مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

الحاكمية الإلهية وحكم الشعب للشعب
العلامة الشيخ محمد تقي الجعفري


قبل كل شيء يجب أن نطرح هذا الشعار الجذاب (حكم الشعب للشعب) ونتساءل: هل طبق يوماً في احدي المناطق؟ وربما أجاب بعض حسني النظر بالإيجاب، في حين يري الآخرون, ليقولوا بكل تشاؤم وسطحيه: كلا … ولكن ما هو الواقع بعد الإعراض عن هذا الإفراط والتفريط؟
وإذا تصفحنا التاريخ لم نجد مجتمعاً اجتمع في مكان واحد بكل ما فيه من جهلاء وحمقي وصغار وكبار وذوي الشخصية المميزة وعديمي الشخصية ودون أن يتأثر بعوامل المحيط ونفوذ ذوي النفوذ والقدرة، ليضع القوانين المعاشية من خلال براهين ساطعة, ثم لينتخب إنساناً أو أناساً بنفس الأسلوب، ويحل كل المجهولات والمسائل المتعلقة بالقوانين والحاكم بشكل كامل ويحصل بالتالي على (الحياة المعقولة) أو كما تصطلح على ذلك – بكل تبجح - الديمقراطية الغربية بـ(حكم الشعب للشعب).
وإذا وجد هناك من يدعي رؤية مثل هذا المجتمع فهو لا يتحدث حتماً عن أناس عاشوا في التاريخ بل عن الملائكة مثلاً.
تعالوا ندرس بدقة العوامل التي سنذكرها فيما يلي لنجد الجواب على السؤال السابق:
1- نفوذ الشخصيات في مجال إيجاد جو خاص لاستنشاق (ما هو كائن) و(ما ينبغي أن يكون) في المجتمع.
2- نفوذ القوي المختلفة مثل القوي الاقتصادية والعلمية والحربية إلى الجو الاجتماعي وتأثيره في إيجاد بعض الظروف الخاصة في أذهان الناس.
3- للوصول إلى عقيدة مشتركة في المجتمع لا يستطيع الأفراد العاديون الذين يعيشون في بعد أو أبعاد محدودة أن يملكوا ذلك الرشد والتعالى الذهني والروحي الذي يؤهلهم إلى مراحل أعلي تؤدي بهم للاتحاد مع أهل الرأي والمفكرين والعلماء, في مجال الفكر والفهم فلما لم يستطع العاديون الارتفاع كان على هؤلاء المفكرين أن ينـزلوا إلى مستوي الآخرين, وتكون النتيجة لصال‍ح الأفراد العاديين.
4- لم ير مطلقاً إن اجتمع أفراد مجتمع ما ليضعوا القوانين وينتخبوا الحاكم على أساس من التفاوت التام للمصالح والمفاسد وبوضوح كامل, وتوازن عقلي ونفسي بعيداً عن أي اضطرار, أو وقع في مجال جذب الأكثرية أو الأقلية, ومع معرفة للقانون وجذوره ونتائجه, أو الظروف الذهنية والعناصر النفسية للشخص الحاكم, وليس هذا أمراً حادثاً بالصدفة وإنما يستمد ذلك من عدم إمكانه.
إننا نعلم اليوم أنه اُلفت آلاف الكتب الاجتماعية والسياسية, وطلع على العالم مفكرون عظام وجرت هنا وهناك صراعات حقيقية على طرق (حكم الشعب للشعب), ورغم ذلك فالكل يعلم ما يجري عند عملية الانتخاب من أساليب دعائية,‌ وأجواء كاذبة كلها تعمل على حرف الأمة عن المطلوب.
ولكن التشاؤم القائل بالنفي المطلق مردود بنفس المستوي أيضاً وذلك انه لا يستطيع أي قانون وحاكم أن يُهمل تماماً إرادة الشعب, كما ومن المسلم به إن الوجدان الواعي رغم محدوديته في بعض المجموعات الإنسانية, سوف يؤدي بالقانون والحاكم المذكور إلى مزبلة التاريخ بعد مرور الزمان.
نستنتج من هاتين الظاهرتين, إنّ هذا الشعار رائع لكنه لا يتحقق, كما إننا لا نظن أن عناصر هذا الشعار وهي (الشعب) و(الحاكمية) قد توضحت, … فهل (الناس) هم الموجودات السماوية التي لا تخطي, والمنزهة عن الأهواء, أو هم ما نألفه نحن.
فان كانوا هم, هؤلاء الذين يعلمون في حياتهم العادية دائماً على شحن الأسلحة في ميدان تنازع البقاء, فحاكميتهم تعني أن يفكروا ويسعوا لحياة أفضل ومهما كان الانتخاب سامياً فإنه سوف لا يعمل على زرع العقبات أمام الأقوياء, وكل ما طرح من شعارات كالوطنية والبطولة, والتمدن, والتقدم, فإنها تطوف حول التمحور الذاتي.
فهذا الشعار شعر جميل لإشباع الحس ألهدفي للناس في حياتهم الاجتماعية ولسنا نريد إقصاء أصل هذا الشعار أو تخطئته وإنما نريد أن نقول إن ما حصلت عليه الإنسانية لم يحقق لها أبعادها وأهدافها, وإنما الذي حصل الضغط والتعذيب للشعوب الضعيفة, وحتى في نفس المجتمعات القوية لم تكن النتيجة سوي حياة ميكانيكية, ومسالمة لا شعورية غير ملتزمة تفرضها الحكومات هناك.
الحاكمية الإلهية:
من المسلم به أن طرح هذا المعني - اليوم – في المجال العملي الاجتماعي, قد يبدو غريباً, بعد كل هذا الابتعاد عن هذه الفكرة, وبعد طرح فكره حكومة الشعب بهذه السعة.
تماماً كغرابه طرح فكرة الإنسان المتحرر من الآلة, والأنانية, والاغتراب عن الذات, الأمر الذي يدعونا للبحث الموضوعي بعيداً عن تأثيرات ذوي النفوذ والتسلط, مما يستلزم آن نوضح مفردات القضيتين: (الحاكمية) و(الإلهية) ونبعد عنها الشبهات الذهنية:
1- الله: قبل كل شيء لا يمكننا أن نقول بأية قيمة للتصورات البشرية العادية, أو تلك التي طرحت في أذهان من لديهم حساسية خاصة, عن هذا الموجود المطلق, ولا يوجد أمر أدعي للعجب من أن القانون القائل (بلزوم معرفة ادني واسمي خصائص حقيقة ما, لكني تتم معرفتها) لا يطبق بحق معرفة (الله) فالوردة لكي تعرف حقيقتها يجب أن تدرس الوردة ذات الورقتين, والأخرى ذات الأوراق المعقدة, والرائحة الرائعة, والالوان المتنوعة, ولا يمكن الاكتفاء بالادراك البسيط لمن لم ير إلاّ نوعاً بسيطاً من الورد 000 إلاّ إننا نجدهم في مجال (الله) اكتفوا بالتصور البسيط. أنهم لم يطلعوا على تصور (إبراهيم) خليل الله, وموسي, وعيسي, والرسول محمد (ص) عنه تعالى وماذا كان يحمل علي (ع) عنه من تصور, بل ماذا كان يحمل علي (ع) عنه من تصور, بل ماذا كان يحمل الأقل منهم, كابن سينا,‌ والفارابي, وديكارت القائل: «إذا سمح إنسان لنفسه أن يشكك في الله فهو لا يستطيع أن يثبت لي أصلاً بديهياً ورياضياً». فما الذي ينبعث للذهن عندما نقول (حاكمية الله)؟ هل حاكمية باعتباره سلطاناً شيخاً يجلس في الأعالي, أو حاكمية الله كما يتصوره علي وأبو ذر والمولوي, انه تعالى ذلك الخالق لكل هذا النظام المحير للألباب, ذو العلم المطلق والقدرة المطلقة, انه الذي يعرض علينا نماذج لمن تخلصوا من الفردية والأنانية وعبادة اللذة, انه الموجود الذي سعت التعبيرات, انه الله الذي تنفذ أنواره إلى كل الموجودات, كما ينفذ النور إلى الأجسام الشفافة, ولكنه غيرها, انه الذي منح الفطرة الإنسانية النقية تلك الطاقات لتدرك مشية الله في (الحق والباطل), و(الحياة المعقولة), سواء بواسطة الأنبياء, أو العقول السليمة, أو إرشاد الحكماء الصادقين.
انه الذي منح الجميع قدرة الارتباط المباشر به, ومنح البشرية مسيرة تكاملها, وأوضح لها أنها إذا حصلت على معرفة سامية فقد حضرت في رحابه, انه الذي أقام خلق العالم على أساس العدل, وأدان أي ظلم حتى للأحياء البسيطة, انه الذي تعددت سبل الوصول إليه بعدد نفوس مخلوقاته (الطرق إلى الله بعدد نفوس الخلائق).
هذا هو المقصود وليس تلك الإلهية التي صاغتها أذهان الناس العوام, والهاربين من الله, الذين حبسهم الطغاة في مرحلة سافلة من المعرفة.
2- الحاكمية: إننا لنجد نفس النقص المذكور في التصور عن (الله), يأتي في تصور (الحاكمية) فيتصور البعض أنها تعني: أن يتجسم الله في موجود ضخم, ويجلس على مكتبه, واضعاً قوانين البشر, ويرفع سوطاً هائلاً فينفذ به تلك القوانين في حين يتصور البعض أنّ الحاكمية تتم على أيدي الأقوياء الطغاة الذين يفرضون إرادتهم على الناس. ويتصور الآخرون: أنها تتلخص في حكومة طبقة معينة, لها جانب معنوي, اتخذته كحرفة لها, كباقي الحرف, وهناك تصورات مغلوطة أخرى لا قيمة لها لدي المحققين الواعين.
إنّنا نتصورها: كـ(علاقة الروح بفعالياتها داخل الكل الإنساني) طبعاً, التشبيه قاصر, وإلاّ فليس كمثله شيء, فهل يشك عاقل في حاكمية الأنا أو الشخصية أو النفس, أو ما شئت فعبر على الوجود الإنساني, وهل يوجد فيلسوف ينكر ذلك, وهذه النفس أو الأنا, لا تخرج عن حدود العمق الإنساني, فتجلس على مكتبها لتدير مملكة البدن, أنها تديره بواسطة الطاقات والاستعدادات الموجودة كالعقل والتفكير, والذكاء, والنبوغ, والوجدان, والقلب, وبمئات من النشاطات, فإذا تجاوزنا نقائص التشبية قلنا أنّ الحاكمية الإلهية تتم من خلال العقود الإنسانية المتكاملة, والوجدان, والفطرة, والأنبياء العظام (ع).
فالمقصود من الحاكمية: ظهور وتجلي الإرادة الإلهية في المجتمعات الإنسانية, وتنفيذها بواسطة الناس, نظير الحركة الإنسانية الفعلية, التي هي مظهر إرادة النفس, والآن فهل يمكن قبول الحاكمية الإلهية بهذا المعني؟ نعم والأدلة على هذا المدعي:
1- إذا تجاوزنا حملة الفكر الميكافيلي وتنازع البقاء وأمثالهم من عشاق التسلط, فإننا نجد أنّ كل سعي المفكرين والمبتكرين انصب على أن يكشفوا ما ينفع الناس, ليؤمنوا لهم سعادتهم وتعبيره (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) تعبير عن إسناد هذه الظاهرة لله, وحاكميته على الناس, إنها حاكمية عن طريق قوانين الوجود, وأما الحاكمية التشريعية, فتقول الآية 25 من سورة الحديد: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) ترى, ألا نلمح للحكومة العادلة, أو القوانين العادلة، العاملة على تكامل البشرية نداء في العقول السليمة والفطر النقية؟ نعم بالتأكيد مما لم يسمح لأي مدرسة أو مبدأ أن تخالفه, فحكومة الله على الناس بواسطة الأنبياء, لا تعني إلاّ تفجير الطاقات الكامنة, وتجسيد الجوانب الإيجابية, في الحياة الإنسانية.
2- يتفق الفلاسفة ودارسوا الإنسان – رغم اختلافاتهم في التصور الكوني - على أن الإنسان في مسيرة التكاملي سوف يصل إلى الاستقلال والعظمة التي تفجر طاقاتة الحياتية الثرة, وتمتعة بـ(الحياة المعقولة), وسعي قادة البشرية الحقيقيين خلال القرون لتحقيق هذا الهدف كان أكثر بكثير, مما تلقاه عشاق القدرة والأنانية والميكافيليون بسخرية. إنّ هذه العظمة والاستقلال تقومان على أساس تلك الحرية التي يجب أن يوصل الإنسان إلى مرحلة الاختيار, والسعي نحو تعنصر الاختيار,‌ في العمق الانساني, بشكل أروع مظهر للحاكمية الإلهية على الناس, والخلاص من العوامل الجبرية وشبة الجبرية الخارجة عن الذات لا يمكنه أن يستند إلى بعض العوامل والظواهر الجبرية في طبيعة النوع الانساني. إنّ مثل هذا السعي هو الذي حفظ الإنسانية من ألهوي في المنحدرات الهائلة, ولا يمكن تصور إمكان هذا الاختيار وهو يعني حرية التفتح في مسير الخير والكمال, من دون قبول (الله) كموجود اسمي, وإحساس الالتزام بالوصول للخير والكمال, ولهما جذور فوق الطبيعة.
فالحاكمية الإلهية: تعني إنّ الله غرس بذور الكمال والخير في أعماق الإنسان, وراح بواسطة الأنبياء والعقل والوجدان, يفجرها, ويفتحها, ويطلب من الناس السعي إلى ذلك.
3- كلنا يعلم ان بعض المتقدمين في المعرفة الإنسانية نادوا بفكرة لزوم كون الحاكم من الحكماء الصادقين, وهم من مثل أفلاطون الإلهي في كتاب (الجمهورية), حيث يقول في حوار بين سقراط وغلوكون:
«س: - إننا نميز بين الفلاسفة الحقيقيين والدجالين المدعين للفلسفة, ومن الواضح أن المجموعة الأولى (الفلاسفة الحقيقيين), يجب أن تحكم وتقود, فلنبين الآن بعض خصائص الفلسفة الحقيقة:
1- الرغبة والميل لمعرفة كل الواقعيات والأصيلة.
2- العداء لكذب والحب الحقيقي للصدق والإخلاص.
3- الاستهانة باللذات الجسمية.
4- عدم الاهتمام بالمال والثروة.
5- علو الادراكات وحرية الفكر.
6- العدالة والأخلاق الرقيقة.
7- سرعة الانتقال في الخواطر والقدرة وتذكر المحفوظات.
8- الفطرة القانونية المنظمة. (الجمهورية لأفلاطون – ص 152)
وإذا تأملنا هذه الأوصاف الإنسانية السامية جداً للحاكم, علمنا أن حاكمية الحاكم في الواقع هي حاكمية ممثلي الله في الأرض, أنها ليست نظرية عتيقة, بل حقيقة تبدو لكل محقق ذي ضمير يقظ (المحترفين في التحقيق), إذ تطرح الحاكمية أي جنب الإخلاص. وكمثال على ذلك نقول أنّ اغلب الباحثين في فلسفة الحاكمية, مطلعون على أسلوب تفكر جان جاك روسو, وهم يعلمون انه رغم إصراره على ضرورة لزوم الحكومة والمجتمع القائم على الديمقراطية, يصل بالنهاية إلى أنّنا نحتاج لكي نكتشف أفضل القوانين إلى عقل ضخم, يلاحظ كل الشهوات الإنسانية, ولا يحس بها هو, لا يتعلق بالطبيعة ولكنه يفهمهما, ولا ترتبط سعادته بنا ولكنه يرغب في إسعادنا, ويقول في النهاية:
(وعلى هذا فالإلهية فقط يمكنها, ويجب أن تقدم القانون للشعب) «روسو - في العقد الاجتماعي ص 81» وهو يعني بالإلهية ممثلي الله في الأرض, وهم الأنبياء باصطلاح الأديان, ذلك انه كان مسيحياً موحداً.
وبملاحظة ما قرره هذان المفكران نصل إلى حقيقة قررها الإسلام وهي لزوم أن يكون الحاكم حائزاً لبعد الهي تمتع به نبي الإسلام والأئمة المعصومون مع فارق بينهم هو أنّ النبي (ص) كان يتصل بالوحي مباشرة, في حين كانت علاقة الأئمة بالله هي علاقة التخلق بأخلاق الله والعصمة, وهذه الحقيقة نجدها بالنسبة لشروط الحاكم في الإسلام.
وما نخلص إليه, هو أنّ حاكمية الله على الناس لا تتناقض مع تدخل الناس في مصيرهم و(حياتهم المعقولة), بل إن هذه الحياة المعقولة إنما تقبل التوجيه والتفسير على أساس من المبادئ الإلهية, واتخاذ الهدف السامي من الحياة الإنسانية.
وقد كنا شبهنا من قبل نوع التدخل الإلهي في الحياة, بنوع تدخل الروح في النشاطات الإنسانية, ويمكن استفادة ذلك – تقريباً – من عبارة وردت في نهج البلاغة يصف على الله تعالى بانه: (داخل في الأشياء لا بالممازجة, وخارج عن الأشياء لا بالمباينة) فنسبة حاكمية الله لحاكمية الناس, كنسبة الروح إلى نشاطاتها, وكمثال على ذلك نقول:
إذا رأى الناس أو مجموعة العقلاء بعقلهم السليم, ووجدانهم الصافي, أمراً لصالح الإنسانية وأصدروا حكماً على أساس منه, فقد تحققت حاكمية الله بواسطة الناس, وهذا هو معنى حجية العقل المستقلة, المستفادة من جملة (كلما حكم به العقل, حكم به الشرع).
ثم أنّ هناك حقيقة مسلمة هي: إنّ عقول الناس ووجداناتهم, نتيجة المحدودية في النظرة, وقصر التنبؤ في مجال الهدف, وغلبة الرغبات والميول الجامحة, والأنانيات التي تملأ السطوح النفسية لهم, تفقد القدرة على العمل, فلا تستطيع أن تقوم بمهمة الإدارة على أساس موضوعي, بل يمكن القول بان الشؤون فوق الطبيعية (الحياة المعقولة), هي أسمى من حدود العقول والوجدان, وابتلائهما بالأنانيات, وقد جاءت بعض الروايات التي تؤكد حجية العقل, وتجعله الحجية الباطنة, والنبي حجة خارجيها ومنها قوله عليه السلام لهشام:
(يا هشام إنّ لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة, وحجة باطنة, فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة «ع» وأما الباطنة فالعقول).
«الكافي – الأصول ج 1 ص 16»
(العقل دليل المؤمن) «نفس المصدر ص 25»
(ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل, ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته)
ويعتبر أمير المؤمنين «ع» هدف الأنبياء هو: (ويثيروا دفائن العقول).
«نهج البلاغة – الخطبة الأولى»
والآن,‌ فهل يمكن تصور التناقض بين حجتين لله؟ انه غير معقول, ويتأيد هذا الانسجام, عبر جعل العقل احد منابع الفقه الإسلامي.
حكومة الشعب للشعب هي حكومة الروح المصفاة على النشاطات الإنسانية:
نستنتج مما سبق انه لكي تتحقق حاكمية الله على الناس, تتجه حكومة الشعب للشعب في الرسالة الإسلامية, إلى كونها حكومة الروح وإدارتها للصفات والفعاليات الإنسانية, والهدف الأصلي من مثل هذه الحكومة: عبارة عن تقوية البعدين المادي والمعنوي للناس, وتقليل الآلام,‌ وتأمين الراحة لهم في مسيرهم نحو الهدف الحياتي السامي, المحققة للحياة المعقولة ولا يمكن تعيين مثل هذه الحكومة, من خلال البعد المادي المحض, والرغبات الطبيعية الخالصة للناس, والتي تنبع من الذاتيات.
إن الحكومة في الإسلام مظهر في حاكمية الله, فهي بالتالي لا تنسجم مع أي نوع من الاستبداد والظلم وجور الطواغيت تماماً كما لا تنسجم إدارة الروح للنشاطات الإنسانية مع الظلم والطغيان, ولتوضيح هذه الحقيقة نقول: انه ليس المقصود من حكومة الناس للناس أن تقوم مجموعة من الأفراد, بتعيين الخط العملي, وفرضه على الآخرين بالقوة, أو تقوم مجموعة بفرض تصوراتها وخيالاتها الواهية على الآخرين, أو تقوم مجموعة بتطبيق ما تراه هي من صالح للناس,‌ ذلك إنّ معنى الحكومة هو قيادة الناس في مسير الحياة المعقولة, إلى أسمى الأهداف المادية والمعنوية, عبر خلق الانسجام بينهم وبين هذا الهدف, وهذه الحياة المعقولة ليست مسيرة طبيعية متحققة كباقي المسيرات الطبيعية, وإنما يجب العمل على إيجادها, ولذلك يجب قيام الحكومة التي توجه الحياة الطبيعية إلى الأهداف المعقولة, وتحولها إلى (حياة معقولة) أي تحول (ما هو كائن) إلى (ما ينبغي أن يكون), فحكومة الناس هي حكومة العقول والوجدانات الصافية للناس, لا القدرة والتسلط والخيالات والرغبات والآراء الشخصية, ولا يمكن تصور أن يهدف اشد المدافعين عن حكومة الشعب للشعب إلى غير هذا المعنى, أي حكومة القدرة والخيال والرغبات الشخصية, وحتى الميكافيلي الذي قام بأعظم جريمة ضد الحياة السياسية الإنسانية قد لا يقصد المعني المعروف عنه.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية