التقرير الذي كتبه لإصلاح القضاء الشرعي – أن تكون أبرز هذه الدعوات في عصرنا الحديث، لاحتضان كل مذاهب الفقه الإسلامي، والاستفادة من اجتهاداتها في القضاء والتقنين الحديث لفقه الشريعة الإسلامية .. فلقد كانت الدولة العثمانية (669 – 1342هـ ، 1299 – 1922م) تلتزم المذهب الحنفي وحده، وبفقهه وحده يحكم القضاء ويفتي المفتون في ولاياتها، رغم تمذهب الناس فيها بالمذاهب السنية الأربعة: الحنفي.. والمالكي.. والشافعي.. والحنبلي.. وللمذهب الحنفي وحده تم التقنين في »مجلة الأحكام العدلية« عام 1286هـ 1869م .. فلما درس الإمام محمد عبده حال القضاء الشرعي بمصر ، دعا في التقرير الذي كتبه في نوفمبر عام 1899م – إلى إصلاح حال هذا القضاء وفقهه.. ودعا إلى احتضان كل المذاهب الفقهية والاستفادة من اجتهادات جميع مجتهديها، لما في ذلك من فتح باب الاجتهاد ، والتيسير على الناس، وتلبية حاجات المستجدات (الأعمال الكاملة ج 2، ص 209 – 288).

ولقد كانت حركة التقنين للفقه الإسلامي بمصر، في مقدمة الحركات التي وضعت دعوة الإمام محمد عبده في الممارسة والتطبيق.. ففي التعديلات التي أدخلت على بعض مواد قوانين الأسرة – الأحوال الشخصية – تمت الاستفادة من المذاهب الفقهية المختلفة، بما في ذلك المذهب الجعفري – للشيعة الاثني عشرية – والمذهب الزيدي – للشيعة الزيدية.

ولما قامت مصر بإصدار موسوعة الفقه الإسلامي – موسوعة جمال عبد الناصر – اعتمدت كل المذاهب الفقهية الموثقة مصادرها، واحتضنت أحكامها واجتهادات مجتهديها جميعاً – وهي المذاهب السنية الأربعة. مع المذهب الجعفري ، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي ، والمذهب الظاهري.. فكانت »للفقه المصري« - إذا جاز التعبير – الريادة في انتهاج هذا الطريق الذي لا يكتفي، فقط »بالتقريب« بين المذاهب الفقهية، أي رفض التعصب لمذهب واحد ضد ماعداه، وإنما تجاوز »الموقف المصري« هذا »التقريب« إلى »احتضان« كل المذاهب، والعمل على الاستفادة من الملائم الملبي لاحتياجات الأمة ومستجدات العصر من اجتهادات المذاهب الفقهية جميعاً.

وفي أربعينيات القرن العشرين، قامت في مصر »جماعة التقريب بين المذاهب«، مركزة جهودها على مذاهب السنة والشيعة الإمامية بوجه خاص.

ولقد رأس هذه الجماعة الزعيم المصلح محمد علي علوبة باشا (1292 – 1375 هـ ، 1875 – 1956).. وكان في مقدمة مؤسسيها والعاملين في ميدان جهودها الفقهية والفكرية الأئمة والعلماء الأعلام: الشيخ عبد المجيد سليم (1299 – 1374هـ ) والشيخ محمد مصطفى المراغي (1298 – 1364هـ، 1881 – 1945م) والشيخ  مصطفى عبد الرازق (1302 – 1366هـ ، 1885 – 1946م) والشيخ محمود شلتوت (1310 – 1383هـ ، 1893 هـ – 1963م) والشيخ محمد المدني (1325 – 1388 هـ ، 1907 – 1968م) والشيخ علي الخفيف (1308 – 1398هـ ، 1891 – 1978م) والشيخ عبد العزيز عيسى (1327 – 1415هـ ، 1909 – 1994م) والشيخ حسن البنا (1324 – 1368هـ ، 1906 – 1949م) والشيخ سيد سابق.. وغيرهم من أئمة علماء السنة.

كما ضمت هذه اللجنة – في إطار »دار التقريب«- كوكبة من كبار علماء الشيعة الاثني عشرية.. من مثل آية الله اقا حسين البروجردي.. والسيد محمد تقي الدين القمي – الذي تولى الأمانة العامة للجماعة – والسيد محمد ال حسين آل كاشف الغطاء.. والسيد شرف الدين الموسوي.. والسيد محمد جواد مغنية.. والسيد صدر الدين شرف الدين.. وغيرهم.

وكانت مجلة »رسالة الإسلام« لسان حال هذه الجماعة، من أبرز المنابر الفكرية التي تجسدت فيها الجهود التي بذلت في هذا اللون من التقريب بين المذاهب الاسلامية.. وفي إزالة الشبهات والعقبات من ميادين العلاقة بين السنة والشيعة على وجه الخصوص.

كذلك، كانت جهود الشيخ محمود شلتوت من أبرز ما تمخضت عنه اجتهادات هذا اللون من التقريب بين المذاهب الفقهية.. فلقد كتب عن مقاصد هذه الدعوة، وجهود هذه الجماعة فقال: »إن دعوة التقريب هي دعوة التوحيد والوحدة، هي دعوة الإسلام والسلام.. كنت أود أن أستطيع تصوير فكرة الحرية المذهبية الصحيحة المستقيمة على نهج الإسلام، والتي كان عليها الأئمة الأعلام في تاريخنا الفقهي، أولئك الذين كانوا يترفعون عن العصبية الضيقة، ويربأون بدين الله وشريعته عن الجمود والخمول، فلا يزعم أحدهم أنه أتى بالحق الذي لا ريب فيه، وأن على سائر الناس أن يتبعوه، ولكن يقول: »هذا مذهبي، وما وصل إليه جهدي وعلمي، ولست أبيح لأحد تقليدي واتباعي دون أن ينظر ويعلم من أين قلت ما قلت، فإن الدليل إذا استقام فهو عمدتي، والحديث إذا صح فهو مذهبي«.

»ولقد آمنت بفكرة التقريب كمنهج قويم، وأسهمت منذ أول يوم في جماعتها، وفي وجوه نشاط دارها بأمور كثيرة، ثم تهيأ لي بعد ذلك، وقد عهد إليَّ بمنصب مشيخة الأزهر، أن أصدرت فتواي في جواز التعبد على المذاهب الإسلامية الثابتة، الأصول، المعروفة المصادر، المتبعة لسبيل المؤمنين، ومنها مذهب الشيعة الإمامية الأثني عشرية.. وقرت الفتوى عيون المؤمنين المخلصين الذين لاهدف لهم إلا الحق والألفة ومصلحة الأمة. وظلت تتوارد الأسئلة والمشاورات والمجادلات في شأنها وأنا مؤمن بصحتها، ثابت على فكرتها، أؤيدها في الحين بعد الحين، فيما أبعث به من رسائل إلى المستوضحين، أو أرد به على شبه المعترضين، وفيما أنشئ من مقال ينشر أو حديث يذاع، أو بيان أدعو به إلى الوحدة والتماسك والاتفاق حول أصول الاسلام ، ونسيان الضغائن والأحقاد، التي أصبحت – والحمد لله – حقيقة مقررة تجري بين المسلمين مجرى القضايا المسلمة، بعد أن كان المرجفون في مختلف عهود الضعف الفكري والخلاف الطائفي والنزاع السياسي، يثيرون في موضوعها الشكوك والأوهام بالباطل، وها هو ذا الأزهر الشريف ينزل على حكم هذا المبدأ، مبدأ التقريب بين أرباب المذاهب المختلفة، فيقرر دراسة فقه المذاهب الإسلامية، سنيها وشيعيها، دراسة تعتمد على الدليل والبرهان، وتخلو من التعصب لفلان وفلان« (كتاب مشيخة الأزهر) للشيخ علي عبد العظيم . ج 2 ص 187 ، 188.

هكذا تحدث الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، عن فكرة التقريب بين المذاهب الفقهية الإسلامية، والتقريب بين أرباب هذه المذاهب – أي بين علماء السنة والشيعة.. وعن شمول هذه الدعوة لكل المذاهب الفقهية الثابتة الأصول، المعتمدة المصادر، المتبعة لسبيل المؤمنين. وعن جواز التعبد بفقه جميع هذه المذاهب دون استثناء.. كما حدث عن الجدل الذي دار حول فتواه بهذا الخصوص.. وعن تبني الأزهر الشريف لهذا الاتجاه في التقريب بين مذاهب الفقه الاسلامي.

أما نص الفتوى التي أصدرها الشيخ شلتوت، والتي أثارت جدلا فكريا حول هذا الموضوع.. فلقد جاءت ردا على سؤال نصه:

»إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عبادته ومعاملاته على وجه صحيح، أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه، فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإثنا عشرية مثلا؟«..

 

فكان جواب الشيخ شلتوت على هذا السؤال:

»إن الإسلام لا يوجب على أحد اتباع مذهب معين، بل نقول: إن لكل مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحاً، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره – أي مذهب كان – ولا حرج عليه في شيء.

إن مذهب الجعفرية، المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته تابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى ، يجوز – لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد – تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات« - كتاب (مشيخة الأزهر« ج 2 ص 188.

ذلك هو نص فتوى الشيخ شلتوت في التقريب بين المذاهب الفقهية. وفي جواز التعبد والتعامل وفق أحكامها جميعا دون تعصب لمذهب ضد ماعداه.

وجواز التعبد والتعامل – من قبل أهل السنة – وفق فقه المذهب الجعفري للشيعة الإمامية الإثنا عشرية على وجه التحديد.

ورغم أن هذه الفتوى قد وجدت صدى عظيما وواسعاً ومستمراً في الدوائر الشيعية، ورفعت من مقام الشيخ شلتوت في هذه الدوائر، حتى لقد تم الاحتفال به وبآية الله البروجردي في طهران عام 2001م.. ولقد ترجم علماء الشيعة فتواه هذه الى مختلف اللغات إلا انه لم تصدر فتوى مناظرة لها من أي مرجع من مراجع الشيعة، ولم يفت واحد من هؤلاء العلماء الأعلام بجواز تعبد وتعامل المسلم الشيعي وفق فقه المذاهب الفقهية السنية، حتى يكون التقريب متبادلا بين الأطراف المتعددة، وليس من طرف واحد لحساب الطرف الثاني!

بل إن دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية – الصادر بعد الثورة الإسلامية – قد ذهب إلى الحد الذي جعل المذهب الجعفري وحده هو مذهب الدولة، ونص على أن المادة التي تقرر ذلك لايجوز تغييرها فيما يطرأ على مواد هذا الدستور من تغييرات!.. الأمر الذي يجعل قضية التقريب بين المذاهب الفقهية قائمة على ساق واحدة، ومن طرف واحد حتى كتابة هذه السطور!..

وإذا كانت لنا من ملاحظات على هذه الجهود العلمية العظيمة التي بذلتها جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية، والتي أثمرت ثمرات طيبة في ميدان التقريب بين السنة والشيعة.. وهي الجهود التي يحاول مواصلتها – قدر الإمكان.. وعلى نحو من الأنحاء - »المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب« بطهران – فإن هذه الملاحظات يمكن إجمالها في هذه النقاط.

أولا: إن توجيه جهود التقريب بين المذاهب الإسلامية إلى التقريب بين المذاهب الفقهية، هو جهاد في غير الميدان الحقيقي الأولى بالجهاد.. أو على أحسن الفروض – هو جهاد في الميدان الأسهل، الذي لا يمثل المشكلة الحقيقية في الخلافات بين المذاهب الإسلامية.. وبين السنة والشيعة على وجه التحديد – فالفقه هو علم الفروع.. وكلما زاد الاجتهاد والتجديد في الفقه الاسلامي كلما تمايزت الاجتهادات في الاحكام الفقهية. ففتح الآفاق أمام تمايزات الاجتهادات هو الذي يحرك العقل الإسلامي المجتهد، وليس التقريب فضلا عن التوحيد لهذه الاجتهادات فقط يزيد احتضان الاجتهادات المذهبية الفقهية المتنوعة، والاستفادة بالملائم من احكامها للتيسير على الناس، ولمواكبة المستجدات.

وثانياً: إن الفقه هو علم الفروع.. وتمايز الاجتهادات فيه واختلاف المجتهدين في أحكامه لم يكن في يوم من الأيام يمثل مشكلة لوحدة الأمة، بل كان مصدر غنى وثراء للعقل الفقهي والواقع الإسلامي على السواء.. وفي الفقه كان الأئمة والعلماء، المختلفون في المذاهب، يتتلمذ الواحد منهم على من خالفه في المذهب.. بل ورأينا في تراثنا من العلماء الأعلام من يجمع المذاهب المتعددة في فقهه وعطائه، فيفتي وفق مذهب، ويقضي وفق مذهب ثان، ويدرس كل المذاهب لطلاب علمه ومريديه!.

فاختلاف المذاهب الفقهية هو ظاهرة صحية في الفكر الاسلامي، وهو مصدر من مصادر الغنى والثراء لهذا الفقه، ولا يمثل أية مشكلة لوحدة أمة الاسلام.. ومن ثم، فليس هو الميدان الحقيقي والأوّلي للجهاد الفكري في التقريب بين مذاهب المسلمين.

وثالثاً: إن الميدان الذي كان ولايزال يمثل مشكلة لوحدة الأمة – التي هي فريضة إلهية وتكليف قرآني – هو ميدان بعض الاجتهادات المذهبية في المذاهب الكلامية  الاسلامية.. وعلى وجه التحديد أحكام »التكفير« و»التفسيق« التي نجدها في تراث هذه المذاهب، والتي ارتبطت بقضية الإمامة على سبيل الحصر والتحديد.

إن اختلاف مذاهب الفقه – السنية والشيعية – حول »نكاح المتعة« مثلاً، لا يمثل مشكلة تقصم وحدة الأمة الاسلامية.. لكن الاجتهادات التي تكفر الصحابة الذين أخروا خلافة علي ابن أبي طالب هي التي تهدد وحدة الأمة منذ عصر الخلافة وحتى هذه اللحظات.

ومثلها الاجتهادات التي تكفر الشيعة في بعض كتب التراث السني، كما هو الحال عند شيخ الإسلام ابن تيمية (661 – 728هـ ، 1263 – 1328م) وبعض الأئمة »السلفيين«.. ويضاف إلى هذه المسائل بعض الآراء التي توهم التجسيد والتشبيه للذات الإلهية.. وبعض المواقف الحادة في ميدان التصوف والصوفيين.

فالتقريب بين المذاهب، والذي يمثل الميدان الحقيقي للجهاد الفكري المطلوب، هو الذي يوحد الأمة في الأصول والثوابت، وفي أمهات العقائد والمسائل الفكرية.. وهذا هو ميدان علم الكلام.. والجهد التقريبي – الغائب والمطلوب – هو نزع  » الألغام الفكرية – التكفيرية« التي تقصم وحدة الأمة بالتكفير لفريق من الفرقاء أو مذهب من المذاهب، لأن التكفير هو نفي للآخر، يقصم وحدة الأمة.. وهو خطر لا علاقة به بالفقه، الذي هو علم الفروع، ولا بالاجتهادات والأختلافات الفقهية، التي هي ظاهرة صحية، تثمر الغنى والثراء في الأحكام، واليسر والسعة للأمة كلها في تطبيق هذه الأحكام.

وإذا كانت هذه »الألغام الفكرية – التكفيرية«، التي تتغذى بها وعليها عقول قطاعات من العلماء في بعض الحوزات العلمية، وفي بعض الدوائر الفكرية السنية.. كما تتغذى عليها نزعات التعصب عند العامة.. إذا كانت هذه »الألغام« قد غدت راسخة، بل و»متكلسة«!.. فإن الموقف الممكن والعملي إزاءها يمكن تصوره فيما يلي:

1- تحديد نطاق هذه »الألغام الفكرية – التكفيرية«.. وأغلبها – لحسن الحظ – نابع من نقل القضايا الخلافية من نطاق »أصول الاعتقاد«، وتحويلها – من ثم – إلى عوامل »نفي.. وتكفير« للمخالفين..

2- اعتماد منهاج وسنة التدرج في تطبيق خطة إزالة هذه »الألغام الفكرية – التكفيرية« من الكتب التراثية، وخاصة الذي يدرس منها في الحوزات العلمية  والجامعات الإسلامية، وذلك بحذفها من الطبعات الجديدة لكتب التراث هذه.. وفق المنهاج المتعارف عليه في (تهذيب) كتب التراث..

3- الاتفاق – في إطار حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية – على منع تدريس هذه (الاجتهادات التكفيرية) في الحوزات والجامعات الإسلامية التي تكون عقول العلماء في مختلف بلاد الإسلام.. ولنا في منهاج الأزهر الشريف النموذج والقدوة في هذا الميدان، فهو يحتضن كل مذاهب الأمة – الفقهية والكلامية – سلفها وخلفها على حد سواء، مع استبعاد التكفير والتفسيق لأي مذهب من المذاهب أو فرقة من الفرق الإسلامية ، حفاظاً على وحدة الأمة، التي هي فريضة إلهية، تعلو فوق اجتهادات المجتهدين ومذاهب المتمذهبين.

وصدق الله العظيم : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الانبياء 92..

ذلك هو الميدان الحقيقي للجهاد الفكري في التقريب بين المذاهب الإسلامية.. إنه علم الكلام.. علم الأصول في الاعتقاد.. وليس علم الفقه والمذاهب الفقهية، التي تتخصص في الفروع، واختلافاتها رحمة واسعة، ولا تفسد الود بين المسلمين.

رسالة التقريب:  ان المجلة لتقدر للاستاذ المفكر الكبير روحه التقريبية العالية وتتوقع ان يمدها بافكاره النيرة ولها حول هذا المقال بعض النقاط.

الاولى: ان العمل الكبير الذي انجزه الامام الشيخ شلتوت لم يكن هو السماح للفرد السني بالتمذهب بالمذهب الجعفري فليس هذا (أي مسألة الانتقال من مذهب إلى آخر) هو الهم؛ اذ من يثبت لديه ارجحية مذهب على آخر فانه ينتقل اليه دون انتظار لفتوى احد، ولكن الرقم الصعب الذي حققه – رحمه الله –هو كسر هذا الحاجز النفسي بين السنة والشيعة والذي كان يترك أثره في التشكيك والريبة وبالتالي في التباعد بينهما حيث اكد اسلامية الشيعة وانتهالهم من المصادر الاسلامية. وعلماء الشيعة بدورهم اكدوا مرارا هذه الحقيقة بحق اخوانهم اهل السنة، فهذه فتوى الامام الخميني(رحمه الله) بلزوم التحاق الايرانيين بصلاة الجماعة في المسجدين والاستشكال في صلاة  الجماعة في محل اقامتهم دليل ذلك.

الثانية: ان ما جاء  في دستور الجمهورية الاسلامية من جعل المذهب الجعفري مذهب الدولة لا يتنافى مطلقا مع مهمة التقريب بين مذاهب المسلمين، ذلك ان الدستور يجب ان يكون المرجع في المسائل الخلافية التي ترتبط بالجانب الاجتماعي العام والتي لا تتحمل خلافا (بخلاف السلوكات الشخصية التي يعمل فيها اتباع كل مذهب وفق مذهبهم).

وحينئذ لا مناص من اتباع مذهب الاكثرية وهو مافعله الدستور الايراني  وهو نفس الحل الذي طرحه المرحوم الشيخ ابو الأعلى المودودي حين ووجه بمسألة اختلاف المذاهب كعقبة امام قيام الحكم الاسلامي، فاعتماد المذهب الجعفري من قبل الدولة الاسلامية الايرانية جاء معتمداً على عامل الأكثرية السكانية لهذه البلاد، وليس تجاوزا لمذاهب المسلمين الأخرى ولذا عملت الدولة وسعها على تعزيز فعاليات تلك المذاهب في مناطق وجودها كالنشاط الحوزوي ، والحركة الثقافية كترجمة مؤلفات علماء المذاهب الأربعة كمؤلفات الشيخ يوسف القضاوي، حفظه الله – مثلاً – التي انتشرت بشكل واسع في ايران، وغيرها من مؤلفات علمية قيمة.. ولقد نمت الحوزات العلمية للمذاهب الأربعة في مناطق المسلمين السنة، في الجمهورية الاسلامية كما ، وكيفا ، بشكل لم يشهد له تاريخ ايران مثيلا.. كما ان دور اتباع المذاهب السنية في الحياة العامة للبلاد لا يختلف مطلقا عن دور غيرهم في الانتخابات العامة او المشاركة في المجالس البرلمانية، والحياة الثقافية او غيرها ، رغم كونها اقلية بالنسبة لسكان البلاد..

الثالثة: وبخصوص موقف أئمة الشيعة الأمامية من اتباع المذاهب المسلمة الأخرى، فهو صريح بضرورة اشاعة المودة والتآلف والتعارف معهم، والحرص على اشاعة المعروف والتواصل بين المسلمين كما هي سيرة سائر الأئمة من أهل البيت(ع) مع المسلمين؛ حتى ان الامام الصادق(ع) دعا اصحابه الى ان الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله(ص) قطعا لدابر الخلاف، والقطيعة بين المسلمين، ونجد في وصايا الامام جعفر بن محمد الصادق(ع) الى شعبة الكثير من هذه المفاهيم كما ورد في »تحف العقول« لأني شعبة الحراني، ونستطيع ان نجد في دعوة أهل البيت(ع) ، وعلماء مدرستهم، الموقف الصريح الواضح لوحدة المسلمين، وتنبيههم ونبذ الفرقة بينهم، وتآلفهم، والوقوف في وجه حالات التطرف، والتفسيق لاصحاب الرأي الآخر، كما يتضح ذلك في كتاب »الفصول المهمة لتأليف الامة« للأمام السيد شرف الدين الذي جمع في ذلك الكتاب القيّم، أروع الروايات التي تحث على وحدة الامة والمسلمين تحت رأية القرآن، والسنة الشريفة، كما نجد ذلك صريحاً في كتاب »الدعوة الاسلامية للوحدة بين أهل السنة والأمامية« للمرحوم الشيخ ابو الحسن الخنيزي رحمه الله. ان الروح التي اشاعها العلماء المجاهدون من اتباع اهل البيت(ع) تمثل أروع المواقف الرسالية المخلصة لجمع الصفوف واحترام المذاهب المسلمة الاخرى واحتضان اتباعها اخوة في الدين والمصير.

الرابعة: ان التقريب  يشمل كل نواحي الحياة الفكرية العقائدية والفقهية العملية فيجب العمل في كل المجالات لتحقيق (تعايش بين المذاهب المختلفة مع اكتشاف الاطار العام الجامع لها، ومناطق الاتفاق بينها وتحديد مناطق التمايز والاختلاف) كما عبٍر عمارة في مطلع المقال. اما التفكير والتفسيق والتبديع فهو المرفوض وخصوصا عبر عملية الزام القائل بلوازم قوله – كما نتصورها نحن .

ونحن نتفق مع في لزوم اتباع الموقف العملي المقترح.

 
---------------------

*-  نقلا عن مجلة الهلال لعدد شعبان 1423.


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية