مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

حجية الاستصحاب
عند المذاهب الإسلاميّة
محمّد الغراوي

تمهيد:
إنّ  الأصول كثيرة، إلاّ أن الجامع بينها هو: أنها وظيفة للجاهل بالواقع من حيث جهله به، ويأسه من الكشف عنه بالعلم أو الظن المعتبر.
ويتضح الفرق بين أصل وأصل من مورد الجهل وما وقع عليه الشك. ولعل السر في الاهتمام بالأصول الأربعة ـ أعني: الاستصحاب، والبراءة، والاحتياط، والتخيير ـ راجع إلى أنها عامة تجري في الشبهات الحكمية والموضوعية، وفي كلّ كتاب وباب من أبواب الفقه(1).
أما بقية الأصول فإن بعضها وإن عم وشمل الشبهة الموضوعية: كأصل الصحة في فعل النفس والآخرين.
كما أن هناك بعض الأصول لا تجري إلاّ في مسألة واحدة: كالحرية في الإنسان.
واصل الولد للفراش.
فموضوع الاستصحاب هو الشك في التكليف أو المكلف به، بشرط النظر إلى الحال السابقة ولحاظها.
وموضوع أصل البراءة: هو الشك في جنس التكليف وهويته، بشرط غض النظر 
عن الحال السابقة، وعدم لحاظها وإن كانت موجودة.
وموضوع الاحتياط: هو الشك في المكلف به بعد فرض العلم بقوع التكليف، والقدرة على الموافقة القطعية، وحصر المشتبه بأطراف معينة.
أما موضوع التخيير: فهو العلم بوجود الإلزام والمسؤولية مع التردد بين محذورين، بحيث لا يمكن الجمع بينها بالاحتياط، والموافقة القطعية كالوجوب والحرمة.
قال الشيخ الأنصاري (ت 1281 هـ): (إنّ  موارد الأصول قد تتداخل؛ لأن المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقنة، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظة الحالة السابقة وإن كانت موجودة) (2).
ولا يبعد أنّه  أراد: أن الحالة السابقة قد توجد في موارد الأصول الثلاثة ولكن دون النظر إليها؛ لأنا لو نظرنا إليها لجرى الاستصحاب، إذ أن لكل أصل قيوده وحدوده التي تبتعد به عن غيره من الأصول. وإليك صورة مبسطة عن الاستصحاب تمهيداً للدخول في موضوع البحث:
أولاً: تعريف الاستصحاب:
عُرف الاستصحاب عند الأصوليين من الإمامية بتعاريف عديدة سنقتصر على ذكر بعضها:
فقد عرفه الجرجاني (ت 816 هـ) بأنه: (إبقاء ما كان على ما كان عليه لانعدام المغير) (3).
وعرفه المحقق أبو القاسم القمي بأنه: (كون حكمٍ أو وصفٍ يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق) (4).
كما عرفه صاحب الرسائل (ت 1281 هـ) بـ "إبقاء ما كان"، حيث قال: (المراد بالإبقاء: الحكم بالبقاء) (5).
وعرفه بعض الأعلام المعاصرين بأنه: (حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشك من حيث الجري العملي) (6).
هذا ما كان من تعريف الأصوليين للاستصحاب.
أما الأخباريون فقد رفضوا الاستصحاب بالمفهوم الأصولي العام (7)، ولكن الشيخ يوسف البحراني نبه في حدائقه على حقيقة خلاصتها: (أن المحدث الاستر أبادني يميل في تعليقاته على المدارك إلى العمل بالاستصحاب) (8).
وتناول السيد محمّد تقي الحكيم هذا الموضوع في بحث (استصحاب النص إلى أن يرد النسخ) بقوله: (وقد عد المحدث الاسترابادي هذا النوع من الاستصحاب من الضروريات). وأردف يقول: (والحقيقة: أنا لسنا في حاجة إلى هذا الأصل لإثبات استمرار الشريعة، لأن "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة"(9).
وقبل الدخول في ذكر الأقوال حول الاستصحاب يحسن بنا أن نحدد ما يلي:
هل الاستصحاب مسألة أصولية ام فقهية؟
إنّ  المسألة الأصولية لا تنتج بعد ضم صغراها إليها إلاّ حكماً كلياً، كما أن استنباط الحكم من تلك المسألة إنّما  هو من وظيفة المجتهد، ولا سبيل للعامي إليه أصلاً (10).
أما المسألة الفقهية: فإنها لا تنتج إلاّ حكماً جزئياً، والعامي هو الذي يجري قياسها ويطبقه على فعله الخاص، وتكون النتيجة شخصية(11).
مثال المسالة الأصولية: لو أخبرنا العادل عن حكم فنقول: "هذا ما أخبر به العادل، وكل ما أخبر به العادل فهو حجة، فهذا حجة". إذ من المعلوم اختصاص هذا الاستنباط بالمجتهد لا بالمقلد.
أما مثال القاعدة الفقهية فهو قاعدة التجاوز: وهي الحكم بوجود عمل شك في وجوده بعد التجاوز عن محله والدخول في غيره، أو بعد ما خرج وقته، كما إذا شك المكلف في أنّه  أتى بالقراءة أم لا وهو في الركوع، أو شك في الركوع وهو في السجود، فيحكم بأنه أوجدها، ويمضي في صلاته، ويحكم بالإتيان وفراغ، الذمة(12)، وهكذا، فإن النتيجة هي حكم جزئي.
إذا عرفنا هذا فنعود إلى موضوعنا، وهو الاستصحاب الذي يجري في الشبهات الحكمية والموضوعية، فإذا جرى في الشبهات الحكمية فإنه يكون مسألة أصولية؛ لأن نتيجته تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي: كاستصحاب نجاسة الماء المتمم كرّ(13).
أما عند جريانه في الشبهة الموضوعية: فإنه يكون مسألة فقهية، كما إذا شككنا في عدالة زيد بقاء ـ مثلاً ـ واستصحبناها لزمنا الحكم ببقائها، وهذا أمر جزئي (14).
ثانياً: الأقوال في الاستصحاب:
لقد اختلف في حجية الاستصحاب وعدمه على أقوال، ذكر منها الشيخ الأنصاري أحد عشر قولاً وهي:
أوّلاً: القول بالحجية مطلقاً.
ثانياً: عدمها مطلقاً.
ثالثاً: التفصيل بين العدمي والوجودي، فيعتبر في الأول دون الثاني رابعاً: التفصيل بين الأمور الخارجية وبين الحكم الشرعي مطلقاً، فلا يعتبر في الأول.
خامساً: التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وغيره، فلا يعتبر في الأول إلاّ في عدم النسخ.
سادساً: التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره، فلا يعتبر في غير الأول.
سابعاً: التفصيل بين الأحكام الوضعية ـ يعني: نفس الأسباب والشروط
والموانع ـ والأحكام التكليفية التابعة لها، وبين غيرها من الأحكام الشرعية، فيجري في الأول دون الثاني.
ثامناً: التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره فلا يعتبر في الأول.
تاسعاً: التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله أو من الخارج استمراره، فشك في الغاية الرافعة له، وبين غيره، فيعتبر في الأول دون الثاني كما هو ظاهر المعارج (15).
عاشراً هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغاية. زيادة الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه.
أحد عشر: المصداقي دون المفهومي، والأقوى هو القول التاسع، وبعد أن نقل هذه الأقوال عقب عليها قائلاً: (هذه جملة ما حضرني من كلمات الأصحاب، و المتحصل منها بادئ النظر أحد عشر قولاً) (16).
ويمكن إرجاع هذه الأقوال إلى ثلاثة أقوال رئيسة:
أولاً: القول بالحجية مطلقاً.
ثانياً: القول بعدم الحجية مطلقاً.
ثالثاً: القول بالتفصيل.
فالذين ذهبوا إلى القول بالحجية مطلقاً قالوا: بان الاستصحاب ينطبق على جميع الموارد.
أما الأخباريون: فقد ذهبوا إلى عدم كون الاستصحاب قاعدة يرجع إليها في إثبات الأحكام، وإنما هو مختص ببعض الصور التي أمر بها الأئمة عليهم السلام.
أولاً: القول بحجية الاستصحاب مطلقاً
فقد ذكر الشوكاني: أنّه  قول: (الحنابلة، والمالكية، وأكثر الشافعية، والظاهرية سواء كان في النفي أو الإثبات، وحكاه ابن الحاجب عن الأكثرين) (17).
ويمكننا التعرف على ذلك من خلال النظر إلى أقوال أعلام المذاهب المذكورة:
رأي أعلام الجمهور:
قال الآمدي من الشافعية: (ذهب جماعة من أصحاب الشافعي ـ كالمزني، والصيرفي، والغزالي ـ وغيرهم من المحقق إلى الاحتجاج به، وهو المختار، وسواء كان ذلك الاستصحاب لأمر وجودي أو عدمي، أو عقلي، أو شرعي؛ وذلك لأن ما تحقق وجوده أو عدمه في حالة من الأحوال فإنه يستلزم ظن بقائه، والظن حجة متبعة في الشرعيات) (18).
وقال ابن قدامة الحنبلي (ت 620 هـ): ( فالاستصحاب إذا عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي، وليس راجعاً إلى عدم الدليل، بل إلى دليل ظن مع انتفاء المغير أو العلم به) (19).
أما القرافي المالكي (ت 684 هـ) فقد قال: (الاستصحاب ومعناه: أن اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب الظن بثبوته في الحال أو الاستقبال، فهذا الظن عند مالك، والإمام المزني، وأبي بكر الصيرفي رحمهم الله حجة) (20).
غير أن الذي جاء في كتب الأصول: أن جمهور الحنفية والمالكية يقولون: (إنّ  الاستصحاب حجة للدفع لا للإثبات، وإن أكثر المتكلمين يقولون: إنه ليس بحجة) (21).
والقول بالاستصحاب كما قال القرطبي: (لازم لكل أحدٍ، لأنه أصل تبنى عليه النبوة والشريعة، فإن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة لم يحصل العلم بشيءٍ من
تلك الأدلة) (22).
وقال الفاسي: (والحقيقة: أن الفطرة تدل على قبول هذا الدليل بجميع أنواعه؛ لأنه يفتح للاجتهاد أبواباً) (23). وهو إنّما  يعمل في حالة عدم وجود دليل آخر.
قال الخوارزمي في الكافي: (وهو آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله فالأصل عدم ثبوته، فمثلاً: الأصل في الفتاة: البكارة حتّى تثبت الثيوبة بدليل، والأصل: بقاء الملكية حتّى يثبت نقلها بدليل، والأصل: براءة الذمة عن الواجبات) (24).
وللاستصحاب خمس صور هي كالآتي (25).
1 ـ استصحاب البراءة الأصلية.
2 ـ استصحاب النص حتّى يرد التغيير.
3 ـ استصحاب العموم حتّى يرد التخصيص.
4 ـ استصحاب الوصف الثابت شرعاً حتّى يرد ما يغيره.
5 ـ استصحاب الحال في الماضي (الاستصحاب المقلوب).
وقد اخذ الحنابلة بهذا الأصل كثيراً، ومن المسائل التي أفتوا بها بناء عليه هي:
1 ـ إنّ  الأصل في الأشياء: الإباحة حتّى يوجد دليل على المنع، وبهذا الاعتبار كان الأصل عندهم في العقود والشروط الإباحة (ووجوب الالتزام بها حتّى يوجد نص بمنع) (26).
2 ـ إنّ  الماء طاهر مطهر إلى أن يوجد دليل على نجاسته: من تغير اللون، أو الرائحة، أو رؤية النجاسة تسقط فيه مثل(27).
3 ـ إذا شك المطلق امرأته في أنّه  طلقها واحدة أو ثلاثاً فإن جمهور العلماء ـ ومعهم أحمد، خلافاً لمالك ـ قد قرروا أن تكون الطلقة واحدة في هذه الحالة؛ لأنها هي المستيقنة(28).
قال الشيخ أبو زهرة: (وهكذا ترى الحنابلة يأخذون بهذا الأصل في كثير من فروعهم، بل في قواعدهم، وأن قاعدتهم في إباحة العقود والشروط، إلاّ ما قام نص على منعه قد وسع مذهبهم في هذا الباب بما لم يتسع به أي مذهب آخر) (29).
وإذا انتقلنا إلى ابن حزم الظاهري وجدناه يذكر الدليل على وجوب الأخذ بحكم الاستصحاب ، حيث يقول: (فصح أنّه  لا معنى لتبدل الزمان، ولا لتبدل المكان، ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت أبداً في كلّ زمان وفي كلّ مكان، وعلى كلّ حال حتّى يأتي نص بنقله عن حكمه في زمان آخر، أو مكان آخر، أو حال أخرى. وكذلك إنّ  جاء نص بوجوب حكم في زمان ما، أو في مكان ما، أو في حال ما وبين لنا في ذلك النص وجب أن لا يتعدى النص، فلا يلزم ذلك الحكم في غير ذلك الزمان، ولا في غير ذلك المكان، ولا في غير تلك الحال)(30).
أما الأصوليين الإمامية: فقد ذهب إلى هذا القول من المتأخرين الشيخ محمّد كاظم الخراساني صاحب (الكفاية) (31).
ثالثا: أدلة القائلين بحجية الاستصحاب مطلقاً:
استدل القائلون بحجية الاستصحاب من الأصوليين الإمامية بأدلة كثيرة:
أ ـ السنة:
الروايات التي ذكرت للاستدلال على حجية الاستصحاب مطلقاً كثيرة، وسنقتصر على ذكر واحدة منها؛ لأن الروايات الأخرى تعطي معنى هذه الرواية في (57)الدلالة على الاستصحاب، وإذا اختلفت في شيءٍ فإنها تختلف في نوع الدلالة مطابقة أو التزاماً، وتكراراً واختصاراً، ولا نجد فيها أي جديد لا نجده في الرواية التي سنذكرها، وهي: صحيحة زرارة، قال: قلت له ـ أي للإمام الباقر ـ عليه السلام ـ: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟ قال: قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء، قلت: فإن حرك إلى جنبه شيء ولم يعلم به ؟ قال: لا، حتّى يستيقن أنّه  قد نام، حتّى يجيء من ذلك أمر بين، و إلاّ فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر) (32).
والاستدلال بهذه الرواية يكون من جهتين:
أولاً: شمول هذه الرواية للشبهات الموضوعية والحكمية.
ثانياً: دلالتها على حجية الاستصحاب في مختلف أبواب الفقه.
فقد تضمنت الرواية سؤال السائل عن الشبهتين معاً، أما الشبهة الحكمية فالذي يشير إليها هو قول زرارة: (الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء ؟) أي أن النوم الناقض للوضوء هل يشمل الخفقة والخفقتين، أو يقتصر على ما هو أشد منهما فيكون الأمر مردداً بين الأقل والأكثر ؟ وكان جواب الإمام: (فإذا نامت العين، والأذن والقلب فقد وجب الوضوء) أي اعتبار الأكثر في الناقضية دون الأقل.
أما دلالة الرواية على الشبهة الموضوعية فأنها تستفاد من قوله: (فان حرك في جنبه شيء ولم يعلم به ) فالسائل هنا عالم بالحكم في أنّه  إذا تحقق النوم يجب عليه الوضوء، ولكنه يريد أن يسال عن حكم الشك في موضوع النوم، فأجاب الإمام ـ عليه السلام ـ: (لا، حتّى يستيقن أنّه  قد نام...).
أي: إنه إنّما  يجب عليه الوضوء عندما يتحقق منه اليقين بذلك، ولا يجب عليه في صورة الشك (33).
أما دلالة الرواية في كونها قاعدة عامة تنطبق على جميع الموارد، فمحل الشاهد
فيها قول الإمام ـ عليه السلام ـ  (و لا يُنقض اليقين أبداً بالشك، ولكن ينقض بيقين آخر).
فاللام في اليقين للجنس، تستغرق كلّ يقين، سواء أكان يقيناً بالوضوء أم بغيره، تماماً كقوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) (34)، الشامل لكل بيع ورباً دون استثناء والفرق تحكم(35).
وقد يقال: إنّ  اللام في اليقين للعهد لا للجنس بالنظر إلى ذكر الوضوء في الجملة الأولى، وعليه ينحصر موضوع الرواية بخصوص الوضوء، ويسقط الاستدلال بها كأصل عام لكل يقين طرأ الشك بعده.
وقد أجيب عن ذلك:
أوّلاً: ليست هناك خصوصية للوضوء دون غيره في نظر الشرع والعرف، أما الشرع فواضح لأنه نهى صراحة عن نقض اليقين بالشك في الصلاة، والصيام، والطهارة، كما نهى عن نقضه في الوضوء.
وأما العقل والعقلاء، فإنهم لا يرون أية ميزة وتفرقة بين اليقين بالوضوء، واليقين بنواقضه ولا بين اليقين بالجنابة، واليقين بالغسل منها.
ثانياً: إنّ  اليقين في الجملة الثانية مطلق ومجرد عن كلّ قيد، والمطلق يجري على إطلاقه مالم يقم دليل على التقييد، ولا دليل هنا، ولو أراد الشارع التقييد لقال: (لا ينقض اليقين بالوضوء فدل سكوته عن القيد إرادة الإطلاق(36).
كما أن المتبادر من قوله ـ عليه السلام ـ: ( لا تنقض اليقين أبداً بالشك) أن العلة الموجبة للحكم بعدم نقض الشك لليقين هي: قوة اليقين، وضعف الشك من حيث هما لا من حيث ما وقعا عليه وتعلقا به، والحكم يدور مدار علته وجوداً وعدماً، فمتى وأين وجد اليقين ثم طرأ شك يبقى اليقين على سلطانه نهياً وأمراً وعملاً وأثراً، (حتّى يخلفه يقين آخر في حجته ومنزلته، لا فرق في ذلك بين واقعة وواقعة، ولا بين شخص وشخص. 
ب ـ الإجماع:
لقد ادعى العلامة الإجماع على العمل بالاستصحاب حيث قال:
(الاستصحاب حجة لإجماع الفقهاء على أنّه  متى حصل حكم ثم وقع الشك في أنّه  طرأ ما يزيله أم لا ؟ وجب الحكم على ما كان أوّلاً، ولو لا القول بالاستصحاب، لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجح) (37).
وقد أجيب عن دعوى الإجماع:
أوّلاً: إنّ  إجماعهم في ذلك ليس على الاستصحاب وأنه حجة، وإنّما  هو على بقاء ذلك الحكم، وبقاؤه إنّما  هو لأجل بقاء دليله السابق الذي قام عليه، وعدم قيام دليل على إزالته، فالعمل بذلك الحكم على ما نقل إجماعهم عليه لأجل عدم قيام مزيل لدليله، وفي تلك المقامات التي استشهد بها لعمل الأصحاب والذي سماه استصحاباً، الدليل موجود ولم يرفعه رافع، أما الاستصحاب فهو دليل حيث لا دليل (38).
ثانياً: إنّ  دعوى الإجماع لا تسمع مع كثرة الخلافات وتعدد الأقوال والتفصيلات (39).
ج ـ العقل:
لقد قرب الشيخ المظفر هذا الدليل بقوله:
(إذا علم الإنسان بثبوت شيءٍ في زمان، ثم طرأ ما يزلزل العلم ببقائه في الزمان اللاحق، فإن العقل يحكم برجحان بقائه، وبأنه مظنون البقاء، وإذا حكم العقل برجحان البقاء فلا بد أن يحكم الشرع أيضاً برجحان البقاء) (40).
وناقشه من وجهين:
الأول: في أصل الملازمة العقلية المدعاة ويكفي في تكذيبها الوجدان، فأنا نجد كثيراً ما يحصل العلم بالحالة السابقة، ولا يحصل الظن ببقائها عند الشك لمجرد ثبوتها سابقاً.
الثاني: على تقدير تسليم هذه الملازمة فأن أقصى ما يثبت بها حصول الظن بالبقاء، وهذا الظن لا يثبت به حكم الشرع إلاّ بضميمة دليل آخر يدل على حجية هذا الظن بالخصوص، ليستثنى مما دل على حرمة التعبد بالظن.... ولو كان هناك دليل على حجية هذا الظن بالخصوص، لكان هو الدليل على الاستصحاب لا الملازمة، وإنّما  تكون الملازمة محققة لموضوعه(41).
د ـ وجوب العمل بالظن:
قرب المحقق القمي الاستدلال بدعوى:
(إنّ  ثبوت شيءٍ في السابق، مع الشك في بقائه، موجب للظن ببقائه، وكل ما كان كذلك يجب العمل به) (42).
وقد أجيب عن هذا الاستدلال بكلتا مقدمتيه.
أما الصغرى فلأنه لا ملازمة دائماً بين ثبوت شيءٍ في السابق وبين الظن ببقائه، فأنا كثيراً ما نتيقن بثبوت أشياء ولا نستطيع أن نظن ببقائها ظناً شخصياً أو نوعياً عند الشك، إذا لم يكن لها قابلية البقاء عادة.
وأما الكبرى فأنها غير مسلمة لقيام الأدلة على حرمة العمل بالظن ( إلاّ ما دل الدليل على اعتباره بالخصوص، وليس لنا دليل على حجية الظن في خصوص المقام) (43).
هـ ـ بناء العقلاء:
بدعوى:
(استقراء بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة، وحيث لم يردع عنه
الشارع كان ماضياً) (44).
فالدليل هنا مؤلف من مقدمتين وهما:
أوّلاً: استقرار بناء العقلاء على طبق الحالة السابقة.
ثانياً: إمضاء الشارع لهذا البناء.
وقد أجيب عن هاتين المقدمتين:
أما المقدمة الأولى فبإنكار سيرة العقلاء في المقام، وما يرى من جري عملهم على طبق اليقين السابق ليس لأجل الاستصحاب المصطلح، بل لأمور مختلفة:
منها: الاطمئنان بالحالة السابقة كما يرى ذلك في التجار، فأنهم يبعثون أموالهم إلى وكلائهم في البلدان في حالة اطمئنانهم ببقائهم، وإذا فرض موت جماعة في بلد الوكيل ـ لهزة أرضية ونحوها ـ واحتمل أن يكون الوكيل منهم، لم يبعث التاجر ماله إليه اعتماداً على الاستصحاب.
ومنها: رجاء البقاء، كما لو فرض بقاء ولد شخص في واد من الأودية، فإنه يبعث إليه الغذاء والماء رجاء لبقائه، كي لا يموت جوعاً أو عطشاً على تقدير حياته، ولو فرض الظن بعدم بقائه لبعثه إليه احتياطاً.
ومنها: الغفلة وعدم الالتفات إلى عدم البقاء، كرجوع الإنسان إلى داره ومسكنه، فإنه كثيراً ما يكون غافلاً عن خرابه، ولا يبعد أن يكون رجوع الحيوانات من الطيور إلى أوكارها من هذا القبيل (45).
والواقع أن هذه التعليلات لما يصدرون عنه من الموارد الاستصحابية لا تلتئم مع واقع أكثر هم لعدم الالتفات إليها.
وقد تبنى السيد الحكيم في أصوله العامة اعتبار الاستصحاب من الظواهر الاجتماعية العامة، التي ولدت مع المجتمعات ودرجت معها، وستبقى ـ كما يقول ـ ما دامت المجتمعات ضمانة لحفظ نظامها واستقامته(46).
مع افتراضها من الظواهر الاجتماعية ـ كما هو غير بعيد ـ فالصدور التلقائي عنها هو الذي ينظم حياة أكثر الناس.
والقول بأن: (ترك العمل على طبق الحالة السابقة والعمل بالاحتياط لا يوجب اختلال النظام، ولذا لا يختل نظام من لا يقول بحجية الاستصحاب رأساً) (47)، لا يخلو من غرابة لأن هؤلاء المنكرين لحجيته (عندما أنكروها لم يتخلوا في واقع حياتهم عن الجري على وفق الاستصحاب، وإن تخلوا عنه في الشرعيات(48).
ولولاه لعد إرسال المكاتيب والهدايا من البعد سفهاً، وهكذا فأن هذه المقدمة سليمة عن المناقشات المذكورة.
أما المقدمة الثانية، وهي موافقة الشارع لبناء العقلاء، فقد ناقشها صاحب الكفاية بقوله:
(لم يعلم أن الشارع ببنائهم راض... ويكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم، وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات، فلا وجه لاتباع هذا البناء فيما لابد من اتباعه عن الدلالة على إمضائه) (49).
وقد أجيب عن ذلك:
بأننا لا نحتاج إلى دليل على إحراز إمضاء الشارع لهذه السيرة، إذ أن نفس بناء العقلاء، هو الدليل والكاشف عن موافقته لهم، لأنه رئيس العقلاء، ويكفي في إثبات ذلك عدم ثبوت الردع عنه وهو بمرأى منه، بعد أن فرضت أنها من الظواهر الاجتماعية العامة.
وأما الآيات الرادعة عن اتباع غير العلم كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم((50)، وقوله تعالى: (إنّ  الظن لا يغني من الحق شيئاً((51)، فلا تصلح للردع في المقام، لأنها واردة في أصول الدين، والمقصود من النهي عن اتباع غير العلم هو النهي عنه لإثبات الواقع به، وليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع، فلا يشمله النهي، إذ  
المفروض بالاستصحاب قاعدة يرجع إليها عند الشك، فيكون الاستصحاب خارجاً عما نهت عنه الآيات تخصصاً.
والحاصل أنّه  بعد ثبوتالسيرة العقلائية وعدم ردع الشارع عنها صراحة، ولذا لم يتوقف أحد عن العمل بالظاهر بعد نزول الآيات... حيث إنّ  العمل بها ليس من العمل بغير علم(52).
خلاصة وتقويم
وخلاصة ما انتهينا إليه من أدلة المثبتين مطلقاً لحجية الاستصحاب هي:
أوّلاً: إنّ  الأدلة التي اعتمد عليها المثبتون مطلقاً على اختلاف في ذكر بعضها أو كلها هي: السنة، الإجماع، العقل، والظن، وبناء العقلاء.
ثانياً: أما الذي توصلنا إليه بعد التحقيق هو أن كلاً من الأخبار، والسيرة العقلائية دليل على حجية الاستصحاب مطلقاً.
وعلى هذا فالأدلة التي سيقت على حجية الاستصحاب مطلقة محكمة ولا رافع لها رفعاً كلياً عن تمام المصاديق أو عن بعضها.
يقول السيد محمّد مهدي بحر العلوم وهو يتحدث عن بعض أدلة الاستصحاب:
(وهذا بعمومه يقتضي حجية الاستصحاب في المنفي والمثبت، والثابت والزائل والصريح واللازم، والمظنون والمشكوك، والموضوع والحكم) (53).
___________________________
1  ـ فوائد الأصول، محمّد علي الكاظمي 3: 119.
2  ـ الرسائل للشيخ الأنصاري 1: 164.
3  ـ الجرجاني، علي: التعريفات، علي الجرجاني: 17.
4  ـ القوانين، أبو القاسم القمي 2: 57، والرسائل للشيخ الأنصاري 1: 302 حيث تجد مناقشة التعريف.
5  ـ الرسائل للشيخ الأنصاري 1: 302.
6  ـ  مصباح الأصول، تقريرات المحقق الخوئي، لمحمد مسرور الواعظ: 5.
7  ـ الفوائد المدنية للاسترابادي: 106 ـ 143.
8  ـ الحدائق الناضرة للبحراني 1: 55.
9  ـ الأصول العامة للفقه المقارن، السيد العلامة الحكيم: 474.
10  ـ الرسائل للشيخ الأنصاري 10: 304، والسيد الخوئي في "أجود التقريرات" 3: 344.
11  ـ المصدر السابق 2: 344.
12  ـ مصطلحات الأصول للشيخ علي المشكيني: 139.
13  ـ مباني الإستنباط، أبو القاسم باغميشة 4: 7.
14  ـ المصدر السابق 4: 8.
15  ـ معارج الأصول للمحقق الحلي: 206.
16  ـ الرسائل للشيخ الأنصاري 1: 312.
17  ـ إرشاد الفحول للشوكاني: 273، فهو عندهم يثبت الحقين: السلبي والإيجابي.
18  ـ الأحكام في أصول الأحكام  للآمدي 4: 111، والوسيط للزحيلي: 557.
19  ـ روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة المقدسي: 80.
20  ـ القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس: شرح تنقيح الفصول في الأصول: 199.
21  ـ الوسيط للزحيلي: 557. وفيه قال الزحيلي: (أي: إنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغير الحال؛ لإبقاء الأمر على ما كان، أي: ان الاستصحاب لا يثبت به إلاّ الحقوق السلبية، فلا يثبت حكماً جديداً، وإنّما  يستمر به حكم العقل بالإباحة الأصلية، أو البراءة، أو ببقاء حكم الشرع بشيءٍ بناءً على تحقق السبب الذي ربط به هذا الحكم، ولهذا قالوا: إنّ  الاستصحاب حجة لإبقاء ما كان على ما كان، لا لإثبات مالم يكن).
22  ـ السيد علال الفاسي في "مقاصد الشريعة الإسلاميّة  ومكارمها": 128.
23  ـ المصدر السابق: 131.
24  ـ الوسيط للزحيلي: 546.
25  ـ مقاصد الشريعة للفاسي: 131، أحمد بن حنبل لمحمد أبي زهرة: 294.
26  ـ تاريخ المذاهب الإسلاميّة  لمحمد أبي زهرة 2: 345.
27  ـ ابن حنبل لأبي زهرة: 292.
28  ـ ابن حنبل لأبي زهرة: 293.
29  ـ تاريخ المذاهب الإسلاميّة  لأبي زهرة 2: 345.
30  ـ الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم الظاهري 5: 592.
31  ـ كفاية الأصول للشيخ محمّد كاظم الخراساني 2: 28.
32  ـ الطوسي، محمّد بن الحسن: التهذيب 1: 8.
33  ـ المظفر: أصول الفقه 3: 297 ـ 298.
34  ـ البقرة: 275.
35  ـ الباغميشة، أبو القاسم: مباني الاستنباط: 164.
36  ـ الحيدري، علي نقي: أصول الاستنباط 2: 211 ـ 212.
37  ـ الحلي، العلامة: مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 250.
38  ـ الحيدري، علي نقي: أصول الاستنباط 2: 211.
39  ـ مغنية، محمّد جواد: علم أصول الفقه في ثوبه الجديد: 356.
40  ـ المظفر: أصول الفقه 3: 293.
41  ـ المظفر: أصول الفقه 3: 293.
42  ـ القمي: قوانين الأصول 2: 58.
43  ـ الواعظ، محمّد سرور: مصباح الأصول: 399.
44  ـ القمي: قوانين الأصول 2: 57 الكاظمى، محمد مهدي: العناوين: 50.
45  ـ الباغميشة: مباني الاستنباط 4: 11.
46  ـ الحكيم: الأصول العامة: 459.
47  ـ الباغميشة: مباني الاستنباط 4: 12.
48  ـ الحكيم: الأصول العامة: 459.
49  ـ الخراساني: كفاية الأصول 2: 399.
50  ـ  الإسراء: 66.
51  ـ يونس: 36.
52  ـ الكاظمي، محمّد علي: فوائد الأصول 4: 119، الباغميشة: مباني الاستنباط 4: 13.
53  ـ بحر العلوم، محمّد مهدي: الفوائد الأصولية: 111.

 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية