مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

الاسلام دين الوسطية والاعتدال
أ.د. وهبة الزحيلي
أستاد في جامعة دمشق – كلية الشريعة


تقديم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الإسلام دين الحق والاعتدال والسماحة والسلام، والسمو والرقي، وملازمة العدل في كل شيء عام أو خاص، فكل ما صادم هذه المبادئ، واصطبغ بأضدادها، لم يكن من الإسلام، وإن تأوّله فرد أو حاكم أو جماعة، فهم مخطئون مسؤولون عما يقترفون من الباطل أو التطرف والتشدد، أو العدوان، أو الدنو أو الإسفاف، أو الجور وغير ذلك من أحوال الانحراف والضلال والشذوذ.
ويعتزّ التاريخ أو يهبط بحسب التوجه في إحدى المسيرتين، ولم تكن الصفحات النيرة من تاريخ المسلمين إلا حينما كانوا ملتزمين جادة الحق(134)
 والاعتدال والعدل، أما العثرات والانحراف فكانت وبالاً وشراً على أصحابها أولاً، وعلى تاريخ أمتهم ثانياً.
وما على العقلاء الراشدين الذين يريدون تخليد التاريخ لهم إلا أن يكونوا بعيدي النظر، يستشرفون آفاق المستقبل، فيلازمون سكينة النفس، وهدأة الوجدان والضمير، ويفعلون الخير، وينصاعون لنداء التدين الصحيح، ويرعون قيم الأخلاق الثابتة، ويقدّمون المصلحة العامة على المصلحة الخاصة أو الأهواء الذاتية.
وآفة الانحراف أو الشذوذ والتطرف تكمن وراء الجهل أو الاستبداد، أو التقليد الأعمى أو التصرفات المرتجلة دون روية، أوتشاور، أو تقدير هادئ لعواقب الأمور.
والحكيم هو الذي يتفادى المخاطر أو النتائج المدمرة قبل وقوعها، فإذا انزلق في خطر ما، صعب عليه بعدئذ التراجع عنه، مالم يؤدب، أو يزجر، أو يتعرض لصفعات قاسية.
وأمام هذه الاحتمالات، كان لابد لكل مقدم على شيء أن يكون واعياً تمام الوعي، ليضمن لنفسه السلامة والسمعة الطيبة، وينأى بنفسه عن المخاطر والمزالق، فإن التصلب أو التشدد أو التطرف سبب السقوط والانهيار وتشويه السمعة.
وهذا يقتضي ضرورة بحث ظاهر التطرف أو الإرهاب ليأمن الشبان من الوقوع في هاوية الضياع، والفتنة والفساد، ومتاهة الانحراف. والبحث يكون في ضوء أو ميزان شرعة الله والإسلام، وفي هدي القرآن والسنة والسيرة النبوية، على النحو الذي يقرره ثقات أهل العلم، لا يفهم الفتية الطائشين أو الأغرار صغار الأحلام والعقول. (135)
ومحاور خطة البحث تكون على النحو الآتي:
· تعريف التطرف وأنواعه.
· الفرق بين الإرهاب والمقاومة، وبين التطرف والجهاد.
· أسباب التطرف ومخاطره.
· طرق الوقاية من التطرف ووسائل العلاج.
· موقف الإسلام من التطرف.
· الإسلام دين الاعتدال والوسطية.
وسيتبين من هذا البحث أن الإسلام بريء كل البرء مما يلصق به في أجهزة الإعلام الغربي من أوصاف كاذبة وافتراءات مغرضة، ظهرت تباعاً وهي التزمُّت أو التعصب، والأصولية، والتطرف، والإرهاب، ونحو ذلك مما يبتكره الأعداء والحاقدون في الحال أو المستقبل، لأن شذوذ أو تطرف بعض الأفراد أو الفئات لا يعني أساساً أن تشريع الإسلام هو الذي علّمهم أو دفعهم إلى هذه الأفعال المستهجنة أو المنكرة، ولأن بعض أجهزة الأمن في دول الغرب هي التي كانت بعد التحليل والتدقيق وتكشف الحقائق وراء نشوء هذه الظاهرة، وإمداد قيادتها في البلاد الإسلامية، وغيرها بالمال والسلاح ولوثات الفكر والسلوك المشبوه، لتشويه صورة الإسلام، وإحداث فتن داخلية تضعف وجود الأنظمة، ثم تستفحل الظاهرة بعد تورط السذج والأغرار أو الدخلاء أو المشبوهين فيها، وتصبح ذات أغراض مشتتة تستعصي على من أوجدها علاجها، وقد تدفع إلى هذه الظاهرة ممارسات إرهابية في غاية الشناعة من بعض الأنظمة كإسرائيل.
وهذا البحث كغيره من تصريحات المعتدلين من رؤساء دول، وعلماء، وقرارات مجامع إسلامية يميط اللثام عن حقيقة التطرف أو الإرهاب، ويوضح بشكل جازم أن الإسلام بعيد كل البعد عن هذه الممارسات الشاذة. (136)

تعريف التطرف وأنواعه
عرَّف بعض أساتذة القانون الدولي الإرهاب بقوله: إن الإرهاب بالدرجة الأولى عمل عنيف وراءه دافع سياسي، أياً كانت وسيلته، وهو مخطط بحيث يخلق (يوجد) حالة من الرعب والهلع في قطاع معين من الناس، لتحقيق هدف أو لنشر دعاية لمطلب، أو ظلامة سواء أكان الفاعل يعمل لنفسه أم بالنيابة عن مجموعة تمثل شبه دولة أم بالنيابة عن دولة منغمسة بصورة مباشرة أو غير مباشرة أخرى، وسواء ارتكب العمل الموصوف في زمن السلم أو في زمن النزاع المسلّح(1).
وأقترح تعريفاً موجزاً للتطرف أو الغلو أو الإرهاب ليشمل الدولي والمحلي منه وهو أنه كل عنف أو اعتداء أو إجرام ليس له مسوغ شرعي، لأسباب سياسية، أو لمحاربة نظام جائر، أو لدوافع اعتقادية أو وطنية.
وهذا يشمل مختلف أنواع الإرهاب المنظم: الفردي، والدولي، والسياسي، والمصلحي أو الاقتصادي، والاعتقادي أو المذهبي، وقد يكون للإرهاب أو التطرف أكثر من سبب، ونتيجته واحدة وهو إحداث الذعر والخوف في بعض الأوساط، أو التخريب سواء كان مبتدئاً أو إرهاباً مضاداً، إذا لم يكن دفاعاً عن النفس أو المال أو الوطن أو الكرامة لأن البادئ أظلم باعتباره متسبباً، والمدافع في رد فعله.
والمتطرف في الإسلام: كل من تجاوز حدود الشرع وأحكامه، وآدابه وهديه، فخرج عن حدّ الاعتدال ورأي الجماعة إلى ما يعد شاذاً شرعاً وعرفاً.
وقد وردت في السنة النبوية توجيهات رشيدة تمنع الشذوذ، وتهدد المتطرفين المغالين، مثل قوله(ص) : «هلك المتنطعون – قالها ثلاثاً»(2)، والتنطيع: المغالاة في الدين والتشدد فيه، والمتنطعون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. وقوله أيضاً: «لن تجتمع أمتي على ضلالة، فعليكم بالجماعة، (137)
 فإن يد الله مع الجماعة»(3)، وفي لفظ آخر: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ في النار»، «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإن رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم»(4).

أنواع التطرف
للتطرف مظاهر وأنواع عديدة بحسب الدوافع التي تؤدي إليه، وأهمها:
1ـ التطرف الاعتقادي: وهو الاعتقاد بآراء خاصة تعارض صريح القرآن والسنة وجماعة المسلمين، مثل الفرق الاعتقادية القديمة من القدرية والجهمية والمرجئة الباطنية(5) وبعض الحركات المعاصرة كجماعة التكفير والهجرة في مصر وغيرها، والتكفير: هو الحكم على الإنسان بالكفر(6)، وقد يشتط هؤلاء فيحكمون على الدولة بالكفر، مع أنها شخصية معنوية. علماً بأن الدول الإسلامية كلها الآن ديار إسلام فلا يصح أن يحكم بأن إحداها تحولت إلى دار كفر، لأن سكانها مسلمون، ولم يستول عليها الكفار ما عدا فلسطين، ولأن شعائر الإسلام تقام فيها، وأحكام الإسلام ماتزال مطبقة فيها بنسبة تزيد على ستين بالمائة(7).
2- التطرف السياسي: وهو أعلان فئة من الناس العصيان على الدولة القانونية، كالخوارج في الماضي، الذي خرجوا في العراق على حكم سيدنا علي(ع) واستباحوا قتل بقية المسلمين فيما عداهم.
3- التطرف العملي: وهو الخروج عن حد الاعتدال بتعذيب النفس، أو الأفراط في ممارسة العبادات من صيام دائم وصلاة في أغلب الليل، وترك التزوج، وأداء الحج ماشياً وترك الركوب ونحو ذلك، وهذا يؤدي إلى تعطيل شؤون الحياة العملية، ويجافي الفطرة ويرهق النفس الإنسانية، ويلحق بها ضرراً واضحاً، وكل ذلك مناف للسنة النبوية السمحة والمعتدلة، والمحذِّرة من الغلو (138)
 وتحمل المشاق غير المعتادة أو غير المألوفة، قال النبي(ص) (خير الأمور أوسطها) (8)، «إن هذا الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا»(9). واليسر: ضد العسر، أراد به التسهيل في الدين وترك التشديد. ومن شدَّد شدِّد عليه، وعلى المسلمين قصد السداد من الأمر وهو الصواب، والمقاربة: أي القصد في الأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير منه. ويؤكده حديث آخر نصه:
«يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله مادام وإن قلّ»(10).
وفي حديث عام آخر: «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفِّروا»(11).
ونهى(ص) عن صوم الوصال وعن قيام الليل كله وعن الترهب وقال: «والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني»(12).
4- التطرف الخارجي أو الدولي: وهو أحداث الذعر والخوف في أراضي دولة أخرى بأساليب مختلفة، كتفجير القنابل، وهدم المباني، وقطع الأشجار، وقصف المنشآت أو المؤسسات العامة ونحو ذلك من الأضرار، سواء من الأفراد أو من الدول، وسواء في زمن السلم أو زمن الحرب(13).
وهذا أمر غير مشروع إذا لم يكن في بلاد محاربة كإسرائيل حيث إن شعبها كله محارب للعرب والمسلمين، ويرتكب أفظع جرائم التخريب والتقطيع والتدمير والتهجير واحتلال الأراضي المملوكة غصباً وقهراً، ونحو ذلك من ألوان الوحشية، بل وطرد السكان من منازلهم وإحراقهم في بيوتهم، ومصادرة أراضيهم وإقامة المستوطنات الصهيونية عليها وحصار مواقع وديار الفلسطينيين، وضرب مؤسساتهم العامة والخاصة، ونحو ذلك من جرائم الإبادة، وهذا أشنع أنواع الإرهاب الذي تمارسه الدولة نفسها.
ولا يقر الإسلام إلحاق الضرر والأذى بالأبرياء والآمنين في غير البلاد(139)
 المحاربة، ولا يحق للأفراد قتل أحد من الأعداء إلا في حال قيام حرب مشروعة تعلنها قيادة الدولة المسلمة، وحينئذ يكون الاحتكام للقوة والقهر في ميدان المعارك آمراً مقرراً وطبيعياً، وهذا هو المراد بقوله تعالى في مجالات الحروب والمعارك: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم../) (14).
فمجال الإعداد أو الإرهاب حيث تكون الحرب مشروعة أو تقوم حالة الحرب، وحيث تكون رحى المعارك دائرة، وهذا حق طبيعي مقرر في الإسلام وفي مختلف الشرائع الدولية، التي تبيح حق الدفاع عن النفس والبلاد، والجيوش في جميع أنحاء الدنيا، يمارسون مختلف أساليب القتال لتحقيق النصر على من سواهم، فيكون الإرهاب الحربي من قبيل المعاملة بالمثل، من المسلمين وغيرهم، ولا يعقل غير هذا الموقف الطبيعي في الظروف الاستثنائية أو الحربية.
والحكم لا يتغير في الإسلام، سواء بالنسبة للمسلمين وغيرهم، وسواء النسبة لدولة قوية أو ضعيفة.
الفرق بين الارهاب والمقاومة وبين التطرف والجهاد
ألفاظ التطرف والعنف والإرهاب في مصطلح العصر ذات معنى واحد وإن اختلفت معانيها في اللغة العربية، فالتطرف، تجاوز حد الاعتدال، والعنف: ارتكاب وسائل موسومة بالشدة والقهر والبطش، والارهاب: التخويف والإزعاج.
والارهابيون هم الذين يمارسون العنف والإرهاب، لأهداف سياسية في الغالب.
والإسلام لا يقر هذه الأساليب، ويبرأ من استعمال هذه التصرفات بين الناس أو المجتمع مادامت تتسم بسمة العدوان أو الجناية على الآخرين بغير حق.
وليس المسلمون أو دعاة الإسلام إرهابيين وإنما يدعون إلى الدين الحق(140)
 وشريعة الإله السمحة والسلمية والحضارية والإصلاحية للعقائد والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والأخلاق، فهم دعاة رحمة وهداية وعلم ونور، وذلك لاختلاف الاتجاهين في المنهج والغاية والأسلوب.
أما منهج دعاة الإسلام: فهو الدعوة إلى الحق والتزام الهداية بالحكمة والموعظة الحسنة، والاعتماد على العلم والإقناع بالدليل والبرهان، والإرٍهابيون يسلكون مسالك وعرة، منهجهم القهر والإكراه، وسفك الدماء والتخريب ومصادمة المشاعر، ونشر الذعر والخوف، واستباحة الدماء والأعراض والأموال، لاتصافهم بصفتين شاذتين وخطيرتين وهما:
1ـ الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية المقررة في القرآن والسنة، ولا سيما الأحكام العامة التي تمس الآخرين.
2- التورط بتكفير المخالفين لهم لأدنى تهمة أو شبهة، واستباحة دمائهم، وهذا ظلم عظيم.
وهاتان الصفتان قديمتان في أفكار أصحاب الفرق الضالة في العقيدة والشريعة، وماتزالان على هذا النحو حديثاً، بسبب غلوهم وتطرفهم وابتداعهم.
ولكن ليس الإرهاب ملتبساً بما يعرف من المقاومة المشروعة أو حق الدفاع أو الجهاد المشروع بضوابط مقررة في الإسلام.
فالإرهاب عمل غير مشروع في دوافعه ومناهجه وأساليبه وغاياته. وأما المقاومة: فهي حق مشروع للدفاع عن الوجود والنفس والوطن والعرض والمال وسائر الحقوق الثابتة المقررة.
وكذلك الجهاد في سبيل الله والحق والقيم العليا، والذي يرتبط إعلانه بموافقة الدولة، يختلف اختلافاً جذرياً عن الإرهاب أو التطرف لغايات تخريبية أو غير إنسانية ولا أخلاقية.(141)
ويتضح هذا في تقرير أصل مشروعية الجهاد في الإسلام في قول الله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)(15).
وقوله سبحانه: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(16) فالآيتان تجعلان مشروعية الجهاد إما لدفع الظلم أو لرد العدوان، أو للدفاع عن الحقوق الإسلامية.
ويختلف الجهاد عن الإرهاب في الغايات، فالجهاد غايته تخليص المجتمع من الاستبداد والاستكبار ومصادرة الحريات، ونشر أولوية الحق والعدل، والهداية والنور والعقيدة الصحيحة بالحسنى وإقامة النظام الأصلح للحياة.
والإرهاب وهو سلوك غير المؤمنين، غالباً يكون لمناصرة الأهواء والشهوات ونزعات الشيطان(17)، ويتضح هذا في بيان بواعث الاقتتال بين أهل الإيمان وأنصار الكفر والضلال في قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (18).
وفي الجملة: إن الجهاد حق وعدل، وشرف، شرع دفاعاً عن المسلمين وديارهم ووجودهم، فهو ليس انتهاكاً لحق الآخرين، وإنما هو دفاع عن مكاسب الإسلام ضد المعتدين.
وفي أمثلة الفرق بين الإرهاب والتطرف من جهة، وبين المقاومة والجهاد من جهة أخرى في عالمنا المعاصر مايأتي:
* كل حركات التحرر الوطني من نير الاستعمار بمختلف أشكاله والكفاح المسلح لطرد المستعمرين تعد ممارسة لحق المقاومة المشروع، لأن جهاد المحتل أو الظالم الغاصب، أو مكافحة السلطات الباغية التي تمارس ضد شعوبها ألوان الظلم السياسي أو الاجتماعي، أو الاقتصادي أمر واجب تقره جميع الأعراف. (142)
* وكل جرائم خطف الطائرات أو الاعتداء على المؤسسات المحمية دولياً، أو أخذ الرهائن، أو الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان الأساسية، أو الاعتداء على الأبرياء أو الآمنين، تعد من الإرهاب المحظور في الإسلام، وكذا في الشرائع الدولية.
* وكل ما تفعله روسيا في الشيشان وغيرها، والهند في كشمير، وإسرائيل في فلسطين وغيرها من البلاد العربية كلبنان من تقتيل وسفك دماء وتخريب وجرائم وحشية، وإبادة وطرد السكان الأصليين من ديارهم وأوطانهم يعد من أخطر أنواع الإرهاب الدولي، الذي لا يوازيه أي مقاومة من المظلومين والمستضعفين والعزَّل من السلاح بل ومختلف أنواع القوة، ومن المعلوم أن (شارون) وعسكره هم الذين يرتكبون هذه المجازر في الوقت الحاضر وفي الماضي في السبعينات على لبنان والفلسطينيين وغيرهم.
ومن الأمثلة التي عاصرناها: الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت عام 1968م، وعلى مطار عنتيبي في أوغندا عام 1976م، وعلى المفاعل النووي العراقي عام 1981، والغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م، والغارة الجوية الإسرائيلية على دولة تونس عام 1985م، والاعتراض الأمريكي لطائرة ركاب مدنية مصرية
عام 1985م، والغارة الجوية الأمريكية على ليبيا عام 1986م(19).

أسباب التطرف ومخاطره
للتطرف أسباب يزعم فيها المتطرفون أنها مشروعة، تسوغ قيامهم بأعمال الإرهاب، بحسن نية، وقد يتدخل معهم عناصر مخربة يستغلون هذه الظاهرة، فيرتكبون أعمالاً وحشية لا يقرها دين أو قانون أو خلق أو مروءة ونحو ذلك كأعمال بعض الجزائريين بسبب تعاطيهم المخدرات، ثم تورطهم في تلك الأعمال الوحشية التي يبرأ منها الإسلام كل البراءة. (143)
ويمكن إيراد أهم أسباب التطرف وهي ما يأتي:
1ـ البداوة أو السطحية أو الإشاعات الرائجة: هذا السبب كان وراء قتل سيدنا عثمان(رض) من قبل جماعة الأعراب، القادمين من مصر وغيرهم، وكذلك كان هو سبب ظهور فرقة الخوارج وتورطهم في قتل سيدنا علي(رض) ، وارتكابهم مجازر دموية ومصادمات وحشية مع بقية المسلمين، ومايزال هذا السبب له تأثيره في عصرنا الحاضر في حوادث الإرهاب المرتكبة في البلاد العربية وغيرها في عصرنا الراهن.
2- الضعف وترك استعمال الشدة والحزم من الدولة: وهو أن سكوت الدولة وتركها القيام باستعمال الشدة مع المتطرفين يؤدي إلى أن يستغلوا هذا الموقف اللّين أو الضعيف، وهذا ما دفع قتلة الخليفة عثمان إلى ارتكاب جريمتهم الوحشية بذبحه وهو يقرأ القرآن الكريم، لأن هذا الخليفة لم يستعمل معهم الشدة والقوة، مما جرّأهم عليه، وافتقدوا كل معاني الحياء والدين والرحمة والأخلاق.
3- العناد والقسوة أو الغلظة: حيث يكون هذا الموقف سبباً في عدم إدراك الحقائق والمخاطر، على الرغم من نداءات المصلحين.
ومن المعلوم أن سيدنا علياً(رض) اتبع أسلوب الحوار والمناظرة والإقناع مع الخوارج وأرسل ابن عباس لمجادلتهم بالتي هي أحسن، فرجع أكثرهم عن موقفه، وظل آخرون على مبدئهم؛ لأن الإقناع لا يفيد المعاندين وقساة الطبع، ويسيطر العنف على صاحبه، فيجعله عنيداً، لا يصغي لحجة، ولا يستجيب لدين، لغلبة طبيعته السوداوية أو الشريرة عليه، فيظل مندفعاً إلى مخططه، وتحقيق غرضه، لأنه أعمى القلب والفكر، فتصير قلوب المعاندين قاسية أشد من الحجارة، وطبائعهم وحشية، وتصرفاتهم حمقاء.
ولو اتبع هؤلاء المعاندون شيئاً من الرفق أو استعمال الفكر الصحيح أو تجردو(144)
 من طبيعتهم الشاذة، لأدركوا أنهم في خطأ واضح أمام قول الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) (20).
4- الجهل الواضح بحقيقة وأبعاد أحكام الدين: على من يتورط في أي عمل من أعمال التطرف أو الإرهاب أن يستشير غير قادته الذين زينوا له سوء عمله، وزيّفوا له الحقائق الدينية، وأغروه بما قد يجد عند الله تعالى من جنان ونعيم، لاستشهاده في سبيل الحق. وعليهم أيضاً أن يتفقهوا في شرع الله، فالعلم والتفقه كفيلان بالإقلاع عن أعمال التطرف أو العنف والإرهاب، وما نشاهده على الساحة المحلية من هذه الممارسات المستنكرة في بعض الدول العربية سببه الأساسي: هو الجهل بالشريعة، والاعتماد على مجرد العاطفة المشبوبة أو المشحونة بالرؤى الخيالية والأهواء والشهوات والوعود الكاذبة والافتراءات والأضاليل الرائجة، لأن الخير ومرضاة الله، والعمل للإسلام لا يكون بهذه الأساليب، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما كان التشدد في شيء إلا شانه.
وما أعظم التوجيه النبوي في هذا الشأن، حيث يقول ابن عباس: (من تعلّم كتاب الله، ثم اتبع مافيه هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب).
وفي رواية: (من اقتدى بكتاب الله، لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)(21) )طه/ 123).
5- التكفير واستحلال دماء المخالفين: هذه شبهة فاضحة، تسهِّل على المتطرفين استباحة دماء غيرهم من المسلمين وغير المسلمين، من غير دليل واضح، وهو أسوأ الأسباب، لأن المسلمين ليسوا مسؤولين عن تغيير هذه الظاهرة، فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة أي على دين واحد، ولأن التكفير لابد له من دليل صريح: «إلا أن تروا كفرا بواحاً(22). عندكم من الله فيه برهان»(23) أي تعلمونه بالحجة والدليل الواضح المنصوص عليه من دين الله (145)
 تعالى، لا بالتأويل والرأي، ولأن دماء الكفار في الأصل العام غير مباحة شرعاً إلا بسبب الحرابة أو الحرب، فعلِّة قتالهم ليس كفرهم وإنما محاربتهم لنا.
جاء في صحيحي البخاري ومسلم في الرجل الذي اعترض على قسمته (ص) غنائم الحرب: «إن من ضضئ هذا قوماً يقرأون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان».
وقد انطبق هذا على الخوارج والقرامطة ونحوهم من الغلاة في الماضي، الذين كفّروا كل من اشترك في التحكيم بين علي ومعاوية، وكفّروا بقية المسلمين عداهم، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وارتكبوا الفظائع والجرائم الكثيرة.
6- سوء حال المسلمين وتفرقهم وضعفهم أو استضعافهم ونحو ذلك: إن الحالة الكئيبة التي نشاهد عليها حال الأمة العربية والإسلامية من تخاذل وتفرق وضعف في مواجهة أعدائهم، وسكوتهم المخزي عن مناصرة إخوانهم في فلسطين من أهم أسباب التطرف أو الإرهاب.
فالعمل على الساحة العربية والإسلامية مفقود، لتفرق الجماعات والدول، ومحاربة بعضهم بعضاً، وغياب القيادة الجامعة، ونقص في الجوانب المهمة من الجوانب التربوية والعقيدية والحركية والفكرية والسياسية(24) وتعطيل الجهاد المشروع والافتتان بالحضارة الغربية، ومحاولة زرع الثقافة الغربية عن طريق العولمة في عقول المسلمين، وإقصاء الثقافة الإسلامية، كل ذلك أعطى مسوغاً لبعض الغلاة أن يتشددوا في مواقفهم وإلحاق الضرر بمجتمعاتهم.
فلابد من دراسة هذه الأسباب ومحاولة حلها قبل أن تتفاقم المشكلات، كما سأبين:
لقد قال الأمريكان صراحة للأوربيين: لماذا تتحمسون للشعب الفلسطيني، والعرب أنفسهم لا يتكلمون ولا يعترضون على مايحدث؟!(146)
فأي خذلان ومهانة من العرب ودولهم بعد هذا؟!
7- الظلم الاجتماعي والسياسي: وهذا سبب محلي وخارجي، فإن بعض الناس يحسون بهذه الظاهرة وما يترتب عليها من بؤس وشعور بالأحباط والظلم واليأس، ونحو ذلك مما له جذور كثيرة في الأوضاع الدولية والوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، تؤثر في عقلية الإرهاب، وتدفعه ظروفه الشخصية إلى ممارسة الإرهاب(25).
وعلى الرغم من صحة هذه الأعذار، فإن العلاج أو الأسلوب الإرهابي لا يصلح شرعاً في مقاومة الإرهاب، إلا إذا كانت النقمة عامة، وقام الشعب كله في وجه ظلم الدولة، وإلا في حالة الاعتداءات المتكررة على الآمنين من المحتلين مثل إسرائيل وقواها العسكرية والأمنية التي ترتكب أفظع وأشنع جرائم الإرهاب الدولي، مما يبيح للمعتدى عليهم مقاومتهم بمختلف الأساليب من قبيل المعاملة بالمثل، ولعدم وجود وسائل أخرى تمكّنهم من المقاومة المشروعة كما تقدم.
والخلاصة: إن الابتعاد عن منهج الله تعالى في كتابه وسنة نبيه هو أساس التورط في التطرف والعنف غالباً.
أما مخاطر الإرهاب أو العنف والتطرف وأضراره فكثيرة، أهمها الإساءة للإسلام وتشويه سمعة المسلمين، وإيجاد مسوغات للاعتداء عليهم، وإحداث فتن وقلاقل واضطرابات، وتناقض في السلوك وفهم الدين وتشويه أصوله، وضرب مصادر الإنتاج والإضرار باقتصاد الدولة، وإحداث آثار سيئة على أمن واستقرار البلدان الإسلامية، فكم من ألوان الاعتداء والانتقام أو الثأر ارتكبت، مع إهانة حرمات المسلمين ومساجدهم ومراكزهم الإسلامية وتخريب مساكنهم والاعتداء على أعراضهم، بل وعلى المصاحف مع الأسف الشديد، لأنه ليس بعد الكفر ذنب.(147)
وسبب اللوم: هو وجود تصرفات شاذة أو عنيفة على بعض منشآت العدو ومواقعه الاستراتيجية وغيرها، وقد لا تثبت التهمة، ويكون التآمر من العصابات الإرهابية الصهيونية، وجماعة الموساد الإسرائيلية، لاتخاذ بعض الأحداث ذريعة لضرب المسلمين والعرب.

طرق الوقاية من التطرف ووسائل العلاج
هناك وسائل وقائية وأخرى علاجية:
أما الوسائل الوقائية من وقوع التطرف: فتكون بـإزالة أو تحاشي أسبابه المؤدية له، وهي مهمة العلماء والمفكرين ودعاة الإسلام وخطبائهم، وأجهزة الإعلام، وذلك بتحذير الناس وتوعيتهم من التورط في أعمال العنف في المعيار الإسلامي، ومراعاة الضوابط والقيود الشرعية لأي عمل يلحق ضرراً بالآخرين أو يمس مصالحهم أو يستثير أحقادهم وضغائنهم، أو يؤدي إلى رد فعل معاكس سيء جداً.
وهذا لا يتم إلا بالتفقه في دين الله وشرعه، وفهم آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الواردة في الجهاد وأحوال مشروعيته، ومراعاة شروط ممارسة حق المقاومة أو الدفاع.
وقد عرفنا سابقاً أن آفة المشكلة تكمن في أسباب عديدة أهمها: سببان: آفة الجهل وآفة تكفير الآخرين(26).
وقد أخبر النبي(ص) هذين السببين بقوله عن قوم لا يفهمون القرآن «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم» أي أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه وهم لا يتفقهون فيه، ولا يعرفون مقاصده(27).
قال النووي رحمه الله: المراد أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على ألسنتهم، لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب هو تعقله، (148)
 وتدبره بوقوعه في القلب(28).
وأما تكفير المؤمنين: فقال ابن تيمية (رحم) عن الغلاة في شأنه :
الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفِّرون بالذنب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام دارُ كفر، ودارهم هي دار الإيمان(29).
وقال أبو قلابة (من أئمة التابعين): ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف(30).
والغلاة والمتطرفون يتصفون بكلتا الصفتين:
الجهل بدين الله تعالى وأحكامه، وظلم عباده وتكفيرهم.
وأما طرق علاج التطرف فأهمها ما يأتي(31).
1- تصحيح الاعتقاد: على النحو المذكور في الكتاب والسنة، والذي كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل وبالقدر خيره وشره، وما يستتبع ذلك من التفويض إلى الله والتوكل عليه، والإيمان بـإرادة الله ومشيئته وقدرته وحكمته، وأن الله أراد وجود الاختلاف في الآراء والاعتقادات والمذاهب، ليظهر للإنسان دوره وحريته واختياره، ويحاسَبُ كل إنسان بحسب ما اختار واكتسب.
2- الاحتكام إلى شرع الله تعالى وتطبيق الشريعة في قوانين الحياة:
هذا فرض حتم وواجب لازم، فإذا تحقق ذلك سقطت جميع ذرائع المتطرفين والغلاة الذين أعطوا لأنفسهم الحق في المطالبة بهذا الواجب، وإلا وقع المقصرون أو المهملون في دائرة الكفر، وينجو الحكام من الاتهام بالكفر والظلم والفسق، وتنتهي فتنة التطرف والفساد.
3- التفقه في الدين: بحسب منهج السلف الصالح وأئمة الاجتهاد الذين كانت نظرتهم للشريعة قائمة على الاعتدال والتسامح والعفو والتماس الأعذار (149)
 للمخطئين، والعمل مباشرة بفقه الكتاب والسنة على منهج أهل الحق والاجتهاد، وهذا المنهج هو المفقود عملياً لدى حركات التطرف، لأن الفقه وضع الضوابط والقيود للأحكام، وأنار للناس قاطبة طريق معرفة الحق من الباطل، والصواب من الخطأ.
4- التوعية اللازمة لفهم علم مقاصد الشريعة: فإنه العلم الذي يوسع الأفق والمدارك، ويرشد إلى مراعاة ودرء المفاسد، ويحقق التوازن والمرونة والاعتدال، وينير آفاق المستقبل، ويغطي حاجات الناس. وقد برع العلامة الشاطبي (رحم) في كتابه «الموافقات» وقريب منه «الاعتصام» في جعل بيان أصول الفقه على هذا المنهج ذا حركة وفعالية، مع تبيين خصائص الشريعة ومزاياها الشاملة.
5- بناء الشخصية الإسلامية: لدى الرجال والنساء على نحو متكامل وواقعي وجدّية ليتحقق العطاء، والتنمية، والتفتح، وتصفية رواسب الماضي والتخلص من آفة الجهل في الدين، ويظهر بناء الأسرة المسلمة على نحو لائق ومنسجم وتكافل اجتماعي دون أي شذوذ أو تقصير أو إهمال لشيء من أحكام الدين، كما كان عليه حال الأسرة المسلمة في صدر الإسلام. وحينئذ لا يظهر وجه النقد أو القصور في تكوين الأسرة وممارسة نشاطها، مما يستغله أصحاب الغلو ودعاة التطرف، والعودة إلى تفعيل العمل بأحكام القرآن في مثل قوله تعالى:
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (32).
وكذا قوله سبحانه: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام (150)
الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (33).
أي إن التخلي عن منهاج فصل الدين عن الحياة والمجتمع، والعمل على إحياء أحكام الشريعة في شؤون الدنيا والدين، والتوجه نحو نهضة اقتصادية، لإقامة مجتمع إسلامي فاضل، هو الذي يسدّ الطريق أمام حركات التطرف المحلي، ويحقق الأمل في العودة الرشيدة إلى شرع الله وقرآنه على نحو آمن ومستقر، تشيع فيه ظلال السعادة، ويخلص المسلمون من التفاوت الصارخ في الثراء بين الأغنياء والفقراء، ويعم الخير، وتحل مشكلة البطالة والأمية والمرض والجهل ونحو ذلك من ظواهر التخلف التي يمقتها الإسلام، وتبقي بعض المسلمين رازحين تحت كابوس التخلف والمشكلات الاجتماعية اليومية التي يئن منها الكثيرون. والطريق إلى ذلك أن يتجه المخلصون إلى ترشيد ما يسمى بالصحوة الإسلامية، والتخلص من عقدة التبعية لأمريكا والغرب المستكبر، أو الولاء لبعض دعاة الفكر اليساري.

موقف الإسلام من التطرف
الإسلام دين لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو من ناحية يوجب على أتباعه نشر رسالته في أنحاء العالم بالحجة والمنطق والإقناع، ومن ناحية أخرى لا يقر الإكراه أو القهر أو المذلة والهوان، بالحجة ومن خلال هذا التوجه الحكيم يرفض الإسلام نزعة التطرف أو الغلو أو الإرهاب الذي ينشر الذعر والخوف، ويشيع القلق بسبب بعض الحوادث الإرهابية على بعض الأشخاص الأبرياء أو الآمنين، أو الممتلكات أو المؤسسات الصناعية أو التجارية أو الزراعية، ويمقت أيضاً كل أوضاع التخريب أو التدمير أو الإساءة بغير حق للأشخاص مسلمين أو (151)
غير مسلمين، لأن دعوة الإسلام دعوة حضارية إنسانية خالدة وحكيمة، لا تنتشر في أنحاء الأرض، إلا في ظل قاعدة راسخة من الأمن والسلام والاستقرار، واحترام لحقوق الإنسان، وبأسلوب منطقي حضاري يخاطب الوجدان والعقل، ويرعى العلم وأهله، ويحرِّك نزعات النفس الفطرية للإيمان بالله تعالى وبرسله وبما أنزل عليهم من وحي ثابت إلى اليوم.
والإسلام لا يفرق في دعوته بين إصلاح العقيدة وتصحيح العبادة، والتزام الأخلاق الفاضلة القائمة على الأمر بالمعروف والإصلاح، والنهي عن المنكر والفساد، حتى يتحقق في المسلمين وصف الله لهم في قوله: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (34).
إن دعوة الإسلام للسلام وقمع ظاهرة الإرهاب واضحة المعالم لكل إنسان، من خلال نصوص شرعية كثيرة، منها: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) (35) ومنها:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)(36).
ووردت أحاديث نبوية تضع حداً للتطرف أو الإرهاب، منها قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لرجل أن يروِّع مسلماً» أي وغير مسلم، لأن حق الحياة محترم في الإسلام لكل إنسان.
يتبين من هذا أن الإسلام يُدين الأرهاب ويشجب أعمال التطرف، وقد أصدر الفقهاء وعلماء الدول الإسلامية في مجمع الفقه الإسلامي الدولي بياناً واضحاً حول هذا الموضوع في دورته الثالثة عشرة المنعقدة في دولة الكويت في أيلول وديسمبر عام 1422/ 2001م جاء فيه في الفقرة ثالثاً – تحريم العدوان في الإسلام:(152)
«إن الإسلام يحرِّم الاعتداء بغير حق، ومن ذلك ترويع قلوب الأبرياء الآمنين، ممن عصمت دماؤهم، فأي عدوان من هذا النوع هو إرهاب محرم؟!».
الإسلام دين الوسطية والاعتدال
جاء في بيان مجمع الفقه السابق أيضاً:
«كما أن من الظلم وأبشع الإرهاب إلباس الإسلام اسم الإرهاب، بل هو دين الاعتدال والوسطية../».
أي إن الإسلام دين الحق الذي لا تفريط فيه، وقمع الباطل الذي لا مهادنة في التخلص منه، ودين العقيدة الحقة والإيمان الذي يتطابق مع العقل والمنطق والواقع، ودين العبادة السوية المرضية للمعبود، ودين النظام الأمثل الجامع بين مطالب النفس والمادة والروح وبين إصلاح الدنيا والآخرة، وتحقيق السعادة فيهما على السواء، وبين الأخلاق الفاضلة التي تعصم السلوك من الانحراف والدناءة، وترقى بالنفس البشرية إلى قمة القدوة أو الأسوة الحسنة دون إغراق في النفعية المادية، ليستقيم الفرد، وترقى الجماعة، ويسمو الإنسان، وتراعى حقوقه وتصان نفسه وعقله وعرضه وماله من ألوان الاعتداء أو الجناية، ولا يكون هناك في أي مجال في الأسرة أو المجتمع إسراف أو تقتير في الإنفاق والشهوات، ولا مغالاة في الالتزام والاستقامة، ولا تورط في ارتكاب المعاصي والمخالفات.
وعلاقة المسلمين مع غير المسلمين ومع مختلف الأمم والشعوب تقوم على أساس من العزة والكرامة والحرية والعدالة والمساواة، وتوطيد دعائم الأمن والسلم والاستقرار، فلا عدوان ولا اقتتال مالم يكن العدو هو المعتدي، ولا تفريط بالحقوق العامة التي تمس وجود المسلمين في دينهم وديارهم، ودعوته القائمة على الحجة والبرهان، والمنطق والواقع، فيكون التوازن والاعتدال، وتجنب الغلو أو التطرف ومحاربة الإرهاب ضد الآمنين ومقومات التمدن والحضارة، هو قوام الإسلام ومادته وروحه وواقعيته. (153)
إن الإسلام إذن هو دين الوسطية بين جميع الفلسفات وأنواع الحكمة الروحية والواقعية، فهو ميزانها السديد، وبين الأمم والشعوب فالمسلمون أوساط، وبين الأديان السماوية الإلهية فهو خاتمتها وقمتها الخالدة، وبين الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية، فهو الوسيط الذي يحقق التوازن بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، من غير أن يطغى اتجاه على آخر، وهو منهج الحق والعدل والرحمة والمرنة والتسامح المتئد غير الشاذ الواقع بين معنى الإفراط والتفريط في الكون والحياة والإنسان.
وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً(37) لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا…)(38) ووسطية هذه الشهادة تعني العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية، أي استعمالها فيما ينبغي على ماينبغي.
وقوله: (جعلناكم) يقتضي تحقق العدالة بالفعل، وليس في الآية – كما ذكر الآلوسي – أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، لشهادتهم على سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا(39).
فهي تلتقي مع مدلول آية: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (40).
والخلاصة: إن الإسلام لا يقر التطرف أو المغالاة أو الإرهاب، أو التعصب بأنواعه المريضة المختلفة سواء كان تعصباً نفسياً أو مذهبياً أو عنصرياً أو قبلياً أو قومياً، أو دينياً، أو سياسياً أو اقتصادياً، أو ثقافياً، ويلتزم مبدأ تكريم الإنسان أيا كانت جنسيته، والمحافظة على حقوقه العديدة، ويحافظ على معطيات المدنية والحضارة، فهو سلام وأمان واستقرار وسعادة للمجتمع (154)
 الإنساني.
وأما شذوذ بعض المنتمين إلى الإسلام في سلوكهم أو محاولة المغرضين قلب المفاهيم، فلا يعيب الإسلام، وسيظل الإسلام حجة عليهم، فهو دين الرحمة العامة بالمجتمع البشري كله.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


الهوامش:

 1 - الإرهاب الدولي – دراسة قانونية ناقدة، أ.د. محمد عزيز شكري: ص 204 ، ط دار العلم للملايين، 1991م.
2- أخرجه مسلم وأبو داود.
3- أخرجه الترمذي عن ابن عمر. وفي رواية لمسلم وأبي داود والنسائي عن عرفجة: «يد الله مع الجماعة».
4- رواه عبدبن حميد وابن ماجه عن أنس بن مالك مرفوعاً.
5- القدرية: هم الذين يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، والمعاصي لا يريدها الله. والجهمية: هم الذين يقولون: أفعال الإنسان لا إرادة له فيها، وإن أحس وشعر بالإرادة، والإنسان مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار. والمرجئة طائفتان.
أـ سياسية: وهم الذين توقفوا في حكم الخلاف الذي وقع بين الصحابة (علي وعثمان) والخلاف الذي كان في العصر الأموي، فهم يرجئون الحكم في أمورهم إلى الله.
ب – وإباحية: وهم الذين يقولون: إن الله يعفو عن كل الذنوب ما عدا الكفر، فلا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. ويكفي العمل مع الاعتقاد.
والباطنية: هم الذين يجعلون لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً، منهم فرقة إسلامية كالقرامطة والخرمية، وفرقة غير إسلامية كالمزدكية في فارس.
6- بيان للناس من الأزهر الشريف: ص (141).
7- القضايا الثلاث «تغيير المنكر بالقوة، الخروج على الحاكم، تكفير الدولة» أ.د. محمد رأفت عثمان ص (141، 154، 160، 163).
8- رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة (رض).
9- رواه البخاري والنسائي من حديث أبي هريرة(رض).
10- رواه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث عائشة(رض).
11- رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك (رض).
12- رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص(رض).
13- الإرهاب الدولي: (69) ومابعدها.
14- الأنفال/ 60.
15- الحج/ 39 - 40.
16- البقرة/ 190.
17- الارهاب الدولي: (5-74).
18- البقرة/ 257.
19- الإرهاب الدولي، عزيز شكري، ص 112- 132.
20- النحل/ 125.
21- ذكره القرطبي في مقدمة تفسيره، وابن جرير في تفسير الآية، وأضاف القرطبي عن ابن عباس قوله: (فضمن الله لمن اتبع القرآن ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) (جامع الأصول 1/199- 2009) (طه/ 123).
22- أي كفراً ظاهراً.
23- أخرجه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن عبادة بن الصامت(رض) قال النووي: … ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم كفراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فانكروه عليهم، وقولوا بالحق لهم حيثما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم، فحرام بـإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين. وأجمع أهل السنة: أنه لا ينعزل السلطان بالفسق. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه: مايترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه.
24- الصحوة الإسلامية للأستاذ محمد قطب: ص 176.
25- الإرهاب الدولي، المرجع السابق: ص 174.
26- عوامل التطرف والغلو والإرهاب وعلاجها في ضوء القرآن والسنة للشيخ خالد العك:ص 120
27- الاعتصام للشاطبي 2/226.
28- فتح الباري 12/293.
29- مجموع الفتاوي 19/73.
30- سنن الدارمي 1/44.
31- عوامل التطرف، المرجع السابق: ص 123 - 128.
32- التوبة/ 71.
33- البقرة/ 177.
34- آل عمران/ 110.
35- البقرة/ 208.
36- الانفال/ 61.
37- أي خياراً أو عدولاً، وهو في الأصل: اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه، ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطاً للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين الجبن والتهور، والحكمة بين الحذاقة والبلادة../
38- البقرة/ 38.
39- تفسير الألوسي 2/4.
40- آل عمران/ 110.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية