مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 وحدة الموقف الإسلامي واستقطابات   
إعادة كتابة التاريخ
مبررات وبواعث
 شاكر الفردان(1)


البشرية منذ بدايتها إلى يومنا هذا والى قيام الساعة تمثل حلقات مترابطة من الحوادث التي يصنعها الإنسان يقدمها السابقون للاحقين، واللاحقون يصنعون أحداثهم بخليط مما قدمه السابقون مما يلائم حياتهم الحاضرة وشيء من تجربتهم الذاتية.
وتاريخ البشرية لم يصل إلى الأجيال اللاحقة إلاّ عبر سبل متعددة بعض هذه السبل حفظت ما لديها من تراث وأوصلته كما ينبغي، وبعضها عجزت عن ذلك تبعا لظروف ذاتية أو موضوعية من هنا نشأت القطيعة بين الماضي والحاضر، وبدأ الحاضر في بعض جوانبه يسير بشخصية مبتورة لا يرتكز على قاعدة مما جعله بتخبط في بعض مسالكه.
قبل أن نشرع في بيان الرؤية الصحيحة في الرجوع إلى الخلف (التاريخ)، علينا أن نتبين بصورة مختصرة، المراد من التاريخ، وحيث أن كلامنا يتجه بصورة طبيعية إلى التاريخ الإسلامي، لنرى، هل التاريخ الإسلامي يستثنى من ذلك أم خاضعاً لنفس القانون؟.
ما المراد من التاريخ..؟
أذكر هنا بيانين لمعنى التاريخ الإنساني:
الأول:
"التاريخ: جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، وتصدق على الفرد والمجتمع كما تصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية، والتاريخ: تسجيل هذه الأحوال..." (2)
ويوسع الفيلسوف"هيجل" من دائرة هذا التعريف الذي يمثل جنبة واحدة من جنبات التاريخ ليشمل الجنبات الأخرى التي تجعل من التاريخ حاضرا في كونه ماضياً.
"عدّ هيجل التاريخ جزءاً من الفلسفة، لأنه ليس مجرد دراسة وصفية، بل هو أقرب إلى التحليل وبيان الأسباب"(3).
الثاني:
ما أورد العلامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في دراسته التاريخية قائلاً:
"إذن فالتاريخ هو حركة الإنسان في محيطه خلال الزمان، وقد يعالج التاريخ حركة الإنسان في مجتمع معين أو في إطار ثقافة معينة، وقد يتسع ليعالج حركة الإنسان على صعيد عالمي"(4)
من خلال هذين البيانين اللذين تناولا حركة الإنسان مطلقاً يتبين أن التاريخ يرتكز على عنصرين: 1 ـ الإنسان 2 ـ الزمن من خلال تفاعل هذين العنصرين ينتج التاريخ الذي تكون مسرحه البيئة أو ما يعبر عنه الشيخ شمس الدين بـ"المحيط"، وأما ما أفاده هيجل فهو بيان لكيفية التعامل مع التاريخ.
لكن هل التاريخ الإسلامي يستثنى من هذا التعميم ؟. التاريخ الإسلامي حلقة في سلسلة حلقات التاريخ البشري، غاية الأمر أنّه  يتميز بثقافة خاصة وظروف بيئية معينة تجعله يمتلك خصوصيات يتميز بها عن بقية حلقات التاريخ، من هنا أصبح التاريخ الإسلامي محوراً للدراسات المسلمة وغير المسلمة.
ومع هذا نجد أن هنا نظرتين للتعامل مع التاريخ:
الأولى: التي تمثل القطيعة مع التاريخ، وذلك باعتباره يمثل عائقاً أمام تقدم الأمة، أي أن العودة إلى التاريخ تعني النكوص والرجوع بالأمة إلى ماضيها السحيق الذي يمثل عهد التخلف قياساً بما نحن فيه من تقدمية ومدنية متطورة، أظن أن هذه النظرة لم تقرأ من التاريخ سوى المظهر العمراني وحالة العيش الخارجية ولذا قياسا بما نحن فيه يبدو أن الزاوية منفرجة إلى حد لا تقبل الالتقاء، وهذا حصر لفعاليات الإنسان الذي يصنع التاريخ في هذه الحدود الضيقة، بينما الإنسان صنع حوادث حفرت نفسها على هام الزمن، حيث أن التاريخ نقل لنا حوادث الصراع الدائم بين المظلوم والظالم ونقل لنا كيف انتصرت القيم والمثل، ولم يكتب لهذه الحوادث وغيرها الرجعية والتخلف كما يدعي الماركسيون والبنيويون.
الثانية: التي تمثل التواصل مع التاريخ، على اعتبار أن كلّ أمة لا تستند في مسيرتها ولا تعتمد على التاريخ هي أمة مبتورة لا يمكنها أن تقاوم الزحف نحو بناء حضارتها، بل ترى التاريخ محركاً للمستقبل ومادة وقوده، ومقياساً على أساسه تتحاشى الأمم الأخطاء التي وقع فيها السابقون ونقاط الضعف التي تسببت في اندحار أمم آخرين، بعبارة أخرى الاستفادة من التاريخ في حاضرنا بحيث لا يجذبنا إليه فنموت ونحن أحياء، ولا ننفصل عنه فنتحرك ونحن أموات، بل نستحضر التاريخ في حاضرنا ليكون شاهداً ومرشداً، هذا هو التاريخ الذي يعبر عنه
البعض بـ "التراث"(5).
ولعلي أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ  الكلام الفيصل في اختيار أي النظريتين في التعامل مع التاريخ، وذلك من خلال وصيته لابنه الحسن:
".. أي بني إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي ن فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتّى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى أخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره.."(6)
نعم هذه هي القراءة الصحيحة الفاحصة للتاريخ التي تجعل منه ضابطاً يشق من خلاله الطريق بسهولة "فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره"، وهذا ما نلحظه في كثير من خطب أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ  حيث كان يستعرض لمن حوله تاريخ السابقين لا ليعيش من خلاله التسليه ولا ليطرحه من باب الترف الفكري، إنّما  كان ذلك ليفتح لهم كوة من نور على تاريخ الماضين ليستضيئوا بها في حاضر هم الذي يشبه ماضيهم، ومن أراد المراجعة فعلية بمراجعة نهج البلاغة أو ما كتبه العلامة شمس الدين في كتابه حركة التاريخ عند الإمام علي ـ عليه السلام ـ  سيرى كيف يقرأ علي ـ عليه السلام ـ  التاريخ ؟ !
الأمة الإسلاميّة أمة تنتمي إلى تاريخها حتّى عادت من شدة تفريطها في ارتباطها بتاريخها تسمى بـ " أمة التاريخ" أو "أمة التراث" ومع غض النظر عن كون هذه التسمية صحيحة أو خطأ المهم أنها تكشف عن عمق الارتباط بالتاريخ، وهذا التاريخ ـ الذي تقدم بأنه ضابط ومرشد الحياة الأجيال نجد في كثير من منعطفاته أزمات تطول وتقصر، تشتد وتضعف في ذهن الأمة.
لأجل هذا تعالت صيحات المصلحين والمفكرين من أجل "إعادة كتابة التاريخ"، لأن التاريخ الذي وصل إلينا لم يكن خالياً من الشوائب ولا صافياً من
الدخائل، واستمرت هذه الدعوات فترات متطاولة حتّى يومنا هذا ولم يكتب التاريخ بحسب حجم هذه الدعوات، وصعوبة العمل من الأمور التي لا تنكر، يقول العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي:
".. وحيث إن التاريخ الإسلامي مثقل بالأباطيل والأكاذيب، بسبب تلاعب الأهواء السياسية والمذهبية، وغيرها فيه...... كان الوصول إلى الحقيقة فيه بالغ الصعوبة إن لم يصل أحياناً إلى حدّ التعذر.." (7).
لماذا الوصول إلى (الحقيقة) في التاريخ الإسلامي بالغ الصعوبة أو يصل أحيانا إلى حدّ التعذّر ؟ ! هذا ما نريد بيانه من خلال النقاط التالية:
ـ مبررات إعادة كتابة التاريخ.
ـ بواعث إعادة كتابة التاريخ.
ـ أين تكمن الأزمة في التوقف عن الإعادة؟
ـ على عاتق من تتم الإعادة أو قل ما هي الشرائط المطلوبة في من يريد إعادة كتابة التاريخ ؟ !
إذا استطعنا أن نستوضح ذلك من خلال هذه الإثارة استطعنا أن نضع الخطوة الأولى في طريق الوحدة بين المسلمين.مبررات إعادة كتابة التاريخ:
1 ـ قد يكون أحد المبررات الداعية لذلك، هو غياب بعض الفقرات التاريخية أو سقوطها بحيث لم تصل إلى الأجيال، ورغبة في اكتشاف أو إعادة ما سقط إلى سلسلة التاريخ حتّى يطلع عليه الأجيال، واقرب ما يكون هذا المبرر إلى الترف الفكري منه إلى القراءة الصحيحة للتاريخ، لأنه خال من الهم الإسلامي الذي
يدفع بالفرد نحو تاريخه من أجل حاضره.
2 ـ تهذيب صورة التاريخ الذي بين أيدينا من دون الدخول في تفصيلاته أو محاولة الرجوع به إلى الخلف أكثر من ذلك ونعتمد في ذلك على المصادر التاريخية التي بأيدينا مع التهذيب والحفاظ على ما يتبقى منها.
3 ـ هذا المبرر قائم على أساس الجمع بين المبررين السابقين، وذلك من خلال كشف التاريخ المغيب أو المسقط، التاريخ الذي غيبته الأيدي السلطوية "تاريخ المعارضة" التاريخ الغائب الحاضر، فإنه غائب من موسوعاتنا التاريخية بصورته التفصيلية، حاضر في فكر الأمة بل في فكر السلطة"(8) ومن خلال رفع حالات الزيف والخداع والتضليل والأباطيل  من التاريخ.
يقول العلامة السيد محمّد تقي الحكيم وهو من رواد الوحدة ومن دعاة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة:
"إن علينا أن نعاود دراسة التاريخ من زاوية أخرى زاويتي أنا وأنت زاوية الشعب وما فيه من إمكانيات خيرة تبعث على الإكبار.
ولعل تاريخنا ـ من هذه الزاوية ـ من أثرى تواريخ الأمم الأخرى وأعلقها بالحياة رغم محاولة الحكام السابقين في تذليلها والأعراض عنها ففيه لمعات مبعثرة لو قدر لها أن يضم بعضها إلى بعض لأنتجت تاريخاً حافلاً بأروع المفاخر.
إننا في حاجة إلى قلب مفاهيمنا عن مناهج الدراسة في التاريخ وتحويل اتجاهها عن خط السير المألوف إلى خط آخر يوصل إلى تلكم الإمكانيات الخيرة في نفسيات الشعوب ويبرز خصائصها العامة والخاصة ويضعها في
موضعها من زمنها ومن أحداثه الكبرى"(9).
وفي بيان الجزء الثاني من هذا المبرر لا عادة كتابة التاريخ يقول سماحة السيد محمد تقي الحكيم:
"... ورجعت إلى كتب التاريخ رأيتني أمام حشد من المفارقات والتناقض الفظيع لا يمكن اجتيازه بسهولة، ورأيت مهمتي من أشق المهمات وأعسرها متى أردت الإخلاص لنفسي في أدائها على أفضل وجوهها"(10).
نعم هذا هو المبرر الموضوعي الذي دعى المصلحين لأن يطلقوا بصيحاتهم في المحافل العامة ومن خلال الكتب والدوريات لإعادة كتابة التاريخ لما في ذلك من حفاظ على وحدة الأمة وبقاء لعزتها وكرامتها. البواعث على إعادة كتابة التاريخ:
1 ـ الباعث السياسي: كما أن من النوازع التي دفعت بالبعض إلى تشويه التاريخ والوضع فيه هي السياسة كذلك من البواعث إلى إعادته هي السياسة وذلك من خلال المساومة على ضمائر الوضاع، فها هو التوجه الأموي ـ قديماً ـ كيف اشترى الضمائر وحرف التاريخ من خلال الحشد الكبير للروايات وغيرها، وكذلك ممن أرخوا أو كتبوا حديثاً عن التاريخ نجدهم كيف يحرفون الأحداث ويضعون تحليلاتهم في بطن التاريخ وكأنه من التاريخ، كما حصل للجابري في نقده لحركة المختار وتشويهها أو حديثه حول مالك الاشتر وصياغته الحدث من دون أن ينسبه إلى مصدر تاريخي(11).
2 ـ الباعث العلمي: بعبارة أخرى التاريخ من أجل التاريخ لا يدفعه لذلك سوى أن يرى المادة العلمية صافية لا يشوبها شيء، وهذا الباعث قد يتواجد في نفوس بعض المستشرقين.
3 ـ الباعث العقائدي: أي أن يكون المنشأ هو العقيدة التي على أساسها يتحرك لا عادة كتابة التاريخ وذلك من خلال ممارستين:
الأولى: الحفاظ على العقيدة من الشوائب والدخائل التي تضربها على مستوى الحاضر وتفقدها القدرة على البقاء على مستوى المستقبل.
الثانية: أن العقيدة تفرض عليه كمسلم أن يتحمل مسئولية الحفاظ على الوحدة الإسلاميّة ورص صفوف المسلمين، فالدعوة إلى الوحدة ضرورة عقلية يقرها العرف ويفرضها الشرع، حينها تتحول القضية إلى مسئولية يندفع من خلالها الفرد المسلم لإعادة كتابة تاريخه من جديد.
من خلال هذين الأمرين: الدفاع عن العقيدة، وتعميقها من خلال وحدة الصف بين المسلمين تبرز المسألة في باعثها الحقيقي والسليم الذي يتحول إلى باعث يطارد المسلم ـ بالأخص القيادات الإسلاميّة ـ أينما أراد لنفسه الاسترخاء فإن من وظائف الرادة والقادة نفي التحريف والبدع عن هذا الدين، ومن أبرز مصاديق التحريف "تحريف التاريخ" سواء عن طريق الزيادة فيه كما فعل "الوضاعون" في عهد معاوية أو النقصان كما حدث في زمنه أيضاً، ولا أظن زمناً خلا من هذه الممارسات السلبية في تاريخنا الإسلامي وإنّما  تختلف شدة وضعفاً ويعتبر عصر معاوية أجلى مصداقاً لها.
فمع المبرر الثالث ـ كشف التاريخ المغيب وكشف الأباطيل من التاريخ ـ نضم الباعث الثالث ـ الباعث العقيدي ـ نجد أننا أمام مسئولية ثقيلة تقتضي الحيطة والحذر والدقة للدخول في هذا المشروع الخطر، وذلك لأن خطورته تنجر على الإسلام بكامله، فأي خطوة مرتجلة أو حركة دفعت بها ردة الفعل أو أي بداية لم تدرس ستكون غايتها الفشل لا بل الفشل الذريع، الذي يمثل خسارة حروب طاحنة طويلة فمن الذي يتصدى لمثل هذا المشروع؟!
هناك جهود شخصية متفرقة تحمل بوادر خيرة تصب في هذا المصب ولكن المسئولية أكبر من أن يقوم بها فرد أو مجموعة، إنه مشروع يحتاج إلى تكثيف الطاقات وتوجيهها مع الإسناد الحقيقي للدول الإسلاميّة. المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة:
بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المباركة في إيران واستقرار الدولة الإسلاميّة تحت رعاية الامام الراحل الخميني ـ رض ـ كان من أهم الاهداف الشاخصة التي تسعى الحكومة الإسلاميّة جاهدة في تحقيقها "توحيد صفوف الأمة الإسلاميّة" ومحاولة التقريب بين مذاهبها، وقد خطت ـ مشكورة ـ خطوات هيأت الأرضية المناسبة لقيام المشاريع الوحدوية العملية ـ وان كلفها الكثير من الحرمان نتيجة القيام بهذا الواجب المقدس ـ ولكن لكونه مطلباً ملحاً وضرورة يقتضيها الدين فتحتمها الظروف أصبح مشروع الوحدة من أولويات الثورة الإسلاميّة والدولة، وكان رائد هذا المشروع الإمام الراحل ـ رض ـ، وكان من نتاجات وعطاءات المشروع الوحدوي الخميني هو ولادة "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة" الذي يمثل الذراع العملية لتحقيق طموحات المشروع الوحدوي، هذا المجمع الذي حظي بدعم وإسناد السيد القائد آية الله الخامنئي ـ أطال الله عمره الشريف ـ، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن المجمع العاملي كان مسبوقاً به "دار التقريب بين المذاهب" الذي كان في القاهرة وكان حلقة من ضمن حلقات المشروع الوحدوي الكبير.
لا نرى جهة لها القدرة والصلاحية على تحمل هذا المشروع ـ مشروع إعادة كتابة التاريخ سوى المجمع العالمي وذلك لما يتمتع به من مواصفات تجعل المسئولية متعينة عليه في أن يأخذ بزمام المبادرة لتدشين هذا المشروع، خصوصاً وأنه يحظى بتأييد معظم علماء المسلمين في أقطار العالم وذلك يلمس
من خلال مؤتمره السنوي، وفوق كلّ ذلك أنّه  يحظى بالأشراف المباشر والإسناد القوي من قبل السيد القائد آية الله الخامنئي ـ حفظه الله تعالى ـ الدولة الإسلاميّة تلقي بكل إمكانياتها رهن اختيار المجمع العالمي من أجل تحقيق الوحدة الإسلاميّة، ولكن يبقى هنا شيء وهو: من الذي يقوم بعملية الإعادة للتاريخ ؟ ما هي مواصفاته ؟ حتّى نضمن سلامة المشروع ونجاحه منسجماً مع الأهداف المرسومة. مواصفات من يريدوا إعادة كتابة التاريخ:
 إن مشروعاً كهذا يكون مطمعاً للطامعين الّذين يرغبون في تسجل أسمائهم في صفحات التاريخ، وعرضه لأن تندس عناصر تطمع في تحقيق نوايا سيئة، لذا كان من اللازم الإشارة إلى مواصفات القائمين على هذا العمل.
1 ـ الموضوعية: ونقصد بذلك أن يتجرد الباحث التاريخي عن كلّ الرواسب التي لها مدخلية في نقل الحدث وفهمه وعرضه وبيانه، بل عليه أن يكون رهن الحقيقة الموضوعية فأينما رست عليه فهو الحق يجب أن يخضع له دون مواريه، ويعتقده ويؤمن به دون توقف، والتاريخ الإسلامي يضرب في أعماق عاطفة الفرد المسلم، ذلك لشدة الارتباط بينهما حيث يصاحبه من المهد إلى اللحد، لذا كان على الباحث أن يلتزم الموضوعية والنزاهة، ويجعل الله سبحانه وتعالى نصب عينيه يقول العلامة السيد محمّد تقي الحكيم عندما عرضت عليه لجنة الكلية في منتدى النشر تدريس التاريخ كيف وجد نفسه أمام هذا التاريخ ؟ وكيف شخص مسئوليته؟:
"حين أوكلت إلي لجنة الكلية في منتدى النشر تدريس التاريخ لطلابها ومحاكمة بعض أحداثه وبخاصة ما يتعلق منه بالحوادث الكبرى في الإسلام...... رأيت مهمتي من اشق المهمات وأعسرها متى أردت الإخلاص لنفسي في أدائها على أفضل وجوهها"(12).
نعم إن المهمة شاقة إذا أراد الإخلاص لنفسه، لأنها مسئولية عظمى تتلقفها الأجيال بكل ما فيها من خطأ أو صواب، لأجل هذا اختط العلامة السيد محمّد تقي الحكيم منهجاً اعتمده في البحث التاريخي سهل عليه مهمة تحويل الأمانة إلى الأجيال بصدق وإخلاص، وهذا ما سنتعرض له لا حقاً.
أما كيف نتعرف على الشخصيات الموضوعية النزيهة؟ يمكن التعرف على ذلك من خلال الكتابات والتأليفات واللقاءات المفتوحة من خلال المؤتمرات والندوات، والمجمع العالمي قد خطى خطوات موفقة في هذا المجال من خلال المؤتمرات أو من خلال فتح باب الكتابة عن طريق منبرها الدائم مجلة "رسالة التقريب".
2 ـ الخبرة: ونقصد بها الاطلاع الواسع الضارب إلى أعماق التاريخ من خلال متابعة الحدث في مصادره خصوصاً مصادره القريبة من زمن الحدث حتّى تتكون في ذهنيته تفاصيل الحديث مما يخلق فيها حاسة الحدس وسرعة الاستنطاق مقابل الأحداث أو بعبارة أخرى تتكون لديه حاسة شم سريعة يستطيع بواسطتها أن يشم روائح كذب الخبر من صدقه، وهذه الحاسة لا توجد من لا شيء بل لابد من خوض تجارب تاريخية وتحقيقات ومتابعات بعيدة الغور حتّى تتولد عنده هذه الحاسة.
3 ـ المعرفة المنبسطة أو (الأفقية): من خصوصيات التاريخ الإسلاميّ أن الإسلام يكون حاضرا في كلّ جنبة من جنبات التاريخ فلا نتصور جنبة تخلو من الإسلام، لأجل هذا افترضنا في الباحث التاريخي أن يكون بالإضافة إلى كونه مؤرخاً مطلعاً على الإسلام حتّى يدرك الحدث ويدرك شخصياته، وهذا يؤثر كثيراً في معرفة الحدث عرضاً وبياناً ومعرفة الأشخاص في تأثيرهم السلبي والإيجابي في الحدث، وهذا ما نلمسه في كثير من كتابات المستشرقين التاريخية حيث أنهم
ينظرون إلى التاريخ من زاوية واحدة، ولذا لا ينسجم أن يكون أحد أفراد هذا المشروع ـ مشروع إعادة التاريخ ـ ممن ليس لهم إطلاع بالدين عقيدة وفقها حتّى لو امتلك الموضوعية.
4 ـ الإخلاص: وإن كان من الأمور النفسانية التي لا يطلع عليها أحد سوى الله، إلاّ أن الآثار الخارجية دالة عليها، وبلا شك أن وجود هذا العنصر أمر ضروري لنجاح المشروع ودوام استمراريته، طبعاً ينضم إلى هذا العنصر، "الهم" الذي هو المعاناة والتفاعل مع المشروع. أين تكمن الأزمة ؟!
كما تقدم الكلام سابقاً حول الدعوات المتكررة من أجل إعادة كتابة التاريخ إلاّ أننا إلى الآن لم نجد استجابة مناسبة لهذه الدعوات، فأين يكمن السر في ذلك ؟. على مستوى الطاقات لا أظن أن الأمة الإسلاميّة عقمت من أن تلد مثل هؤلاء، ولا أظن انعدام المؤسسة التي ترعى المشروع وتجمع الطاقات وتتابع العمل خصوصاً بعد أن تكون المجمع العالمي للتقريب تحول إلى مأوى لمثل هؤلاء، فأين يكمن السبب؟!
لعل السبب يكمن في عدم وجود منهج للبحث التاريخي يكون موضع قبول الجميع، وقبل الإشارة إلى المنهج أود أن أشير إلى خطوة تسبق المنهج وهي لا تحتاج إلى كثير عناء، والخطوة هي: استخراج المشتركات ونقاط الإجماع في التاريخ بين الفرق الإسلاميّة، وذلك ليسهل الأمر على المورخ في معالجة الأحداث المضطربة أو المختلف فيها.
وهنا استعرض ما ذكره العلامة السيد محمّد تقي الحكيم من منهج للبحث التاريخي وهو على إيجازه مفيد جداً خصوصاً في المناهج التعليمية، يقول العلامة: بعد أن رأى حالة الاضطراب والتشويش في التاريخ الإسلامي وكان عليه
أن يجد مخلصاً من استخلاص التاريخ النقي بكل موضوعية ألزم نفسه بمجموعة أمور هي عبارة عن منهج البحث في التاريخ:
"قد رأيتني لذلك ملزما أن لا أدخل معهم في بحوثها قبل أن التمس له:
أولاً: أسباب هذا التضارب والتناقض في تسجيل أحداثه.
ثانياً: المنهج الذي يجب أن نسلكه لاستخراج الواقع التاريخي من بينها سواء في تحقيق النص أم التأكد من صحته.
ثالثاً: تفسير النص وذلك بعد عرض المذاهب المختلفة في تفسير التاريخ ومناقشتها وتعيين وجهة نظر الكاتب فيها إن صح أن له وجهة نظر خاصة.
رابعاً: الحكم بما يستحق من حكم"(13).
عندما تطرح هذه الضوابط أو قل النقاط العامة للمناقشة والبحث بين علماء ومفكري الإسلام، يخلصون من خلالها إلى وضع معايير وضوابط تقريبية ـ على أقل التقادير ـ على أساسها يوزن الخبر من حيث الصدق أو الكذب أو من حيث التحقيق، طبعاً هذا يكون بعد الاتفاق على كونها ضابطة عند الجميع، عندها يسهل الأمر في إعادة كتابة التاريخ أو تضييق الهوات الواسعة بين الفرق الإسلاميّة على الأقل.
ولا يفهم من هذا الأمر أن هذا المشروع يراد منه إلغاء اتجاه أو مدرسة ما، كما لا يراد منه الذوبان وفقدان الهوية، إنّما  يراد منه التقريب بين وجهات النظر إضافة إلى عودتنا إلى تاريخنا الحقيقي الذي يمثل تراثنا الفاعل في حاضرنا.
أضف إلى هذا أن مشروع الإعادة لا يراد منه أن نلغي الكتب التاريخية الموسوعية أو نرمي بها في أعماق البحر إنّما  تبقى هذه الكتب والمخطوطات
مراجع يحتفظ بها في أماكن خاصة أو في مكتبات مجهزة بأجهزة حفظ حديثة، حتّى لا تصلها يد التزوير كما وصلت غيرها من الكتب، ويفضل أن تعبأ في الكامبيوترات لتحفظ من التلف والتحريف هذه هي الخطوط العامة لمشروع إعادة كتابة التاريخ، آملين أن يجد طريقه للحوار بين العلماء والمفكرين. الخلاصة:
1 ـ التاريخ هو حركة الإنسان في محيطه خلال الزمان وهو عصب مهم في حياة الأمة.
2 ـ المبرر لإعادة كتابة التاريخ هو الكشف عن التاريخ المغيب، وتصفيته من الشوائب.
3 ـ الباعث العقيدي هو المحرك لمشروع الإعادة.
4 ـ المجمع العالمي هو المسئول عن تحمل هذا المشروع.
5 ـ من يريد أن يقوم بهذا المشروع لابد أن يكون خبيراً موضوعياً مطلعاً.
6 ـ الأزمة تكمن في منهج البحث في التاريخ.
  
___________________
1  ـ كاتب من البحرين. 
2  ـ معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ـ محمّد وهبه ـ كامل المهندس ـ ص 82.
3  ـ المصدر نفسه ـ ص 83.
4  ـ حركة التاريخ عند الإمام علي ـ عليه السلام ـ  محمّد مهدي شمس الدين: ص: 14.
5  ـ نحن والتراث محمّد عابد الجابري. 
6  ـ نهج البلاغة علي بن أبي طالب باب الكتب، رقم النص (31)تحقيق صبحي الصالح.
7  ـ الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) ـ دراسة وتحليل ـ جعفر مرتضى العاملي: ج 1 ص 7.
8  ـ معالم استراتيجية العمل الإسلامي ـ كاتب السطور. 
9  ـ قصة التقريب بين المذاهب وبحوث أخرى: محمّد تقي الحكيم: ص 28 ـ 29.
10  ـ المصدر نفسه: ص 5 مناهج البحث في التاريخ.
11  ـ أصول الضعف، دراسة في الميل الغربي المشترك ـ د: علي كريم سعيد: ص 64، 70، ومن أراد فليراجع من ص 59 إلى  ص 83.
12  ـ قصة التقريب بين المذاهب وبحوث أخرى ـ مناهج البحث في التاريخ ـ محمّد تقي الحكيم ص 5.
13  ـ قصة التقريب بين المذاهب ـ مناهج البحث في التاريخ ـ محمّد تقي الحكيم ص 6.
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية