مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

فهم الإسلام وعرضه والدعوة إليه


‏ ‏بسم الله الر حمن الرحيم

‏تمهيد:‏
‏مشكلات الأمة الإسلامية.. (نظرة عامة من الداخل)‏
لاشك أنّ الرسالة الإسلامية هي الرسالة الخاتمة للرسالات الإلهية، وهذا ‏يعني أنّها أكمل الرسالات الإلهية التي جاء لهداية البشرية إلى الله تعالى ‏وحل الاختلافات القائمة بين أبنائها وطوائفها. كما أنّها هي الرسالة الخالدة ‏التي تتحمل مسؤولية معالجة مشاكل الإنسانية وآلامها في مختلف العصور ‏والأزمان وهي في الوقت نفسه رسالة شاملة في نظرتها للحياة وآفاقها ‏وأبعادها ولا تختص بجانب دون آخر منها ومن ذلك الأبعاد السياسية ‏والاجتماعية والاقتصادية والعقائدية والأخلاقية والروحية والسلوكية.‏
وقد أصبحت هذه القضية من الوضوح لدى المسلمين بدرجة عالية ليس من ‏خلال تجربة القرون الماضية من الحكم الإسلامي فحسب بل من خلال ‏تجربة الانتكاسة في المجتمع الإسلامي عند سقوط الدولة الإسلامية ومحنة ‏المسلمين بالنظريات المادية الغربية والشرقية والأنظمة الوضعية ‏ومحاولات التحريف والزيغ الذي مرت بالعالم الإسلامي في هذا القرن.‏
فكانت النهضة الإسلامية والإنابة إلى الله تعالى والرجوع إلى الإسلام بهذه ‏الصورة الواسعة أحد الأدلة الواضحة على عمق الوضوح والفهم لهذه ‏الحقيقة والإيمان بها والتطلع إلى الإسلام ورؤيته إلى الأشياء والقضايا في ‏معالجة المشكلات في القرن الآتي.‏
ولكن وضوح هذه الحقيقة العامة والإيمان بها لا يكفي وحده في تقديم ‏العلاج لقائمة المشكلات الطويلة التي نشاهدها عادة في تفاصيل حياتنا ‏الإسلامية وتتزايد باستمرار كلما تقدم الزمن بنا وتطلعنا إلى المستقبل.‏
وإنمّا نحتاج دائماً إلى عاملين رئيسيين متوازيين ومتكاملين.‏
أحدهما: تشخيص المحاور الرئيسية لمشكلات الأمة الإسلامية والتي ‏تتشعب عنها الكثير من القضايا والأمور ومعرفة مفاتيحها المركزية ‏والرجوع بالتفاصيل إلى أصولها ومصادرها الأساسية من اجل أن نهتدي ‏الطريق إلى الحل والمعالجة ولئلا نضيع في التفاصيل أو ننشغل بالجزئيات ‏عن الكليات وبالمهم عن الأهم.‏
وثانيهما: الإرادة القوية والعزم الراسخ والاستقامة في العمل الجاد ‏المتواصل لمعالجة هذه المشكلات لان منهج الحياة في هذه الدنيا كما وضعه ‏الله تعالى هو الكدح والامتحان والبلاء والجهاد في سبيل الله (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون) (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).‏
ولأنّ تكامل الإنسانية ورشدها ووصولها إلى الله تعالى والكمالات الإلهية ‏مرهون بهذه الإرادة والعزم والجهاد في سبيل الله والاستقامة على طريقه ‏تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ..).‏
‏ ‏مشكلات الأمة الرئيسية من الداخل:‏
وبصدد (العمل الأول) فانّ المحاور الرئيسية للمشكلات العامة لامتنا ‏الإسلامية من داخلها يمكن تلخيصها بالأمور الخمسة التالية:‏
‏1- فهم الإسلام وعرضه ومعرفة مناهج وأساليب معالجته للمشكلات ‏الداخلية والدعوة إليه ومواجهته للهجوم والعدوان الداخلي.‏
‏2- التجسيد والتطبيق العملي للحريات الأساسية في الحياة الاجتماعية ‏وإيجاد المصداق الخارجي الصحيح لعلاقة الحاكم بالرعية والإمام بالأمة.‏
‏3- إقامة العلاقات الإنسانية الاجتماعية في أوساط الأمة وفي مقدمتها ‏علاقات الأسرة والمرأة بالرجل، وقضايا الشباب.‏
‏4- تحقيق العدالة الاجتماعية ومعالجة قضية الفقر والغنى واقعياً.‏
‏5- بناء وحدة الأمة الإسلامية على أساس متين ووقاعي وتفجير طاقاتها ‏وتوظيف إمكاناتها في إقامة صرح هذا البناء.‏
ويمكن إرجاع بقية المشاكل إلى هذه المحاور الخمسة إذا استثنينا القضايا ‏العقائدية والروحية الأخلاقية وهما قضيتان ترتبطان بالخط الآخر من العمل ‏وهو الإرادة والعزم.‏
‏ ‏مشكلات الأمة الرئيسية من الخارج:‏
وأمّا المشكلات من الخارج فيمكن تلخيصها في محورين رئيسيين:‏
الأول: الاستكبار العالمي المدعوم بالقوة المادية الهائلة والتقدم العلمي ‏والمؤسسات العالمية الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية ومنها ‏الصهيونية العالمية والحركات التبشيرية.‏
الثاني: الحضارة المادية القائمة على أساس تعبئة الغرائز الإنسانية وتأليه ‏الشهوات والميول الذاتية وعبادة الهوى وبناء الحياة الإنسانية وتسخير ‏طاقاتها الخلاقة وإمكاناتها العظيمة على أساس الاستجابة لنداء هذا الهوى ‏والميول والشهوات، بدلاً من الاستجابة لنداء الإله الواحد الأحد وتكامل ‏الروح الإنسانية ومتطلبات الدار الآخرة.‏
‏ ‏الإرادة القوية للجهاد:‏
وبصدد (الخط الثاني من العمل) وهو الإرادة القوية والعزم الراسخ في ‏السعي والجهاد والعمل فانه لاشك بأنّ الدور الأساس في ذلك هو لعقيدة ‏التوحيد بكل أبعادها وتفاصيلها وللروح المعنوية العالية المتمثلة بالخلق ‏الإسلامي الرفيع والقيم والمثل الأخلاقية وما يعبّر عنه أخلاقياً بجهاد النفس ‏أو (الجهاد الأكبر).‏
وقضية العقيدة والأخلاق ـ وهي من المشاكل الرئيسية في الحياة الإنسانية ـ ‏وان كانت ترتبط بمحور فهم الإسلام ومعرفة أساليبه في معالجة المشكلات ‏الإنسانية إلاّ أن هذا الارتباط بهذا المحور إنما هو على المستوى النظري.‏
وأما المستوى التطبيقي والعملي الذي يشكل القضية الأساس في هذا الخط ‏الثاني العملي فهو شيء آخر له علاقة بمهمة ومسؤولية كبيرة تحمّلها ‏الأنبياء وهي مسؤولية (التزكية) و(التطهير) كما ورد التعبير عنها في ‏القرآن الكريم في عدة مواضع.‏
وهي مهمة غير التعليم أو تلاوة الآيات وإبلاغها وتوضيحها للناس.‏
فالإيمان ليس مجرد اكتشاف للحقيقة ومعرفة بالواقع وإنما الإيمان هو ‏درجة عالية من الالتزام النفسي والتطبيق العملي والتسليم في المواقف ‏والسلوك والرضا بقضاء الله والقدر وبما اختار الله تعالى لهذا الإنسان.‏
والأخلاق ليست مجرد سلوك يمارسه الإنسان في حياته اليومية بل هي ‏صفات روحية ومعنوية تتسم بالثبات والاستقرار والاستقامة والقدرة على ‏مواجهة الضغوط وتحملها وتذليل الصعاب واجتياز العقبات.‏
وهذا الجانب العقائدي والأخلاقي في حياتنا الاجتماعية يمثل أهم قضية ‏ومشكلة على الإطلاق في مواجهة التحديات المعاصرة وينسحب على جميع ‏القضايا وحل المشاكل الأخرى بدون استثناء ويكوّن الأساس القوي ‏والراسخ لها.‏
ولابد أن نعطيه القدر الكافي من الاهتمام والأولوية في فهمنا للمشاكل وفي ‏تخطيطنا لحلها وفي قدرتنا على معالجتها.‏
كما أنّ لهذا الجانب أثره في مواجهة المشكلات الداخلية للأمة الإسلامية ‏والمشكلات الخارجية لها معاً.‏
وسوف أحاول في بحثي المختصر هذا أن أتناول بصورة عامة الموضوع ‏الأول من هذه المحاور الرئيسية للمشكلات الداخلية وهو (فهم الإسلام ‏وعرضه والدعوة إليه) علماً بأن الموضوعات الثلاثة الأولى وهي (فهم ‏الإسلام، التطبيق العملي للحريات الإسلامية، والعلاقات الإنسانية ‏الاجتماعية ـ الأسرة والمرأة والشباب ـ) لها أهمية خاصة لان الموضوعين ‏الآخرين هما من الموضوعات التي تم تناولها بصورة واسعة في ‏المؤتمرات السابقة والأبحاث العديدة لعلماء ومفكري المسلمين.‏
مضافاً إلى أنّ الموضوعات الثلاثة المشار إليها لها تأثير مباشر وكبير على ‏الموضوعين الآخرين إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تتمتع به الأمة الإسلامية ‏في بلادها من إمكانيات ذاتية واسعة سواء على مستوى الموارد الطبيعة ‏الاقتصادية أو القوة البشرية أو المضمون الحضاري أو الموقع الجغرافي أو ‏الجذور التاريخية في الحياة الاجتماعية والثقافة الإنسانية والعلمية مما يجعل ‏حلول المشكلات الأخرى ذات علاقة بصورة مباشرة وأكيدة مع هذه ‏الموضوعات الثلاثة الأولى.‏
وموضوع (فهم الإسلام) لاشك انه سوف يساهم بصورة أساسية وحاسمة ‏في معالجة مشكلة الاختلاف وتعطيل طاقات الأمة الإسلامية أو تبديدها لانّ ‏الاختلاف في الأمة يمكن إرجاعه إلى سببين رئيسيين:‏
أحدهما: الاختلاف في فهم الإسلام وعرضه وهو أمر يرتبط بالموضوع ‏الأول.‏
والآخر: الأوضاع السياسية والنفسية التي تعيشها الأمة الإسلامية.‏
وهذا السبب يرتبط ـ أيضا ـ بصورة أساسية بالموضوع الثاني والنظام ‏الإسلامي وعلاقات الحاكم بالرعية.‏
كما أن معالجة موضوع الاختلال في موازنة العدالة الاجتماعية ووجود ‏ظاهرة الفقر والحاجة يعتمد بصورة أساسية على الموضوع الأول والثاني، ‏لانّ أسباب الاختلال في الموازنة لا ترجع ـ بنظر الإسلام ـ إلى قلة الموارد ‏الطبيعية والإمكانات الذاتية كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة في قوله تعالى:‏
‏(اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ* وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)«ابراهيم 32 ـ 34».‏
بل يرجع بصورة أساسية إلى سوء التوزيع وعدم الاستجابة إلى الحكم ‏الشرعي في الإنفاق كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف المعتبر في باب ‏الزكاة عن الإمام الصادق عليه السلام (إنّ الله عزّ وجل فرض للفقراء في ‏مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم إنهم لم يؤتوا من ‏قبل فريضة الله عزّ وجل ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض ‏الله لهم ولو أنُّ الناس أدوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير).‏
‏ ‏فهم الإسلام وعرضه والدعوة إليه
لقد بذل علماء المسلمين من جميع المذاهب الإسلامية جهوداً كبيراً ـ في ‏مختلف أدوار التاريخ الإسلامي ـ في استنباط الحكم الشرعي والفكر ‏الإسلامي والثقافة الإسلامية بجميع أبعادها والّفوا في ذلك الكتب ودوّنوا ‏الموسوعات والأبحاث والمقالات في مجالات المعرفة الإسلامية المتعددة ‏وذلك على أساس تفسير القرآن الكريم وضبط وتدوين السنّة النبوية الشريفة ‏والأدلة الأخرى التي اعتمدوها عند غياب القرآن والسنّة في هذه العملية ‏الواسعة وقدّموا الإجابات المتعددة والكثيرة في الموضوعات الفكرية ‏والثقافية والشرعية والفلسفية والحقوقية وحاولوا أن يجدوا حلاً لمختلف ‏المشاكل التي واجهها المسلمون في العصور الماضية والعصر الحاضر ‏على أساس الفكر الإسلامي.‏
ولكن نجد ـ بالرغم من كل هذه الجهود العظيمة والمساعي المشكورة ‏والقيمة ـ أنّ هناك مجموعة من المشاكل المهمة برزت أمام انجاز هذه ‏العملية الواسعة التي تزداد تعقيداً كلما تقدم بنا الزمن وابتعدنا عن عصر ‏الرسالة الإسلامية من ناحية وواجهنا التحولات الاجتماعية والسياسية ‏والجغرافية من ناحية أخرى ولازالت هذه المشاكل تلقي بظلالها الثقيلة على ‏انجاز هذه العملية في العصر الحاضر وفي المستقبل بحيث تشكل تحدياً ‏كبيراً للإسلام في القرن الآتي وهذه المشاكل هي:‏
المشكلة الأولى: المصادر التي يعتمد عليها استنباط الإسلام ومعرفته:‏
ولاشك أن القرآن الكريم والسنّة النبوية يشكلان المصدرين الأساسيين ‏اللذين لا يوجد فوقهما مصدر آخر في نظر جميع المسلمين.‏
ولكن القرآن الكريم واجه مشكلة التفسير والتأويل بعد الإجماع المطلق ‏للمسلمين على سلامة نصه وحفظه من الزيادة والنقصان وهي مشكلة ‏واجهها منذ عهد الرسول «ص» كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة من سورة ‏آل عمران (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا)«آل عمران/7».‏
كما واجهت السنّة مشكلة عدم التدوين ومحاولات الوضع والتزوير ‏والفاصل الزماني الذي يفصل بيننا وبين رواتها مضافا إلى مشكلة فهمها ‏وتفسيرها وتأويلها.‏
وبالرغم من الجهود المبذولة العظيمة في معالجة هذه المشاكل وتحديد ‏آثارها ولكنها بقيت كمشاكل حقيقية تحتاج إلى عمل علمي مشترك وإرادة ‏وعزم قويين قادرين على تجاوز السدود النفسية وردم الهوة المعنوية ‏الواسعة الموجودة بين مناهج ومقاييس وضوابط التعامل مع هذين ‏المصدرين الرئيسين.‏
ويزيد الموضوع إشكالاً اختلاف الموقف تجاه مصدر آخر للحكم الشرعي ‏اعتمد بين جماعة كبيرة من علماء المسلمين والمذاهب الإسلامية وهو ‏مصدر العقل وتفسيره وحدود فاعليته والرجوع إليه.‏
ولاشك أنّ حركة التقريب بين المذاهب الإسلامية والتفتيش عن القواسم ‏المشتركة والأبحاث المقارنة والندوات والجهود العلمية الموحدة التي تعتمد ‏على المنطق والبحث عن الحقيقة وتلتزم بالضوابط العلمية المقرّة سوف ‏يكون لها دور كبير في معالجة أو التخفيف ـ على الأقل ـ من حدة المشكلة ‏ولكن اعتقد إننا بحاجة إلى حركة علمية مشتركة مدعومة بموقف روحي ‏إيماني وإرادة قوية للرجوع مرة أخرى إلى القرآن الكريم والمتفق عليه من ‏السنّة النبوية لاستنباط واستكشاف منهج علمي قرآني عام نتعامل من خلاله ‏مع هذه المشاكل ذات الجذور العميقة لنواجه التحديات في هذا العصر.‏
ولاشك إنّنا سوف نتبين أنّ لمفردة أهل البيت عليهم السلام الذين يحظون ‏باحترام خاص وشامل لدى علماء المسلمين ويمثلون الثقل الآخر للقرآن ‏الكريم دور مهم في محاولة التغلب على هذه المشكلة لاسيما وان المؤسسات ‏العلمية التي أسسها أهل البيت وأقاموا أركانها على دعائم قوية لازالت قائمة ‏ومستمرة في عملها ونشاطها منذ أيامهم وحتى يومنا الحاضر دون أن ‏تتعرض إلى أضرار الاختراق أو التحريف أو التسلط والضغوط الخارجية.‏
ومن جانب آخر يعتبر موضوع ما يمكن أن نسميه بعلاقة الزمان والمكان ‏بالنص والحكم الشرعي من أهم الموضوعات ذات العلاقة بهذه المشكلة ‏أيضاً لأنذّنا وان كنا نؤمن بصورة جازمة لاشك فيها ولا ريب بأن الرسالة ‏الإسلامية خالدة وأن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى ‏يوم القيامة. ولكن هناك اعتقاد يقول بأن الحكم الشرعي جاء متطابقاً دائما ‏مع المصلحة والمفسدة في الأمر والنهي وأنه ليس منفصلا عنها ومن ثم ‏فتصبح قضية الزمان والمكان والمصالح والمفاسد المتحركة فيهما لها ‏علاقة في فهم الحكم الشرعي واستنباطه.‏
وتصبح قضية تزاحم هذه المصالح والمفاسد أحياناً وتشخيص الأهم من ‏المهم منها وتقديم الأول على الثاني من القضايا المهمة ذات العلاقة بمعرفة ‏الحكم الشرعي والموقف العملي تجاه الأحداث والظواهر ويدخل ذلك في ‏تشخيص موضوع الحكم الشرعي وشروطه وهو من الأمور ذات العلاقة ‏بالخبرات والتجارب العلمية والاجتماعية كما هو في الوقت نفسه له علاقة ‏بتشخيص اتجاهات النص الشرعي وفهم روحه العامة ومعرفة رؤية ‏الإسلام إلى تشخيص المهم والأهم.‏
وهذا الموضوع قد يجرنا إلى أهمية التفكير في اعتماد منهج التخصص في ‏الاجتهاد والتأكيد على أهمية أن يصبح المجتهد مختصا في باب من أبواب ‏الفقه وان يكون من أهل الخبرة ايضاً ـ ولو بمستوى القدرة على التشخيص ـ ‏في التجارب العلمية والاجتماعية ذات العلاقة بموضوع تخصصه الفقهي.‏
المشكلة الثانية: المنهج في الاستنباط وفهم الإسلام واستكشافه. فان فهم الإسلام ‏ومعرفته بعد تشخيص مصادره يحتاج إلى التزام منهج في عملية الاستنباط ‏يوصل الإنسان إلى استكشاف الفكر الإسلامي والوحي الإلهي والحكم ‏الشرعي. إذ أنّ الاجتهاد ليس اختراعاً ولا إبداعاً ولا خلقاً للمواقف وإنّما ‏هو عملية استكشاف للفكر والحكم واستنطاق للقرآن الكريم والسنّة والتعرف ‏على الأجوبة والحلول التي قدمها الإسلام في رسالته الكاملة لكل الأسئلة ‏والمشاكل التي يثيرها الواقع الموضوعي لحياة الإنسان الفردية ‏والاجتماعية وتفسير الظواهر الكونية العامة والاجتماعية على الحقيقة التي ‏قدمها الإسلام في عقائده وإحكامه.‏
وهذه العملية تحتاج إلى منهج مضبوط للوصول فيها إلى الحقيقة كما هو ‏الحال في جميع القضايا الاستكشافية.‏
وهنا نلاحظ انه قد برزت أمام هذا المنهج المطلوب عدة قضايا ومعوقات ‏تحتاج إلى معالجتها والتغلب عليها والوصول فيها إلى موقف مشترك أو ‏متقارب، أشير إلى ثلاثة قضايا منها.‏
الأولى: قضية إعتماد:‏
ـ منهج الاجتهاد المضبوط بالقواعد والأصول والمستنبطة من القرآن ‏الكريم.‏
ـ أو منهج الرأي واستخدام العقل الإنساني على مستوى الاستحسان ‏والعنصر الذاتي الذي يتمتع به المجتهد في مذاقه الاجتماعي وترجيحه ‏الخاص للمصالح والمفاسد المرسلة.‏
أو منهج الجمود على النص الشرعي ومداليل الألفاظ والالتزام بالمصاديق ‏المعاصرة لصدور النص أو التي قدمها لنا الصحابة الأبرار في فهمهم ‏للشريعة والإسلام.‏
ولازال العالم الإسلامي ينقسم حتى يومنا الحاضر بصورة واخرى إلى ‏اعتماد هذه المناهج الثلاثة التي قد يقترب بعضها إلى آخر بحيث يصعب ‏التمييز بين حدودها، وقد يفترق بحيث يصبح احدها مثاراً للشبهة والاتهام ‏بالخروج عن الطريق السوي بل وحتى الاتهام بالخروج عن الإسلام.‏
ولاشك أن هذا من أهم التحديات والمشاكل التى نواجهها في هذا العصر ‏الذي أصبح منفحتاً في كل تفاصيله على مختلف الاحتمالات والتصورات ‏والثقافات.‏
ولدي اعتقاد عميق ـ والله العالم ـ أننا بالرجوع إلى القرآن الكريم والقواسم ‏المشتركة الأخرى وبالإرادة القوية والبحث العلمي المتواصل المشترك ‏يمكننا التوصل بأذن الله إلى اعتماد منهج واضح في الاستنباط.‏
الثانية: قضية ما يمكن أن اصطلح عليه بفقه التجزئة أو فقه النظرية.‏
فلقد عاشت الأمة الإسلامية في أحضان الإسلام طيلة ثلاثة عشر قرن من ‏الزمن وكانت تستلهم الإسلام وتتعرف على روحه وتفاصيله ليس من خلال ‏الثقافة الإسلامية التي يقدمها علماء الإسلام فحسب بل من خلال المعايشة ‏مع الحكم الشرعي والشعائر الإسلامية والآداب والعلاقات الدينية الموروثة ‏التي تحولت إلى سلوك عام لدى أبناء الأمة... إلى غير ذلك من الأسباب ‏ذات العلاقة بالتطبيق والمجتمع وكانت عملية الاستنباط الشرعي تواكب ‏تفاصيل الأحداث وجزئيات الظواهر التي تبرز في ثنايا المجتمع الإسلامي ‏فتعالجها جزئياً إلى جانب المعالجة الشاملة في التطبيق.‏
ثم انهارت الدولة الإسلامية وتسلط الكافر المستعمر على مقدرات المسلمين ‏وفرضت عليهم الثقافة الغربية ليس في مفاهيمها وأفكارها فحسب بل في ‏آدابها ورسومها وممارساتها وبذلك أصبحت الأمة محرومة على مستوى ‏العطاء من الفكر والثقافة الإسلامية ومن الممارسة الإسلامية الواقعية ‏والتجسيد والمصداق الخارجي وأصبح كل شيء من الكليات والتفاصيل ‏مهدداً ويعتريه الغموض والإبهام والشك والريب وأصبح الارتباط بين ‏الجزئيات والتفاصيل غير واضح وقد يقع ما يبدو انه تناقضا وتضادا فيما ‏بينها ولم يعد يكفي لمعالجة هذه المشكلة الإجابة على الجزئيات والتفاصيل ‏بعد أن انفرط عقد الارتباط بينها سيّما وان الثقافة البديلة على اختلاف ‏مناهجها قدمت بصورة نظريات كلية وجامعة ترتبط بها الجزئيات ‏والتفاصيل.‏
وهنا تبرز الحاجة الجديدة التي لم تتم الاستجابة إليها بصورة مناسبة بالرغم ‏من بعض المحاولات الرائدة.‏
وهذا الحاجة ترتبط بتقديم الإسلام على شكل نظريات شاملة نستنبطها من ‏مصادره الأصيلة نظريات في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والأسرة ‏والتاريخ والإدارة... إلى غير ذلك من المجالات والمفردات وهو ما يمكن ‏أن نعبر عنه بفقه النظرية وبدون ذلك فسوف نواجه فراغاً كبيراً في ‏مواجهة التحديات والإجابة على الأسئلة وفي عرض الإسلام والدعوة إليه ‏وإقناع الآخرين وفي صد الهجوم المعادي إلى غير ذلك من المشكلات ‏العديدة.‏
وبهذا الصدد يمكن أن أشير إلى العمل الرائد في هذا المجال الذي قام به ‏أستاذنا آية الله العظمى الشهيد السعيد المظلوم السيد محمد باقر الصدر في ‏كتبه اقتصادنا وفلسفتنا والبنك اللاربوي والإسلام يقود الحياة والأسس ‏المنطقية للاستقراء وفي بعض أعماله الفقهية الأخرى التي حاول أن يُبين ‏فيها استنباطه على أساس فقه النظرية.‏
كما أنّ لمحاولات الشهيد آية الله الشيخ المطهري في التاريخ والاجتماع ‏وعلم الكلام موقع خاص في هذا المجال.‏
الثالثة: قضية الثابت والمتحرك من الأحكام الإسلامية:‏
لقد جاء الإسلام لمعالجة قضايا الإنسان بجميع أبعادها وتفاصيلها وكان ‏الرسالة الخاتمة وفي الانسان قضايا وحاجات ثابتة ودائمة وفيه قضايا ‏متحركة ومتغيرة.‏
وقد مارس النبي صلى الله عليه وآله كلا الأمرين لأنّه كان الرسول المبلّغ ‏للرسالة والحاكم العدل في تطبيقها وسيرتها وانطلاقاً من ذلك برزت ظاهرة ‏النسخ في الشريعة الإسلامية وظاهرة الإطلاق والعموم ثم التخصيص ‏والتقييد فيها وظاهرة المواقف المتحركة مثل الكف عن القتال مثلاً ثم الأمر ‏به وغير ذلك من الموارد.‏
وبسبب ذلك برزت مشكلة كبيرة في فهم الإسلام هي مشكلة التمييز بين ‏الثابت والمتحرك من الأحكام الإسلامية.‏
وهي مشكلة لابد من معالجتها في هذا المجال (مجال فهم الإسلام واستنباط ‏أحكامه) ووضع الضوابط لها لأنّه بدون ذلك قد تصبح قاعدة (حلال محمد ‏حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى اليوم القيامة) مهددة عندما نسمح ‏بفتح البابا أمام حركة النص والحكم الشرعي وإخضاعه للظروف والمكان ‏والزمان بصورة مطلقة أو تصبح عقيدة أن الرسالة الإسلامية هي الرسالة ‏الخاتمة الدائمة... مهددة بعد ملاحظة واقع الحياة الإنسانية وتطوراتها ‏الواسعة والعميقة بحيث لا تسمح بفرض صيغة واحدة مفصلة وشفافة ‏لجميع تفاصيل الحياة على أن تبقى هذه التفاصيل بالصيغة نفسها الأمر الذي ‏يكاد أن يرفضه الوجدان الإنساني وقضية تطور حركة الرسالات الإلهية... ‏وقد عالجت هذا الموضوع في العام الماضي في بحث خصائص الرسالة ‏الإسلامية.‏
ومن هنا فلابد من مواجهة هذه المشكلة على أساس هذا الفهم الذي التزمه ‏علماء الإسلام قاطبة أما عملياً كما هو الأكثر في الواقع الخارجي أو نظرياً ‏وعملياً في ترجمتهم للإسلام.‏
إنّ التمييز بين الثابت والمتغير من القضايا الهامة في منهج فهم الإسلام ‏ولكن التمييز بينهما أمر صعب يحتاج إلى بحث علمي مشترك يلتزم ‏بالأسس والضوابط الإسلامية التي أشرنا إليها في المنهج والاستنباط من ‏ناحية ويضع القواعد الأساسية للتمييز بينهما لئلا تصبح القضية مفتوحة أو ‏مغلقة بحيث تهدد الرسالة الإسلامية أو قدرتها على مواجهة التحديات ‏المستقبلية.‏
وكلما زادت الحياة تعقيداً في تفصيلاتها كلما أصبحت هذه القضية هامة ‏ومعقدة.‏
ولعل من أهم المداخل لهذا التمييز هو بذل الجهود العلمية لتشخيص ‏الحاجات الثابتة الإنسانية على طول خط التاريخ والحاجات المتحركة والتي ‏يمكن استنباطها من القرآن الكريم والسنّة النبوية المتفق عليها.‏
كما أن من أهم المداخل لذلك هو متابعة تفاصيل المتغيرات في الأحكام ‏الإسلامية في عهد النبوة ونزول القرآن الكريم والفصل فيها بين الإحكام ‏الشرعية الثابتة في كل الظروف والأحكام الشرعية المتغيرة بسبب اختلاف ‏الظروف والتعرف على النظرية والعناصر المشتركة فيها للخروج برؤية ‏واحدة تقوم على أساس التمييز بين الحكم الشرعي الإلهي والحكم الشرعي ‏الولائي الصادر من النبي «ص» باعتباره حاكماً وولياً للأمر وقد كان ‏المسلمون يرون هذا الفرق في هذه الأحكام في عهد الرسول ويطرحون ‏السؤال عليه بهذا الصدد وكان بعض المنافقين يثيرون الشبهات حول القوة ‏الإجرائية لهذه الأحكام الولائية الأمر الذي دعا القرآن الكريم إلى تأكيد ‏قوتها الاجرائية بالرغم من كونها أحكاماً ولائية (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ) ‏‏( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ...).‏
ولعل من أهم المداخل إلى هذا التمييز هو متابعة المتغيرات في الرسالات ‏الإلهية تجاه قضايا المجتمع الإنساني وإدارة الحياة فيه ومقارنتها بالقضايا ‏الثابتة فيها وذلك بعد ملاحظة الأمور التالية التي قد تضيّق هذا المدخل إلى ‏حد بعيد.‏
‏1- إنّ مصادرنا لتفاصيل موقف الرسالات السابقة في الثوابت والمتغيرات ‏محدودة جداً إذ لم يتعرض القرآن الكريم إلاّ لعدد قليل منها ولم تتناول السنّة ‏المتفق عليها إلا القيل النادر.‏
‏2- قضية تطور الرسالات الإلهية في معالجة قضايا تجسيد العقيدة من خلال ‏الشعائر والعبادات الأمر الذي يجعلها صيغ ذات طبيعة توقيفية.‏
وهكذا التطور في الحياة الاجتماعية وانتقالها في دور الوحدة الفطرية إلى ‏دور الاختلاف والوحدة التشريعية.‏
‏3- خاتمية الرسالة الإسلامية من ناحية ومرحلية الرسالات الأخرى من ‏ناحية أخرى واختلاط ذلك بما تعرضت له الرسالات الإلهية من تحريف ‏وتزييف الأمر الذي أضاع حدود المتغير مع الثابت الذي تعرض إلى ‏التحريف والتزوير.‏
‏ ‏إسلوب ومنهج العرض:‏
المشكلة الثالثة: في إطار فهم الإسلام وعرضه هي مشكلة الأسلوب في ‏عرض مفاهيم الرسالة الإسلامية ولغة الخطاب العقائدي والثقافي والشرعي ‏والأدوات التي تستخدم في إبلاغ الرسالة وإيصالها إلى الناس ودعوتهم إليها ‏ومواجهة الشبهات التي تثار حولها.‏
وقد كان هذا الموضوع ولازال من أهم الموضوعات في الدعوة إلى الله ‏تعالى وإبلاغ رسالاته فلا يكفي في الرسالة أن تكون رسالة حق وهدى بل ‏ولا يكفي فيها أن تكون رسالة واضحة وبيّنة ومدعومة بالأدلة والبراهين ‏والبيّنات حتى يؤمن بها الناس بل لابد إلى جانب ذلك كلّه أن نتوسل في ‏ايصالها إلى الناس بأساليب البلاغة في الخطاب ومطابقة الكلام والحديث ‏لمقتضى الحال (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)«ابراهيم / ‏‏4».‏
والقرآن الكريم وإن كان يمثل أفضل مرجع للمسلمين في معرفة هذه ‏الأساليب والمناهج لأنّه قد مرّ في بيان الرسالة بمراحل عديدة مرّت بها ‏الدعوة الإسلامية مرحلة الاستضعاف والمواجهة والقدرة كما انه خاطب ‏جماعات مختلفة من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين والمستضعفين ‏والمستكبرين وأهل المدينة والأعراب فضلاً عن المؤمنين والصالحين ‏وفئات المجتمع الأساسية من الرجال والنساء والشبان والشيوخ والفتيان... ‏وكان القرآن الكريم يمثل الخطاب العقائدي والأخلاقي والثقافي والسياسي ‏والشرعي للرسالة ويواكب هذه الأحداث ويعالجها ومن هنا فهو يمثل ثروة ‏عظيمة في هذا المجال.‏
ولكن نلاحظ بهذا الصدد:‏
أولاً: إنّ هذا الموضوع لم يعط في الدراسات القرآنية والدعوتية المستوى ‏المناسب لأهميته بالرغم من الجهود المشكورة التي بذلها بعض علماء ‏المسلمين والدعاة إلى الله تعالى في هذا المجال ولذا نحن بحاجة إلى ‏دراسات مكثفة وتفصيلية منهجية واجتماعية ونفسية تتناول هذا الموضوع ‏بتفصيل وشفافية، وعلى هذا الأساس فنحن بحاجة إلى القيام بعملين ‏رئيسيين في هذا المجال:‏
أحدهما: استنباط النظرية الإسلامية بصورة تفصيلية.‏
والآخر: القيام بعمل تطبيقي يربط النظرية بمصاديقها الخارجية في العصر ‏الحاضر وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بالتأويل أي تجسيد المصداق ‏الخارجي للنظريات القرآنية بما يناسبها في كل عصر.‏
ثانياً: إنّ القرآن الكريم بالرغم من اختلاف الظروف والمراحل التي مرّ بها ‏وبالرغم من تعدد وتنوع الجماعات التي خاطبها ولكن المجتمع الذي نزل ‏فيه القرآن الكريم كان مجتمعاً بسيطاً للغاية من ناحية ومحدودة في حجمه ‏وعلاقاته من ناحية أخرى كما هو محدود في ثقافته ومعلوماته وكذلك في ‏طموحاته وتطلعاته وكل هذه الأمور كانت تجعل عملية العرض والخطاب ‏وإبلاغ الرسالة سهلة وميسورة إلى حد كبير.‏
وأما في عالمنا اليوم فقد تحولت الكرة الأرضية من خلال وسائل الارتباط ‏وثورة الاتصالات وأساليب الخطاب ولغاته إلى قرية أو مدينة بالغة التعقيد ‏والتشابك بحيث أصبح الخطاب القرآني صوتاً واحداً ضمن هذا الضجيج ‏العالي (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون).‏
إذن فلابدّ أن نتبين الوسائل التي يمكن من خلالها أن يعلو الصوت القرآني ‏على هذا الضجيج وان ينفذ من خلاله إلى أعماق هذا المجتمع المعقد ‏وتفاصيله.‏
ولاشك أنّ الانطلاق في الخطاب من لغة الفطرة والعقل هما المنطلقان ‏الأفضل اللذين انطلق منهما القرآن الكريم لأنّهما يمثلان العناصر الثابتة في ‏الشخصية الإنسانية وكذلك التركيز على الدور الخطير للهوى والشهوات ‏في حياة الإنسان لأن ذلك يمثل عنصراً ثابتاً في التأثير السلبي على حياته، ‏ولكن كل ذلك يجب أن يكون بعيداً عن الصيغ الجاهزة في الخطاب أو التقيّد ‏بالأطر الكلامية والمصطلحات المفاهيمية.‏
ونحن وان كنا بحاجة إلى استخدام المفاهيم والمصطلحات القرآنية ‏والشرعية لتقريب المخاطبين إليها ولكن لا على أساس الالتزام في منهج ‏العرض والخطاب الثقافي العام.‏
ثالثاً: الاهتمام بصورة جدية وأساسية بالوسائل العلمية ومنتوجات ‏التكنولوجيا الحديثة في طريق إيصال الخطاب فانّ استخدام هذه الوسائل ‏يدخل تحت العنوان الرئيس الذي أكّده القرآن الكريم وهو إعداد القوة ‏‏( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) إذ أنّ إعدادها لا يختص بالقتال والحرب ‏بل لابد أن يشكل كل الميادين وان كان مورد نزول الآية الكريمة هو ‏الحرب.‏
ويؤكد ذلك الاهتمام البالغ الذي بذله رسول الله في إعداد الكادر المتعلم في ‏صفوف المسلمين من خلال حركة التفقه في الدين (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).‏
وتطوير عنصر التدوين والنشر والحفظ للقرآن الكريم بالكتابة والاستظهار ‏من أجل تعميمه على خلاف ما هو معروف عن الرسالات الإلهية السابقة ‏التي كانت محصورة في عدد محدود من الصفوة والحواريين.‏
وكذلك تطوير حركة الإبلاغ من خلال إرسال المبلغين والرسائل.‏
وتطوير الشعائر الإسلامية كأداة للهداية والإبلاغ من خلال صلاة الجمعة ‏والعيدين لإدامة الخطاب الثقافي والسياسي ومن خلال الحج لإبلاغ ‏القرارات الهامة والمضامين العامة... الخ.‏
فضلا عن الاستفادة من الوسائل القائمة في المجتمع آنذاك والتي كانت ‏تستخدم بطريقة سيئة ومنحرفة كالشعر والقصة إلى غير ذلك من المعالم ‏التي نلاحظها في مطاوي حركة الرسالة الإسلامية التي كانت تعمل من ‏أجل الاستفادة من كل الوسائل المشروعة وتطويرها والإبداع في الوسائل ‏الجديدة والاستفادة من كل الفرص المتاحة.‏
رابعاً: مراعاة الموازنة المطلوبة التي أكدها القرآن الكريم بين الحكمة ‏والموعظة الحسنة (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)«النحل / 125».‏
فالموعظة الحسنة هي مراعاة الخطاب الثقافي الرسالي لمشاعر الإنسان ‏وظروفه النفسية والحياتية ومستواه العقلي والمعرفي على خط محاولة ‏التأثير في هذا الإنسان وجذبه إلى القبول بالرسالة والاقتناع بها انطلاقا من ‏مبدأ وجود ما يدعو الإنسان إلى هذا القبول في داخل نفسه من فطرته وعقله ‏وان الرفض يستند إلى تأثير العوامل المضادة التي تقوم الموعظة الحسنة ‏بازاحتها وتعطيل تأثيرها.‏
والحكمة سواء فسرناها بالأخلاق العالية التي يجب أن يتصف بها الداعية ‏من الصدق والصبر والشجاعة والإيمان بالمستقبل والنصر...‏
أو فسرناها بالقوانين والسنن الإلهية ذات العلاقة بالحركة التاريخية وتغيير ‏المجتمعات الإنسانية التي تأتي في مقدمتها سنّة (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).‏
فهي في كل الأحوال ضرورة من ضرورات إبلاغ الدعوة والرسالة الإلهية ‏فإبلاغ الرسالة ليس مجرد وظيفة يقوم بها الإنسان بل هي وظيفة مقيّدة ‏بمنهجها وأسلوبها وإطارها وشأنها في ذلك شأن الصلاة التي هي وظيفة ‏وواجب شرعي ولكن لا يمكن أن تتم إلاّ من خلال صيغتها المقررة شرعاً ‏من قيامها وركوعها وسجودها...‏
خامساً: إنّ هناك مسألة من أكثر المسائل تعقيداً وإثارة وهي مسألة استخدام ‏‏(القوة) في الدعوة الإسلامية وابلاغ الرسالة كما قد يبدو ذلك في بعض ‏مراتب ودرجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الجهاد الابتدائي ‏من اجل نشر الرسالة الإسلامية وفي بعض الإجراءات التعزيرية التي ‏تتخذها الحكومة الإسلامية.‏
حيث أنّ هذا الموضوع من أهم الموضوعات والتحديات التي تواجهها ‏الرسالة الإسلامية في عرضها للإسلام وإبلاغه.‏
ولابد من معالجة هذا الموضوع بعيداً عن الشعارات التي يطرحها بعض ‏دعاة حقوق الإنسان من قوى الاستكبار العالمي التي تبيح لنفسها في العصر ‏الحاضر أن تستخدم القوة بأعلى مراتبها لفرض مبادئها وقيمها وصيغها ‏الاجتماعية الخاصة، ولذلك وعلى أساس هذا المنطلق السياسي القائم يمكن ‏أن نقول بأن الدين إذا كان صيغة اجتماعية كما يلتزم بذلك المتدينون فلماذا ‏لا يسمح لهم أن يستخدموا القوة لفرضه مع أن الديمقراطيين يسمحون ‏لأنفسهم باستخدام القوة لفرضها أو منع ما ينافيها ويضادها؟!‏
ولكن يجب أن ننظر إلى هذه القضية من بعدها الإسلامي والرسالي الذي ‏يدخل في موضوع الحكمة من ناحية وفي موضوع حقيقة الدين ودوره في ‏الحياة الإنسانية من ناحية أخرى والحدود التي وضعها الشارع المقدس لهذا ‏الاستخدام من ناحية ثالثة.‏
وهو أمر نحتاج فيه إلى الرجوع إلى القرآن الكريم الذي هو أعلى مرجع لنا ‏في فهم الإسلام وقد تناوله بشيء من التفصيل.‏
ولا اُريد هنا أن أصدر فتوى فقهية ولكن يمكن أن أطرح فكرة مستنبطة من ‏القرآن الكريم تقول: بأن القوة لا تستخدم إلاّ بعد استنفاد كل الوسائل ‏الأخرى في الحكمة والموعظة الحسنة لإبلاغ الرسالة إلى الجماعة أو ‏الفرد، وإلاّ بعد أن يتبين انه لم يبق مانع لقبول الرسالة والسلوك الإسلامي ‏إلاّ العناد والجحود وهو عامل نفسي لا يمكن إزالته إلاّ بالقوة.‏
ويبقى تحديد هذه القوة واستخدامها بعد ذلك خاضعاً لتقدير ولي الأمر ‏وموازنة الأهم والمهم والمصلحة والمفسدة والحدود الشرعية والمقرّة وهو ‏أمر يدخل في باب الحكمة أيضاً.‏
سادساً: إنّ الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة والتجسيد الصحيح للإسلام في ‏السلوك الفردي والاجتماعي ولاسيما للداعية أو المؤسسات التي يرتبط بها ‏أو الحاكم الإسلامي لها دور عظيم في إبلاغ الرسالة وعرضها وإيصالها ‏إلى الأفراد والمجتمعات وهي إن لم تكن أهم في التأثير من الخطاب اللغوي ‏الثقافي فهي ليست بأقل منه في ذلك.‏
وقد أكد الإسلام هذا الأسلوب في المنهج وهو مما امتازت به الرسالات ‏الإلهية على الدعوات الوضعية بصورة عامة وأشار إلى ذلك القرآن في ‏عدة مواضع منه.‏
وتصبح قضية القدوة ذات أهمية في الرسالات الإلهية ـ مضافاً إلى تأثيرها ‏النفسي المعروف من باب أنّ الكلام إذا خرج من القلب دخل في القلب ـ من ‏ناحيتين اخريين:‏
الأولى: إنّ مضمون الخطاب الرسالي الإلهي يشتمل على عناصر من ‏الكمال ذات بُعد قد يبدو لأول وهلة أنه مثالي وغير واقعي وتكون القدوة ‏الصالحة حينئذ تعبيراً عن واقعية هذا الخطاب وإمكانية تجسيده وإيجاده في ‏الخارج من خلال شخص القدوة الذي هو إنسان يأكل الطعام ويمشي في ‏الأسواق ويعيش مع الناس بلحمه ودمه وسلوكه العام.‏
الثانية: إنّ النفس البشرية فيها اتجاه فطري لحب الكمالات والإعجاب بها ‏والانتماء إليها وعندئذ يكون إيمان شخص القدوة الصالحة بالرسالة الإلهية ‏وتحمله لمصاعبها وآلامها وارتباطه بها سببا مستقلاً لإقناع الكثير من ‏الناس بصحة الرسالة نفسها وذلك لوجود البعد الغيبي في الرسالات الإلهية ‏وهو بعد غير مشهود ومحسوس للناس ولا يمكن تجسيده لهم فيكون إيمان ‏شخص القدوة بما فيه من كمالات بهذا البعد دليلاً في نظر هؤلاء الناس ‏على هذا البعد بما يشبه دلالة المعجزة عليه.‏
ولذلك لابد من الاهتمام في موضوع عرض الإسلام وإبلاغ الرسالة من ‏الاهتمام بصورة واسعة وجادة بهذا المنهج والأسلوب.‏
سابعاً: المحافظة في أسلوب الدعوة على موازنة بين الإيمان بالله تعالى ‏وبالغيب وبالرسالة الإلهية وتأثيره في الهداية والتوفيق بقاعدة (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) وبين ‏الاسباب المادية المؤثرة في الدعوة التي أشرنا إليها في الحكمة والموعظة ‏الحسنة، لأنّه (مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ).‏
وبهذا الصدد أؤكد عدة أمور رئيسية ومهمة:‏
أ ـ التوكل على الله تعالى في الدعوة إليه والاستعانة به والطلب منه في ‏إنجاح الدعوة وإيصال الرسالة في كل خطوة يخطوها الداعية إلى الله ‏تعالى.‏
ب ـ الالتزام ببذل الجهد والوسع ومواصلة البلاغ بالحكمة والموعظة ‏الحسنة والصبر على ذلك والاستقامة فيه دون كلل أو ملل والخشية منه ‏تعالى دون غيره حيث قد يفتح الله على الداعية في نهاية المطاف الذي ‏لا يمكن للداعية وحامل الرسالة والبلاغ أن يدركه ويعرفه.‏
ج ـ الربط الدائم بين الهداية وأسبابها المتمثلة بالتوفيق الإلهي من ناحية ‏وإخلاص الداعية من ناحية أخرى والوسائل المادية المبذولة من ناحية ثالثة ‏وأهلية وقابلية الفرد أو الجماعة لتقبل الدعوة الإلهية من ناحية رابعة، حيث ‏أنّ هذه العناصر يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً وفهم الداعية لهذا ‏الارتباط له دور مهم في الوصول إلى الهدف من عرض الإسلام وتفهيمه ‏للناس وإبلاغه لهم.‏
نسأله تعالى أن يجعلنا من الدعاة إلى الله والمبلغين لرسالاته وان يحقق ‏النصر والفرج للمسلمين جميعاً ويجعل مستقبل أمورهم إقامة دولة الحق ‏والعدل في كل الأرض.‏
‏(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)«النور55».‏

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية