مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

نظرية ولاية الفقيه والادارة الاجتماعية
زهير الاعرجي


من الذي يمتلك المبرر الشرعي والفلسفي لإدارة الدولة عند غياب المعصوم؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة في عالم اليوم، خصوصاً ونحن نعيش ازدحاماً للنظريات والفرضيات العالمية في الادارة الاجتماعية. ولم تغب عن النظرية الاسلامية مشكلة الادارة الاجتماعية في العصور المتلاحقة ابتداءً من عصر النص وحتى آخر لحظة يعيشها الإنسان على وجه هذه البسيطة. فقدمت فكرة الإمأمة التي يشرف عليها المعصوم (ع)، وفكرة الولاية التي يشرف عليها الفقيه حيث انيطت له النيابة العأمة عن المعصوم (ع). وفكرة ولاية الفقيه مثيرة للجدل لأنها تمس جوهر الصراع الاجتماعي الدائر بين قوى الخير والشروقوى الحق والباطل. فكان لابد من مناقشتها مناقشة علمية على أصعدة: الإمكان الشرعي، والفلسفي، والاجتماعي، والعملي. وقبل ذلك نقدم مقدمة تأريخية للموضوع.
مقدمة تأريخية
عاشت الأمة الإسلامية وضعاً استثنائياً صعباً بعد انتهاء عصر النصوص الشرعية. وكانت المدرسة الإمامية قد قاست من ظروف سياسية واجتماعية خانقة خلال فترة الغيبة الصغرى أيضاً، وهي الفترة التي لم ينته فيها عصر النص عند الشيعة الإمامية.
فقد بدأت الغيبة الصغرى بغيبة الإمام المهدي (عج) عام 620هـ في وقت كان الحكام العباسيون يطلبون ذلك الإمام الثاني عشر لعلمهم بأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً. وكانت الروايات المتضافرة التي تناولتها المدرستان السنية والشيعية الإمامية بشأن ظهور ذلك الموقف بالقول: "... وخلف [يعني الإمام العسكري] ابنه المنتظر لدولة الحق [عام 255هـ.]، وكان قد أخفى مولده، وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره. ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه، وعرف من انتظارهم له، لم يظهر ولده ـ عليه السلام ـ في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته، وتولى جعفر بن علي (أخو أبي محمد) أخذ تركته. وسعى في حبس جواري أبي محمد ـ عليه السلام ـ واعتقال حلائله، وشنع على أصحابه بانتظارهم ولده، وقطعهم بوجوده، والقول بامامته، وأغرى القوم حتى أخافهم وشردهم. وجرى على مخلفي أبي محمد ـ عليه السلام بسبب ذلك كل عظيمة، من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل... ولم يظفر السلطان منهم بطائل".
ولاشك أن اختناق الجو السياسي والاجتماعي في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وغياب المعصوم (ع) عن الساحة الاجتماعية، كانا قد مهدا الطريق لتربية الأمة على النظر إلى الفقهاء باعتبارهم الامتداد الطبيعي في النيابة عن الإمام (ع). وقد كان تأكيد الإمام القائم (ع) على دور الفقيه الجامع للشرائط في قيادة الأمة زمن الغيبة يعبر عن عمق الحاجة التي كانت تحسها الأمة بفقدان قائدها المعصوم (ع)، خصوصاً في قضايا احقاق الحقوق وإقأمة الحدود وإدارة أمور النظام الاجتماعي.
وبطبيعة الحال، فإن الحاجة إلى صياغة نظرية اجتماعية في عصر الغيبة تشتد وتتعمق بقدر متساوٍ مع تغير طبيعة الحقوق والواجبات في المجتمع الإسلامي. أما في عصر الحضور فإن الإمام المعصوم (ع) هو الذي يتولى تحقيق العدالة الاجتماعية والحقوقية بمعناها الواقعي الواسع الرحيب.
ولاشك، فعندما نناقش النظرية الاجتماعية وقائدها الفقيه الجامع لشروط القيادة في عصر الغيبة، فإننا نناقشها من زاويا الاطار الشرعي والفلسفي والاجتماعي والعملي. بمعنى أن النظرية تبحث على أصعدة الإلزام الشرعي والإمكان الفلسفي والإمكان الاجتماعي والعملي. أما ما نوقش في مسألة هل إن القدرة على إقأمة مجتمع إسلامي لدى إحراز الملاك هل يوجب البراءة أو الاحتياط؟ وهل إن القدرة هي شرط للوجوب أم شرط للواجب؟ فهذا خارج عن صلب بحثنا، وربما بحثناه في مناسبة أخرى بإذن الله تعالى. وسوف نناقش الآن طبيعة المشكلة الاجتماعية في عصر الغيبة.
المشكلة الاجتماعية في عصر الغيبة
وقد واجهت المجتمع الإسلامي في عصر الغيبة وبعد الابتعاد عن عصر النص، أربع مشكلات اساسية بحاجة إلى حلول مصيرية وهي: المشكلة الحقوقية، والمشكلة الأخلاقية، والمشكلة التعبدية، والمشكلة الفكرية. والمجتمع الاسلامي زمن الغيبة لا يختلف عن بقية المجتمعات البشرية في حاجته للنظام الاجتماعي القادر على تحقيق لون من ألوان العدالة الاجتماعية عبر توزيع الثروة الاجتماعية وحفظ أمن الأفراد. فأي تعطيل للأحكام الشرعية يؤدي إلى إخلال في الحقوق والواجبات التي يهتم بها كل أفراد المجتمع على السواء.
أصالة معالجة المشاكل الاجتماعية
وطالما كانت المشكلة الاجتماعية قائمة، حقوقية كانت أو أخلاقية أو تعبدية أو فكرية، كانت الأمة تنتظر من الرسالة الإلهية حلولاً لمواجهة مشكلتها. ولاشك أن المشكلة الحقوقية لا تعالج إلا بإقامة نظام العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة الاجتماعية، وإقأمة نظام عادل في القضاء وحل الخصومات بين الأفراد. والمشكلة الاخلاقية لا تعالج إلا بإقأمة الحدود وتنفيذ نظام العقوبات الجسدية والمعنوية التي جاء بها الإسلام. والمشكلة التعبدية لا تعالج إلا بتثبيت الأمن الجماعي ورفع كل لون من العوائق الاجتماعية التي تمنع المكلفين من التوجه نحو خالقهم العظيم، وتربية الأفراد وتثقيفهم على أداء التكاليف العبادية. والمشكلة الفكرية لا تعالج إلا بانشاء نظام ثقافي إسلامي طاهر نزيه يحمل على عاتقه تربية الأمة على فهم معاني الخلق والتكوين والجمال والقيم الأخلاقية. وليس هناك من دليل شرعي أو عقلائي يدعو إلى إهمال المشكلة الاجتماعية بما في آثار إهمالها من ظلم وإجحاف وإفساد. وقد التفت إلى ذلك جملة من فقهاء الامامية كالفيض الكاشاني (ت 1091هـ) والشيخ محمد حسن النجفي (ت 1266هـ)، والسيد البروجردي (ت 1830هـ)، والشيخ محمد رضان المظفر (ت 1384هـ) وبعض المتأخرين. وفميا يلي بعض النفحات من أفكارهم الزكية، حسب ما يقتضيه تسلسل الأفكار:
1) يقول الشيخ المظفر (ت 1384هـ): "ومما يجدر أن نعرفه في هذا الصدد: ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي)، أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.. بل المسلم أبداً مكلف بالعمل بما انزل من الأحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ما تمكن من ذلك وبلغت إليه قدرته "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". ولا يجوز له التأخير عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فإن هذا لا يسقط تكليفاً، ولا يؤجل عملاً، ولا يجعل الناس هملاً كالسوائم.
2) بينما يصرح صاحب "منتخب الأثر: "وليعلم أن معنى الانتظار ليس تخلية سبيل الكفار والأشرار، وتسليم الأمور إليهم، والمراهنة معهم. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاقدامات الاصلاحية. فإنه كيف يجوز إيكال الأمور إلى الأشرار مع التمكن من دفعهم عن ذلك، والمراهنة معهم، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المعاصي التي دلّ عليها العقل والنقل وإجماع المسلمين؟ ولم يقل أحد من العلماء وغيرهم بإسقاط التكاليف قبل ظهوره (أي الإمام المهدي)، ولا يرى منه عين ولا أثر في الأخبار... نعم، تدل الآيات والأحاديث الكثيرة على خلاف ذلك، بل تدل على تأكيد الواجبات والتكاليف والترغيب إلى مزيد الاهتمام في العمل بالوظائف الدينية كلها في عصر الغيبة. فهذا توهم لا يتوهمه إلا من لم يكن له قليل من البصيرة والعلم بالأحاديث والروايات". ويستنتج من هذا الرأي أن معنى الانتظار يحمل وجوباً في التمهيد والتوطئة لظهور الإمام القائم (عج). فوجوب قيام مجتمع إسلامي زمن الغيبة من ضروريات الدين التي يقرها العقل ويؤيدها الدليل.
3) وهو ما صرح به الفيض الكاشاني (ت 1091هـ) فقال بأن: "وجوب الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والافتاء، والحكم بين الناس بالحق، وإقأمة الحدود والتعزيرات، وسائر السياسات الدينية، من ضروريات الدين. وهو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين. ولو تُركت لعُطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفتنة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد...".
ويقول (قده) بخصوص كون الفقيه العادل حاكماً على المسلمين من قبل الأئمة (ع): "... وكذا إقأمة الحدود والتعزيرات وسائر السياسات الدينية، فإن للفقهاء المؤمنين إقامتها في الغيبة بحق النيابة عنه (ع)... لأنهم مأذونون من قبلهم (ع) في أمثالها كالقضاء والافتاء وغيرها... ولإطلاق أدلة وجوبها، وعدم دليل على توقفه على حضوره عليه السلام".
4) بينما نلمس من محاضرات السيد البروجردي (ت 1380هـ) أنه كان ـ رضوان الله عليه ـ مرجعاً إسلامياً اجتماعياً في أفكاره، قال ـ قدس سره ـ "لا يبقى شك لمن تتبع قوانين الإسلام وضوابطه، في أنه دين سياسي اجتماعي، وليست أحكامه مقصورة على العبادات المحضة المشروعة لتكميل الأفراد، وتأمين السعادة في الآخرة، بل تكون أكثر أحكامه، مربوطة بسياسة المدن، وتنظيم الاجتماع، وتأمين سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحسنيين، ومرتبطة بالنشأتين، وذلك كأحكام المعاملات والسياسات من الحدود والقصاص والديات والأحكام القضائية المشروعة لفصل الخصومات، والأحكام الكثيرة الواردة لتأمين الماليات التي يتوقف عليها حفظ دولة الإسلام كالأخماس والزكوات ونحوها... ولأجل ذلك اتفق الخاصة والعأمة على أنه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدبر أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام". وفي موضع آخر: "إن في الاجتماع أموراً لا تكون من وظائف الأفراد ولا ترتبط بهم، بل تكون من الأمور العأمة الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ نظام الاجتماع، مثلك القضاء، وولاية الغيّب والقصّر، وبيان مصرف اللقطة والمجهول المالك، وحفظ الانتظامات الداخلية، وسد الثغور، والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الاعداء، ونحو ذلك مما يرتبط بسياسة المدن. فليست هذه الأمور مما يتصدى لها كل أحد، بل تكون من وظائف قيم الاجتماع، ومن بيده أزمة الأمور الاجتماعية، وعليه أعباء الرياسة والخلافة".
5) أما الشيخ النجفي (ت 1266هـ) فقد صرح في "جواهر الكلام" بخصوص إقأمة المجتمع الإسلامي زمن الغيبة قائلاً: "وبالجملة، فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة". وقال (قده) في الاستدلال على وجوب إقأمة الحدود من قبل الفقهاء: "إن المتيقن لإقأمة الحد قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه (أي الإمام) قطعاً، فتكون عائدة إلى مستحقه، وإلى نوع المكلفين... وعلى التقديرين لابد من إقامته مطلقاً. وثبوت النيابة لهم (يعني الفقهاء) في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع. بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب، فإن كتبهم مملوءة بالرجوع إلى الحاكم، المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع... قال المحقق الكركي، في المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة: اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى ـ المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية ـ نائب من قبل أئمة الهدى في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل".
وبكلمة، فإن هؤلاء الفقهاء من الإمامية لاحظوا ببصيرتهم الثاقبة ضرورة قيام مجتمع إسلامي تطبق فيه أحكام الشريعة في عصر الغيبة. وفلسفة الانتظار تستبطن وجوباً في بناء المجتمع الرباني العادل الممهد لقيام القائم (عج) لإنشاء دولته الإسلامية العظمى التي تستوعب الأرض ومن فيها. ولكن استعراض تلك الآراء لا يستظهر دليلاً شرعياً، فلابد من البحث عن الحجية الشرعية عبر الدليل.
قواعد الولاية الشرعية
إن نظرية "ولاية الفقيه" شأنها شأن النظريات الأخرى تحتاج إلى تأسيس شرعي وفلسفي. ونقصد بالتأسيس الفلسفي: التأسيس العقلي، ونقصد بالتأسيس الشرعي: البحث عن الديل الشرعي الذي يوصلنا إلى شرعية تلك الولاية. فكان لابد من قواعد تحكم موضوع البحث. وقد حاولنا التفتيش في هذا الموضوع عن سبل امكانية تحقيق تلك النظرية. فكان البحث منصبّاً على الإمكان الشرعي، والفلسفي، والاجتماعي، والعملي.
أولاً: الإمكان الشرعي
لم يكن النقاش بين الفقهاء حول طبيعة المجتمع الإسلامي عصر الغيبة دائراً حول النظرية الاجتماعية، بل كان يدور حول طبيعة الولاية الشرعية للفقيه. فهل إن الولاية الممنوحة للنبي (ص) والإمام (ع) على الأموال والنفوس قد مُنحت للفقيه؟ أو أن ولاية الفقيه في غيبة المعصوم (ع) لا تتعدى الأمور الحسبية؟ وإذا كانت الولاية محصورة في الأمور الحسبية، فهل هي ولاية بالمعنى الحقيقي للكلمة أو أنها مجرد إذن في التصرف؟ وقد كان عدم ابتلاء الفقهاء بقضايا الحكم والسلطة مئات السنين باعثاً على اختلاف واسع في وجهات النظر الفقهية. ويمكننا تقسيم آراء فقهاء الإمامية حول ولاية الفقيه إلى ثلاث نظريات، وهي: نظرية إنكار الولاية للفقيه، ونظرية الولاية المحدودة، ونظرية الولاية المطلقة.
النظريات الفقهية حول الولاية
وتلك النظريات الثلاث لم تكن وليدة يوم أو ليلة وإنما كانت جهداً مشتركاً لمجموعة متضافرة من فقهاء الإمامية على مر القرون التي لحقت عصر الغيبة. وهذه النظريات هي:
1 ـ نظرية إنكار الولاية للفقيه
وهذه النظرية تؤمن بتجريد الفقيه من الولاية المطلقة، مع الاقرار بنفوذ تصرفاته في الأمور الحسبية. فأشار صاحب "التنقيح" ـ قدس سره ـ إلى أن له جواز التصرف ببعض الحقوق والأمور الحسبية، ولكن ليست له ولاية على الآخرين. وذلك لقصور الأدلة عن إثبات أية ولاية للفقيه إطلاقاً. قال في "التنقيح": "إن الولاية تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل، وإنما هي مختصة بالنبي والأئمة المعصومين (ع). بل الثابت حسبما يستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه وحجية فتواه. وليس له التصرف في أموال القصّر أو غير ذلك مما هو من شؤون الولاية، إلا في الأمر الحسبي. فإن الفقيه له الولاية في ذلك لا بالمعنى المدعى، بل بمعنى نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله وانعزال وكيله بموته. وذلك من باب الأخذ بالقدر المتيقن، لعدم جواز التصرف في مال أحد إلا بإذنه. كما أن الأصل عدم نفوذ تصرفاته. إلا أنه لما كان من الأمور الحسبية ولم يكن بد من وقوعها في الخارج، كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضى المالك الحقيقي وهو الله تعالى. والقدر المتيقن ممن رضي المالك الحقيقي بتصرفاته هو الفقيه الجامع للشرائط... فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية".
نقد نظرية إنكار الولاية للفقيه
1 ـ إن الادعاء بقصور الأدلة عن إثبات ولاية الفقيه زمن الغيبة في قصور. ويمكن أن يشار في ذلك إلى التوقيع الصادر عن الناحية المقدسة، وهو: "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله". وسند الحديث صحيح. فالشيخ الطوسي (قده) يرويه عن جماعة فيهم الشيخ المفيد، عن جماعة فيهم جعفر بن محمد بن قولويه وأبو غالب الزراري، عن الكليني. ورواه أيضاً الصدوق عن محمد بن محمد بن عصام، عن الكليني.
إلا أن المشكلة في الراوي نفسه وهو اسحاق بن يعقوب الذي لم يترجم له في كتب الرجال. ولكن يصعب علينا افتراء توقيع عن الإمام صاحب الزمان (عج) في تلك الظروف العصيبة التي لا تخفى على الشيخ الكليني. والمشهور عنه ـ رضوان الله عليه ـ الضبط والدقة في نقل تلك الأمور المصيرية بالنسبة للطائفة. ولاشك أن تلقي الأصحاب للتوقيع بالقبول، واعتماد الشيخ الكليني، والشيخ الصدوق، والطبرسي عليه دليل على وثاقة الرجل. وبالجملة، فإن هناك اطمئناناً عند اجلاء الطائفة بصدق الراوي وصحة الرواية. وليس هناك ما يبرر الغمز بالرواية بعد كل تلك السنين الطويلة من التسليم بها، حيث تناقلها الأصحاب نقل المسلمات. فالسند صحيح ولا وجه للغمز فيه. فهذا من ناحية السند.
أما من ناحية الدلالة، فإن اللام في قوله: "أما الحوادث الواقعة" هي لام الجنس، ومقتضى إطلاق ذلك يعكس عمق التغيرات الاجتماعية التي ستمر بها الأمة بعد الابتعاد عن عصر النص. فكان "الرواة" "حجتي عليكم" بما يجهدون انفسهم في إرجاع الفروع المتغيرة إلى الأصول الثابتة. وكان الإمام (ع) على علم بذلك. وليست هناك قرينة صالحة لصرف إطلاق الحوادث أو الحجية أو الوكالة وتخصيصها بحوادث محلية محدودة حصلت في ذلك الزمان فحسب.
أما الاشكال على كون "رواة حديثنا" هم مجرد الرواة، فيَرِد عليه: أنه لا ينسجم مع منطوق "إنهم حجتي عليكم". فما لم يفهم الراوي معاريض الروايات ويستبطن منها أحكاماً ليس بحجة على الآخرين، خصوصاً المقلدين منهم. فلاشك أن المقصود بالرواة: الفقهاء.
2 ـ إن الاعتماد على أصل "عدم ولاية أحد على أحد" و"عدم وجوب إطاعة أحد لأحد" إلا ما ثبت بدليل محكوم بموارد تعيين الموضوع الخارجي البحت الذي يتم على ضوئه تحديد الموقف الشرعي. فالمصلحة الاجتماعية الإسلامية قد تقتضي ولاية فرد على آخر في الدفاع عن بيضة الإسلام إذا تعرضت لتهديد خطير يتعلق بصميم وجودها. فيد الفقيه تمتد لا لتغيير الأحكام الثابتة، بل لتشخيص أحكام موجودة سابقاً بتشخيص موضوعاتها الجديدة. ولاشك أن قاعدة "الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم" والتي استنبطت منها أصالة عدم ولاية أحد على أحد، مقطوعة بورود الدليل على ولاية النبي والإمام والفقيه أيضاً.
3 ـ إن أفكار هذه النظرية بخصوص ولاية الفقيه لم تكن منسجمة ولم تكن متعاضدة، كما يظهر التأمل الدقيق في كلام رائدها ـ قدس سره ـ فهي في الوقت الذي أنكرت على الفقيه أي ولاية في عصر الغيبة، عادت وجوّزت للحاكم الشرعي إقأمة الحدود. ولاشك أن إقأمة الحدود جزء لا يتجزأ من الولاية العأمة للفقيه، بل هي من أخطر ولايات الفقيه. قال السيد ـ قدس سره ـ في "مباني تكملة المنهاج": "إنما يجوز للحاكم الشرعي إقأمة الحدود لأمرين، أحدهما: إن إقأمة الحدود إنما شُرعت للمصلحة العأمة دفعاً للفساد وعن انتشار الفجور والطغيان بين الناس وهذا ينافي اختصاصه بزمان دون كل زمان. ثانيهما: إن أدلة الحدود مطلقة، فلا تتقيد بزمان خاص، وهي تدل على أنه لابد من إقامتها لكنها لا تدل على المتصدي لإقامتها من هو. ومن الضروري أن ذلك لم يشرع لكل أحد، فإنه يوجب الاختلاف في النظام. بل في التوقيع الشريف: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة احاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله). وفي رواية حفص: (إقامة الحدود إى من إليه الحكم) فإنها بضميمة ما دل على أن من إليه الحكم في زمان الغيبة هم الفقهاء، تدل على أن إقامة الحدود إليهم ومن وظيفتهم". وهذا في غاية الغرابة فقد احتج لإنكار ولاية الفقيه بزعم قصور أدلة التوقيع الشريف، في حين استدل بها على إقأمة الحدود للفقيه! وإنكار ولاية الفقيه الجامع للشرائط زمن الغيبة يربك النظم الإسلامية في الاجتماع. لأن في الإنكار انتهاكاً للأموال والأعراض والنفوس، وهتكاً للحقوق التي بشر بحفظها الإسلام عبر قواعد "نفي الضرر" و"نفي الحرج" ونحوها.
4 ـ إن إقامة الحدود مرتبط، على صعيد الارتكاز العقلائي، بتوزيع عادل للحقوق. فما لم يكن هناك اشباع للحاجات الإنسانية الأساسية في الغذاء والسكن والتملك، لا نمتلك تبريراً لقطع يد السارق المحتاج، وما لم يفرض النظام الأخلاقي الإسلامي على المجتمع والقاضي بحرمة تناول المحرمات وحرمة التهتك، فلا نملك تبريراً لجلد شارب الخمر أو جلد المنحرف. فالقضية الجزائية مرتبطة بشكل لا يقبل الشك بالقضيتين الحقوقية والإجرائية القانونية. والولاية العأمة في تعيين الحقوق وفرض الواجبات وتحديد العقوبات غير قابلة للانفكاك ولا التفكيك بل إن تفكيك الأحكام الإسلامية، وإعطاء الفقيه حق إقامة الحدود دون تعيين الحقوق وفرض الواجبات سيلحق بالأفراد ظلماً لا يمكن تصوره.
2ـ نظرية الولاية المحدودة للفقيه
ومن رواد هذه النظرية الشيخ مرتضى الأنصاري (ت 1281هـ)، والشيخ النائيني (ت 1355هـ) وهذه النظرية تثبت أن ولاية الفقيه تنحصر في الأمور الحسبية بعنوان كونها القدر المتيقن من التكليف، لا ثبوت خصوص ولايته على تلك الأمور الحسبية. قال الشيخ الأنصاري (قده) بعد ان ذكر المناصب الثلاثة للفقيه: الافتاء، والقضاء، والتصرف في الأموال والأنفس ان الولاية تتصور على وجهين الأول: استقلال الولي بالتصرف. الثاني: اعتبار اذنه في تصرف الغير. فيكون نظره على الأول سبباً وعلى الثاني شرطاً. وتفصيل الوجه الثاني وهو اعتبار الاذن في التصرف، يتم على ثلاث نواحي:
الاول: أن يكون على وجه الإستنابة كوكيل الحاكم.
الثاني: أن يكون على وجه التفويض والتولية كمتولي الأوقاف من قبل الحاكم.
الثالث: أن يكون على وجه الرضا كاذن الحاكم لغيره في الصلاة على ميت لا ولي له.
وبعد أن يسرد الشيخ الأنصاري أدلة ثبوت الولاية للنبي (ص) والأئمة (ع)، يقول بصدد نفي ولاية الفقيه: اما الولاية على الوجه الأول اعني استقلاله في التصرف فلم يثبت بعموم، عدا ما يتخيل من اخبار واردة في شأن العلماء مثل: ان العلماء ورثة الأنبياء... ونحوها. لكن ملاحظة سياقها تقتضي الجزم في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية، لا كونهم كالنبي والإمام في الولاية على الناس، فلو طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلف، فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعاً... هذا مع انه لو فرض العموم في الاخبار المذكورة وجب حملها على إرادة الجهة المعهودة المتعارفة من وظيفته (ص) من حيث كونه رسولاً مبلغاً، وإلا لزم تخصيص أكثر أفراد العام لعدم سلطنة الفقيه على أموال الناس وانفسهم إلا في موارد قليلة بالنسبة إلى موارد سلطنته. وبالجملة فإقامة الدليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام إلا ما خرج بالدليل، دونه خرط القتاد.
بقي الكلام في دلالته على الوجه الثاني، أي توقف تصرف الغير على إذنه فيما كان متوقفاً على إذن الإمام، فهو ان كل معروف علِمَ من حال الشارع إرادة وجوده ولا يرضى باهماله أو تعطيله. فإن علِمَ انه من وظيفة شخص خاص كنظر الأب في مال ولده الصغير، أو صنف خاص كالافتاء والقضاء للفقيه، أو كل من يقدر على القيام به كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا إشكال في شيء من ذلك. وان لم يعلم واُحتمِلَ كونه مشروطاً في وجوده أو وجوبه بنظر الفقيه وجب الرجوع فيه إليه.
ثم ان علِمَ الفقيه من الأدلة جواز توليه، لعدم اناطته بنظر الإمام المعصوم أو نائبه الخاص، تولاه مباشرة أو استنابة ان كان مما يقبل الاستنابة وإلا عطله. فإن كونه معروفاً لا ينافي اناطته بنظر الإمام (ع). والحرمان عنه عند فقده كساير البركات التي حرمناها بغيبته ـ عجل الله تعالى فرجه ـ ومرجع هذا إلى الشك في كون المطلوب مطلق وجوده أو وجوده من موجد خاص.
ثم بعد ان ذكر الروايات الخاصة بوجوب الرجوع إلى الفقيه في الأمور المذكورة، قال: فقد ظهر مما ذكرنا ان ما دل عليه هذه الأدلة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي تكون مشروعة إيجادها في الخارج مفروغاً عنها، بحيث لو فرض عدم الفقيه كان على الناس القيام بها كفاية. واما ما يشك في مشروعيته كالحدود لغير الإمام وتزويج الصغيرة لغير الأب أو الجد وولاية المعاملة على مال الغائب، فلا يثبت من تلك الأدلة مشروعيتها للفقيه.
أما الشيخ النائيني، فقد قال: لا شبهة في ان للحاكم الذي هو الفقيه الجامع للشرائط، التصرف في أموال القصر. إنما الكلام في أن جواز تصرفه هل هو من جهة الولاية العأمة، أم لكون هذا التصرف من شؤون القضاء الثابت له بلا خلاف.
قال: لا إشكال في ثبوت منصب القضاء والافتاء للفقيه في عصر الغيبة، وكذا ما يكون من توابع القضاء كالتصرف في الأمور الحسبية. إنما الإشكال في ثبوت الولاية العأمة، واظهر مصاديقها سد الثغور، ونظم البلاد، والجهاد والدفاع، ونحو ذلك. واستدلوا لثبوتها بالأخبار الواردة في شأن العلماء وبالتوقيع الشريف وبمقبولة عمر بن حنظلة وبالمشهورة وبروايتي أبي خديجة، ولكنك خبير بعدم دلالتها على المدعى. اما ما ورد في شأن العلماء، فلأن غاية دلالتها إنما هي على كون الفقهاء بمنزلة الأنبياء في تبليغ الأحكام، كما هو شأن أغلب الأنبياء، فإنهم كانوا مبلغين. وقل من كان منهم والياً وسلطاناً كداود وسليمان (ع). هذا ان لم نقل بأن المراد من العلماء في هذه الأخبار، هم الأئمة المعصومون (ع) ومن المحتمل القريب ارادتهم دون سائر العلماء.
وأما التوقيع الشريف فغاية تقريبه للمدعى ما أفاده الشيخ من الوجوه الأربعة:
1 ـ ظهور الحوادث في مطلق الوقائع التي لابد من الرجوع فيها إلى الإمام بما يشمل الأحكام والسياسات وغيرها.
2 ـ إرجاع نفي الحوادث إلى رواة الأحاديث الذين هم الفقهاء، فتكون ظاهرة في الأمور العأمة لأحكامها حتى تكون ظاهرة في الافتاء والقضاء.
3 ـ التعليل بكونهم حجة من قبله (ع) كما هو حجة من قبل الله تعالى، فما كان له وكان قابلاً للتفويض فهو للفقهاء.
4 ـ ان مثل استحاق بن يعقوب أجل شأناً من أن يخفى عليه لزوم الرجوع في المسائل الشرعية إلى الفقهاء، فلابد ان المقصود الرجوع في الأمور العأمة، إذ يحتمل أن الإمام قد جعل شخصاً خاصاً للرجوع إليه في هكذا أمور، فجاز السؤال عن ذلك.
قال: وكل هذه الوجوه مخدوشة.
أما الأول: فلأن السؤال غير معلوم. فلعل المراد من الحوادث هي حوادث كانت معهودة بينه وبين الإمام.
وأما الثاني: فلأن أدنى مناسبة بين نفس الحوادث وأحكامها كافية للسؤال عن حكمها، فيكون الفقيه مرجعاً في الأحكام لا في نفس الحوادث.
وأما الثالث: فلأن الحجة تناسب المبلغية في الأحكام فقط، كما في قوله تعالى: {قل فلله الحجة البالغة...} وقوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه...}.
وأما الرابع: فجلالة شأن اسحاق لا تتنافى مع سؤاله عن أمر أجلي.
قال: وأما روايتا أبي خديجة، فلاختصاصهما بمسألة القضاء. وأما المشهورة "السلطان ولي من لا ولي له" فلاختصاصها بالأمور الحسبية.
قال: نعم، لا بأس بالتمسك بالمقبولة، فإن صدرها ظاهر في ثبوت الولاية العأمة للفقيه، حيث جعل السائل القاضي مقابلاً للسلطان، والإمام (ع) قرره على ذلك. بل يدل عليها ذيلها ايضاً حيث قال: "فإني قد جعلته حاكماً" فإن الحكومة ظاهرة في الولاية العأمة، فإن الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف والسوط، وليس ذلك شأن القاضي. ثم استشكل في هذا الاستظهار أيضاً، بأن الحكم قد يطلق على القاضي في كثير من الأخبار والآيات. وأخيراً قال: وكيف كان فاثبات الولاية العأمة للفقيه، بحيث تتعين صلاة الجمعة بقيامه لها أو نصب أمام لها مشكل.
نقد نظرية الولاية المحدودة
1 ـ ان في تعبيرات هذه النظرية غموضاً ثبوتياً. فهي لم تلتفت إلى عدم رضا الشارع بتفويت المصالح المرتبطة بالموضوعات الخارجية الكبرى التي تخص الأمة زمن الغيبة. ولايشك ان حصر الولاية بالأمور الحسبية، والزعم بعدم شرعية إقامة الحدود زمن الغيبة يربك المصلحة العأمة ويدفع الأمة إلى الفساد وانتشار الفجور والطغيان بين الناس. وهو أمر لا يخفى على المتأملين في دراسة فساد الأوضاع الاجتماعية التي تعيشها الإنسانية المعذبة في كل عصر يبتعد فيه الأفراد عن الدين.
2 ـ ان إشكال الشيخ الأنصاري كان منحصراً في الخدشة في دلالة الأخبار على ولاية الفقيه على الأموال والأنفس. فقال بلزوم تخصيص الأكثر لو فرض لها عموم؛ لعدم سلطنة الفقيه على أموال الناس وانفسهم إلا في موارد قليلة كالولاية على الغيب والقصّر ونحوها.
ولاشك ان ما افترضه من لزوم تخصيص الأكثر على فرض ظهور الأخبار في عموم الولاية على الأموال، كان مبنيّاً على إرادة الولاية الاستقلالية، وهي الولاية التي تجوز تصرف الولي ونفوذه متى شاء في الأموال والأنفس بصورة مستقلة مطلقة ومن غير تقييد بشيء. بمعنى أن الولي في تلك الحالة على علم تام بالأمور الواقعية، فيكون تصرفه تابعاً لذلك العلم التام الذي لا يحصل إلا للمعصوم (ع).
ولكن المراد بالولاية هنا ليس العلم التام بالأمور الواقعية، بل تدبير أمور المسلمين وتنظيم البلاد وحفظ الثغور زمن الغيبة. وفي ذلك لا يلزم تخصيص الأكثر. إذ لو ثبت ظهور الأخبار في ولاية الفقيه وحكومته على المجتمع الإسلامي، فلا ريب من ولايته علىالنفوس والأموال إذا احتاج إلى التصرف فيها لضرورة أو لدفع ضرر أو لرفع حرج أو لتثبيت مصلحة اجتماعية من أي لون. ولا دليل على عدم ولايته في تلك الموارد حتى يلزم التخصيص.
3 ـ ان نفي الشيخين "الأنصاري والنائيني" فكرة اطاعة الفقيه زمن الغيبة لعدم إقامة الدليل عليه يرتبط بنظريتهما حول محدودية ولايته. ولكن إذا ثبتت ولاية الفقيه فيما يخص تدبير أمور المسلمين، فلا مفر من وجوب طاعته، وإلا فلا معنى للحديث عن الولاية الشرعية مطلقاً.
4 ـ اظهرت هذه النظرية تكلفاً وتأويلاً بعيداً عن اللغة العرفية، وذهبت بنا بعيداً عن وضوح الشريعة وارتكاز العقلاء.
3) نظرية الولاية المطلقة
وهي النظرية القائلة بولاية الفقيه الجامع للشرائط، من باب ثبوت النيابة له. بمعنى أن تكون له الإرادة والقدرة على إقأمة الحدود، وتنظيم الحقوق، وإدارة القضاء، بل عموم الولاية في إدارة المجتمع الإسلامي زمن غيبة الإمام المعصوم (ع). وقد استدلت هذه النظرية بالنصوص المتعاضدة الواردة بشأن "ولاية الفقيه" في عصر الغيبة، وهي:
1 ـ مقبولة "عمر بن حنظلة"، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان والى القضاء أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت... قلت: فكيف يصنعان؟ قال (ع): "ينظرنان من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله".
وانما عبر عن الرواية بالمقبولة لأن الأصحاب تلقوها بالقبول وعملوا بها واستندوا إليها في مسائل القضاء والافتاء. ومن نافلة القول ان نشير إلى أن الشهيد الثاني (ت 965هـ) قد ذكر في "مسالك الأفهام" بان الفقهاء استندوا في مسألة جواز اجراء الحدود للفقيه إلى رواية حفص. إلا انه ضعف تلك الرواية وأيد مسألة جواز اجراء الحدود للفقيه برواية عمر بن حنظلة.
وكان الجدل المثار حول الرواية منصباً حول توثيق "عمر بن حنظلة". لأنه لم يوثق في كتب التراجم بالخصوص. إلا ان الحق إن إعتناء الفقهاء المتقدمين بروايات "عمر بن حنظلة" يزيل كل تلك الشكوك حول وثاقته. فقد روى عنه زرارة بن أعين، وعبد الله بن بكير، وصفوان بن يحيى، وعلي بن رئاب، ومنصور بن حازم وغيرهم من ثقات الطائفة. هذا من ناحية السند.
اما من ناحية الدلالة، فإن قوله (ع): "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" بيان كبرى كلية حول منصب الولاية واختصاصها بالفقيه الكفوء. يضاف إلى ذلك ان الإمام (ع) بين بشكل لا يقبل أي تأويل نفوذ حكم الفقيه الجامع للشرائط ووجوب طاعته. وإرادة التعميم بالحكم بدلاً من القضاء، مع تصريح السائل، يدل على عموم ولاية الفقيه وعدم انحصارها بالقضاء فقط.
2 ـ صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم عن الإمام الصادق (ع) قال: "إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضياً، فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه"، وروي في "الكافي" بنفس التعبير. وفي كتاب "الوسائل": "يعلم شيئاً من قضايانا". والحديث من حيث السند صحيح ولا غمز فيه. إلا أن الدلالة هنا مقتصرة على ولاية القضاء.
ولكن ولاية القضاء لا تتم بشكلها الشرعي ما لم يكن الحكم السياسي شرعياً. فالتلازم بين القضاء العادل والحكومة الشرعية محكم وغير قابل للتفكيك. ولعلنا نستفيد من ظاهر قوله (ع) في صحيحة أبي خديجة: "فإني قد جعلته عليكم قاضياً" وقوله في مقبولة عمر بن حنظلة: "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" ما يؤيد التلازم بين القضاء والحكومة.
أما الادعاء بأن منصب القضاء هو شيء آخر غير أمر الولاية لأنها خارجة عن مفهوم القضاء، ففيه تكلف. باعتباران القضاء هو جزء من الولاية. والمتعارف اليوم أن السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية غالباً ما تشرف عليها وتنسق فيما بينها جهة متمثلة بمشرف عام يرجع إليه أو لجنة مشرفة يرجع إليها، على الصعيد النظري على الأقل.
3 ـ التوقيع الذي أورده الشيخ الطوسي في كتاب "الغيبة": أخبرني جماعة، عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن اسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري ـ رحمه الله ـ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل اشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الأمر وفيها: "...وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وانا حجة الله عليهم..." وقد ذكرنا سابقا أن سند هذا الحديث صحيح.
أما من حيث الدلالة، فنضيف إلى ما قلناه، من أن فيها طرفين:
الأول: ان المقصود من "رواة الحديث" لا يخص مجرد النقل والرواية، بل الرواية والدراية. بمعنى ان المقصود من الرواة، الأفراد القادرين على فهم معاريض النصوص الشرعية، والقادرين أيضاً على رد الفروع إلى الأصول، وهم الفقهاء دون شك.
والثاني: ان المقصود من "الحوادث الواقعة" متغيرات الزمان والمكان، بمقتضى إفادة الجمع المحلى باللام للعموم الوضعي. إذ لا وجه لإختصاص هذا اللفظ بالمسائل الفرعية. قال الشيخ الأنصاري (قده): "والحاصل ان لفظ (الحوادث) ليس مختصاً بما اشتبه حكمه (الافتاء) ولا بالمنازعات (القضاء) بل الأعم منهما".
وأشد المتمسكين بهذه النظرية من الفقهاء أربعة من الأجلاء، هم: المحقق النراقي (ت 1247هـ)، والمير فتاح الحسيني المراغي (ت 1250هـ)، والشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر (ت 1266هـ)، والإمام الخميني (ت 1409هـ). وسوف نستعرض بعضاً من آرائهم:
1 ـ قال المحقق النراقي بصدد بيان وظيفة الفقهاء في عصر الغيبة: ان كلية ما للفقيه توليه وله الولاية فيه، أمران:
أحدهما: كل ما كان للنبي والأئمة ـ الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام ـ فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضاً كذلك، إلا ما أخرجه الدليل.
وثانيهما: ان كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولابد من الإتيان به ولا مفر منه إما عقلاً أو عادة ـ من جهة توقف أمور المعاد والمعاش لواحد أو جماعة عليه، وانتظام أمور الدين أو الدنيا به ـ أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو اجماع أو نفي ضرر أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم أو دليل آخر، أو ورود الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لمعين واحد أو جماعة ولا لغير معين، بل علم لابدية الإتيان به أو الإذن فيه ولم يعلم المأمور ولا المأذون، فهو وظيفة الفقيه وله التصرف فيه والإتيان به.
أما الأول: فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع، حيث نص به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات، ما صرحت به الأخبار المتقدمة من كونه وارث الأنبياء، وامين الرسل، وخليفة الرسل، وحصن الإسلام، ومثل الأنبياء وبمنزلتهم، والحاكم، والقاضي، والحجة من قبلهم، وانه المرجع في جميع الحوادث، وان على يده مجاري الامور والأحكام، وانه الكافل لايتامهم، الذي يراد بهم الرعية... ولا يضر ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب وانضمام بعضها ببعض وورود أكثرها في الكتب المعتبرة.
وأما الثاني [وهو ان كل ما علم من الشارع لزوم القيام به وعدم جواز اهماله هو وظيفة الفقيه] فيدل عليه بعد الاجماع أيضاً أمران:
أحدهما: أنه مما لاشك فيه أن كل أمر كان كذلك لابد أن ينصب الشارع الرؤوف الحكيم عليه والياً وقيماً ومتولياً. والمفروض عدم دليل على نصب معين أو غير معين أو جماعة غير الفقيه. وأما الفقيه فقد ورد في حقه ما ورد من الأوصاف الجميلة والمزايا الجليلة وهي كافية في دلالتها على كونه منصوباً.
وثانيهما: ان نقول بعد ثبوت جواز التولي منه وعدم امكان القول بانه يمكن ان لا يكون لهذا الأمر من يقيم له ولا متول له: ان كل من يمكن ان يكون ولياً ومتولياً لذلك الأمر ويحتمل ثبوت الولاية له، يدخل فيه الفقيه قطعاً، من المسلمين أو العدول أو الثقات ولا عكس. وأيضاً كل من يجوز أن يقال بولايته يتضمن الفقيه وليس القول بثبوت الولاية للفقيه متضمناً لثبوت ولاية الغير، لاسيما بعد كونه خير خلق الله بعد النبيين وافضلهم الأمين والخليفة والمرجع وبيده الأمور، فيكون جواز توليه وثبوت ولايته يقيناً والباقون مشكوك فيهم، ينفي ولايتهم وجواز تصرفهم النافذ بالأصل المقطوع به.
2 ـ وادعى المير فتاح الحسيني المراغي الإجماع على ولاية الفقيه على كل شيء، ولا دليل على ولاية غيره فيه، وبأن هذا الإجماع واضح لمن تتبع كلمات الأصحاب. وقال: بان نقل الإجماع على كون الحاكم ولياً، فيما لا دليل فيه على ولاية غيره، لعله مستفيض في كلامهم. ثم تمسك بالنصوص. وبكلمة، فقد صرح الحسيني المراغي بثبوت الولاية العأمة المطلقة للفقيه، بل ثبوت ما للإمام (ع)، من الولاية للفقيه أيضاً.
3 ـ وكان صاحب الجواهر ـ رضوان الله عليه ـ شديداً على الفقهاء الذين انكروا ولاية الفقيه العأمة، فقال: من الغريب توقف من توقف في هذه المسألة بعد وضوح دليله، الذي هو قول الصادق (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة: "انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا...". وفي مقبولة أبي خديجة: "فإني قد جعلته قاضياً...". والتوقيع الشريف: "فإنهم حجتي عليكم". وفي بعض النسخ "فإنهم خليفتي عليكم".
إما لأن إقأمة الحد من الحكم، فإن المراد من الحكم: إنفاذ ما حكم به، لا مجرد الحكم. ولظهور قوله (ع): "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" في إرادة الولاية العأمة على نحو المنصوب الخاص، إذا نصبه بهذه اللفظة في ناحية، حيث لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العأمة في جميع أمور المنصوب عليهم.
بل قوله (ع): "فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله" اشد ظهوراً في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكم، ومنها إقأمة الحدود. بل ما عن بعض الكتب خليفتي عليكم أشد ظهوراً، ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفاً، نحو قوله: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق...). أم لما سمعته من قول الصادق (ع) إقأمة الحدود إلى من إليه الحكم. جواباً لمن سأله: من يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟
كل ذلك مضافاً إلى التأييد بما دل على انهم ورثة الأنبياء وانهم كانبياء بني إسرائيل وانه لولاهم لما عرف الحق من الباطل. وبنحو قول أمير المؤمنين (ع): "اللهم إنك قلت لنبيك صلواتك عليه وآله فيها أخبر به: من عطل حداً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادتي" الظاهر في العموم لكل زمان. والإجماع بقسميه على عدم خطاب غيرهم بذلك، وعموم الأمر بجلد الزاني وقطع السارق ونحوها.
ولأن تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم وانشار المفاسد، ولأن المقتضي لإقامة الحد قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه بل إلى مستحقه أو نوع المكلفين، فلابد من إقامته مطلقاً. ولأن ثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع، على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام اجمع، بل يمكن دعوى مفروغيته بين الأصحاب، فإن كتبهم مملوءة بالرجوع إلى الحاكم، المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع.
بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بالشيعة معطلة. فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك. بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا تأمل المراد من قولهم: اني جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم ولذا جزم في كتاب "المراسم" بتفويضهم (ع) لهم في ذلك.
وأغرب من ذلك كله استدلال من حلت الوسوسة في قلبه، بعد حكم أساطين المذهب، بالأصل المقطوع.
4 ـ اما الإمام الخميني ـ رضوان الله عليه ـ فقد كان من أصرح الفقهاء في توضيح الملازمة بين حكومة الفقيه وعصر الغيبة، فقال: للفقيه العادل جميع ما للرسول (ص) والأئمة (ع) مما يرجع إلى الحكومة والسياسة. ولا يعقل الفرق، لأن الوالي ـ أي شخص كان ـ هو مجري أحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهية والآخذ للخراج وسائر الماليات والتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين.
قال (رض) في محاضرات "الحكومة الإسلامية": "وللاستدلال على ان الحكومة وسيلة وليست هدفاً نذكر ما قاله أمير المؤمنين (ع) في خطبة له خطبها في مسجد الرسول (ص) بعد بيعة الناس له: (اللهم إنك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك".
تقييم نظرية الولاية المطلقة
1 ـ ان القدر المتيقن من الولاية الشرعية للفقيه يتجاوز الأمور الحسبية. واشتراط الفقاهة والعدالة والأعلمية يتجاوز الجزئيات إلى كل ما يلي أمور المسلمين، خصوصاً خلال تغير الزمان والمكان وقضايا التغير الاجتماعي الذي نشهده ونلمسه باستمرار في حياتنا الاجتماعية. 2 ـ إن الأحكام الشرعية في الجهاد والقتال وتقديم المقامات لذلك، يفهم منها الاطلاق لكل زمان ومكان. ويكفي هذا الاطلاق لتشخيص الوظيفة على الصعيد التعبدي، على الأقل.
3 ـ ولاشك ان آراء فقهاء الإمامية المتقدمين كانت متضافرة أيضاً وأكثر وضوحاً في اقرار دور الفقيه النائب للإمام (ع) في تنفيذ الأحكام، وإقأمة الحدود والقضاء، والتصرف في أموال الغائبين والقاصرين. فقد ذهب الشيخ المفيد (ت 413هـ) إلى ولايته في زمن الغيبة من خلال إقأمة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وجهاد الكفار "أي الجهاد الابتدائي" وهذه الولاية يستحقها من كان واجداً لشرائطها بعنوان النيابة من قبل صاحب الأمر ـ عجل الله فرجه ـ وشرائط الولاية، في نظره، هو العلم بالاحكام، والعدالة وعدم التعدي عن حدود الإسلام. بينما جوز الشيخ الطوسي (ت 460هـ) "لفقهاء أهل الحق أن يجمعوا بالناس الصلوات كلها وصلاة الجمعة والعيدين ويخطبون الخطبتين...". وقال سلار (ت 463هـ) وأبو الصلاح الحلبي (ت 447هـ) نظير قول الشيخين: المفيد والطوسي.
وفي كتاب "السرائر" قال ابن ادريس (ت 589هـ) بتنفيذ الأحكام وإقأمة الحدود لمن تكاملت له شروط النيابة عن الإمام (ع) في الحكم من شيعته وهي العلم بالحق في الحكم المردود إليه، والتمكن من امضائه على وجهه، واجتماع العقل والرأي والحزم والتحصيل وسعة الحلم.
اما المحقق الحلي (ت 676هـ) فجوز إقأمة الحدود للفقهاء العارفين في زمن غيبة الإمام (ع)، واعطاهم حق الحكم بين الناس. وكان صاحب "جواهر الكلام" ـ على عادته ـ شمولياً في نظريه الفقهية، فقال: ان كتب الأصحاب مملوءة بالرجوع إلى الحاكم المراد به نائب الغيبة.
4 ـ وبملاحظة شروط تغير الزمان والمكان، وطبيعة الفهم الاجتماعي السائد في الاعصار السالفة، فإن ادراك الفقهاء لمسؤولية الفقيه في القضاء، والحدود، وتنفيذ الأحكام، وإقأمة الجمعة والعيدين، وولايته في الأمور الحسبية كلها تدل على فهم معين لولاية الفقيه في إدارة النظام الاجتماعي. وهذه المسؤوليات لو ربطت بعضها ببعض، استفيد منها عموم الولاية في كونهم ورثة الأنبياء، وفي الرجوع إليهم في الحوادث المتغيرة، وان مجاري الأمور بأيديهم ونحوها. وهذه الأفكار كانت بذوراً طيبة للنظرية الاجتماعية زمن غيبة الإمام المعصوم (ع).
البحث عن الدليل
إن الذي يدرك لحن الروايات وطعم الفقه ومذاق الشارع الحكيم في تشريع الرسالة الآلهية، يفهم ان الوصول إلى الدليل حول الولاية الشرعية زمن الغيبة ليس ميسوراً لكل وارد. بل انه يحتاج إلى دقة عقلية وشرعية فائقة. ولذلك فإننا سنرتب الأفكار التي تبحث عن الدليل ترتيباً منهجياً متسلسلاً، كما يلي:
1 ـ قال الراغب الاصفهاني (ت 425هـ) في "مفردات الفاظ القرآن" في مادة "ولي": الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما. ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد. والولاية النصرة. والولاية: تولي الأمر. وقيل: الوَلاية والوِلاية نحو: الدَلالة والدِلالة. وحقيقته: تولي الأمر. والولي والمولى يستعملون في ذلك. كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل. أي: الموالي. وفي معنى المفعول، أي: الموالى". وقال الجوهري (ت 400هـ) في "الصحاح": "الوِلاية بالكسر: السلطان. والوَلاية والوِلاية: النصرة. يقال: هم عَلَي ولاية، أي مجتمعون في النصرة".
والمعاني اللغوية للولاية لا تعكس المعنى الشرعية بوضوح. ولكننا استنتجنا من أدلة أخرى ان الولاية ـ بمعنى الأشراف على الإدارة الاجتماعية من قبل المعصوم (ع) أو الفقيه ـ هي حقيقة شرعية قدوردتنا من عالم الجعل. فالولاية الشرعية ليست لها بعد واحد كما هو الحال في المعنى اللغوي وهو اما بعد النصرة أو بعد السلطنة. بل ان للولاية الشرعية بعدان، الأول: التنصيب، من أجل الإدارة والاشراف. وهو يتطلب كفاءة ولياقة علمية أو غيبية بالإضافة إلى شروط العدالة والتقوى والطهارة من الذنوب التكوينية "كطهارة المولد" ومن الذنوب الاعتبارية "كارتكاب الاثم". والثاني: الاطاعة من قبل المكلفين اطاعة تأمة. والاطاعة أقوى رتبة من النصرة، لأن في الإطاعة إلزاماً دينياً حتمياً. وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين (ع): "أيها الناس إن لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق: فاما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلاً تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم".
ولاشك ان عدم التمييز بين المعنيين اللغوي والشرعي قد يسبب إرباكاً في اكتشاف الدليل.
2 ـ إن الرسالة الإسلامية، بأحكامها وتشريعاتها المختلفة، تعيش حالة من حالات الانسجام والتلازم وعدم التفكيك نطلق علهيا بـ"وحدة الاطار". فإقامة الحدود غير منفك عن إتمام إقأمة العدالة الاجتماعية بين الأفراد ونشر الفضيلة والأخلاق في أركان المجتمع. والعدالة في القضاء لا تتحقق ما لم يمتلك القاضي علماً شرعياً وقواعد تعينه على اكتشاف الدليل للحكم بين المتخاصمين. والقضايا التعبدية لا يستقيم مدارها ما لم يتحقق الأمان العام على الأموال والنفوس والأعراض. وانتظام الاجتماع الإسلامي لا يتم بدون قائد يدير الأمور الاجتماعية ويشرف على تنظيمها. وهذا التلازم بين الأحكام الشرعية والعقائدية والأخلاقية مصمم بفضيلة "وحدة الإطار" الذي تتمتع به الشريعة الدينية.
ولاشك إنا نلمس إطلاق الأدلة على وجوب إقأمة الحدود والتعزيرات، والقضاء، وأخذ الحقوق وتوزيعها، ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، والدفاع عن حياض الإسلام. وعدم وجود دليل على تفكيك تلك الأحكام أو توقف ذلك على زمن النص أو حضور المعصوم (ع) يعني أن تطبيق الإسلام من قبل المكلفين يمتد إلى يوم القيأمة. ولكن تنفيذ تلك الأحكام يحتاج إلى مدير مجتهد لإدارة المجتمع على ضوء الشريعة، وأحكام الدين.
والدليل العقلي هذا يكشف لنا الدليل الشرعي الذي صرح بالقول... {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض...}، {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، {ما كان لهم الخيرة}، {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، {إن الحكم إلا لله...} ونحوها.
3 ـ ان عمومات الآية القرآنية التالية شاملة لجميع المكلفين بما فيهم الأنبياء والأوصياء (ع)، بان يحكموا بما انزل الله تعالى من أحكام: {... ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون... وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جائك من الحق... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً... أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}.
ودلالة هذه الآية الشريفة هو وجوب تطبيق أهل الانجيل بما أنزل الله تعالى من أحكام، ووجوب حكم رسول الله (ص) أيضاً بما أنزل الله عليه من أحكام. ولاشك أن المراد بإيتاء الحكم هو تشريع الأحكام في عالم الجعل، وجعلها تحت تصرفه (ص) كي تكون ملاك عمله وحكمه (ص). ولكن الأصل هو أن يحكم (ص) المكلفين بما أنزل الله تعالى، فلا يبقى ريب أن زمن الغيبة يفتح الباب للفقيه كي يرشد الناس إلى الأحكام الالهية ويساهم في تنفيذها. وهذه الية واردة في رسول الله (ص). وإنما يستفاد جريان الحكم في الأئمة المعصومين (ع) ومن بعدهم فقهاء أهل البيت من الأخبار فيما يتعلق بالولاية ووجوب الطاعة والتبعية لهم. ومن ذلك صحيحة فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: "إن الله ـ عز وجل ـ ادب نبيه فاحسن أدبه. فلما أكمل له الأدب قال: {وانك لعلى خلق عظيم}، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده فقال عز وجل: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فإنتهوا}".
ومنها رواية عبد العزيز بن مسلم عن الإمام الرضا (ع): "بالامام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والاطراف. الامام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة".
ومنها قوله (ع): "وان العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح له صدره لذلك، واودع قلبه ينابيع الحكمة والهمه العلم إلهاماً، فلم يعِ بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب. فهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد آمن من الخطايا والزلل والعثار. يخصه الله بذلك ليكون حجة على عباده وشاهده على خلقه. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
4 ـ ان اهمال البحث عن الولاية الشرعية للفقيه في الأوساط الفقهية قد يرجع في بعض جوانبه إلى اختلاف مباني الدولة القديمة عن الدولة الحديثة. فنشوء الدولة الحديثة في القرون الأخيرة من عمر الإنسانية كان قد أوجد حاجات جديدة لم تكن من مباني الدولة القديمة. فالتعليم الإلزامي، والتطبيب الواسع النطاق، والإدارة الاجتماعية المعقدة، والنظام الحديث للآلة لم يكن من مباني الدولة القديمة. بينما كانت الدولة القديمة تعيش على الزراعة وعلى شكل بسيط من الصناعة وطرق أولية في النقل. ولم تكن التجمعات السكانية في المدن بهذا التعقيد. وتلك الفجوة بين مباني الدولتين القديمة والحديثة تركت آثارها على الفقه. فولاية الفقيه بالنسبة لعصر الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري تختلف من حيث المصاديق عنها في عصر القرن الخامس عشر الهجري. فإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، والقضاء، والتصرف في أموال الغائبين والقاصرين من أهم ولايات الفقيه في القرن الخامس الهجري. ولكن ولاية الفقيه اتخذت شكلاً آخر اليوم في قضايا الاقتصاد والاجتماع والزراعة والصناعة والنقل والدفاع والقضاء ونحوها. وهي بضميمة الثوابت في الأحكام والمواضيع تحتاج إلى انفتاح واسع على حاجات الأفراد وفهم متطلبات حياتهم الإنسانية.
5 ـ لا نستطيع استخدام أصالة البراءة هنا، لأن أصول المعاملات غير أصول العبادات. فإذا زعم أنه عند قيام الشك بشرعية ولاية الفقيه، فلابد من التمسك بالبرائة. ومع جريان اصالة البرائة إذن لا نحتاج إلى ولايته. هذا الرأي لا يمكن الأخذ به. لأن ذلك الأصل منتف بانتفاء الموضوع. فإننا لو طبقنا أصالة البرائة على المشاكل الاجتماعية لانحسر الإسلام عن المجتمع وعن نظامه السياسي.
6 ـ ان اصطلاحات مثل "الأعلمية المطلقة" و"الأعلمية الاضافية" و"المرجعية" لم يشر إلى اعتبارها في الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت (ع). ولو كانت موجودة في الروايات لوصلت إلينا يداً بيد، ولكنها غير موجودة. ولكن المتأخرين من الفقهاء استخدموها بسبب طرو حاجة ماسة أوجدها التغير الاجتماعي وتعقد الحياة الاجتماعية. فافرزت فكرة "وحدة الاطار" ومبدأ "عدم تفكيك التكاليف الدينية" آراءً حول ضرورة الرجوع إلى الفقيه الأعلم في زمن الغيبة لإدارة الأفراد في مجتمع المسلمين لا في دولة إسلامية. لأن إدارة الدولة الإسلامية يحتاج إلى فهم شامل لقضايا الحقوق والواجبات الخاصة بالفرد والجماعة، وهي مسؤولية أثقل من مسؤولية الفقيه المختص بالعبادات وجزء يسير من المعاملات. وهذا يفسر القول بعدم بسط يد الفقيه في العصور التي سبقت عصر الثورة الإسلامية في إيران سنة 1399هـ 1979م.
واصطلاح "الأعلمية" ورد في بحوث "الاجتهاد والتقليد" من زاوية الرجوع إلى الأعلم. وهو مستمد من عملية عقلية تفصح عن رجوع الجاهل إلى العالم في أغلب شؤون الحياة ولا تقتصر على جانب معين.
واصطلاح "المرجعية" ورد في بحوث المتأخرين من الفقهاء، كان قد فرضته فكرة "وحدة الاطار" في سبيل اصلاح النظم الاجتماعية لشيعة أهل البيت (ع) والرجوع إلى قائد علمي لديه الولاية الدينية الشرعية من أجل تنظيم أمورهم في غياب المرجعية السياسية. ودليله {... فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.
وتلك الصفات إذا اضيفت إلى الولاية الشرعية للفقيه، بضميمة الشروط الأخرى، فلاشك انها تضفي على منصب الولاية بعداً عقلياً بالاضافة إلى بعدها الشرعي. وعلى أي حال، فإنها تبقى صفات متممة ومكملة للقائد الديني زمن الغيبة.
7 ـ ان القدر المتيقن من الولاية زمن الغيبة يشمل مساحة الإدارة الاجتماعية للفقيه. وهذا واضح لمن ذاق طعم الفقه وأدرك لحن الروايات. فالأمور الاجتماعية وإدارتها ترجع إلى الفقيه الجامع للشرائط، لأنه القدر المتيقن ممن يحتمل أن تكون له الولاية. فمن غير الحتمل أن يرخص الشارع لغير الفقيه بإدارة المجتمع بما فيه من أموال ونفوس وأعراض. ومن غير المحتمل أن يهمل جانب الإدارة الاجتماعية فيؤول الأمر إلى الفساد وانتهاك أصالة وجود الدين في حياة الإنسان.
8 ـ استلهام كليات الولاية الشرعية من عهدي رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) باعتبار أنهما كانا مبسوطي اليد وقاما بإدارة الدولة والإشراف على شؤون النظام الاجتماعي بشكل شامل. ومن تلك الكليات نعرض نموذجاً:
أ) في معاني الولاية قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار وهو يخصف نعله. فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها! فقال (ع): والله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً. ودلالتها إن الولاية مرآة المسؤولية الشرعية في إقأمة الحق ودفع الباطل، ولكنها ليست إمرة تسلط وعدم انصاف.
ب) في توزيع الثروة الاجتماعية عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "فمن آتاه الله مالاً فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسير والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب، وابتغاء الثواب. فإن فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل الآخرة إن شاء الله". ويقول الإمام (ع) في خطبة له تشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد: "أما بعد، فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات المطر إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان، فإن رأى أحدكم لأخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس فلا تكونن له فتنة... وإن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام...". وتشتمل نفس الخطبة على تأديب الأغنياء بالشفقة، فيقول (ع): "ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه ولا ينقصه إن أهلكه...". ودلالتها حسن توزيع الثروة الاجتماعية بين الأفراد، وعدم ادانة الغني في المجتمع إذا كان الغني قد اكتسب بطريق مشروع.
ج) في الحقوق والواجبات عنه (ع): "... فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس". وعنه (ع) أيضاً: "أيها الناس إن لي عليكم حقا، ولكم عليّ حق: فاما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم". ودلالتها ان الولاية تقتضي حسن التدبير من قبل الوالي، وحسن الطاعة من قبل المكلف.
ولكن تلك الكليات العظيمة لا تستطيع فعل فعلها، ما لم توضع في مواضعها الصحيحة التي تتناسب مع روح الاطار والموضوع الذي جاءت من أجله. ولا يمكن تصور إدارة اجتماعية لمجتمع ديني دون ولي حكيم يستمد من مباني الشريعة الأحكام والقوانين التي يسنها لتنظيم شؤون الناس. ثانياً: الإمكان الفلسفي
يتضمن الإمكان الفلسفي شروطاً لقيام الدولة، ومواصفات لشخصية الفقيه، والسلطة التي يتمتع بها. ولاشك أن الولاية الشرعية تعبر عن سيادة الدولة الدينية على تمام أراضيها بما يحفظ أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم.
الدولة
وهي إن كانت اصطلاحاً دينياً أو علمانياً، فإنها تعبر عن المؤسسة السياسية وشبكاتها المتجسدة بالعلاقات السياسية. فـ"العلاقات" هنا هي المفتاح في فهم موضوع الدولة؛ بمعنى أن الدولة تنظم شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم من جهة، وبين المحكومين أنفسهم من جهة أخرى. ففي المجتمع الزراعي يرتبط الفلاح العامل على ارضه بعلاقة ما بمالك تلك الأرض. وفي المجتمع الصناعي يرتبط العامل الصناعي بعلاقة ما بصاحب الرأسمال. وفي المجتمع المدني يرتبط المواطن بعلاقة ما بالمدير الذي يتولى إدارة تلك المنطقة الإدارية. وتلك العلاقة بمجملها يفترض أن تنظم قضايا الحقوق والواجبات في المجتمع.
ومنذ بزوغ شمس الرسالة الإسلامية بدأ التأثير الروحي والاجتماعي على الأفكار السياسية واضحاً. فقد أنشأ رسول الرحمة (ص) أول دولة دينية سماوية قامت على أساس الوحي والأحكام الشرعية. وكان الأمر في عهد أمير المؤمنين (ع) متطابقاً من حيث المحتوى والهدف مع دولة رسول الله (ص). فقد كان اهداف السلطة السياسية العأمة للدولة الدينية تعلن عن صورة كاملة للحقوق والواجبات التعبدية والاجتماعية. وكان قائد الدولة من نبي أو إمام معصوم متفرغاً للادارة الاجتماعية وكان مؤكلاً لتنظيم تلك الحقوق والواجبات، من أجل تعبيد المكلفين للخالق عز وجل.
وهذا المفهوم الديني للدولة يختلف عن مفهوم النظام الملكي، حيث يزعم الأخير، زوراً، بأن الأمة لها القابلية والاستعداد على منح الملك حقوقاً سلطوية إضافية. وتلك الحقوق الإضافية الممنوحة من قبل الأمة تخول الملك صلاحيات الملك والسلطة. وهذا الزعيم يحتاج إلى الكثير من التبرير والتوضيح. لأننا لم نلحظ في حياتنا أن أمة قد منحت ـ باختيارها ـ المَلِك صلاحيات السلطة والسياسة عليها.
شخصية الدولة وشخصية الفقيه
ولو آمنا أن الإدارة الاجتماعية زمن غيبة المعصوم (ع) هي للفقيه المجتهد، فلابد ان نفهم طبيعة العلاقة السياسة بين الفقيه والإنسان الذي يعيش على أرض الدولة الدينية. فكيف تصاغ تلك العلاقة، على ضوء حقوق الدين والمواطنة؟ فمن حق الفقيه الولي أن يعاقب الجناة ويقتص منهم، ويحكم بين المتخاصمين، ومن واجبه أن يشيع الأخلاق والفضائل بين الناس، وينظم شؤون المؤسسات الاجتماعية كالأسرة والسوق والمدرسة وثكنة الجيش والمستشفى ونحوها. ولكن ما هو الخط الفاصل بين الولاية الشرعية والدولة الحديثة؟ لاشك أن الولاية الشرعية تعني تحديد سياسة المؤسسات الاجتماعية التي نطلق عليها بـ"سياسة الدولة". فعندما نقول أن الدولة الشرعية قررت إنشاء المدارس لتعليم الأطفال نعني بذلك ان الفقيه المدبر قد استنبط حكماً شرعياً بحلية انشاء المدارس على أقل تقدير، أو بوجوب تعليم القاصرين. فاصبحت نظرية الفقيه في التعليم سياسة للدولة تنفق عليها بما يقتضي تحقيق أهدافها في نشر المعرفة بين الناس. ولكن هل هذا يعني أن فقيهاً واحداً، نعتبره ولياً، قد عكس تصرف كل الفقهاء؟ والجواب على ذلك يتم من وجهين:
الأول: ان وحدة الولاية تعني وحدة التمثيل الفقهي لكن لا تعني وحدة المدارس الفقهية المختلفة. بمعنى أن كل ما يعنينا هو وحدة التمثيل الفقهي في الإدارة الاجتماعية. وبتعبير ثالث ان الولاية الشرعية لا يمكن تجزئتها بين عدة فقهاء، بل لابد من فقيه واحد كفوء يتصدى لقيادة الأمة. وهذا هو ما نفهمه من "وحدة التمثيل الفقهي". فالفقيه الولي يدرك مغزى الدليل الشرعي، وفي ضوء استنباطه لمسائل الإدارة الاجتماعية ومن وحي اجتهاده، يتصرف لإبراز الحكم الشرعي بما هو حكم إلزامي لجميع المكلفين. أما قضية توحيد المدارس الفقهية في رأي واحد فهذا من موارد الإستحالة العقلية لاختلاف الآراء والادراكات واختلاف الظروف التي صدرت فيها تلك الفتاوى والآراء الفقهية.
الثاني: ان مهمة الفقيه الولي تكمن في صياغة العلاقات الشرعية بين الأفراد ضمن ضوابط دينية. فإذا كان قادراً على صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكان قادراً على الربط بين الحقوق والواجبات، وكان قادراً على تشخيص علاقة المكلف بربه فإنه قد حقق مهمة الدين في الحياة الإنسانية. وهذا هو تفسير الفقهاء القائلون بامتداد ولاية النبي (ص) والإمام (ع) إلى الفقيه الجامع للشرائط. فإن المهمة الأساسية للتبليغ وإقامة الدين هو صياغة تلك العلاقات الشرعية بين الأفراد، والفرق بين وظيفة المعصوم ووظيفة غير المعصوم في هذا النطاق هو في الدرجة لا في الرتبة. لأن إقأمة الحدود، وتوزيع الثروة الاجتماعية، وأداء التكاليف تتم بوجود المعصوم (ع) أو الفقيه على حد سواء. ولكن تنحصر بعض الأحكام بحضور المعصوم (ع) كالجهاد الابتدائي ووجوب صلاة الجمعة والعيدين ونحوها. نعم إذا أخذنا الموضوع من زاوية العصمة وعدم العصمة أي من زاوية الواقع والظاهر، فإن الاختلاف يكمن في الرتبة. ولكننا نتحدث هنا عن تحقيق أهداف الدين في تعبيد الأفراد لله سبحانه وتعالى.
وبكلمة، فإن شخصية الدولة الدينية تكمن في شخصية الفقيه الولي ودرجته العلمية في الإدارة الاجتماعية والفقهية. فالولاية هنا تهتم بشؤون المكلفين باعتبارهم أعضاء في المجتمع، تماماً كما تهتم بالمؤسسات الاجتماعية باعتبارها آلات لخدمة الناس ـ مكلفين كانوا أو قاصرين ـ وتسهيل مهمة معيشتهم من أجل عبادة المولى عز وجل.
درجة الفقاهة ومقدار الولاية
وفي ضوء تلك الأفكار نتسائل: هل هناك رابط بين درجة الفقاهة ومقدار الولاية؟ أي هل هناك علاقة متوازية بين شخصية الفقيه ودرجة الإلزام الشرعي في الأحكام الولائية وغير الولائية؟
لاشك أن إدراك مباني الشريعة يحتاج إلى قدرة فائقة على الاستنباط الشرعي والعقلي. فكلما كانت قدرة الفقيه واسعة في الاستنباط كانت قدرته على إدراك مقاصد الشريعة أوسع وأكثر استيعاباً وشمولاً. والإلزام الشرعي بالأحكام من قبل المكلفين لا يولده الفقيه بقدر ما يولده الحكم الشرعي ذاته. فالأحكام الشرعية تخلق لدى المكلفين مسؤولية اخلاقية بضرورة الامتثال.
ولكن درجة الفقاهة المطلوبة للإدارة الاجتماعية متلازمة مع درجة الكفاءة التي يتمتع بها ولي الأمر في تسيير شؤون الأمة. فالولاية تضع منهجاً اجرائياً محكماً للإدارة. أو بتعبير آخر أن الولاية الكفوءة قادرة على ترجمة التشريع الديني إلى قوانين عملية تنظم الحقوق والواجبات، وتكافئ وتعاقب، وتصل وتقطع. فالكفاءة العلمية الفقهية الإدارية إذن هي الحد الأدنى الذي ينبغي أن يتحقق في شخصية الفقيه الولي. وإذا تحققت تلك الكفاءة اقترب الفقيه من الواقع الخارجي في إدراك الأحكام واستنباطها. أما درجة الإلزام عند المكلفين فهي قضية تعالج من طرق أخرى كالتعليم والتربية ونشر الوعي بينهم. فوظيفة الفقيه في حقل الولاية تعبر عن صورة كلية أو اطار شمولي لما يوصله علمه في الإدارة الاجتماعية، ولكن وظيفته في اسرته كأب أمر آخر متعلق بكفاءته الأسرية، ولا علاقة لها بوظيفته العلمية الاجتماعية. فقد يحابي ابنته على ابنه أو العكس، ولكن لا يستطيع فعل ذلك في حقل الولاية الاجتماعية. لأن الدليلين الشرعي والعقلي يغلقان أبواب المحاباة العاطفية لفرد دون آخر في المجتمع. أما المعصوم (ع) فوظيفته في كل الأحوال هي وظيفة الولاية والتبليغ وقد كان النبي (ص) {أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ولذلك فإنه (ص) إذا أكرم ابنته على زوجته، فإن ذلك التكريم يعني تكريماً إلهياً لا تكريماً أبوياً مجرداً. ومن هذا المنطلق نفهم مكانة أمير المؤمنين (ع) وفاطمة الزهراء (ع) من قلب رسول الله (ص)، بل نفهم مكانتهم في التشريع بشكل أعم.
ان فلسفة الدولة بالمعنى الحديث تستدعي خضوع كل مواطن يعيش على أرضها للقوانين والأحكام التي تحكمها. فالمواطنة على ارض الدولة تعني المشاركة الفعالة في رفد المجتمع بالعمل والرأي والانتاج، وغلى ذلك أشار أمير المؤمنين (ع) "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم". ومن أهم ثمار تلك المشاركة الفعالة هو إطاعة الدولة الشرعية اطاعة تأمة. واطاعة الدولة تعني بالدلالة التضمنية، اطاعة ولاية الأمر بفضيلة انطباق شخصية الدولة على شخصية الولاية.
ولاية افلاطون وولاية الفقيه
وإذا كان افلاطون قد نادى في كتابه "الجمهورية" بفكرة "الفيلسوف ـ الحاكم"، فإنه قد نادى ـ في الواقع ـ باستثمار الدليل العقلي في الإدارة الاجتماعية. فكان يحاول تجنيب المجتمع المثالي اسقاطات صراع المصالح المتضاربة بطريق "وحدة الرؤية العقلية" التي تنور عقل الفيلسوف وتمنع صراع المصالح. ولكننا نرى ان نظرية افلاطون قاصرة عن مجاراة النظرية الإمامية في الإدارة الاجتماعية. فالفقيه الولي يستطيع إدارة المجتمع عن طريق استثمار الدليلين الشرعي والعقلي. وهما أوسع وأكمل من الدليل العقلي المجرد الذي نادى به افلاطون. وهو دليل قد يخطئ وقد يصيب. بينما نحن نؤمن بأن الدليل الشرعي لا يخطئ أبداً لأنه صادر من مصدر الكمالات في الوجود وهو الله سبحانه وتعالى. وبذلك، فإن إدارة الفقيه الولي للمجتمع في كل زمان ومكان أفضل من إدارة الفيلسوف الحاكم للأسباب التالية:
1 ـ كمال الدليل الشرعي الذي يستخدمه الفقيه من أجل الإدارة الاجتماعية. فالحقوق والواجبات، والعقوبات والمكافئات على ضوء النظرية الدينية لا تحتاج إلى تعديل أو تغيير أو اعادة نظر لأنها وردت من قبل الحاكم المطلق وهو الخالق عز وجل.
2 ـ ان الدليل العقلي الذي يستخدمه الفقيه الولي يفوق الدليل العقلي الذي يستخدمه الفيلسوف الحاكم، لأن الدليل السابق كاشف عن الدليل الشرعي. فالعقل في الفقه يتحرك ضمن دائرة الشريعة، فلا يتجاوزها. بينما يتحرك العقل في حقل الفلسفة بما يناسب توجهات الفيلسوف وذوقه الشخصي في النظرة للحياة والواقع الخارجي.
3 ـ ان الدولة التي دعا لها افلاطون في كتابه المشهور "الجمهورية" هي دولة مثالية يحكمها الفيلسوف، بينما نلمس أن الدولة التي يدعو لها الدين هي دولة واقعية يحكمها الفقيه. ويكمن الفرق بين الفقهاهة والفلسفة في نكتة مهمة وهي أن الفقه تناول الجانب الواقعي من حياة الإنسان وعلاقته بربه وبابناء جلدته، بينما تناولت الفلسفة الجانب التحليلي الذهني حيث لا يمكن ضمان هداية طريقها في كل الأحوال.
4 ـ ان فكرة إطاعة الدولة من قبل المكلفين في النظرية الإسلامية تعد أكثر انسجاماً مع رسالة الدين من فكرة اطاعة الفيلسوف في الدولة الافلاطونية. فالفيلسوف قد يستطيع اقناع شريحة من الأفراد بالطاعة ولكنه لا يستطيع اقناع الكل. وإذا اتخذ العقوبة كبديل للاقناع، فما هو المبرر لإنزال تلك العقوبة بالمخالفين؟ ولكن فكرة الإلزام الشرعي في الرسالة الدينية مستمدة من فكرة مرضاة الخالق عز وجل. وفي ذلك ثواب اخروي يقنع الإنسان بالأداء. بينما لا يستطيع الفيلسوف أن يقدم أكثر من مبرر "حسن النظام" كمورد للطاعة. فنستخلص من ذلك أن اطاعة الفقيه الولي في دولة دينية هو أكثر انسجاماً مع إيمان الفرد من اطاعة الفيلسوف في دولة مثالية.
ولاية الفقيه والتعبير عن المشاعر
ان كليات ولاية الفقيه تنطبق على المجتمع إن كان مجتمعاً صغيراً يعرف فيه الناس نظائرهم وجهاً لوجه كالمجتمع الزراعي ومجتمع القرية أو المدينة الصغيرة، أو كان مجتمعاً كبيراً واسعاً كما هو الحال في مجتمعات المدينة الكبيرة اليوم. فالإدارة الاجتماعية الدينية أكثر تعقيداً للمجتمع المعاصر بالمقارنة مع المجتمعات البدائية. ولكن لو نظرنا إلى الحاجات الإنسانية التي تحتاج إلى إدارة، للزمنا القول بأن الحاجات الثابتة كالسكن والتزاوج والبيع والشراء أكثر من الحاجات المتغيرة كالتطبيب والتعليم ونحوها. والأصل في ذلك أن الكليات واحدة في الرتبة، والفروع متغيرة في الدرجات. لكن يبقى سؤال مهم يحتاج إلى بحث وهو: هل ان الولاية الشرعية للفقيه كافية لاشباع مشاعر الناس بحيث يستطيعوا التعبير عن الفضائل والامتيازات الإنسانية؟ والجواب على ذلك: نعم بالتأكيد. لأن الشعور بالحرية في المجتمع الديني وممارسة العبودية لله ـ سبحانه ـ يفتحان الطريق نحو الإبداع والصعود في السلم الأخلاقي نحو درجات الكمال. ولاشك أن الاشتراك مع الآخرين في العبودية المطلقة لله ـ عز وجل ـ ترفع المكلف من ضيق المصلحة الشخصية إلى افق المصلحة العأمة في التعاون والتعاضد، وبذلك يصبح الإنسان في المجتمع الديني إنساناً اخلاقياً يفكر بمصلحة المجموع قبل أن يفكر بمصلحته الخاصة.
ومن هنا كان الامتثال لولي الأمر معبراً عن الآثار الأخلاقية لنشاط المؤمن في طهارة الروح وقوة العقل. لأن الغرض في الامتثال هو عبادة الله ـ عز وجل ـ وفي ذلك نكتة مهمة وهي أن القوانين الصالحة تصلح شأن الإنسان، بينما تفسد القوانين الفاسدة شأن الإنسان والمحيط الموجود حوله. فإذا كانت القوانين تدعو إلى الخير والمحبة والعدالة والسلام. فإن النمط الحياتي للناس سيرفل بثوب المحبة والتعاون والاخاء الاجتماعي والإيثار ونبذ التنافس المحموم الذي يؤدي إلى صراع المصالح. وإذا كانت القوانين تدعو إلى الجور والقهر والحرب، فإن النمط الحياتي للناس سيتشح بالظلم والقطيعة وصراع المصالح. ومع هذا الوضوح العقلي لطبيعة المشاعر الإنسانية تجاه الولاية العادلة التي تفصل القوانين الصالحة عن القوانين الفاسدة، إلا أن الاتجاه العلماني الفلسفي لم يدرك لحد الآن قيمة تلك المشاعر.
فقد حاول افلاطون وجاك ـ روسوان ان يرفعا فكرة "الدولة" إلى مصاف التعبير عن الكمال الإنساني، ولذلك فقد اعتبر "صراع المصالح" من قبيل الحالة المرضية التي ينبغي القضاء عليها. لكن "صراع المصالح" كان حالة طبيعية في نظر ميكافيلي، وتومكاس هوبس، وجيرمي بنثام، لأن الدولة عندهم ما كانت إلا تعبيراً عن حالة تنظيم المنافسة الاقتصادية والاجتماعية بين الناس. وقد حاولت تلك الآراء ابعاد الدين عن دوره الحقيقي في الحياة الاجتماعية. ونحن نخالفهم في ذلك الاتجاه مائة في المائة، لأننا نؤمن بأن الإسلام يوفر أجواء عظيمة للانسجام الاجتماعي عبر تقليل المنافسة الاجتماعية على حطام الدنيا. وهو نفس الحطام الذي يدفع الأفراد نحو الصراع الاجتماعي. فالدين يدعو إلى الخير والابتعاد عن الشر. ودعوة كهذه، تحت ظل قيادة رشيدة كقيادة الفقيه الكفوء، تنشر الخير وتحسر الشر. فهي تدعو إلى تنافس مشروع في مجالات الخير، ولا يمكن وصف التنافس المشروع بصراع المصالح بل لابد من التعبير عنه بالمنافسة الأخلاقية الشريفة على الكسب المشروع.
والفقيه الولي، عبر ادراكه لحن الروايات ومذاق الشارع، يستطيع تغيير صورة الصراع الاجتماع وشروطه عبر توزيع الثروة الاجتماعية توزيعاً عادلاً، والغاء النظام الطبقي، واشباع الفقراء، والتذكير بالآخرة، والتذكير بمخافة الله ـ سبحانه ـ وهذا بمجمله يؤدي إلى انسجام المصالح وتناغمها بدل صراعها وتشابكها. وبهذه الصورة المتكاملة لادارة الدولة والمجتمع لا تصبح الدولة اطاراً للذنوب كما زعم أوغستين، ولا تصبح اطاراً لصراع الطبقات كما زعم كارل ماركس. بل تصبح دولة إيمان وجهد وعمل من أجل عبادة الخالق ـ عز وجل ـ كما يدعو لها الإسلام.
ويمكننا أن ننظر إلى المشاعر الإنسانية تحت ظل ولاية الفقيه من زاوية ثالثة، وهي: أن المجتمع المدني يحتاج إلى فقيه مدبر من أجل المحافظة على ا لحقوق التكوينية والاعتبارية للأفراد. وطالما كان العقل يحث الإنسان على الإيمان بالله سبحانه، فإنه يحثه أيضاًعلى إطاعة الموكول بإدارة تلك الدولة التي يعيش تحت لوائها. فالإنسان يستطيع العيش بسلام مع ضميره ونفسه اللوأمة وهو في دائرة الطاعة للفقيه الولي. لأن تلك الطاعة لا تنتهك طاعة المولى عز وجل، بل هي مقدمة موصلة لطاعة المولى سبحانه. وإذا تم ذلك فإن شروط الصراع الاجتماعي ستتغير، ويتحول ذلك الصراع إلى انسجام نفسي وروحي واجتماعي مع الآخرين، كما المحنا إلى ذلك آنفاً.
وبذلك تصبح نظرية "الأمان" التي تقدمها الدولة الشرعية على النفس والمال والعرض محور عمل الفقيه الولي. فإذا كان الإنسان هو محور عمل الدولة على ضوء قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر...}، فإن تحقيق "الأمان" على النفس والمال والعرض حتى يعبد الله تعالى هو محور عمل الفقيه الذي تثنى له وسادة الولاية الشرعية. وبذلك تصبح قوانين الملكية والعقود والعقوبات والضمان في خدمة الإنسان، لا أن يكون الإنسان عبداً خادماً للدولة، كما هو المعمول به في بعض المجتمعات. وفي النهاية، فإنه سيشعر بأنه إنما يقوم بوظيفته الاجتماعية لا من أجل خدمة غيره فقط، بل من أجل خدمة نفسه والآخرين أيضاً.
الفرق بين الولاية والسلطة
ان الولاية الفقهية تعني القدرة الشرعية التي يتمتع بها الفقيه في اجراء الحدود، وإقأمة العدالة القضائية، وتعيين الحقوق وفرض الواجبات. فسلطنة الفقيه لا تتم ما لم تكن لديه الولاية ـ لا مجرد التصرف ـ على الأموال والنفوس والأعراض. والولاية تختلف عن السلطة المجردة، لأن في الولاية عدلاً يطمح لتحقيقه بينما يظن أن في السلطة ظلماً يراد فرضه. والفرق بين الولاية الشرعية والسلطة المجردة كالفرق بين الإمام العادل وقاطع الطريق. والأفراد يذعنون لكليهما، ولكنهم يذعنون للأول بالاختيار ويذعنون للثاني بالإكراه. فالأفراد يذعنون بالاختيار إلى الولاية الشرعية، لأن سلطنة الفقيه عليهم سلطنة شرعية عادلة. ولكنهم يذعنون بالإكراه لسلطة قاطع الطريق ويسلمونه أموالهم، لأنه تسلط بقوة السيف. والفارق هنا بين الإذعان للولاية والإذعان لسلطة قاطع الطريق هو الفارق بين الولاية الشرعية العادلة والسلطة غير الشرعية للظالم.
ومن هنا نفهم أن ولاية الفقيه، على الصعيد الشرعي، تعني قدرته على التأثير على سلوك الآخرين، والمكلفين بالخصوص. ولكن ذلك التأثير تأثير على طريق الخير، ولذلك جاء الاختيار في الاذعان. على عكس المتسلط الذي يكره الآخرين على الإذعان لسلطته، فهو اذعان على طريق الشر. وبمعنى آخر، ان الولاية تستبطن لوناً من المسؤولية في رعاية الآخرين وضمان حقوقهم الشخصية والاجتماعية. وتستبطن أيضاً لوناً من السلطة الأخلاقية التي تستيطع اجراء الحدود وارجاع الحقوق وردع الباطل. بينما لا تستبطن السلطة المجردة إلا ابتزاز حقوق الناس وانتهاك حرماتهم.
وبالاجمال، فإن للولاية منشأ شرعي، بينما لا تمتلك السلطة المجردة ذلك. والقيد في السلطة الشرعية ان تكون نابعة من الولاية الممنوحة للفقيه في النصوص الشرعية. وفي ضوء هذه الأفكار نستطيع أن نقسم السلطات إلى ثلاث أنواع:
1 ـ الولاية الشرعية للمعصوم (ع). وتستبطن عدالة واقعية.
2 ـ الولاية الشرعية للفقيه. وتستبطن عدالة ظاهرية.
3 ـ السلطة المطلقة لغير الفقيه، ظالماً كان أو جاهلاً.
وإذا حذفنا سلطة غير الفقيه من القاموس الديني، باعتبار أنه لا يمكن الرجوع ـ في الإدارة الاجتماعية ـ إلى الجاهل بالأحكام الشرعية أو العقلية. فإن الخيار ينحصر في القسمين الأولين. ولكن العلاقة بالمعصوم (ع) لا تتحقق في كل الأحوال. فتكون الولاية الشرعية للفقيه، القدر المتيقن لتحقيق عدالة ظاهرية بين الأفراد في مجتمع الغيبة.
ومن الطبيعي، فإن سلطنة الفقيه على المكلفين أمر ممكن فلسفياً، لأنه يستطيع الجزم بانقيادهم له. فهو لا يستهلك طاقته بدفعهم نحو الامتثال، بل يصعب اهتمامه من أجل استثمار الصلاحيات الممنوحة له بحكم التشريع وتوظيفها بقصد تنظيم شؤونهم العبادية والحقوقية والفكرية. بمعنى أن الفقيه يصدر الأحكام والتعليمات الشرعية، بينما تقوم الأجهزة الإدارية التي يشرف عليها بتنمية دوافعالناس نحو الطاعة وأداء التكاليف الشرعية، اجتماعية كانت أو شخصية محضة.
ولأن الفقيه يستمد فتاواه وأحكامه من أحكام الشريعة، فإن ذلك يعتبر صمام أمان من التعدي عن الحدود التي رسمتها له الشريعة. أي لما كانت الشريعة تدعو إلى اصالة العدالة بين الناس، فإذن ذلك يمنع العالِم بأحكام الشريعة من أي استبداد بالسلطة لأن الاستبداد ينافي العدالة. وعلى أي تقدير، فإن الفقيه الذي يتولى أمر الأمة ويقودها، يكون له الحق في الإدارة الاجتماعية حتى لو انكرت اقلية من الناس ذلك. فقد أنكرت مجموعة من الأفراد التي دخلت الإسلام حديثاً، على رسول الله (ص)، بعضاً من ولايته. وأنكرت مجموعة أخرى على أمير المؤمنين (ع) بعضاً من ولايته وخرجت عنها. وقد ادان القرآن الكريم الفئة الأولى ووصمها بالنفاق، وأدان أمير المؤمنين (ع) الفئة الثانية وقاتلها لأنها خرجت عن الولاية الشرعية وسميت بالخوارج.
ومن كل ما ذكرناه نستنتج أن الولاية الشرعية تستطيع تحقيق أهدافها إذا توفرت لها ثلاث عوامل أساسية تنتشر على مساحة الأمة الإسلامية. وهي:
1 ـ السلطنة الشرعية للفقيه.
2 ـ الكفاءة العلمية والاجتماعية للفقيه.
3 ـ اذعان الأمة وتسليمها لولايته.
وهذه العوامل متشابكة إلى درجة كبيرة، بحيث ان أي خلل في مبانيها الفكرية يحدث خلل في الرابطة المحكمة بين الطاعة والأوامر الدينية.
ان أهم ما يتمتع به الفقيه من امتيازات الإدارة الاجتماعية، هو أن ولايته مسددة من قبل الدين؛ بمعنى أنه يحكم المجتمع، وفي ضميره راحة وطمأنينية بأنه يقوم بمسؤوليته الشرعية والعقلية على أتم نطاق. أما على نطاق المكلف المتدين، فإن الطاعة للسلطنة الشرعية للفقيه تعني تربية ذاتية لإطاعة الدين. وليس لأي فرد الحق في مخالفة الدولة الشرعية، لأنها دولة مبنية على الإلزام الديني والمسؤولية الشخصية أمام الله سبحانه وتعالى. وقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك بالقول: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
واذعان المكلف لسلطنة الفقيه المفكر خير من اذعانه لسلطة "العصبية" التي ادعاها ابن خلدون، أو خضوعه لسلطة "الأكثرية" التي زعمها "جون لوك"، أو خضوعه لسيادة الدولة التي ادعاها "توماس هوبز"، أو خضوعه لـ"الإرادة العأمة" التي ادعاها "جان جاك روسو". ففي ذلك الإذعان للعصبية، والأكثرية، والسيادة، والإرادة العأمة، خضوع للقوة لا للحكمة.بينما نلمس من اطاعة المكلف للفقيه إذعان للحكمة المستمدة من الحكمة الآلهية. لأن مبادئ الدين التي ترفض الإكراه والقسر، هي التي تحكم المكلفين في الإدارة الاجتماعية. أي أن الولاية الشرعية ـ بعد أن تتوضح مطالبها ـ لها تبرير أخلاقي يتمثل في حرمة الإكراه والقسر {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}. فالطاعة هنا تعني التحرك اخلاقياً لقبول أحكام الدين والاذعان لسلطنة الفقيه وولايته الشرعية.
الشخصية السياسية للفقيه
ان الشخصية السياسية للفقيه تتركب من أربعة أركان جوهرية، وهي:
الأولى: الدوافع التي تدفعه نحو تطبيق الإسلام والأحكام الشرعية في المجتمع. فالفقيه الذي يمتلك دوافع أقوى نحو تطبيق الإسلام، يتحرك بصورة أكثر فاعلية من نظيره الذي لا يمتلك تلك الدوافع نحو التطبيق.
الثانية: الدليل الشرعي الذي يلزمه بالإدارة الاجتماعية. وقد شرحنا ذلك آنفاً.
الثالثة: الدليل العقلي الذي يرشده إلى الأحكام الشرعية. فالفقيه الذي تتراكم في ذهنه كمية هائلة من المعلومات، يحاول تحليلها ذهنياً من أجل كشف الأحكام الشرعية المتعلقة بمواضيع الإدارة الاجتماعية.
الرابعة: الميل نحو ترجمة الفقه إلى قوانين شرعية في المجتمع. وما يترتب على ذلك من علاقات أخلاقية وسلوك مع الآخرين.
ومن الطبيعي فإن أهم ما يفترض أن يحمله الفقيه في الإدارة الاجتماعية هو التحمل والصبر على مشاق الإدارة. وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين(ع) في عهده إلى مالك الأشتر النخعي: "وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع. وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فإن مغبة ذلك محمودة...". بمعنى أن الشخصية السياسية للفقيه يفترض أن تتشكل من مزيج خاص من العواطف القوية والأفكار المحكمة، بحيث انها تصمد أمام الهزات الاجتماعية المتوالية لفترة مديدة من الزمن. وبكلمة، فإن الشخصية السياسية للفقيه يفترض أن تكون شخصية اجتماعية وعلمية نموذجية. بحيث ان الأمة تتوقع منه سلوكاً فقهياً واجتماعياً يعبر عن وظيفته الشرعية. فمن أجل ان نميز بين شخصية الإنسان ووظيفته الاجتماعية علينا أن نلحظ الفوارق عند إنسان يتصرف كأب في بيته وكمحاسب مالي في دائرته الحكومية مثلاً. فسلوكه كأب في أسرة سعيدة إنما يعبر عن شخصيته الفردية، أما وجوده في الدائرة الحكومية كمحاسب مالي فإنما يعبر عن وظيفته الاجتماعية. وكذلك الفقيه، فله شخصية سياسية وله وظيفة اجتماعية علمية. فشخصيته السياسية تعبير عن حكم المعرفة التي يمتلكها ومقدار العدالة التي يمارسها. ووظيفته الاجتماعية العلمية هو تعبير عن السلوك المتوقع ان يسلكه مع الأمة في اصدار التعليمات والفتاوى والأوامر.
وبالاجمال، فإن الشخصية السياسية للفقيه تعني حجم المعلومات الفقهية التي يستثمرها من أجل حل مشاكل الإدارة الاجتماعية في التعليم والقضاء والحقوق. وتعني أيضاً مقدار الثقافة السياسية التي يحملها من أجل فهم متطلبات التغيير الاجتماعي وعلاقتها بتركيبة الدولة وسياستها الدينية والاجتماعية.
ثالثاً: الإمكان الاجتماعي
تحدثنا آنفاً عن الجانبين الشرعي والفلسفي في الولاية الشرعية، ونتحدث الآن عن الإمكان الاجتماعي. والإمكان الاجتماعي يعني قدرة الفقيه على معالجته المشاكل الاجتماعية المتمثلة بالمشكلة الحقوقية، والأخلاقية، والتعبدية، والفكرية.
المشكلة الحقوقية
إن المشكلة الحقوقية تبقى أهم شاغل يشغل الإنسان مادام يعيش ويعمل على وجه هذه الأرض. ولما كانت هذه المشكلة خطيرة على الصعيد الاجتماعي، كان لابد من مناقشتها على المستويين النظري والمصداقي.
1 ـ على المستوى النظري
إن المشكلة الحقوقية عالجها القرآن الكريم في معرض حديثه عن الثورة الاجتماعية بالقول: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}، {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها...}، {يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم}، {اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوى الله}، {واوفوا الكيل والميزان بالقسط}، {ولا تنقصوا المكيال والميزان أني أراكم بخير...}. ولا نريد أن نعرض الآيات القرآنية الكريمة عرضاً مجرداً من المعاني والدلالات، بل ما نريده هو فهم دلالات الآيات المجيدة ضمن فكرة "وحدة الاطار". فهنا لابد أن ندرك ـ من خلال تلك الآيات ـ بان المشكلة الحقوقية لا ترتبط فقط بالنشاطات الخيرية التي يقوم بها الأفراد بدافع الكرم أو الاستحباب بل اننا نفهم أن الدين قد صمم حقاً ثابتاً للفقراء في أموال الأغنياء. وهذا الحق الثابت يجب دفعه وجوباً شرعياً من قبل الأغنياء. وبتعبير آخر، ان الإسلام أراد بالانفاق وعدالة الأجور وعدم بخس الميزان تثبيت الحقوق واعادة توزيع الثروة الاجتماعية التي خلقها من البداية التفاضل التكويني أو الاجتماعي بين الأفراد. فالعدالة الاقتصادية تعني ثلاثة أمور:
الأول: الأجر العادل، وهو الذي نطقت به الآيات القرآنية الكريمة: {اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوى الله}، {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}، {ان خير من استأجرت القوي الأمين}. ونفهم من ذلك حرمة الإجحاف بأجر العامل، بل حرمة ظلمه على الإطلاق.
ويلحظ في الأجر العادل الجهد المبذول على إنجاز العمل، ومهارة العامل، ومسؤولية المالك. فالمهارة تستحق أجراً متميزاً، والمسؤولية المتمثلة بالإشراف تستحق أجراً. والإبداع والعبقرية التي نلحظها عند القلة النادرة من الأفراد تستحق أجراً متميزاً أيضاً، وهكذا. وعدالة الأجور تعني ببساطة استلام كل ذي حق حقه بمقدار متناسب مع الجهد المبذول.
الثاني: عدم بخس الميزان. والميزان لا يعني الآلة فحسب، بل يعني ـ مفهوماً ـ السعر أو القيمة العادلة للأشياء. وقد نطقت به الآية القرآنية: {واوفوا الكيل والميزان بالقسط}. ونفهم من ذلك حرمة القيمة الظالمة للحاجات والبضائع. والحاجات التي تباع في السوق اليوم، تخضع لنظام تصنيع دقيق. فهي تقيم من قبل النظام الاقتصادي وتسعر نسبة إلى المهارة التي وضعت فيها، والمسؤولية التي بذلت من أجل تصنيعها وإيصالها إلى السوق.
الثالث: الانفاق في سبيل الله، على سبيل الاستحباب كالصدقة المستحبة وصلة الرحم والهدية، أو على سبيل الوجوب كالزكاة الواجبة والخمس وبقية الفرائض المالية.
وفلسفة الإنفاق تعكس فكرة ضرورة تضييق الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء. فالمسؤولية المالية في زحزحة الثروة من يد إلى يد أصبحت ـ على ضوء الدين ـ مسؤولية شرعية. وهذه المسؤولية الشرعية لم تنكر دور بذل الجهد في تحقيق الأرباح والإثراء المشروع. بل انها أكدت على ذلك وبررت وجود الأغنياء في المجتمع. ولاشك أن الإنفاق هو المساعدة على تشغيل العامل، أو اشباع اليتيم، أو سد حاجات الأرامل والقاصرين والمرضى. والأصل في الفكرة الاجتماعية حول المال هو ان الإنسان لو كان يعمل ويربح من عمله بالمقدار المشروع لما تأسس النظام الطبقي. لأن الأصل في الطبقية هو الثراء الفاحش الذي يستنزف واردات الطبقة الفقيرة في المجتمع. وهو الذي يؤدي إلى حرمان أكبر في ذلك الطرف الاجتماعي. وبالاجمال، فإن فكرة الإنفاق إنما يراد منها ـ على الصعيد الديني ـ سد الفوارق الطبقية واعطاء الفقراء فرصة للعيش الكريم والعمل الشريف. وهذا يمهد المجتمع إلى الوصول إلى طبقة اجتماعية واحدة مختلفة في الدرجات لا في الرتب.
الرابع: التبادل الاقتصادي الأخلاقي بين الأفراد. وهو التبادل الناتج عن ارجاع المنفعة التي يحصل عليها الفرد بطريق من الطرق الشرعية، من أجل اشباع حاجاته الأخرى. وهذا التبادل الأخلاقي يجمع العناصر الثلاثة السابقة. فعن طريق استلام الأجر العادل يستطيع العامل سد حاجاته المعيشية. وعن طريق القيمة العادلة للأشياء في السوق يستطيع الأفراد الاطمئنان على سلأمة البيع والشراء واجراء العقود. وعن طريق الإنفاق الشرعي يشبع الفقراء الذين تقطعت بهم الحيل للكسب الشريف. ولاشك ان الفقيه يفهم يوصله إلى حل المشكلة الحقوقية التي يعاني منها الأفراد. فلا يمكن إدارة المجتمع الإسلامي زمن الغيبة من دون تصور واضح لفلسفة العدالة الحقوقية والاجتماعية في الإسلام.
مبادئ العدالة الحقوقية
والعدالة الحقوقية لا تستدعي المساواة التأمة بين الأفراد لأن الأفراد يختلفون في القابليات والقدرات على أداء التكاليف والواجبات. فهناك، إذن، نطاق مرسوم للتفاضل الحقوقي بينهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بالقول: (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أيما يوجهه لا يأت بخير. هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم}. ولكن ذلك التفاضل لا ينتهك طبيعة العدالة الحقوقية الدينية. فالحد الأدنى في القضية الحقوقية هو اشباع حاجات الإنسان حتى يتفرغ لعبادة خالقه عز وجل. وما يطرحه التفاضل الحقوقي من زيادة لا يزعزع طبيعة اشباع تلك الحاجات الأساسية. ولم نجد في المصادر الشرعية ما يعارض اختلاف الأجور تبعاً لإختلاف المهارات والكفاءات، بل أوكل ذلك إلى العرف والارتكاز العقلائي. لأن المساواة المطلقة في الأجور قد تخلق وضعاً معيشياً ظالماً بسبب اختلاف قدرات الأفراد العقلية والجسدية.
ومن أجل تحقيق العدالة الحقوقية، فقد أعلن الإسلام عن ثلاثة مبادئ على درجة عظيمة من الأهمية.
المبدأ الأول: أن الاختلافات التكوينية بين الأفراد هي حقيقة واقعية لا يمكن انكارها أو تجاهلها. ولذلك فإن "المساواة" التي تنادي بها النظريات الاجتماعية تصدق في أمرين: الأول: "المساواة" في اتاحة الفرصة لجميع الأفراد باستثمار خيرات النظام الاجتماعي. والثاني: "المساواة" في العطاء من بيت المال للفقراء والمحتاجين من أجل سد حاجاتهم الأساسية. وفي غير ذلك يستحيل خلق المساواة التكوينية بين الأفراد. فالذي يخلق أبكماً في بطن امه تختلف قدراته وقابلياته عن الفرد السليم الذي يشق طريقه في الحياة. ولذلك فإن فكرة "العدالة الاجتماعية" التي يطرحها الإسلام إنما تجبر الاختلافات التكوينية التي خلقت أصلاً مع الأفراد دون إرادتهم. والمسؤول عن تحقيق العدالة الحقوقية بين الناس ضمن الإمكانيات المتاحة هو الفقيه الولي. فهو الذي يشرف على مؤسسات الدولة في الاقتصاد والسياسة والقضاء والتعليم ونحوها.
المبدأ الثاني: لما كان تحقيق المساواة العقلية بين الأفراد مستحيلاً في الواقع الخارجي، أصبح تحقيق المساواة العرفية من واجبات الفقيه. والمساواة العرفية نعني بها العدالة الحقوقية التي يمكن تحقيقها عن طريق مطلق العدل {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط}، وعن طريق الميزان باعتباره أداةً من أدوات تحقيق العدالة الاجتماعية {فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد اصلاحها}، {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون...}. والروايات الواردة عن أهل البيت (ع) حول تحقيق العدل أكثر من أن تحصى، ولعل المأثور عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "العدل نظام الامر" يجمعها في أقل الكلمات وأعمق المعاني.
المبدأ الثالث: ان الاختلاف بين الفاضل والمفضول في الشريعة يعكس الاختلاف في القدرات العقلية والجسدية بين الأفراد. ويشير القرآن الكريم إلى ذلك: {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم}، {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمنّ لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون}. ولاشك أن التفاضل في الرزق، والتفاوت في القدرة على التصرف بالمال يعتبران من السنن التكوينية كما أشار تعالى إلى ذلك: {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم}. واشار امير المؤمنين(ع) بالقول: "وقدر الأرزاق فكثرها وقللها، قسمها على الضيق والسعة، فعدل فيها ليبتلي من أراد، بميسورها ومعسورها. وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها". إلا أن هذا التفاضل التكويني لا يترك آثاره الاجتماعية إلا على صعيد ترجمة ذلك التفاضل إلى منفعة يقدمها الفاضل للمفضول. بمعنى أن الرزق ـ الذي منحه الخالق عز وجل إلى الفاضل ـ إذا لم يخرج منه الحق الشرعي ولم يسلمه للمفضول، أصبح ذلك الرزق نقمة إلهية على الفاضل بعد ان كان نعمة فضيلة عليه. وعلى ضوء ما ذكرناه، فإن التفاضل التكويني، والاختلاف في القدرات العقلية والجسدية إنما يؤديان ثمارهما العملية على الصعيد الاجتماعي، إذا التزم الأفراد بتطبيق مفردات الشريعة الإسلامية فحسب؛ وإلا أصبحت تلك الاختلافات من موارد انعدام العدالة الاجتماعية.
2 ـ على المستوى المصداقي
ان قلة تخصيصات قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" التي نوقشت من قبل الفقهاء باسهاب، وشمولها لقضايا اجتماعية واسعة يدعونا للتأمل في مناقشة الحقوق الاجتماعية للأفراد في المجتمع الإسلامي. فمع ان قضية عذق "سمرة بن جندب"، ومنع فضل الماء، والشفعة، وهدم الجدار الساتر بينه وبني الجار ونحوها من القضايا التي وردت ضمن سياق قاعدة نفي الضرر كانت كلها قد تناولت مشاكل جزئية، إلا أن تعليلها كان مندرجاً تحت كبرى قاعدة "لا ضرر ولا ضرار". فكانت القاعدة الكلية في نفي الضرر تقدم مصاديق عملية لفكرتها القائلة بأن نفي حقوق الأفراد في الأمان البيتي، والثروة الحيوانية، والشفعة، والجيرة ونحوها يسبب إضراراً لهم.
وعرض القاعدة الكلية في نفي الضرر بهذا الشكل الواسع، يدعونا للتفتيش عن طبيعة حقوق الفرد في النظام الاجتماعي حيث يفترض حرمة إنتهاكها أو إلحاق الضرر بها. فلاشك أن حقوق الأفراد بصفتهم الفردية، ووضع الجماعة بصفتها التوفيقية ليستا مرتبطتين بالعادات والتقاليد بقدر ما انهما مرتبطتان بالإختيار والتغير الاجتماعي المصاحب للتغيير في طبيعة الحياة البشرية وحاجاتها على الصعيدين الوظيفي والحقوقي. وفي ضوء ذلك فإننا نفترض ان لكل فرد يعيش على الأرض الاجتماعية حقوقاً نستلهمها من إستقراء مصاديق قاعدة نفي الضرر. فنستطيع ـ نظرياً ـ إدراج أربعة حقوق لكل فرد يعيش في مجتمع الإسلام، وهي:
الحقوق الأساسية
وهي الحقوق المتعلقة بالقواعد الأساسية للعيش وفيها:
1 ـ حق الأجر أو الدخل الكافي للمعيشة.
2 ـ حق إمتلاك السكن.
3 ـ حق التعليم.
4 ـ حق التطبيب والعلاج.
وهذه الحقوق تشتد إليها الضرورة لأن الإنسان مدني بالطبع لابد له من أجرٍ كاف، ومسكن يأوي إليه، وحق في التعليم، وحق في العلاج. ولو لم تشرع تلك الحقوق لزم الحرج العظيم وتكليف ما لا يطاق، بل لزم الإضرار بشخصيته ومكانته الاجتماعية والدينية بين الأفراد.
ب) الحقوق الشخصية:
وهي الحقوق المعنوية المتعلقة بكرأمة الفرد في البيت والشارع، ومنها:
1 ـ حق حماية الفرد من الأذى الجسدي والنفسي الذي قد يتعرض له من قبل الآخرين عدواناً.
2 ـ حق حماية الفرد من التمييز العرقي أو المذهبي.
3 ـ حق الامان في البيت والشارع.
ج) الحقوق الاقتصادية:
وهي الحقوق المتعلقة بطبيعة التكسب المشروع، ومنها:
1 ـ حق التملك.
2 ـ حق البيع والشراء دون إكراه.
3 ـ حق إجراء العقود.
4 ـ حق التكسب الوظيفي بكافة أشكاله وصوره المقبولة لدى الأفراد، ضمن اطار الشريعة.
5) الحقوق السياسية:
وهي الحقوق المتعلقة بالمشاركة في إدارة الدولة. وتلك الحقوق متلازمة بطبيعتها مع الواجبات التي تفرضها العملية السياسية، ومنها:
1 ـ حق النشاط السياسي والإدارة.
2 ـ حق الشورى والتوكيل السياسي.
3 ـ وجوب الطاعة للإمام المعصوم (ع) زمن الحضور أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط زمن الغيبة، ووجوب طاعة الدولة عبر مؤسساتها الإجرائية والقانونية.
ومناقشة تلك الحقوق الاجتماعية واقرارها لا تستدعي فقهاً جديداً، ولا تتطلب حيوداً عن طبيعة الإلزمات والأوامر الدينية. بل انها تتطلب فهماً دقيقاً لطبيعة حاجات الإنسان المعاصر، وتتطلب أيضاً اجتهاداً معمقاً لربط القواعد الكلية للشريعة بالفروع المتغيرة التي يعيشها إنسان اليوم.
واي إنتهاك لهذه الحقوق المفترضة يمثل إضراراً معنوياً ومادياً بالأفراد المشتركين في العيش على تراب المجتمع الإسلامي. ولاشك أن لكل تلك الحقوق مؤيدات روائية في كتب الحديث يمكن الرجوع إليها، من أجل إدراك تلك الوجوه والإعتبارات التي يمكن إستلهامها من قاعدة نفي الضرر.
ولاشك أن إزدياد عدد الأفراد في مجتمع جديد معقد يحمل أفكاراً جديدة، ويعيش نمطاً جديداً من الحياة، وينهض بمسؤوليات متغيرة كل يوم، يجعل من قضية تشخيص الحقوق الواجبات أمراً مصيرياً لا يمكن الفرار منه بأي حال من الأحوال.
إن تلك الحقوق الأربعة ليست حقوقاً مدنية محضة، كما هو مدعى البعض، بل هي حقوق دينية تناولتها الشريعة في مواطن مختلفة تحت عناوين: المكاسب، والولاية الشرعية، وكليات البيع والشراء والإجارة ونحوها. حتى أن الحقوق الثانوية التي لم تتناولها لوائح حقوق الإنسان الحديثة كحق الأمومة، والجيرة، والرحم تناولتها الشريعة بتفصيل مسهب.
ولكن تبقى نقطة مهمة ينبغي معالجتها هنا، وهي أن الحقوق التي نستطيع إدراكها عن طريق تطبيق قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" تبقى مجرد إدعاءات ما لم تقترن بنظام إجرائي صارم يحفظ تلك الحقوق ويثبتها ويمنع أي تلاعب لمضمونها وأي إنتهاك لحرمتها. وهذا هو الذي يدعونا إلى مناقشة طبيعة النظرية الاجتماعية زمن الغيبة. فإن في بناء مجتمع إسلامي واحد ـ على الأقل ـ تتحقق فيه العدالة الظاهرية، تهيئة عظيمة لمقدمات ظهور الإمام القائم (عج). وما تثبيت الرابطة الحقوقية بين الأفراد التي تجمع الأفراد، على إختلاف مذاهبهم الفكرية والإقتصادية والدينية، على أرض الواقع هي الرابطة الحقوقية. فالمسلم والنصراني، والفارسي والعربي، والغني والفقير يستطيعون العيش على تراب مجتمع واحد على أساس القانون الحقوقي الذي يجمعهم تحت راية الوطن أو الدولة الواحدة.
وبطبيعة الحال فإن إنتهاك الحقوق المرسومة للأفراد يسبب إضراراً بهم، كما ألمحنا إلى ذلك سابقاً. إلاّ أن التقاعس عن أداء الواجبات يسبب هو الآخر إضراراً ببقية الأفراد في المجتمع. فتكون الحقوق الفردية ـ على الأغلب ـ متلازمة مع الواجبات الاجتماعية ولاشك أن للواجبات محورين رئيسيين: الأول: إيجابي، كدفع الضريبة المالية في الزكاة والخمس، والتكليف الشرعي في الجهاد والقتال، وبقية الواجبات التعبدية بكافة أشكالها وصورها. والثاني: سلبي، وهو ما يتعلق بالسلوك الفردي في المجتمع. وأمثلته: الإلتزام بالإبتعاد عن المحرمات الشرعية الاجتماعية كالسرقة والقتل والغش، والمحرمات العبادية كالإفطار في شهر رمضان وترك الصلاة ونحوها.
وعدم الإلتزام بتلك الواجبات الشرعية يسبب ضرراً أو إضراراً تحرمه الشريعة عبر قاعدة نفي الضرر وعبر قواعد عقلائية أخرى كقاعدة "العدل والإنصاف" ونحوها. فكان لابد من إنشاء نظام خاص بالعقوبات لمعالجة تلك الحالات التي تنتهك فيها الواجبات الاجتماعية بالخصوص، السلبية منها والإيجابية. وهو ما قام به الإسلام في مؤسساته الإجرائية القضائية الخاصة بالقصاص والتعزير وتعويض الضحية.
ولاشك أن فاعلية أداء الواجبات الاجتماعية بين الأفراد في مجتمع إسلامي ينبع من قوة الإلزام الشرعي والأخلاقي الذي تصممه الرسالة السماوية في ذات الفرد المؤمن بها. ولكنها مع ذلك، وضعت لكل واجب يؤديه المكلف حقاً معنوياً أو مادياً يستحقه عاجلاً أو آجلاً. فالواجبات الإيجابية والسلية تستحقان رفع العقوبة الدنيوية والأمان من العذاب الآخروي.
أن الواجبات التي حددتها الرسالة الدينية خضعت دائماً للإطار الأخلاقي الإلزامي. وهي بذلك الإطار نفت الإكراه الذي يلازم الواجبات الوضعية غالباً. فالواجبات الشرعية، إيجابية كانت أو سلبية، هي واجبات أخلاقية قبل أن تكون واجبات قانونية. بمعنى أن الواجبات الشرعية طوعية في طبيعتها، بل يندفع الفرد المتدين نحو تأديتها بدافع الإمتثال لمولاه العظيم. والتقاعس في تأديتها تشعر الفرد بالذنب والندم. فالمتدين ـ بطبيعته الخيرة ـ يبتعد أخلاقياً عن السرقة والعنف والغش، ويحن دائماً نحو مساعدة الآخرين وعدم إيقاع الأذى والحرمان بهم.
وقد يبرز هنا سؤال مهم، وهو: هل ان نفي الضرر والإضرار يعني المساواة بين جميع الأفراد؟ والجواب على ذلك إن قاعدة نفي الضرر لا تعني المساواة التأمة بين الأفراد، لأن الفوارق التكوينية بينهم تقتضي تفاضلاً متبايناً بين فرد وآخر. فالمساواة تعني المشابهة، بمعنى إشتراك جميع الأفراد بنفس المواصفات في الشخصية، والدافع، والتصور، والإدراك، والقوة، والقابلية على الأداء. والمساواة بهذا المعنى لا تنطبق على الواقع الإنساني أبداً. والاختلاف التكويني والقدرة على الأداء يقتضيان إختلافاً في درجات التملك، وحيازة الأشياء، والأجر، والتفاضل الاجتماعي.
إلا أن هناك صفة عأمة يشترك في التلبس بها غالبية الأفراد. وتلك الصفة تتمثل في طبيعة الإنسان ـ وبدرجات متفاوتة ـ في النظر بدافع الأولوية لمصلحته الذاتية والإعتناء بها من خلال مشاعر البهجة والإنشراح بالتملك والكسب، ومن خلال مشاعر الألم والأسى بالفقدان والخسارة والحرمان. ومن هنا كانت قاعدة نفي الضرر والإضرار إطاراً شرعياً عاماً لحفظ مصالح الأفراد الذاتية من الانتهاك من قبل الآخرين. وبتعبير آخر، فإن قاعدة نفي الضرر، ومع ملاحظة الفوارق التكوينية، قد حفظت شخصية الإنسان المعنوية في قضية الكرأمة وحفظ المصلحة الذاتية للإنسان. فقابلية الفرد التكوينية، ومهما بلغت من درجات الضعف مبلغاً، لا تستطيع أن تقف حائلاً أمام حقه في حفظ مصلحته الحقوقية الذاتية من إنزال الضرر أو الإضرار به من قبل الآخرين.
ب) ـ المشكلة الأخلاقية
إن فهم المشكلة الأخلاقية يرتبط بفهم قضية الخير والشر، والحق والباطل. فما لم يكن هناك تحديد واضح لتلك القضايا والمفاهيم، فإنه يصعب تحديد قضية العقوبة والثواب، والجزاء القضائي، وإقأمة الحدود.
ونحن نفهم أن القرآن الكريم بدأ بتحديد قضايا الخير والشر عبر قوله تعالى: {ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}، {قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد}
، {قد أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس}. وتلك آيات مباركات تتعلق بقضايا الخير والشر. ثم وضع قوانين الحدود {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما...}، {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة...}، {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب...}. وتلك آيات مباركات تتعلق بقضايا العقوبة، أو ما بعد تحقق الشر.
وبكلمة، فإن مشكلة الشر تبقى من أهم المشاكل التي تواجه النظام الاجتماعي الديني. فلابد من فهم الأبعاد الفلسفية لمشكلة الشر.
مشكلة الشر
إن مشكلة الشر هي أساس المشكلة الأخلاقية. فالشر هو نقيض الخير في كل الأبعاد التي يمكن تصورها. وعندما نتحدث عن الشر هنا، فإننا نقصد به الشر المناقض للأخلاق الدينية من قبيل {...فالهمها فجورها وتقواها...}. ولا نقصد به الشر الناتج عن الأمراض أو الكوارث الطبيعية من قبيل {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}. فالشر والخير الذي عبر عنهما القرآن الكريم بالفجور والتقوى يعتبران حقيقتان مستقلتان عند المخلوق يستطيع تنميتهما أو حسرهما كلاً على حدة. فقد يستطيع الإنسان تنمية عناصر الخير والجمال والحب عبر استثمار حصة التقوى الموجودة في نفسه، في الوقت الذي يحسر فيه حصة الفجور. ويستطيع أيضاً تنمية عناصر الشر والقبح والكراهية عبر استغلال حصة الفجور الموجودة في نفسه، في الوقت الذي يُحسر فيه حصة التقوى.
ونتوصل هنا إلى نتيجة مهمة وهي أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهو مصدر الخير المطلق والجمال المطلق، خلق كل شيء للخير ومن أجل الخير. ولكنه سبحانه، وهب الإنسان القدرة على الاختيار بين الخير والشر. فإذا أحب الإنسان الفجور وعمل به أصبح فاجراً فاسداً، وإذا أحب الخير وعمل به أصبح تقياً خيراً.
إن الشر هو المنطلق الرئيسي لكل الآثام الاجتماعية والشخصية التي يرتكبها المذنب. فالعلة الأساسية للأمراض الأخلاقية في المجتمع هو الشر. ولذلك فإن اجتثاث جذور الشر من نفس الإنسان هو من أولويات الرسالة الإلهية. لأن النتيجة النهائية للشر هو معصية الله ـ سبحانه ـ وهي أعظم درجة من درجات الفساد الأخلاقي التي يمكن تصورها عند العقل البشري.
إننا لو حذفنا الشر من حياتنا الدنيوية لعشنا في سعادة مطلقة. ولكننا لا نستطيع أن نحذف الشر من حياتنا، لأن هذه الحياة مبنية على الاختيار بين الخير والشر على ضوء قوله تعالى: {ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها...}. ولو حُذف الشر من هذا العالم لأصبحت حياتنا على وجه هذه الأرض حياة آخروية لا حياة دنيويةً. وهنا تأتي المفاهيم الدينية لتفسر لنا وجودنا في هذه الحياة كالامتحان الآلهي، والاختيار، والحكم على المكلفين بمقدار الذنوب التي يرتكبونها، أو الحكم عليهم بمقدار الطاعات والتكاليف التي يؤدونها.
ومن الطبيعي، فإن الآلام التي تعاني منها الإنسانية في تأريخها الطويل مصدرها عدم وجود حكم ديني عادل يحكم بين الناس بالإنصاف وينظم شؤون الأفراد في الحقوق والواجبات. ولاشك أن الحرب، والظلم، والاعتداء، والتعذيب، والتجويع ونحوها من أهم الوسائل التي تؤدي إلى المعاناة الإنسانية. ولذلك، فإن الشريعة عالجت مشكلة الآلام الإنسانية التي يصنعها الإنسان لأخيه، عبر تاسيس الولاية الشرعية للمعصوم (ع) أو من ينوبه من الفقهاء. أما مصادر الآلام الأخرى كالأمراض، والفيضانات، والزلازل، والمشاعر الطبيعية الناتجة عن فقدان الأحبة فهي تعدُّ من تركيبة العالم الدنيوي الذي نعيش فيه. ولا اخال أن إنساناً يفكر بأن تلك الآلام يمكن أن يختبرها الإنسان المؤمن في جنان الخلد.
إن البحث الفلسفي عن أصل الشر لا يوصلنا إلى نتيجة مثمرة. فهو إن توصل إلى أن الشر من الإنسان، اقتصد الإنسان في البحث عن وسائل غلق الشر. وإن توصل إلى أن الشر نتيجة طبيعية خارج حدود الإنسان، عجز البحث الفلسفي عن إثبات ذلك. ولكننا نستطيع أن نصل إلى ثمرة لو فهمنا وظيفتنا العملية تجاه الشر. ووظيفتنا العملية، حسب مقتضيات التشريع، هي تقليل حجم الشر في المجتمع الإسلامي إلى أدنى حدٍ ممكن.
ولاشك أن الشر على النطاق الاجتماعي يبذر بذوره المدمرة على مساحة واسعة في الجريمة والاعتداء والاغتصاب، تقع كلها تحت مظلة عنوان الانحرافات الاجتماعية.
معالجة الانحرافات الاجتماعية
وتُقسم الانحرافات الاجتماعية إلى أربعة أقسام هي:
1 ـ الاعتداء على النفس البشرية وما دونها، كالقتل والجرح والشجاج ونحوها. والحد فيها عقوبة الموت في قتل العمد وما دون النفس يتعين القصاص، وفي قتل الخطأ وشبه العمد تتوجب الدية. وفيها تفصيلات مسهبة يجدها الباحث في المتون الفقهية؛ والمحور في معالجة هذا القسم من الانحرافات الاجتماعية هو القِصاص، وهو الذي تشير إليه الآية الشريفة: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ، والجروح قصاص فمن تصدّقَ بهِ فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون}.
2 ـ الاعتداء على الملكية. كالسرقة والغصب والجناية على الحيوانات باعتبارها ملكاً لأصحابها. والحد فيها القطع، ووجوب رد المغصوب، والضمان في تفصيلات تُحّال إلى محالها. ولكن التذكير بالقطع، وهو الوارد في الكتاب الحكيم: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم}، يقلص حجم الشر في المجتمع إلى أدنى حد ممكن. وكذلك امره تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}. فإن منطوقها يصرح بحرمة أكل المال بالباطل، ومفهومها يلمح بمحور الشر من سوق المسلمين ونشر الخير بين الجماعة.
3 ـ الجرائم الخلقية كالزنا والقذف ونحوها. وفي معالجتها الرجم والقتل والجلد. وفي قوله ـ تعالى ـ تأديب للمنحرفين: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}. وتلك بحد ذاتها عملية أخلاقية لإبعاد الشر عن النظام الاجتماعي.
4 ـ المخالفات المرتكبة ضد النظام الاجتماعي. ويلحظ فيها ضرر النظام كله، كالمحاربة والاحتكار وظلم الحاكم. وفي معالجتها القتل، والتعزير، ومحاربة الظالم. يقول تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}.
ومعالجة تلك الانحرافات الاجتماعية لا تتم بشكلها الطبيعي ما لم يتواجد على تراب المجتمع الإسلامي عدالة قضائية تأخذ حقوق الضعفاء من سطوة الأقوياء. فالمحكمة الشرعية في المجتمع الديني تشكل واجهة من واجهات ميزان العدالة القضائية.
العدالة القضائية
ولاشك أن تطبيق الحدود بصورتها الكلية يستلزم تحقيق العدالة القضائية. بمعنى أن اختلاف إنزال العقوبات يجب أن يكون مرتبطاً فقط باختلاف القرائن الموضوعية والشروط والظروف التي تم فيها الانحراف.
والأصل، أن العقوبات تنزل بجميع الجناة الذين ارتكبوا الانحراف فعلاً بنوايا مسبقة ومصممة لانزال الأذى بالآخرين. ومعنى هذا انه ليس هناك تمييز بين جاني وآخر في تطبيق العقوبة المفروضة. بل ان الاختلاف، لو حصل، إنما يتعلق بتباين الظروف الموضوعية التي أحاطت بالجناية. فعندما لا يعثر على الجاني فإنه يرجع إلى القسأمة ضمن شروط معينة مثلاً.
وإذا لم تتحقق العدالة الاجتماعية، فلا يمكن قطع يد السارق الذي سرق لاطعام اسرته الجائعة. وما لم تمتد يد الفقيه وتُبسط في جميع أركان المجتمع، لا يمكن التحدث عن إنزال العقوبات الأخلاقية بالمنحرفين. وما لم تنشط الوسائل الاجرائية الخاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن التحدث عن النزاهة الأخلاقية للأفراد.
وهذا التفكير يقودنا إلى فكرة مهمة وهي أن إنزال العقوبات بالمنحرفين تعني احترام الحياة الإنسانية للأبرياء، والاهتمام بالجماعة ونظافتها الأخلاقية. فكانت أهم نتائج نظام العقوبات الإسلامي هو تغيير السلوك الاجتماعي العام إلى مستوى تضييق الفجوة بين نيات الأفراد وبين أعمالهم، وتقريب دوافعهم الخيرة إلى مسافة قريبة من آمال الدين في تحقيق المجتمع الأخلاقي العادل.
الواجبات الدينية والأخلاقية
فمن الطبيعي أن الحقوق الدينية والمدنية مرتبطة بالواجبات. ولكن الواجب لا يؤدي بشكله الشرعي الصحيح ما لم يتحقق على أرض الواقع أمران، الأول: وجود الوازع الذاتي عند الإنسان حيث يدفعه لأداء الواجب. والثاني: القانون الخارجي الذي يفرض على المكلف عقوبة إذا تماهل في أداء ذلك الواجب.
ولكن إذا مات الوازع الذاتي فإن العقوبة تكون الخط الفاصل بين الحقوق والواجبات الاجتماعية والجزائية. وإذا كان الدين يمنح حقوقاً أخلاقية للفقراء كحق استلام الصدقات والمساعدات الخيرية من الأثرياء، فإنه يفرض واجبات أخلاقية مشابهة فيما إذا تبدل وضع الفرد المالي وانتقل من الفقر إلى الثراء؛ ومصاديقها دفع الصدقات المستحبة والإحسان إلى الفقراء والمساكين. وتلك حقوق وواجبات إضافية غير الحقوق والواجبات الأساسية، كدفع الزكاة والخمس والصدقات الواجبة.
ومن خلال استقراء الأحكام الشرعية الخاصة بالأفراد والجماعة، فإننا نلمس اننا لا نملك خياراً غير عدم التفريط بالحقوق والواجبات في النظام الاجتماعي. فمقابل كل حق هناك واجب ضروري ينبغي أن يؤدى، أخلاقياً، على الأقل. فكما أن حقوق الأفراد في النظام الاجتماعي مصانة في الإسلام، فإن الواجبات المفروضة عليهم ينبغي أن يراعيها الأفراد أنفسهم. فالحقوق الممنوحة للأفراد في النظام الإسلامي مرتبطة بالإلزامات الاجتماعية والدينية التي فرضتها الرسالة الإلهية على المكلفين. فالقدرة على كتابة الوصية، والقدرة على نقل الملكية بالبيع، والقدرة على توكيل الوكيل كلها تعطينا صورة واضحة عن طبيعة الحقوق والواجبات من الزاوية الشرعية.
فالقدرة هنا تعني القابلية على تحمل المسؤولية الأخلاقية لنقل الحقوق وتبديل صورة الواجبات. أي أن المكلف يمتلك قدرة نفسية وجسدية على تحمل مسؤوليات الواجب الشرعي عندما يتطلب التكليف ذلك. ولديه قدرة أيضاً على تسليم الحق الذي بحوزته إلى مكلف آخر، عن طريق البيع أو التوكيل أو الوصية، إذا استدعى الموقف الشخصي أو الاجتماعي ذلك.
ومن هنا ندرك، كبشر، ان الحق لا يمنح مجاناً ما لم يتلازم مع صورة من صور الإلزام الأخلاقي بأداء الواجب. وتلك الفكرة بحد ذاتها تساهم في تنشيط الجانب الابداعي للأفراد في المجتمع. فليس في المجتمع الديني مقاعد خاصة بالأفراد الذين يستلمون الحقوق فقط دون أداء واجباتهم الاجتماعية. فالعامل له حق الأجر العادل وعليه واجب أداء العمل، والفلاح له حق الأجر العادل وعليه الانتاج، والفقيه له حق الفتوى وعليه طلب العلم وممارسة الاجتهاد، والولي له حق الطاعة وعليه الادارة الاجتماعية، وهكذا الأمر بالنسبة لجميع المكلفين. ويستثنى من ذلك القصر والقاصر والمضطرب عقلياً ونحوها من الاستثناءات التي فصلتها المتون الفقهية.
ج) المشكلة التعبدية
إن الحقوق الدينية مرتبطة بالواجبات والتكاليف الشرعية. ومعنى أداء التكليف، أن المكلف ينبغي أن يؤديه بوازع ذاتي يدفعه لأداء ذلك الواجب. وإلى ذلك أشارت الكثير من الآيات القرآنية المجيدة مثل قوله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الألباب}، {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
والمشهور أن ملاكات الأحكام التعبدية غير قابلة للفهم عند الفقهاء. ولذلك فإن العبادات ثابتة حكماً ولا تتغير موضوعاتها. والمعروف أن أحكام العبادات توقيفية، بمعنى أن صحتها تتوقف على النية لا على ما هو راجح عقلاً. والحقيقة المتشرعيه في المعنى العبادي إجمالاً يقينية واجماعية.
إن الأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات مثلها مثل الثوابت المنطقية التي لا تتأثر بالمتغيرات ولا تقبل التبعيض أو التجزيء أو الالغاء. فهي توقيفية وثابتة بثبوت الجوهر والصفات؛ ولا نستطيع ادراك ملاك الأحكام التعبدية، بل لا نستطيع ادراك العلاقة بين الحكمين الشرعي والعقلي في العبادات. ولكننا نستطيع ادراك حقيقة وجوب أداء العبادات الجماعية والفردية. ولكن ما هي مسؤولية الفقيه وحدود ولايته في تعبيد الناس لله سبحانه؟ سؤال قد تتحدد الاجابة عليه عبر فهم قضيتين: القضية الموضوعية، والقضية الحكمية.
1 ـ القضية الموضوعية: وهي قضية تنمية الدوافع نحو أداء التكاليف. ولاشك أن الولاية الشرعية للفقيه تفتح أبواباً لتطبيق فكرة "وحدة الاطار" التي أشرنا إليها سابقاً. فعن طريق تطبيق الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينظف المجتمع من الرذائل الأخلاقية ويلقي عن ذاته عباءة الآثام والذنوب. وعندها تنمو الدوافع الذاتية نحو أداء التكاليف الشرعية بما فيها من واجبات ومستحبات.
ولاشك أن الأصل في العمل التعبدي هو إيجاد نية القربة إلى الله تعالى في الأداء. فلولا النية لا يتحقق القصد إلى العبادة. فالتأثير على الأفراد من أجل استحداث نوايا خيرة لأداء التعبديات هو الذي يساهم في تنمية الدوافع الذاتية نحو تحقيق الاتصال بالله سبحانه وتعالى عبر الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها. والاندفاع نحو تأدية الصلاة جماعة مثلاً لا يتم إلا بتنشيط الجانب العقلي الذي يمتثل للأمر المولوي المتحدث بلغة الفطرة الانسانية والداخل إلى أعماقها. فالفقيه يحاول، عبر الأمر بالمعروف، تنمية الدافع الذاتي نحو أداء الأعمال التعبدية. وبتعبير آخر أن الفقيه يستطيع أن يؤسس لعلاقة فلسفية بين جسد المكلف وعقله. فعندما تتحرك نوايا المكلفين لأداء العبادات ينجح الدين في بناء الجسر الموصل بين النية والعمل، والقلب والجسد، والقصد والواقع. فالدوافع التي يحركها الفقيه عند المكلفين إذن، هي دوافع امتثالية للأوامر الشرعية الإلهية.
وبكلمة، فإن القضية الموضوعية منعكسة في قابلية الفقيه وقدرته على التأثير على سلوك الأفراد عبر تنمية نواياهم نحو الاندفاع لأداء الأعمال التعبدية. وهذا المقدار هو المتيقن من قولنا بأن من شروط الأمر بالمعروف هو أن يكون الآمر قادراً على التأثير. وقد نوقش في هذا الشرط باعتبار أن الأوامر مطلقة ومقتضاها الوجوب على الاطلاق حتى في صورة العلم بعدم التأثير. ولكن خبر سعدة أخذ حجة في هذا الحقل وهو "انه لما سئل (ع) عما جاء عن النبي (ص): (إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر) قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا فلا". فكان هذا الخبر والإجماع مبرِّراً في وجوب شرط القدرة على التأثير. ولسان الدليل الشرعي هنا ينسجم مع مقتضى الارتكاز العقلائي القائل بأهمية القدرة على التأثير على المكلفين. فالقدرة لدى الفقيه على تنمية دوافع المكلفين نحو أداء التكاليف تعني القدرة على تحقيق تطبيق الإسلام في المجتمع.
2 ـ القضية الحكمية: وهي قضية تحقيق الأمان الاجتماعي. أو حماية المؤمنين في أداء شعائرهم. وهي من باب المقدمة الموصلة لأداء الشعائر الإسلامية الجماعية كصلاة الجمعة والجماعة والعيدين والحج ونحوها. فما لم يكن هناك أمن على النفس والمال والعرض، فإن المكلف لا يستطيع التوجه بنيّة صادقة وقلب مطمئن نحو تأدية العبادات الجماعية وهو الذي يصطلح عليه في أصول الفقه: بوجوب خصوص المقدمة التي تنتهي إلى ذي المقدمة. ويمكن اعتبار الأمان الاجتماعي غرض ابتدائي وهو التمكن من الوصول إلى ذي المقدمة، بينما يمكن اعتبار تأدية العبادات غرض نهائي يعبر عنه بذي المقدمة. وإذا كان الموصل إلى ذي المقدمة مقدوراً للمكلف عبر الأمان الاجتماعي فلابد أن يكون طلب المولى لأداء ذي المقدمة وهي العبادات أشد وأولى. والفقيه، عبر ولايته، يستطيع تحقيق القدر المطلوب من الأمان الاجتماعي.
ولاشك أن تطبيق الحدود الشرعية في القصاص والقطع والجلد والرجم، يحقق قدراً عظيماً من الأمان العام. وثبوت الولاية الشرعية للفقيه يحقق قدراً أعظم في حرية التعبير فيما يتعلق بممارسة العبادات الفردية والجماعية. وفي ضوء ذلك يمكن القول بأن القضايا التعبدية تتحقق باتم صورها عندما تتحقق الولاية الشرعية للفقيه.
د) المشكلة الفكرية
ان المشكلة الفكرية في المجتمع ترتبط بالثقافة العأمة وتوجهاتها. ويقصد بالثقافة: الأمور الفكرية التي يحملها الإنسان في ذهنه ويعتقد بها كالمعرفة، والعقيدة، والقيم الأخلاقية، والعادات، والقانون، وبقية القضايا التي تكون شخصيته الفكرية والاجتماعية. ولاشك أن الفقيه الولي يهتم بالنظام الثقافي في المجتمع الإسلامي. وهو النظام الذي يهتم بتلك الأمور الفكرية التي تشملها اهتمامات الشريحة المثقفة في المجتمع.
ومن الطبيعي، فإن وظيفة الثقافة الدينية هو توحيد آراء المكلفين ونظراتهم تجاه القضايا الكبرى التي تواجههم على صعيد الدين والفكر والنظام الاجتماعي. فالثقافة ليست سلوكاً، لكنها وسيلة من وسائل توحيد سلوك الأفراد في المجتمع.
ان نظافة الثقافة الاجتماعية تدفع الأفراد إلى تحسس مسؤولياتهم الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية.
المسؤولية الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية
ولاشك أن عدم وضوح حقوق الأفراد وواجباتهم هو الذي يؤدي إلى التصادم، وبالتالي إلى انهيار النظام الاجتماعي. ولذلك فإن بيان حقوق الأفراد وتحديد واجباتهم ومسؤولياتهم الشخصية والاجتماعية مهم إلى درجة أنه يؤدي لاحقاً إلى انسجام وتوافق وانسيابية في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. وهذا كله من مسؤولية النظام الثقافي للأمة الإسلامية. والشخصية الثقافية للمسلم متميزة بتميز الديانة الإسلامية عن بقية الديانات في العالم المعاصر أو القديم. وينطبق ذات الأمر على العلاقات الاجتماعية للمكلف.
فحقوق الأبوة والبنوة والزوجية والقرابة والجيرة كلها تضع حدوداً لتهذيب العلاقات الاجتماعية وتنظيمها. وطريق تبادل الثروة الاجتماعية عن طريق الزكاة والخمس والصدقات الواجبة والمستحبة تقلل من فرص الحرمان الاجتماعي، وبذلك تؤدي إلى انسجام في العلاقات الاجتماعية أيضاً. وأخلاقية الحرفة الزراعية والصناعية عبر الحفاظ على البيئة الجغرافية نقية ومنتجة، تؤدي أيضاً إلى انسجام في علاقات البشر مع بعضهم البعض وإلى انسجام مع الطبيعة وإلى اشباع حاجات الناس.
فلاشك ان المسؤولية الأخلاقية والشرعية التي يضعها الفقه الإسلامي على الأفراد تساهم في تحديد أدوارهم ووظائفهم الاجتماعية والدينية. فلكل فرد دور محدد عبّر عنه القرآن الكريم بالقول: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً}. فبالاضافة إلى الوظيفة الشرعية التكليفية في العبادات والوظيفة الشرعية الوضعية في الحقوق الاجتماعية كحق الزوجية وحق النفقة وحق التوكيل، هناك وظيفة اجتماعية انتاجية خاصة بكل فرد. فكل مكلف في المجتمع يتمتع بمقعد اجتماعي معين تترتب عليه وظيفة معينة. والفقه لا يتدخل في شكل الوظائف الاجتماعية ولكن يجعل لها نظاماً ودستوراً. لأن الوظائف الاجتماعية موجودة في كل مجتمع إنساني بالفطرة، لكنها تحتاج إلى تنظيم شرعي وإلزام أخلاقي وتنظير فكري. وهذا هو ما نقصده من دور الفقيه في معالجة المشاكل الفكرية للمجتمع.
فالإسلام لا يحث الناس على إنشاء المستشفيات، بل إنه يضع الضوابط لتنظيمها عندما تعي الفطرة الإنسانية والعقل حاجتها. فمن ضوابط تنظيم المؤسسة الطبية مثلاً هو أن يكون أجر العاملين عليها عادلاً، وأن تكون نفقاتها من مسؤولية الدولة لأن ولي الأمر مسؤول عن ضمان الأفراد عند العجز. فالتطبيب، بعنوان ثانوي، هو ارجاع العاجز إلى عمله الانتاجي من أجل اعالة عائلته ومتعلقيه. وبعنوان أولي، هو تخفيف الألم الناتج عن المرض وتجسيد رحمة الدولة الشرعية بالأفراد. ولكلا العنوانين وجود فقهي ومباني عقلائية واضحة. فكانت مهمة الفقه هنا التنظير لضوابط الوظيفة الاجتماعية لتلك الشريحة من الأفراد في القطاع الطبي.
والفقه لا يتدخل في الوظيفة المهنية للتاجر، بل انه يضع الضوابط لتنظيم تلك الوظيفة في التجارة، والسوق التجاري، وعقود البيع والشراء، والسعر العادل، والميزان القسط، وعدم الغش، وطبيعة المواد المنتجة، وزكاة التجارة. وهذه مباني فقهية. أما نظرية العرض والطلب، وتحليل السوق التجاري، ونظرية فائض القيمة، ونظرية التوزيع، ونظرية النقد، ونحوها فهي تمثل مباني الدليل العقلي.
والفقه لا يتدخل في الوظيفة المهنية للكاتب المثقف، بل انه يضع الضوابط لتنظيم الوظيفة الثقافية والأخلاقية للمجتمع. فهو يضع نظاماً في حرمة: الغيبة، والنميمة، والكذب، والتشهير بالناس مما يؤدي إلى خلق العداوات بينهم. ويضع نظاماً في حرمة تسفيه العقيدة بأي طريق كان. وبالنتيجة، فهو يضع ميزاناً أخلاقياً للثقافة بنشر مباني الفضيلة، والحب، والخير، والتفكر في الخالق عز وجل، والنظر للكون والمخلوقات. ولاشك أن المباني العقلائية تدعو المثقف إلى طرح مشاكل مجتمعه طرحاً نقدياً صادقاً نزيهاً.
وبالاجمال، فإن معالجة المشكلة الفكرية في المجتمع المعاصر تستدعي وقفة طويلة لدراسة الشخصية الثقافية للمسلم الذي يعيش على تراب المجتمع الإسلامي. وولاية الفقيه تتكفل بطرح شامل لقضايا المعرفة، والعقيدة، والقيم الأخلاقية، والقوانين التي يمكن أن يعيش معها الإنسان.
رابعاً: الإمكان العملي
هل ان نظرية "ولاية الفقيه" صالحة لحكم العالم الإسلامي اليوم؟
ان مناقشة نظرية سياسية إسلامية كنظرية ولاية الفقيه في إدارة أي مجتمع من مجتمعات العالم الإسلامي يقودنا إلى التفكير بمبدأين، الأول: مبدأ التمثيل والتركيب الاجتماعي. بمعنى لحاظ طبيعة الأفراد، والتنظيمات الاجتماعية، والأحزاب السياسية، ومدى انسجام هويتها الدينية ووظيفتها الاجتماعية مع فكرة الولاية السياسية للفقيه. والثاني: مبدأ الزاوية المعرفية أو الفكرية لنظرية الولاية الشرعية للقائد الديني، بلحاظ القيم والعقائد والعادات والرموز الدينية.
لاشك ان مجتمعات العالم الإسلامي تحمل كل مقومات المجتمع الديني. فمن الناحية التاريخية، تحمل تلك البلدان في احشائها ذكريات العصور الذهبية للسلطة السياسية الزمنية حيث كانت بغداد ودمشق والقاهرة واصفهان المراكز العالمية للحضارة الإنسانية في القرون المتقدمة من انتشار الإسلام في العالم القديم. ونحن لا نتحدث عن طبيعة حكم تلك المدن وما كانت تمثله من ظلم واضطهاد لأهل البيت (ع) واتباعهم، فلذلك محل آخر. ولكن نقول إن تلك البلدان كانت مراكز للسلطة الزمنية باسم الإسلام. ومن الناحية المذهبية، فإن اختلاف المذاهب في العالم الإسلامي يفترض أن يفهم نظرياً على أساس انه اختلاف في التطبيقات لا اختلاف في الثقافات. ومن الناحية الإنسانية، يحتل الدين مكانة واسعة في شخصية الإنسان المسلم أينما كان. ومع أن المؤثرات الخارجية حاولت تقويض الدين في شخصية ذلك الإنسان عبر مفاهيم الماركسية والقومية والعلمانية والتبعية للغرب، إلا أن الجذور المذهبية المتأصلة في شخصيته لم تقتلع أبداً. فحينما تتوفر أجواء الحرية ويستنشق فيها نسيم الإنطلاق يرجع المسلم إلى جذوره الدينية والمذهبية بكل قوة.
ولكن السؤال الخطير الذي يُطرح هنا لا يكمن في التساؤل التقليدي الذي يقول: هل ان الحكم الديني يصلح لإدارة العالم الإسلامي أم لا؟ فإن الجواب على هذا التساؤل أصبح في حكم البديهيات. فكما استطاع الديني إدارة المجتمع الإيراني الحديث بكفاءة فإنه يستطيع أن يدير مجتمعات أخرى من مجتمعات المسلمين بكفاءة مماثلة. إلا أن السؤال الجدير بالتأمل هو: هل يستطيع فقيه تجمعت عنده شروط القيادة والأعلمية والكفاءة اللازمة قيادة العالم الإسلامي؟
والجواب على ذلك يستدعي مقدمة قصيرة، ونقاط عشر تبلور جوهر الموضوع الذي نحن بصدده.
والمقدمة تتلخص بالقول بان المبنى الشرعي أو الفلسفي للسلطة الدينية يتمحور في محوري المعرفة والعدالة. فإذا كانت المعرفة القطعية لا توصل الحاكم الشرعي إلى العدالة، فإن ذلك الحاكم لا يكون مؤهلاً لإدارة الأمة. وإذا كانت العدالة تطبق بدون سند علمي مبرء للذمة، فإنها قد تقع في مطبات أو قد تختبر عثرات توصلها إلى الظلم بدون قصد. وقد وصف الإمام أمير المؤمنين (ع) من يتصدى للحكم من الأمة وهو ليس بأهل، فقال في مورد نزول المبهمات عليه ليحلها: "... لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ. وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب...". وهذا هو الذي يوصل الأمة إلى الظلم دون أن يعلم ما كسبت يمناه. وعلى أي تقدير، فإن المعرفة يجب أن تقترن بالعدالة عند الحاكم الشرعي الذي انيطت به مسؤولية إدارة الدولة والمجتمع الإسلامي. ولاشك أن جميع المذاهب الإسلامية تقر وتعترف بسلطة الفقيه العادل لإدارة أمور الأمة الإسلامية، ولكن نظرية الولاية المناطة بالفقيه الذي يجمع كل شروط التأهيل الاداري والعلمي هو أفضل ما يقدمه الإسلام من نظريات في الإدارة الاجتماعية.
ومن أجل بلورة فكرة إمكانية نجاح نظرية الولاية الشرعية للفقيه في إدارة العالم الإسلامي، لابد من طرح النقاط التالية:
أولاً: إن التركيبة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية تسمح لفكرة الولاية الشرعية بالنمو والازدهار والانتشار. خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مجتمعات العالم الإسلامي مجتمعات مغلوب على أمرها تعاني من الظلم والاضطهاد، وان الطبقة الفقيرة منتشرة في أغلب مدن العالم الإسلامي، وان أكثر من نصف سكان بلدانه يعيشون في الارياف أو يعيشون في المدن ولكنهم يحملون جذورهم الريفية. فالفقراء يرون في الدين أملاً لتحقيق أهدافهم نحو حياة كريمة عزيزة، وأهل الريف أكثر تعلقاً بالمعتقدات الدينية من غيرهم لأن فطرتهم تنسجم مع القيم الأخلاقية التي تحملها تلك المعتقدات. فالبيئة الاجتماعية في العالم الإسلامي بالعموم، والشيعي بالخصوص، بيئة خصبة للفقيه الولي الذي يمتلك وعياً فائقاً في فهم الدين وفهم متغيرات الزمان والمكان.
ثانياً: ان الولاية الشرعية للفقيه تعترف بجميع الحركات الاجتماعية والسياسية الدينية وبضمنها الأحزاب الدينية والشخصيات العلمائية والأدبية، وتضع تلك الحركات في موقعها الحقيقي اللائق بها. فالولاية لا تنافس حركة ما أو شخصية ما. بل ان للفقيه الولي دوره المتميز في تثبيت الانسجام الاجتماعي والديني بين الأفراد في المجتمع، وفي جمع الشخصيات والحركات تحت مظلته الشرعية في الارشاد والتوجيه. وقد أثبتت التجارب المعاصرة أن أية حركة من الحركات السياسية أو الدينية لم تستطع قيادة الساحة الاجتماعية أو الانفراد بها، بينما أثبتت التجارب ان القيادة الاجتماعية للفقيه قابلة للتحقق والنجاح أيضاً.
ثالثاً: أن الولي الفقيه أقدر الأفراد، على الصعيدين العلمي والديني، فهماً لقضية الحقوق والواجبات في المجتمع. فالشريعة التي يحاول الفقيه الولي تطبيقها، تحفظ أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم. وإذا تحقق ذلك القدر من الأمان تجاه عرض الإنسان وماله ونفسه، فإنه سينفتح نحو التعبير عن آماله في بناء المجتمع الديني. ولاشك أن مجتمعات العالم الإسلامي تحتاج إلى هذا القدر من الأمان بعد أن عانت من مظالم عظيمة خلال القرون العديدة الماضية.
رابعاً: ان المشكلة العرقية والمذهبية في العالم الإسلامي قابلة للحل. فنظرة إلى التركيبة السكانية للمسلمين في العالم نلحظ أن أكثر من ثلاثين بالمائة من الشيعة، وسبعين بالمائة من السنة، يشكلون التركيبة المذهبية الرئيسية للمسلمين مع وجود مذاهب أخرى ويشكل المسلمون أعراق مختلفة كالعرب والفرس والأتراك والهنود وغيرهم. وإذا كانت هناك خطورة للتفكك في هذه التركيبة التي يجمعها الدين الواحد والتراب الواحد، فإن ضمان الحقوق والواجبات بشكل عادل بين جميع تلك الفئات ينزع فتيل تلك المشكلة. بل يمكن أن تكون تلك الصورة اطاراً لمجتمع مثالي معاصر متعايش على صعيدي اختلاف العرق والمذهب. ولا يستطيع تحقيق ذلك التعايش إلا قائد ديني يستلهم من سماحة الشريعة وتكاملها وجوده الفكري والفلسفي. وذلك القائد هو الفقيه مبسوط اليد ذو الولاية المطلقة.
خامساً: أن ولي الأمر الفقيه يستطيع ممارسة حقه في الإدارة الاجتماعية لاتباع المذاهب والقوميات المختلفة عبر إنشاء مجالس محلية تهتم بشؤونهم ومصالحهم الدينية والاجتماعية، وتنقل له همومهم الحقوقية والتكليفية. فالقيادة في عالمنا المعاصر تعتبر رمزاً لجمع الأمة على وحدة الهدف والمصير، ووسيلة لاشباع حاجات الأفراد عبر بيان حقوقهم وواجباتهم، ومركباً لانقاذ المحرومين وإيصالهم إلى شاطئ العدالة والحرية والابداع.
سادساً: إن الشعاع الفكري الذي يؤمل أن تبثه المؤسسات العلمية الشيعية في النجف الأشرف وقم المقدسة والمؤسسات العلمية السنية في الأزهر والزيتونة والقيروان ينبغي أن تشد مجتمعات العالم الإسلامي نحو التيار العلمائي الذي يقوده الفقيه الذي ما فتئ يطالب ببناء حضارة إسلامية واعية على انقاض التخلف والجهل والتبعية التي روجها سلاطين الظلم والفساد. ولاشك أن توعية الأمة نحو الارتباط بالفقهاء الواعين يضيف إلى عمل الفقيه الولي قدراً من الانسياب والتقبل لدى جميع الفئات الاجتماعية على اختلاف امزجتها الثقافية والفلسفية.
سابعاً: ان حدود الدول الحديثة في العالم الإسلامي والتي انشئت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى هي حدود مصطنعة. وهي إنما انشئت من أجل تمزيق المؤسسة السياسية والاجتماعية الإسلامية. فليس لتلك الدول من شخصية إلا الشخصية القومية أو المذهبية الضيقة. وكذلك الحال في تركيا وإيران قبل الثورة. ولكن الثورة الإسلامية في إيران غيرت الخريطة السياسية والدينية للمنطقة. فبات المثقفون الواعون يتسائلون: ما هو المبرر في عدم رسم خريطة سياسية جديدة قائمة على أساس الإسلام والولاية الشرعية للفقيه؟ وما هو المبرر في عدم ارجاع أمور القيادة الدينية والاجتماعية إلى فقيه واحد له مؤهلات الولاية على مجتمعات العالم الإسلامي؟ والجواب على ذلك انه ليس هناك من مبرر يمنع توحيد القيادة الدينية للعالم الإسلامي، تحت راية فقيه مقتدر قادر على توحيد صفوف الأمة وتجاوز الفوارق التاريخية التي سببتها عصور التخلف والجهل والانحطاط.
ثامناً: ان تجربة ولاية الفقيه تجربة جديدة في العمل السياسي الإسلامي المعاصر، ولتبقى تجربة فريدة من نوعها. فهي تختلف عن تجربة الدولة العثمانية التي جلبت البؤس والفقر والتخلف للمجتمعات العربية التي كانت تحت سيطرتها. وهي تختلف عن التجربة الأزهرية التي حاول فيها جمال عبد الناصر أحد قادة مصر اخضاع الأزهر لهيمنته السياسية وتجريده من محتواه الديني المستقل. وهي تختلف عن التجربة الحجازية في عهد فيصل بن عبد العزيز والتي جعلت من الفكرة الوهابية الضيقة قاعدة لحل المشاكل الاجتماعية المعاصرة دون استخدام الدليل العقلي في الاستنباط. ان الولاية الشرعية للفقيه تعني القدرة على استيعاب التغيرات الاجتماعية التي جلبها نشوء الدولة الحديثة، وتعني القدرة على استيعاب جميع المذاهب والطوائف والقوميات تحت راية دينية واحدة، وتعني القدرة على ارجاع دور الإسلام في تحقيق العدالة الاجتماعية والحقوقية والتعبدية للأفراد. وبهذا اللحاظ فهي مسؤولية أخلاقية يتصدى لها أقدر الأفراد على تحملها أمام الله سبحانه وأمام الأمة الإسلامية.
تاسعاً: ان الولاية الشرعية للفقيه تعني حفظ الثروات الطبيعية الهائلة التي يملكها العالم الإسلامي بيد الشعوب المسلمة، وصيانتها من عبث الشركات الاستعمارية العملاقة. فالثروة الهائلة التي يملكها العالم الإسلامي تستطيع أن تجعل بلدانه من أغنى بلدان العالم في العلم والثقافة والحضارة والصحة والنظام والعطاء. ولاشك أن تولي من أثبتت الأيام والشهور والسنين نزاهته وتعففه من أي مطمع مالي أو مادي، سيجعل من تلك الثروة وسيلة من وسائل بناء العالم الإسلامي اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. فالثروة هنا تستخدم من أجل اشباع الفقراء وسد حاجاتهم الأساسية، ومن أجل تثقيف الناس وتوعيتهم، ورفعهم إلى مستوى الابداع والإيجاد الرائع لكل ما ينفع البشرية.
عاشراً: ان ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية على مدى العقود الماضية قد أثبتت حسن التدبير، وحكمة القرار، وقوة الرأي، والحزم في الإدارة. وقد أوصلت تلك الإدارة الحكيمة البلد الإسلامي إلى هذا المستوى الرفيع من التقدم والحضارة والرقي الديني والمدني. وفي عقيدتنا أن ولي الأمة هو وليها أينما كان وبأي لغة تحدث ومن أي منشأ نشأ وترعرع. فهو ولي الأمة في أي بلد تبسط يده فيه. وهذه أمنية لا يمكن انتزاعها من قلوب المؤمنين بالولاية الشرعية. وإذا كان الغرب النصراني يهيمن ولا يزال على منطقة واسعة من العالم، وإذا كانت الشيوعية في الماضي القريب تسيطر على منطقة واسعة من العالم، فلماذا لا يبسط الفقيه الولي يده على العالم الإسلامي من أجل إقأمة حكم الله تعالى؟ أليست العدالة الحقوقية والاجتماعية تستدعي تولي الفقيه العادل أمور الإدارة الاجتماعية؟ إذن فلماذا لا تمد أيدي المسلمين إلى الولاية الشرعية المبسوطة، لتعاهدها على اطاعتها والالتفاف حولها؟ لا مفر لنا من ذلك إذا أردنا لأبنائنا غدٍ إسلامي مشرق تشرق على جنباته أنوار الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية إلى الأبد.
نقد نظرية الولاية المحدودة
1 ـ ان في تعبيرات هذه النظرية غموضاً ثبوتياً. فهي لم تلتفت إلى عدم رضا الشارع بتفويت المصالح المرتبطة بالموضوعات الخارجية الكبرى التي تخص الأمة زمن الغيبة. ولايشك ان حصر الولاية بالأمور الحسبية، والزعم بعدم شرعية إقامة الحدود زمن الغيبة يربك المصلحة العأمة ويدفع الأمة إلى الفساد وانتشار الفجور والطغيان بين الناس. وهو أمر لا يخفى على المتأملين في دراسة فساد الأوضاع الاجتماعية التي تعيشها الإنسانية المعذبة في كل عصر يبتعد فيه الأفراد عن الدين.
2 ـ ان إشكال الشيخ الأنصاري كان منحصراً في الخدشة في دلالة الأخبار على ولاية الفقيه على الأموال والأنفس. فقال بلزوم تخصيص الأكثر لو فرض لها عموم؛ لعدم سلطنة الفقيه على أموال الناس وانفسهم إلا في موارد قليلة كالولاية على الغيب والقصّر ونحوها.
ولاشك ان ما افترضه من لزوم تخصيص الأكثر على فرض ظهور الأخبار في عموم الولاية على الأموال، كان مبنيّاً على إرادة الولاية الاستقلالية، وهي الولاية التي تجوز تصرف الولي ونفوذه متى شاء في الأموال والأنفس بصورة مستقلة مطلقة ومن غير تقييد بشيء. بمعنى أن الولي في تلك الحالة على علم تام بالأمور الواقعية، فيكون تصرفه تابعاً لذلك العلم التام الذي لا يحصل إلا للمعصوم (ع).
ولكن المراد بالولاية هنا ليس العلم التام بالأمور الواقعية، بل تدبير أمور المسلمين وتنظيم البلاد وحفظ الثغور زمن الغيبة. وفي ذلك لا يلزم تخصيص الأكثر. إذ لو ثبت ظهور الأخبار في ولاية الفقيه وحكومته على المجتمع الإسلامي، فلا ريب من ولايته علىالنفوس والأموال إذا احتاج إلى التصرف فيها لضرورة أو لدفع ضرر أو لرفع حرج أو لتثبيت مصلحة اجتماعية من أي لون. ولا دليل على عدم ولايته في تلك الموارد حتى يلزم التخصيص.
3 ـ ان نفي الشيخين "الأنصاري والنائيني" فكرة اطاعة الفقيه زمن الغيبة لعدم إقامة الدليل عليه يرتبط بنظريتهما حول محدودية ولايته. ولكن إذا ثبتت ولاية الفقيه فيما يخص تدبير أمور المسلمين، فلا مفر من وجوب طاعته، وإلا فلا معنى للحديث عن الولاية الشرعية مطلقاً.
4 ـ اظهرت هذه النظرية تكلفاً وتأويلاً بعيداً عن اللغة العرفية، وذهبت بنا بعيداً عن وضوح الشريعة وارتكاز العقلاء.
3) نظرية الولاية المطلقة
وهي النظرية القائلة بولاية الفقيه الجامع للشرائط، من باب ثبوت النيابة له. بمعنى أن تكون له الإرادة والقدرة على إقأمة الحدود، وتنظيم الحقوق، وإدارة القضاء، بل عموم الولاية في إدارة المجتمع الإسلامي زمن غيبة الإمام المعصوم (ع). وقد استدلت هذه النظرية بالنصوص المتعاضدة الواردة بشأن "ولاية الفقيه" في عصر الغيبة، وهي:
1 ـ مقبولة "عمر بن حنظلة"، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان والى القضاء أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت... قلت: فكيف يصنعان؟ قال (ع): "ينظرنان من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله".
وانما عبر عن الرواية بالمقبولة لأن الأصحاب تلقوها بالقبول وعملوا بها واستندوا إليها في مسائل القضاء والافتاء. ومن نافلة القول ان نشير إلى أن الشهيد الثاني (ت 965هـ) قد ذكر في "مسالك الأفهام" بان الفقهاء استندوا في مسألة جواز اجراء الحدود للفقيه إلى رواية حفص. إلا انه ضعف تلك الرواية وأيد مسألة جواز اجراء الحدود للفقيه برواية عمر بن حنظلة.
وكان الجدل المثار حول الرواية منصباً حول توثيق "عمر بن حنظلة". لأنه لم يوثق في كتب التراجم بالخصوص. إلا ان الحق إن إعتناء الفقهاء المتقدمين بروايات "عمر بن حنظلة" يزيل كل تلك الشكوك حول وثاقته. فقد روى عنه زرارة بن أعين، وعبد الله بن بكير، وصفوان بن يحيى، وعلي بن رئاب، ومنصور بن حازم وغيرهم من ثقات الطائفة. هذا من ناحية السند.
اما من ناحية الدلالة، فإن قوله (ع): "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" بيان كبرى كلية حول منصب الولاية واختصاصها بالفقيه الكفوء. يضاف إلى ذلك ان الإمام (ع) بين بشكل لا يقبل أي تأويل نفوذ حكم الفقيه الجامع للشرائط ووجوب طاعته. وإرادة التعميم بالحكم بدلاً من القضاء، مع تصريح السائل، يدل على عموم ولاية الفقيه وعدم انحصارها بالقضاء فقط.
2 ـ صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم عن الإمام الصادق (ع) قال: "إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضياً، فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه"، وروي في "الكافي" بنفس التعبير. وفي كتاب "الوسائل": "يعلم شيئاً من قضايانا". والحديث من حيث السند صحيح ولا غمز فيه. إلا أن الدلالة هنا مقتصرة على ولاية القضاء.
ولكن ولاية القضاء لا تتم بشكلها الشرعي ما لم يكن الحكم السياسي شرعياً. فالتلازم بين القضاء العادل والحكومة الشرعية محكم وغير قابل للتفكيك. ولعلنا نستفيد من ظاهر قوله (ع) في صحيحة أبي خديجة: "فإني قد جعلته عليكم قاضياً" وقوله في مقبولة عمر بن حنظلة: "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" ما يؤيد التلازم بين القضاء والحكومة.
أما الادعاء بأن منصب القضاء هو شيء آخر غير أمر الولاية لأنها خارجة عن مفهوم القضاء، ففيه تكلف. باعتباران القضاء هو جزء من الولاية. والمتعارف اليوم أن السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية غالباً ما تشرف عليها وتنسق فيما بينها جهة متمثلة بمشرف عام يرجع إليه أو لجنة مشرفة يرجع إليها، على الصعيد النظري على الأقل.
3 ـ التوقيع الذي أورده الشيخ الطوسي في كتاب "الغيبة": أخبرني جماعة، عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن اسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري ـ رحمه الله ـ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل اشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الأمر وفيها: "...وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وانا حجة الله عليهم..." وقد ذكرنا سابقا أن سند هذا الحديث صحيح.
أما من حيث الدلالة، فنضيف إلى ما قلناه، من أن فيها طرفين:
الأول: ان المقصود من "رواة الحديث" لا يخص مجرد النقل والرواية، بل الرواية والدراية. بمعنى ان المقصود من الرواة، الأفراد القادرين على فهم معاريض النصوص الشرعية، والقادرين أيضاً على رد الفروع إلى الأصول، وهم الفقهاء دون شك.
والثاني: ان المقصود من "الحوادث الواقعة" متغيرات الزمان والمكان، بمقتضى إفادة الجمع المحلى باللام للعموم الوضعي. إذ لا وجه لإختصاص هذا اللفظ بالمسائل الفرعية. قال الشيخ الأنصاري (قده): "والحاصل ان لفظ (الحوادث) ليس مختصاً بما اشتبه حكمه (الافتاء) ولا بالمنازعات (القضاء) بل الأعم منهما".
وأشد المتمسكين بهذه النظرية من الفقهاء أربعة من الأجلاء، هم: المحقق النراقي (ت 1247هـ)، والمير فتاح الحسيني المراغي (ت 1250هـ)، والشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر (ت 1266هـ)، والإمام الخميني (ت 1409هـ). وسوف نستعرض بعضاً من آرائهم:
1 ـ قال المحقق النراقي بصدد بيان وظيفة الفقهاء في عصر الغيبة: ان كلية ما للفقيه توليه وله الولاية فيه، أمران:
أحدهما: كل ما كان للنبي والأئمة ـ الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام ـ فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضاً كذلك، إلا ما أخرجه الدليل.
وثانيهما: ان كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولابد من الإتيان به ولا مفر منه إما عقلاً أو عادة ـ من جهة توقف أمور المعاد والمعاش لواحد أو جماعة عليه، وانتظام أمور الدين أو الدنيا به ـ أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو اجماع أو نفي ضرر أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم أو دليل آخر، أو ورود الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لمعين واحد أو جماعة ولا لغير معين، بل علم لابدية الإتيان به أو الإذن فيه ولم يعلم المأمور ولا المأذون، فهو وظيفة الفقيه وله التصرف فيه والإتيان به.
أما الأول: فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع، حيث نص به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات، ما صرحت به الأخبار المتقدمة من كونه وارث الأنبياء، وامين الرسل، وخليفة الرسل، وحصن الإسلام، ومثل الأنبياء وبمنزلتهم، والحاكم، والقاضي، والحجة من قبلهم، وانه المرجع في جميع الحوادث، وان على يده مجاري الامور والأحكام، وانه الكافل لايتامهم، الذي يراد بهم الرعية... ولا يضر ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب وانضمام بعضها ببعض وورود أكثرها في الكتب المعتبرة.
وأما الثاني [وهو ان كل ما علم من الشارع لزوم القيام به وعدم جواز اهماله هو وظيفة الفقيه] فيدل عليه بعد الاجماع أيضاً أمران:
أحدهما: أنه مما لاشك فيه أن كل أمر كان كذلك لابد أن ينصب الشارع الرؤوف الحكيم عليه والياً وقيماً ومتولياً. والمفروض عدم دليل على نصب معين أو غير معين أو جماعة غير الفقيه. وأما الفقيه فقد ورد في حقه ما ورد من الأوصاف الجميلة والمزايا الجليلة وهي كافية في دلالتها على كونه منصوباً.
وثانيهما: ان نقول بعد ثبوت جواز التولي منه وعدم امكان القول بانه يمكن ان لا يكون لهذا الأمر من يقيم له ولا متول له: ان كل من يمكن ان يكون ولياً ومتولياً لذلك الأمر ويحتمل ثبوت الولاية له، يدخل فيه الفقيه قطعاً، من المسلمين أو العدول أو الثقات ولا عكس. وأيضاً كل من يجوز أن يقال بولايته يتضمن الفقيه وليس القول بثبوت الولاية للفقيه متضمناً لثبوت ولاية الغير، لاسيما بعد كونه خير خلق الله بعد النبيين وافضلهم الأمين والخليفة والمرجع وبيده الأمور، فيكون جواز توليه وثبوت ولايته يقيناً والباقون مشكوك فيهم، ينفي ولايتهم وجواز تصرفهم النافذ بالأصل المقطوع به.
2 ـ وادعى المير فتاح الحسيني المراغي الإجماع على ولاية الفقيه على كل شيء، ولا دليل على ولاية غيره فيه، وبأن هذا الإجماع واضح لمن تتبع كلمات الأصحاب. وقال: بان نقل الإجماع على كون الحاكم ولياً، فيما لا دليل فيه على ولاية غيره، لعله مستفيض في كلامهم. ثم تمسك بالنصوص. وبكلمة، فقد صرح الحسيني المراغي بثبوت الولاية العأمة المطلقة للفقيه، بل ثبوت ما للإمام (ع)، من الولاية للفقيه أيضاً.
3 ـ وكان صاحب الجواهر ـ رضوان الله عليه ـ شديداً على الفقهاء الذين انكروا ولاية الفقيه العأمة، فقال: من الغريب توقف من توقف في هذه المسألة بعد وضوح دليله، الذي هو قول الصادق (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة: "انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا...". وفي مقبولة أبي خديجة: "فإني قد جعلته قاضياً...". والتوقيع الشريف: "فإنهم حجتي عليكم". وفي بعض النسخ "فإنهم خليفتي عليكم".
إما لأن إقأمة الحد من الحكم، فإن المراد من الحكم: إنفاذ ما حكم به، لا مجرد الحكم. ولظهور قوله (ع): "فإني قد جعلته عليكم حاكماً" في إرادة الولاية العأمة على نحو المنصوب الخاص، إذا نصبه بهذه اللفظة في ناحية، حيث لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العأمة في جميع أمور المنصوب عليهم.
بل قوله (ع): "فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله" اشد ظهوراً في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكم، ومنها إقأمة الحدود. بل ما عن بعض الكتب خليفتي عليكم أشد ظهوراً، ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفاً، نحو قوله: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق...). أم لما سمعته من قول الصادق (ع) إقأمة الحدود إلى من إليه الحكم. جواباً لمن سأله: من يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟
كل ذلك مضافاً إلى التأييد بما دل على انهم ورثة الأنبياء وانهم كانبياء بني إسرائيل وانه لولاهم لما عرف الحق من الباطل. وبنحو قول أمير المؤمنين (ع): "اللهم إنك قلت لنبيك صلواتك عليه وآله فيها أخبر به: من عطل حداً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادتي" الظاهر في العموم لكل زمان. والإجماع بقسميه على عدم خطاب غيرهم بذلك، وعموم الأمر بجلد الزاني وقطع السارق ونحوها.
ولأن تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم وانشار المفاسد، ولأن المقتضي لإقامة الحد قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه بل إلى مستحقه أو نوع المكلفين، فلابد من إقامته مطلقاً. ولأن ثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع، على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام اجمع، بل يمكن دعوى مفروغيته بين الأصحاب، فإن كتبهم مملوءة بالرجوع إلى الحاكم، المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع.
بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بالشيعة معطلة. فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك. بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا تأمل المراد من قولهم: اني جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم ولذا جزم في كتاب "المراسم" بتفويضهم (ع) لهم في ذلك.
وأغرب من ذلك كله استدلال من حلت الوسوسة في قلبه، بعد حكم أساطين المذهب، بالأصل المقطوع.
4 ـ اما الإمام الخميني ـ رضوان الله عليه ـ فقد كان من أصرح الفقهاء في توضيح الملازمة بين حكومة الفقيه وعصر الغيبة، فقال: للفقيه العادل جميع ما للرسول (ص) والأئمة (ع) مما يرجع إلى الحكومة والسياسة. ولا يعقل الفرق، لأن الوالي ـ أي شخص كان ـ هو مجري أحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهية والآخذ للخراج وسائر الماليات والتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين.
قال (رض) في محاضرات "الحكومة الإسلامية": "وللاستدلال على ان الحكومة وسيلة وليست هدفاً نذكر ما قاله أمير المؤمنين (ع) في خطبة له خطبها في مسجد الرسول (ص) بعد بيعة الناس له: (اللهم إنك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك".
تقييم نظرية الولاية المطلقة
1 ـ ان القدر المتيقن من الولاية الشرعية للفقيه يتجاوز الأمور الحسبية. واشتراط الفقاهة والعدالة والأعلمية يتجاوز الجزئيات إلى كل ما يلي أمور المسلمين، خصوصاً خلال تغير الزمان والمكان وقضايا التغير الاجتماعي الذي نشهده ونلمسه باستمرار في حياتنا الاجتماعية. 2 ـ إن الأحكام الشرعية في الجهاد والقتال وتقديم المقامات لذلك، يفهم منها الاطلاق لكل زمان ومكان. ويكفي هذا الاطلاق لتشخيص الوظيفة على الصعيد التعبدي، على الأقل.
3 ـ ولاشك ان آراء فقهاء الإمامية المتقدمين كانت متضافرة أيضاً وأكثر وضوحاً في اقرار دور الفقيه النائب للإمام (ع) في تنفيذ الأحكام، وإقأمة الحدود والقضاء، والتصرف في أموال الغائبين والقاصرين. فقد ذهب الشيخ المفيد (ت 413هـ) إلى ولايته في زمن الغيبة من خلال إقأمة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وجهاد الكفار "أي الجهاد الابتدائي" وهذه الولاية يستحقها من كان واجداً لشرائطها بعنوان النيابة من قبل صاحب الأمر ـ عجل الله فرجه ـ وشرائط الولاية، في نظره، هو العلم بالاحكام، والعدالة وعدم التعدي عن حدود الإسلام. بينما جوز الشيخ الطوسي (ت 460هـ) "لفقهاء أهل الحق أن يجمعوا بالناس الصلوات كلها وصلاة الجمعة والعيدين ويخطبون الخطبتين...". وقال سلار (ت 463هـ) وأبو الصلاح الحلبي (ت 447هـ) نظير قول الشيخين: المفيد والطوسي.
وفي كتاب "السرائر" قال ابن ادريس (ت 589هـ) بتنفيذ الأحكام وإقأمة الحدود لمن تكاملت له شروط النيابة عن الإمام (ع) في الحكم من شيعته وهي العلم بالحق في الحكم المردود إليه، والتمكن من امضائه على وجهه، واجتماع العقل والرأي والحزم والتحصيل وسعة الحلم.
اما المحقق الحلي (ت 676هـ) فجوز إقأمة الحدود للفقهاء العارفين في زمن غيبة الإمام (ع)، واعطاهم حق الحكم بين الناس. وكان صاحب "جواهر الكلام" ـ على عادته ـ شمولياً في نظريه الفقهية، فقال: ان كتب الأصحاب مملوءة بالرجوع إلى الحاكم المراد به نائب الغيبة.
4 ـ وبملاحظة شروط تغير الزمان والمكان، وطبيعة الفهم الاجتماعي السائد في الاعصار السالفة، فإن ادراك الفقهاء لمسؤولية الفقيه في القضاء، والحدود، وتنفيذ الأحكام، وإقأمة الجمعة والعيدين، وولايته في الأمور الحسبية كلها تدل على فهم معين لولاية الفقيه في إدارة النظام الاجتماعي. وهذه المسؤوليات لو ربطت بعضها ببعض، استفيد منها عموم الولاية في كونهم ورثة الأنبياء، وفي الرجوع إليهم في الحوادث المتغيرة، وان مجاري الأمور بأيديهم ونحوها. وهذه الأفكار كانت بذوراً طيبة للنظرية الاجتماعية زمن غيبة الإمام المعصوم (ع).
البحث عن الدليل
إن الذي يدرك لحن الروايات وطعم الفقه ومذاق الشارع الحكيم في تشريع الرسالة الآلهية، يفهم ان الوصول إلى الدليل حول الولاية الشرعية زمن الغيبة ليس ميسوراً لكل وارد. بل انه يحتاج إلى دقة عقلية وشرعية فائقة. ولذلك فإننا سنرتب الأفكار التي تبحث عن الدليل ترتيباً منهجياً متسلسلاً، كما يلي:
1 ـ قال الراغب الاصفهاني (ت 425هـ) في "مفردات الفاظ القرآن" في مادة "ولي": الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما. ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد. والولاية النصرة. والولاية: تولي الأمر. وقيل: الوَلاية والوِلاية نحو: الدَلالة والدِلالة. وحقيقته: تولي الأمر. والولي والمولى يستعملون في ذلك. كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل. أي: الموالي. وفي معنى المفعول، أي: الموالى". وقال الجوهري (ت 400هـ) في "الصحاح": "الوِلاية بالكسر: السلطان. والوَلاية والوِلاية: النصرة. يقال: هم عَلَي ولاية، أي مجتمعون في النصرة".
والمعاني اللغوية للولاية لا تعكس المعنى الشرعية بوضوح. ولكننا استنتجنا من أدلة أخرى ان الولاية ـ بمعنى الأشراف على الإدارة الاجتماعية من قبل المعصوم (ع) أو الفقيه ـ هي حقيقة شرعية قدوردتنا من عالم الجعل. فالولاية الشرعية ليست لها بعد واحد كما هو الحال في المعنى اللغوي وهو اما بعد النصرة أو بعد السلطنة. بل ان للولاية الشرعية بعدان، الأول: التنصيب، من أجل الإدارة والاشراف. وهو يتطلب كفاءة ولياقة علمية أو غيبية بالإضافة إلى شروط العدالة والتقوى والطهارة من الذنوب التكوينية "كطهارة المولد" ومن الذنوب الاعتبارية "كارتكاب الاثم". والثاني: الاطاعة من قبل المكلفين اطاعة تأمة. والاطاعة أقوى رتبة من النصرة، لأن في الإطاعة إلزاماً دينياً حتمياً. وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين (ع): "أيها الناس إن لي عليكم حقاً، ولكم عليّ حق: فاما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلاً تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم".
ولاشك ان عدم التمييز بين المعنيين اللغوي والشرعي قد يسبب إرباكاً في اكتشاف الدليل.
2 ـ إن الرسالة الإسلامية، بأحكامها وتشريعاتها المختلفة، تعيش حالة من حالات الانسجام والتلازم وعدم التفكيك نطلق علهيا بـ"وحدة الاطار". فإقامة الحدود غير منفك عن إتمام إقأمة العدالة الاجتماعية بين الأفراد ونشر الفضيلة والأخلاق في أركان المجتمع. والعدالة في القضاء لا تتحقق ما لم يمتلك القاضي علماً شرعياً وقواعد تعينه على اكتشاف الدليل للحكم بين المتخاصمين. والقضايا التعبدية لا يستقيم مدارها ما لم يتحقق الأمان العام على الأموال والنفوس والأعراض. وانتظام الاجتماع الإسلامي لا يتم بدون قائد يدير الأمور الاجتماعية ويشرف على تنظيمها. وهذا التلازم بين الأحكام الشرعية والعقائدية والأخلاقية مصمم بفضيلة "وحدة الإطار" الذي تتمتع به الشريعة الدينية.
ولاشك إنا نلمس إطلاق الأدلة على وجوب إقأمة الحدود والتعزيرات، والقضاء، وأخذ الحقوق وتوزيعها، ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، والدفاع عن حياض الإسلام. وعدم وجود دليل على تفكيك تلك الأحكام أو توقف ذلك على زمن النص أو حضور المعصوم (ع) يعني أن تطبيق الإسلام من قبل المكلفين يمتد إلى يوم القيأمة. ولكن تنفيذ تلك الأحكام يحتاج إلى مدير مجتهد لإدارة المجتمع على ضوء الشريعة، وأحكام الدين.
والدليل العقلي هذا يكشف لنا الدليل الشرعي الذي صرح بالقول... {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض...}، {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، {ما كان لهم الخيرة}، {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}، {إن الحكم إلا لله...} ونحوها.
3 ـ ان عمومات الآية القرآنية التالية شاملة لجميع المكلفين بما فيهم الأنبياء والأوصياء (ع)، بان يحكموا بما انزل الله تعالى من أحكام: {... ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون... وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جائك من الحق... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً... أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}.
ودلالة هذه الآية الشريفة هو وجوب تطبيق أهل الانجيل بما أنزل الله تعالى من أحكام، ووجوب حكم رسول الله (ص) أيضاً بما أنزل الله عليه من أحكام. ولاشك أن المراد بإيتاء الحكم هو تشريع الأحكام في عالم الجعل، وجعلها تحت تصرفه (ص) كي تكون ملاك عمله وحكمه (ص). ولكن الأصل هو أن يحكم (ص) المكلفين بما أنزل الله تعالى، فلا يبقى ريب أن زمن الغيبة يفتح الباب للفقيه كي يرشد الناس إلى الأحكام الالهية ويساهم في تنفيذها. وهذه الية واردة في رسول الله (ص). وإنما يستفاد جريان الحكم في الأئمة المعصومين (ع) ومن بعدهم فقهاء أهل البيت من الأخبار فيما يتعلق بالولاية ووجوب الطاعة والتبعية لهم. ومن ذلك صحيحة فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: "إن الله ـ عز وجل ـ ادب نبيه فاحسن أدبه. فلما أكمل له الأدب قال: {وانك لعلى خلق عظيم}، ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده فقال عز وجل: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فإنتهوا}".
ومنها رواية عبد العزيز بن مسلم عن الإمام الرضا (ع): "بالامام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والاطراف. الامام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة".
ومنها قوله (ع): "وان العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح له صدره لذلك، واودع قلبه ينابيع الحكمة والهمه العلم إلهاماً، فلم يعِ بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب. فهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد آمن من الخطايا والزلل والعثار. يخصه الله بذلك ليكون حجة على عباده وشاهده على خلقه. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
4 ـ ان اهمال البحث عن الولاية الشرعية للفقيه في الأوساط الفقهية قد يرجع في بعض جوانبه إلى اختلاف مباني الدولة القديمة عن الدولة الحديثة. فنشوء الدولة الحديثة في القرون الأخيرة من عمر الإنسانية كان قد أوجد حاجات جديدة لم تكن من مباني الدولة القديمة. فالتعليم الإلزامي، والتطبيب الواسع النطاق، والإدارة الاجتماعية المعقدة، والنظام الحديث للآلة لم يكن من مباني الدولة القديمة. بينما كانت الدولة القديمة تعيش على الزراعة وعلى شكل بسيط من الصناعة وطرق أولية في النقل. ولم تكن التجمعات السكانية في المدن بهذا التعقيد. وتلك الفجوة بين مباني الدولتين القديمة والحديثة تركت آثارها على الفقه. فولاية الفقيه بالنسبة لعصر الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري تختلف من حيث المصاديق عنها في عصر القرن الخامس عشر الهجري. فإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، والقضاء، والتصرف في أموال الغائبين والقاصرين من أهم ولايات الفقيه في القرن الخامس الهجري. ولكن ولاية الفقيه اتخذت شكلاً آخر اليوم في قضايا الاقتصاد والاجتماع والزراعة والصناعة والنقل والدفاع والقضاء ونحوها. وهي بضميمة الثوابت في الأحكام والمواضيع تحتاج إلى انفتاح واسع على حاجات الأفراد وفهم متطلبات حياتهم الإنسانية.
5 ـ لا نستطيع استخدام أصالة البراءة هنا، لأن أصول المعاملات غير أصول العبادات. فإذا زعم أنه عند قيام الشك بشرعية ولاية الفقيه، فلابد من التمسك بالبرائة. ومع جريان اصالة البرائة إذن لا نحتاج إلى ولايته. هذا الرأي لا يمكن الأخذ به. لأن ذلك الأصل منتف بانتفاء الموضوع. فإننا لو طبقنا أصالة البرائة على المشاكل الاجتماعية لانحسر الإسلام عن المجتمع وعن نظامه السياسي.
6 ـ ان اصطلاحات مثل "الأعلمية المطلقة" و"الأعلمية الاضافية" و"المرجعية" لم يشر إلى اعتبارها في الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت (ع). ولو كانت موجودة في الروايات لوصلت إلينا يداً بيد، ولكنها غير موجودة. ولكن المتأخرين من الفقهاء استخدموها بسبب طرو حاجة ماسة أوجدها التغير الاجتماعي وتعقد الحياة الاجتماعية. فافرزت فكرة "وحدة الاطار" ومبدأ "عدم تفكيك التكاليف الدينية" آراءً حول ضرورة الرجوع إلى الفقيه الأعلم في زمن الغيبة لإدارة الأفراد في مجتمع المسلمين لا في دولة إسلامية. لأن إدارة الدولة الإسلامية يحتاج إلى فهم شامل لقضايا الحقوق والواجبات الخاصة بالفرد والجماعة، وهي مسؤولية أثقل من مسؤولية الفقيه المختص بالعبادات وجزء يسير من المعاملات. وهذا يفسر القول بعدم بسط يد الفقيه في العصور التي سبقت عصر الثورة الإسلامية في إيران سنة 1399هـ 1979م.
واصطلاح "الأعلمية" ورد في بحوث "الاجتهاد والتقليد" من زاوية الرجوع إلى الأعلم. وهو مستمد من عملية عقلية تفصح عن رجوع الجاهل إلى العالم في أغلب شؤون الحياة ولا تقتصر على جانب معين.
واصطلاح "المرجعية" ورد في بحوث المتأخرين من الفقهاء، كان قد فرضته فكرة "وحدة الاطار" في سبيل اصلاح النظم الاجتماعية لشيعة أهل البيت (ع) والرجوع إلى قائد علمي لديه الولاية الدينية الشرعية من أجل تنظيم أمورهم في غياب المرجعية السياسية. ودليله {... فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.
وتلك الصفات إذا اضيفت إلى الولاية الشرعية للفقيه، بضميمة الشروط الأخرى، فلاشك انها تضفي على منصب الولاية بعداً عقلياً بالاضافة إلى بعدها الشرعي. وعلى أي حال، فإنها تبقى صفات متممة ومكملة للقائد الديني زمن الغيبة.
7 ـ ان القدر المتيقن من الولاية زمن الغيبة يشمل مساحة الإدارة الاجتماعية للفقيه. وهذا واضح لمن ذاق طعم الفقه وأدرك لحن الروايات. فالأمور الاجتماعية وإدارتها ترجع إلى الفقيه الجامع للشرائط، لأنه القدر المتيقن ممن يحتمل أن تكون له الولاية. فمن غير الحتمل أن يرخص الشارع لغير الفقيه بإدارة المجتمع بما فيه من أموال ونفوس وأعراض. ومن غير المحتمل أن يهمل جانب الإدارة الاجتماعية فيؤول الأمر إلى الفساد وانتهاك أصالة وجود الدين في حياة الإنسان.
8 ـ استلهام كليات الولاية الشرعية من عهدي رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) باعتبار أنهما كانا مبسوطي اليد وقاما بإدارة الدولة والإشراف على شؤون النظام الاجتماعي بشكل شامل. ومن تلك الكليات نعرض نموذجاً:
أ) في معاني الولاية قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين (ع) بذي قار وهو يخصف نعله. فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها! فقال (ع): والله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً. ودلالتها إن الولاية مرآة المسؤولية الشرعية في إقأمة الحق ودفع الباطل، ولكنها ليست إمرة تسلط وعدم انصاف.
ب) في توزيع الثروة الاجتماعية عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "فمن آتاه الله مالاً فليصل به القرابة، وليحسن منه الضيافة، وليفك به الأسير والعاني، وليعط منه الفقير والغارم، وليصبر نفسه على الحقوق والنوائب، وابتغاء الثواب. فإن فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا، ودرك فضائل الآخرة إن شاء الله". ويقول الإمام (ع) في خطبة له تشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد: "أما بعد، فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات المطر إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان، فإن رأى أحدكم لأخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس فلا تكونن له فتنة... وإن المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام...". وتشتمل نفس الخطبة على تأديب الأغنياء بالشفقة، فيقول (ع): "ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه ولا ينقصه إن أهلكه...". ودلالتها حسن توزيع الثروة الاجتماعية بين الأفراد، وعدم ادانة الغني في المجتمع إذا كان الغني قد اكتسب بطريق مشروع.
ج) في الحقوق والواجبات عنه (ع): "... فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس". وعنه (ع) أيضاً: "أيها الناس إن لي عليكم حقا، ولكم عليّ حق: فاما حقكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين ادعوكم، والطاعة حين آمركم". ودلالتها ان الولاية تقتضي حسن التدبير من قبل الوالي، وحسن الطاعة من قبل المكلف.
ولكن تلك الكليات العظيمة لا تستطيع فعل فعلها، ما لم توضع في مواضعها الصحيحة التي تتناسب مع روح الاطار والموضوع الذي جاءت من أجله. ولا يمكن تصور إدارة اجتماعية لمجتمع ديني دون ولي حكيم يستمد من مباني الشريعة الأحكام والقوانين التي يسنها لتنظيم شؤون الناس. ثانياً: الإمكان الفلسفي
يتضمن الإمكان الفلسفي شروطاً لقيام الدولة، ومواصفات لشخصية الفقيه، والسلطة التي يتمتع بها. ولاشك أن الولاية الشرعية تعبر عن سيادة الدولة الدينية على تمام أراضيها بما يحفظ أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم.
الدولة
وهي إن كانت اصطلاحاً دينياً أو علمانياً، فإنها تعبر عن المؤسسة السياسية وشبكاتها المتجسدة بالعلاقات السياسية. فـ"العلاقات" هنا هي المفتاح في فهم موضوع الدولة؛ بمعنى أن الدولة تنظم شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم من جهة، وبين المحكومين أنفسهم من جهة أخرى. ففي المجتمع الزراعي يرتبط الفلاح العامل على ارضه بعلاقة ما بمالك تلك الأرض. وفي المجتمع الصناعي يرتبط العامل الصناعي بعلاقة ما بصاحب الرأسمال. وفي المجتمع المدني يرتبط المواطن بعلاقة ما بالمدير الذي يتولى إدارة تلك المنطقة الإدارية. وتلك العلاقة بمجملها يفترض أن تنظم قضايا الحقوق والواجبات في المجتمع.
ومنذ بزوغ شمس الرسالة الإسلامية بدأ التأثير الروحي والاجتماعي على الأفكار السياسية واضحاً. فقد أنشأ رسول الرحمة (ص) أول دولة دينية سماوية قامت على أساس الوحي والأحكام الشرعية. وكان الأمر في عهد أمير المؤمنين (ع) متطابقاً من حيث المحتوى والهدف مع دولة رسول الله (ص). فقد كان اهداف السلطة السياسية العأمة للدولة الدينية تعلن عن صورة كاملة للحقوق والواجبات التعبدية والاجتماعية. وكان قائد الدولة من نبي أو إمام معصوم متفرغاً للادارة الاجتماعية وكان مؤكلاً لتنظيم تلك الحقوق والواجبات، من أجل تعبيد المكلفين للخالق عز وجل.
وهذا المفهوم الديني للدولة يختلف عن مفهوم النظام الملكي، حيث يزعم الأخير، زوراً، بأن الأمة لها القابلية والاستعداد على منح الملك حقوقاً سلطوية إضافية. وتلك الحقوق الإضافية الممنوحة من قبل الأمة تخول الملك صلاحيات الملك والسلطة. وهذا الزعيم يحتاج إلى الكثير من التبرير والتوضيح. لأننا لم نلحظ في حياتنا أن أمة قد منحت ـ باختيارها ـ المَلِك صلاحيات السلطة والسياسة عليها.
شخصية الدولة وشخصية الفقيه
ولو آمنا أن الإدارة الاجتماعية زمن غيبة المعصوم (ع) هي للفقيه المجتهد، فلابد ان نفهم طبيعة العلاقة السياسة بين الفقيه والإنسان الذي يعيش على أرض الدولة الدينية. فكيف تصاغ تلك العلاقة، على ضوء حقوق الدين والمواطنة؟ فمن حق الفقيه الولي أن يعاقب الجناة ويقتص منهم، ويحكم بين المتخاصمين، ومن واجبه أن يشيع الأخلاق والفضائل بين الناس، وينظم شؤون المؤسسات الاجتماعية كالأسرة والسوق والمدرسة وثكنة الجيش والمستشفى ونحوها. ولكن ما هو الخط الفاصل بين الولاية الشرعية والدولة الحديثة؟ لاشك أن الولاية الشرعية تعني تحديد سياسة المؤسسات الاجتماعية التي نطلق عليها بـ"سياسة الدولة". فعندما نقول أن الدولة الشرعية قررت إنشاء المدارس لتعليم الأطفال نعني بذلك ان الفقيه المدبر قد استنبط حكماً شرعياً بحلية انشاء المدارس على أقل تقدير، أو بوجوب تعليم القاصرين. فاصبحت نظرية الفقيه في التعليم سياسة للدولة تنفق عليها بما يقتضي تحقيق أهدافها في نشر المعرفة بين الناس. ولكن هل هذا يعني أن فقيهاً واحداً، نعتبره ولياً، قد عكس تصرف كل الفقهاء؟ والجواب على ذلك يتم من وجهين:
الأول: ان وحدة الولاية تعني وحدة التمثيل الفقهي لكن لا تعني وحدة المدارس الفقهية المختلفة. بمعنى أن كل ما يعنينا هو وحدة التمثيل الفقهي في الإدارة الاجتماعية. وبتعبير ثالث ان الولاية الشرعية لا يمكن تجزئتها بين عدة فقهاء، بل لابد من فقيه واحد كفوء يتصدى لقيادة الأمة. وهذا هو ما نفهمه من "وحدة التمثيل الفقهي". فالفقيه الولي يدرك مغزى الدليل الشرعي، وفي ضوء استنباطه لمسائل الإدارة الاجتماعية ومن وحي اجتهاده، يتصرف لإبراز الحكم الشرعي بما هو حكم إلزامي لجميع المكلفين. أما قضية توحيد المدارس الفقهية في رأي واحد فهذا من موارد الإستحالة العقلية لاختلاف الآراء والادراكات واختلاف الظروف التي صدرت فيها تلك الفتاوى والآراء الفقهية.
الثاني: ان مهمة الفقيه الولي تكمن في صياغة العلاقات الشرعية بين الأفراد ضمن ضوابط دينية. فإذا كان قادراً على صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكان قادراً على الربط بين الحقوق والواجبات، وكان قادراً على تشخيص علاقة المكلف بربه فإنه قد حقق مهمة الدين في الحياة الإنسانية. وهذا هو تفسير الفقهاء القائلون بامتداد ولاية النبي (ص) والإمام (ع) إلى الفقيه الجامع للشرائط. فإن المهمة الأساسية للتبليغ وإقامة الدين هو صياغة تلك العلاقات الشرعية بين الأفراد، والفرق بين وظيفة المعصوم ووظيفة غير المعصوم في هذا النطاق هو في الدرجة لا في الرتبة. لأن إقأمة الحدود، وتوزيع الثروة الاجتماعية، وأداء التكاليف تتم بوجود المعصوم (ع) أو الفقيه على حد سواء. ولكن تنحصر بعض الأحكام بحضور المعصوم (ع) كالجهاد الابتدائي ووجوب صلاة الجمعة والعيدين ونحوها. نعم إذا أخذنا الموضوع من زاوية العصمة وعدم العصمة أي من زاوية الواقع والظاهر، فإن الاختلاف يكمن في الرتبة. ولكننا نتحدث هنا عن تحقيق أهداف الدين في تعبيد الأفراد لله سبحانه وتعالى.
وبكلمة، فإن شخصية الدولة الدينية تكمن في شخصية الفقيه الولي ودرجته العلمية في الإدارة الاجتماعية والفقهية. فالولاية هنا تهتم بشؤون المكلفين باعتبارهم أعضاء في المجتمع، تماماً كما تهتم بالمؤسسات الاجتماعية باعتبارها آلات لخدمة الناس ـ مكلفين كانوا أو قاصرين ـ وتسهيل مهمة معيشتهم من أجل عبادة المولى عز وجل.
درجة الفقاهة ومقدار الولاية
وفي ضوء تلك الأفكار نتسائل: هل هناك رابط بين درجة الفقاهة ومقدار الولاية؟ أي هل هناك علاقة متوازية بين شخصية الفقيه ودرجة الإلزام الشرعي في الأحكام الولائية وغير الولائية؟
لاشك أن إدراك مباني الشريعة يحتاج إلى قدرة فائقة على الاستنباط الشرعي والعقلي. فكلما كانت قدرة الفقيه واسعة في الاستنباط كانت قدرته على إدراك مقاصد الشريعة أوسع وأكثر استيعاباً وشمولاً. والإلزام الشرعي بالأحكام من قبل المكلفين لا يولده الفقيه بقدر ما يولده الحكم الشرعي ذاته. فالأحكام الشرعية تخلق لدى المكلفين مسؤولية اخلاقية بضرورة الامتثال.
ولكن درجة الفقاهة المطلوبة للإدارة الاجتماعية متلازمة مع درجة الكفاءة التي يتمتع بها ولي الأمر في تسيير شؤون الأمة. فالولاية تضع منهجاً اجرائياً محكماً للإدارة. أو بتعبير آخر أن الولاية الكفوءة قادرة على ترجمة التشريع الديني إلى قوانين عملية تنظم الحقوق والواجبات، وتكافئ وتعاقب، وتصل وتقطع. فالكفاءة العلمية الفقهية الإدارية إذن هي الحد الأدنى الذي ينبغي أن يتحقق في شخصية الفقيه الولي. وإذا تحققت تلك الكفاءة اقترب الفقيه من الواقع الخارجي في إدراك الأحكام واستنباطها. أما درجة الإلزام عند المكلفين فهي قضية تعالج من طرق أخرى كالتعليم والتربية ونشر الوعي بينهم. فوظيفة الفقيه في حقل الولاية تعبر عن صورة كلية أو اطار شمولي لما يوصله علمه في الإدارة الاجتماعية، ولكن وظيفته في اسرته كأب أمر آخر متعلق بكفاءته الأسرية، ولا علاقة لها بوظيفته العلمية الاجتماعية. فقد يحابي ابنته على ابنه أو العكس، ولكن لا يستطيع فعل ذلك في حقل الولاية الاجتماعية. لأن الدليلين الشرعي والعقلي يغلقان أبواب المحاباة العاطفية لفرد دون آخر في المجتمع. أما المعصوم (ع) فوظيفته في كل الأحوال هي وظيفة الولاية والتبليغ وقد كان النبي (ص) {أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ولذلك فإنه (ص) إذا أكرم ابنته على زوجته، فإن ذلك التكريم يعني تكريماً إلهياً لا تكريماً أبوياً مجرداً. ومن هذا المنطلق نفهم مكانة أمير المؤمنين (ع) وفاطمة الزهراء (ع) من قلب رسول الله (ص)، بل نفهم مكانتهم في التشريع بشكل أعم.
ان فلسفة الدولة بالمعنى الحديث تستدعي خضوع كل مواطن يعيش على أرضها للقوانين والأحكام التي تحكمها. فالمواطنة على ارض الدولة تعني المشاركة الفعالة في رفد المجتمع بالعمل والرأي والانتاج، وغلى ذلك أشار أمير المؤمنين (ع) "ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم". ومن أهم ثمار تلك المشاركة الفعالة هو إطاعة الدولة الشرعية اطاعة تأمة. واطاعة الدولة تعني بالدلالة التضمنية، اطاعة ولاية الأمر بفضيلة انطباق شخصية الدولة على شخصية الولاية.
ولاية افلاطون وولاية الفقيه
وإذا كان افلاطون قد نادى في كتابه "الجمهورية" بفكرة "الفيلسوف ـ الحاكم"، فإنه قد نادى ـ في الواقع ـ باستثمار الدليل العقلي في الإدارة الاجتماعية. فكان يحاول تجنيب المجتمع المثالي اسقاطات صراع المصالح المتضاربة بطريق "وحدة الرؤية العقلية" التي تنور عقل الفيلسوف وتمنع صراع المصالح. ولكننا نرى ان نظرية افلاطون قاصرة عن مجاراة النظرية الإمامية في الإدارة الاجتماعية. فالفقيه الولي يستطيع إدارة المجتمع عن طريق استثمار الدليلين الشرعي والعقلي. وهما أوسع وأكمل من الدليل العقلي المجرد الذي نادى به افلاطون. وهو دليل قد يخطئ وقد يصيب. بينما نحن نؤمن بأن الدليل الشرعي لا يخطئ أبداً لأنه صادر من مصدر الكمالات في الوجود وهو الله سبحانه وتعالى. وبذلك، فإن إدارة الفقيه الولي للمجتمع في كل زمان ومكان أفضل من إدارة الفيلسوف الحاكم للأسباب التالية:
1 ـ كمال الدليل الشرعي الذي يستخدمه الفقيه من أجل الإدارة الاجتماعية. فالحقوق والواجبات، والعقوبات والمكافئات على ضوء النظرية الدينية لا تحتاج إلى تعديل أو تغيير أو اعادة نظر لأنها وردت من قبل الحاكم المطلق وهو الخالق عز وجل.
2 ـ ان الدليل العقلي الذي يستخدمه الفقيه الولي يفوق الدليل العقلي الذي يستخدمه الفيلسوف الحاكم، لأن الدليل السابق كاشف عن الدليل الشرعي. فالعقل في الفقه يتحرك ضمن دائرة الشريعة، فلا يتجاوزها. بينما يتحرك العقل في حقل الفلسفة بما يناسب توجهات الفيلسوف وذوقه الشخصي في النظرة للحياة والواقع الخارجي.
3 ـ ان الدولة التي دعا لها افلاطون في كتابه المشهور "الجمهورية" هي دولة مثالية يحكمها الفيلسوف، بينما نلمس أن الدولة التي يدعو لها الدين هي دولة واقعية يحكمها الفقيه. ويكمن الفرق بين الفقهاهة والفلسفة في نكتة مهمة وهي أن الفقه تناول الجانب الواقعي من حياة الإنسان وعلاقته بربه وبابناء جلدته، بينما تناولت الفلسفة الجانب التحليلي الذهني حيث لا يمكن ضمان هداية طريقها في كل الأحوال.
4 ـ ان فكرة إطاعة الدولة من قبل المكلفين في النظرية الإسلامية تعد أكثر انسجاماً مع رسالة الدين من فكرة اطاعة الفيلسوف في الدولة الافلاطونية. فالفيلسوف قد يستطيع اقناع شريحة من الأفراد بالطاعة ولكنه لا يستطيع اقناع الكل. وإذا اتخذ العقوبة كبديل للاقناع، فما هو المبرر لإنزال تلك العقوبة بالمخالفين؟ ولكن فكرة الإلزام الشرعي في الرسالة الدينية مستمدة من فكرة مرضاة الخالق عز وجل. وفي ذلك ثواب اخروي يقنع الإنسان بالأداء. بينما لا يستطيع الفيلسوف أن يقدم أكثر من مبرر "حسن النظام" كمورد للطاعة. فنستخلص من ذلك أن اطاعة الفقيه الولي في دولة دينية هو أكثر انسجاماً مع إيمان الفرد من اطاعة الفيلسوف في دولة مثالية.
ولاية الفقيه والتعبير عن المشاعر
ان كليات ولاية الفقيه تنطبق على المجتمع إن كان مجتمعاً صغيراً يعرف فيه الناس نظائرهم وجهاً لوجه كالمجتمع الزراعي ومجتمع القرية أو المدينة الصغيرة، أو كان مجتمعاً كبيراً واسعاً كما هو الحال في مجتمعات المدينة الكبيرة اليوم. فالإدارة الاجتماعية الدينية أكثر تعقيداً للمجتمع المعاصر بالمقارنة مع المجتمعات البدائية. ولكن لو نظرنا إلى الحاجات الإنسانية التي تحتاج إلى إدارة، للزمنا القول بأن الحاجات الثابتة كالسكن والتزاوج والبيع والشراء أكثر من الحاجات المتغيرة كالتطبيب والتعليم ونحوها. والأصل في ذلك أن الكليات واحدة في الرتبة، والفروع متغيرة في الدرجات. لكن يبقى سؤال مهم يحتاج إلى بحث وهو: هل ان الولاية الشرعية للفقيه كافية لاشباع مشاعر الناس بحيث يستطيعوا التعبير عن الفضائل والامتيازات الإنسانية؟ والجواب على ذلك: نعم بالتأكيد. لأن الشعور بالحرية في المجتمع الديني وممارسة العبودية لله ـ سبحانه ـ يفتحان الطريق نحو الإبداع والصعود في السلم الأخلاقي نحو درجات الكمال. ولاشك أن الاشتراك مع الآخرين في العبودية المطلقة لله ـ عز وجل ـ ترفع المكلف من ضيق المصلحة الشخصية إلى افق المصلحة العأمة في التعاون والتعاضد، وبذلك يصبح الإنسان في المجتمع الديني إنساناً اخلاقياً يفكر بمصلحة المجموع قبل أن يفكر بمصلحته الخاصة.
ومن هنا كان الامتثال لولي الأمر معبراً عن الآثار الأخلاقية لنشاط المؤمن في طهارة الروح وقوة العقل. لأن الغرض في الامتثال هو عبادة الله ـ عز وجل ـ وفي ذلك نكتة مهمة وهي أن القوانين الصالحة تصلح شأن الإنسان، بينما تفسد القوانين الفاسدة شأن الإنسان والمحيط الموجود حوله. فإذا كانت القوانين تدعو إلى الخير والمحبة والعدالة والسلام. فإن النمط الحياتي للناس سيرفل بثوب المحبة والتعاون والاخاء الاجتماعي والإيثار ونبذ التنافس المحموم الذي يؤدي إلى صراع المصالح. وإذا كانت القوانين تدعو إلى الجور والقهر والحرب، فإن النمط الحياتي للناس سيتشح بالظلم والقطيعة وصراع المصالح. ومع هذا الوضوح العقلي لطبيعة المشاعر الإنسانية تجاه الولاية العادلة التي تفصل القوانين الصالحة عن القوانين الفاسدة، إلا أن الاتجاه العلماني الفلسفي لم يدرك لحد الآن قيمة تلك المشاعر.
فقد حاول افلاطون وجاك ـ روسوان ان يرفعا فكرة "الدولة" إلى مصاف التعبير عن الكمال الإنساني، ولذلك فقد اعتبر "صراع المصالح" من قبيل الحالة المرضية التي ينبغي القضاء عليها. لكن "صراع المصالح" كان حالة طبيعية في نظر ميكافيلي، وتومكاس هوبس، وجيرمي بنثام، لأن الدولة عندهم ما كانت إلا تعبيراً عن حالة تنظيم المنافسة الاقتصادية والاجتماعية بين الناس. وقد حاولت تلك الآراء ابعاد الدين عن دوره الحقيقي في الحياة الاجتماعية. ونحن نخالفهم في ذلك الاتجاه مائة في المائة، لأننا نؤمن بأن الإسلام يوفر أجواء عظيمة للانسجام الاجتماعي عبر تقليل المنافسة الاجتماعية على حطام الدنيا. وهو نفس الحطام الذي يدفع الأفراد نحو الصراع الاجتماعي. فالدين يدعو إلى الخير والابتعاد عن الشر. ودعوة كهذه، تحت ظل قيادة رشيدة كقيادة الفقيه الكفوء، تنشر الخير وتحسر الشر. فهي تدعو إلى تنافس مشروع في مجالات الخير، ولا يمكن وصف التنافس المشروع بصراع المصالح بل لابد من التعبير عنه بالمنافسة الأخلاقية الشريفة على الكسب المشروع.
والفقيه الولي، عبر ادراكه لحن الروايات ومذاق الشارع، يستطيع تغيير صورة الصراع الاجتماع وشروطه عبر توزيع الثروة الاجتماعية توزيعاً عادلاً، والغاء النظام الطبقي، واشباع الفقراء، والتذكير بالآخرة، والتذكير بمخافة الله ـ سبحانه ـ وهذا بمجمله يؤدي إلى انسجام المصالح وتناغمها بدل صراعها وتشابكها. وبهذه الصورة المتكاملة لادارة الدولة والمجتمع لا تصبح الدولة اطاراً للذنوب كما زعم أوغستين، ولا تصبح اطاراً لصراع الطبقات كما زعم كارل ماركس. بل تصبح دولة إيمان وجهد وعمل من أجل عبادة الخالق ـ عز وجل ـ كما يدعو لها الإسلام.
ويمكننا أن ننظر إلى المشاعر الإنسانية تحت ظل ولاية الفقيه من زاوية ثالثة، وهي: أن المجتمع المدني يحتاج إلى فقيه مدبر من أجل المحافظة على ا لحقوق التكوينية والاعتبارية للأفراد. وطالما كان العقل يحث الإنسان على الإيمان بالله سبحانه، فإنه يحثه أيضاًعلى إطاعة الموكول بإدارة تلك الدولة التي يعيش تحت لوائها. فالإنسان يستطيع العيش بسلام مع ضميره ونفسه اللوأمة وهو في دائرة الطاعة للفقيه الولي. لأن تلك الطاعة لا تنتهك طاعة المولى عز وجل، بل هي مقدمة موصلة لطاعة المولى سبحانه. وإذا تم ذلك فإن شروط الصراع الاجتماعي ستتغير، ويتحول ذلك الصراع إلى انسجام نفسي وروحي واجتماعي مع الآخرين، كما المحنا إلى ذلك آنفاً.
وبذلك تصبح نظرية "الأمان" التي تقدمها الدولة الشرعية على النفس والمال والعرض محور عمل الفقيه الولي. فإذا كان الإنسان هو محور عمل الدولة على ضوء قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر...}، فإن تحقيق "الأمان" على النفس والمال والعرض حتى يعبد الله تعالى هو محور عمل الفقيه الذي تثنى له وسادة الولاية الشرعية. وبذلك تصبح قوانين الملكية والعقود والعقوبات والضمان في خدمة الإنسان، لا أن يكون الإنسان عبداً خادماً للدولة، كما هو المعمول به في بعض المجتمعات. وفي النهاية، فإنه سيشعر بأنه إنما يقوم بوظيفته الاجتماعية لا من أجل خدمة غيره فقط، بل من أجل خدمة نفسه والآخرين أيضاً.
الفرق بين الولاية والسلطة
ان الولاية الفقهية تعني القدرة الشرعية التي يتمتع بها الفقيه في اجراء الحدود، وإقأمة العدالة القضائية، وتعيين الحقوق وفرض الواجبات. فسلطنة الفقيه لا تتم ما لم تكن لديه الولاية ـ لا مجرد التصرف ـ على الأموال والنفوس والأعراض. والولاية تختلف عن السلطة المجردة، لأن في الولاية عدلاً يطمح لتحقيقه بينما يظن أن في السلطة ظلماً يراد فرضه. والفرق بين الولاية الشرعية والسلطة المجردة كالفرق بين الإمام العادل وقاطع الطريق. والأفراد يذعنون لكليهما، ولكنهم يذعنون للأول بالاختيار ويذعنون للثاني بالإكراه. فالأفراد يذعنون بالاختيار إلى الولاية الشرعية، لأن سلطنة الفقيه عليهم سلطنة شرعية عادلة. ولكنهم يذعنون بالإكراه لسلطة قاطع الطريق ويسلمونه أموالهم، لأنه تسلط بقوة السيف. والفارق هنا بين الإذعان للولاية والإذعان لسلطة قاطع الطريق هو الفارق بين الولاية الشرعية العادلة والسلطة غير الشرعية للظالم.
ومن هنا نفهم أن ولاية الفقيه، على الصعيد الشرعي، تعني قدرته على التأثير على سلوك الآخرين، والمكلفين بالخصوص. ولكن ذلك التأثير تأثير على طريق الخير، ولذلك جاء الاختيار في الاذعان. على عكس المتسلط الذي يكره الآخرين على الإذعان لسلطته، فهو اذعان على طريق الشر. وبمعنى آخر، ان الولاية تستبطن لوناً من المسؤولية في رعاية الآخرين وضمان حقوقهم الشخصية والاجتماعية. وتستبطن أيضاً لوناً من السلطة الأخلاقية التي تستيطع اجراء الحدود وارجاع الحقوق وردع الباطل. بينما لا تستبطن السلطة المجردة إلا ابتزاز حقوق الناس وانتهاك حرماتهم.
وبالاجمال، فإن للولاية منشأ شرعي، بينما لا تمتلك السلطة المجردة ذلك. والقيد في السلطة الشرعية ان تكون نابعة من الولاية الممنوحة للفقيه في النصوص الشرعية. وفي ضوء هذه الأفكار نستطيع أن نقسم السلطات إلى ثلاث أنواع:
1 ـ الولاية الشرعية للمعصوم (ع). وتستبطن عدالة واقعية.
2 ـ الولاية الشرعية للفقيه. وتستبطن عدالة ظاهرية.
3 ـ السلطة المطلقة لغير الفقيه، ظالماً كان أو جاهلاً.
وإذا حذفنا سلطة غير الفقيه من القاموس الديني، باعتبار أنه لا يمكن الرجوع ـ في الإدارة الاجتماعية ـ إلى الجاهل بالأحكام الشرعية أو العقلية. فإن الخيار ينحصر في القسمين الأولين. ولكن العلاقة بالمعصوم (ع) لا تتحقق في كل الأحوال. فتكون الولاية الشرعية للفقيه، القدر المتيقن لتحقيق عدالة ظاهرية بين الأفراد في مجتمع الغيبة.
ومن الطبيعي، فإن سلطنة الفقيه على المكلفين أمر ممكن فلسفياً، لأنه يستطيع الجزم بانقيادهم له. فهو لا يستهلك طاقته بدفعهم نحو الامتثال، بل يصعب اهتمامه من أجل استثمار الصلاحيات الممنوحة له بحكم التشريع وتوظيفها بقصد تنظيم شؤونهم العبادية والحقوقية والفكرية. بمعنى أن الفقيه يصدر الأحكام والتعليمات الشرعية، بينما تقوم الأجهزة الإدارية التي يشرف عليها بتنمية دوافعالناس نحو الطاعة وأداء التكاليف الشرعية، اجتماعية كانت أو شخصية محضة.
ولأن الفقيه يستمد فتاواه وأحكامه من أحكام الشريعة، فإن ذلك يعتبر صمام أمان من التعدي عن الحدود التي رسمتها له الشريعة. أي لما كانت الشريعة تدعو إلى اصالة العدالة بين الناس، فإذن ذلك يمنع العالِم بأحكام الشريعة من أي استبداد بالسلطة لأن الاستبداد ينافي العدالة. وعلى أي تقدير، فإن الفقيه الذي يتولى أمر الأمة ويقودها، يكون له الحق في الإدارة الاجتماعية حتى لو انكرت اقلية من الناس ذلك. فقد أنكرت مجموعة من الأفراد التي دخلت الإسلام حديثاً، على رسول الله (ص)، بعضاً من ولايته. وأنكرت مجموعة أخرى على أمير المؤمنين (ع) بعضاً من ولايته وخرجت عنها. وقد ادان القرآن الكريم الفئة الأولى ووصمها بالنفاق، وأدان أمير المؤمنين (ع) الفئة الثانية وقاتلها لأنها خرجت عن الولاية الشرعية وسميت بالخوارج.
ومن كل ما ذكرناه نستنتج أن الولاية الشرعية تستطيع تحقيق أهدافها إذا توفرت لها ثلاث عوامل أساسية تنتشر على مساحة الأمة الإسلامية. وهي:
1 ـ السلطنة الشرعية للفقيه.
2 ـ الكفاءة العلمية والاجتماعية للفقيه.
3 ـ اذعان الأمة وتسليمها لولايته.
وهذه العوامل متشابكة إلى درجة كبيرة، بحيث ان أي خلل في مبانيها الفكرية يحدث خلل في الرابطة المحكمة بين الطاعة والأوامر الدينية.
ان أهم ما يتمتع به الفقيه من امتيازات الإدارة الاجتماعية، هو أن ولايته مسددة من قبل الدين؛ بمعنى أنه يحكم المجتمع، وفي ضميره راحة وطمأنينية بأنه يقوم بمسؤوليته الشرعية والعقلية على أتم نطاق. أما على نطاق المكلف المتدين، فإن الطاعة للسلطنة الشرعية للفقيه تعني تربية ذاتية لإطاعة الدين. وليس لأي فرد الحق في مخالفة الدولة الشرعية، لأنها دولة مبنية على الإلزام الديني والمسؤولية الشخصية أمام الله سبحانه وتعالى. وقد اشار القرآن الكريم إلى ذلك بالقول: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
واذعان المكلف لسلطنة الفقيه المفكر خير من اذعانه لسلطة "العصبية" التي ادعاها ابن خلدون، أو خضوعه لسلطة "الأكثرية" التي زعمها "جون لوك"، أو خضوعه لسيادة الدولة التي ادعاها "توماس هوبز"، أو خضوعه لـ"الإرادة العأمة" التي ادعاها "جان جاك روسو". ففي ذلك الإذعان للعصبية، والأكثرية، والسيادة، والإرادة العأمة، خضوع للقوة لا للحكمة.بينما نلمس من اطاعة المكلف للفقيه إذعان للحكمة المستمدة من الحكمة الآلهية. لأن مبادئ الدين التي ترفض الإكراه والقسر، هي التي تحكم المكلفين في الإدارة الاجتماعية. أي أن الولاية الشرعية ـ بعد أن تتوضح مطالبها ـ لها تبرير أخلاقي يتمثل في حرمة الإكراه والقسر {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}. فالطاعة هنا تعني التحرك اخلاقياً لقبول أحكام الدين والاذعان لسلطنة الفقيه وولايته الشرعية.
الشخصية السياسية للفقيه
ان الشخصية السياسية للفقيه تتركب من أربعة أركان جوهرية، وهي:
الأولى: الدوافع التي تدفعه نحو تطبيق الإسلام والأحكام الشرعية في المجتمع. فالفقيه الذي يمتلك دوافع أقوى نحو تطبيق الإسلام، يتحرك بصورة أكثر فاعلية من نظيره الذي لا يمتلك تلك الدوافع نحو التطبيق.
الثانية: الدليل الشرعي الذي يلزمه بالإدارة الاجتماعية. وقد شرحنا ذلك آنفاً.
الثالثة: الدليل العقلي الذي يرشده إلى الأحكام الشرعية. فالفقيه الذي تتراكم في ذهنه كمية هائلة من المعلومات، يحاول تحليلها ذهنياً من أجل كشف الأحكام الشرعية المتعلقة بمواضيع الإدارة الاجتماعية.
الرابعة: الميل نحو ترجمة الفقه إلى قوانين شرعية في المجتمع. وما يترتب على ذلك من علاقات أخلاقية وسلوك مع الآخرين.
ومن الطبيعي فإن أهم ما يفترض أن يحمله الفقيه في الإدارة الاجتماعية هو التحمل والصبر على مشاق الإدارة. وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين(ع) في عهده إلى مالك الأشتر النخعي: "وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابراً محتسباً، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع. وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه فإن مغبة ذلك محمودة...". بمعنى أن الشخصية السياسية للفقيه يفترض أن تتشكل من مزيج خاص من العواطف القوية والأفكار المحكمة، بحيث انها تصمد أمام الهزات الاجتماعية المتوالية لفترة مديدة من الزمن. وبكلمة، فإن الشخصية السياسية للفقيه يفترض أن تكون شخصية اجتماعية وعلمية نموذجية. بحيث ان الأمة تتوقع منه سلوكاً فقهياً واجتماعياً يعبر عن وظيفته الشرعية. فمن أجل ان نميز بين شخصية الإنسان ووظيفته الاجتماعية علينا أن نلحظ الفوارق عند إنسان يتصرف كأب في بيته وكمحاسب مالي في دائرته الحكومية مثلاً. فسلوكه كأب في أسرة سعيدة إنما يعبر عن شخصيته الفردية، أما وجوده في الدائرة الحكومية كمحاسب مالي فإنما يعبر عن وظيفته الاجتماعية. وكذلك الفقيه، فله شخصية سياسية وله وظيفة اجتماعية علمية. فشخصيته السياسية تعبير عن حكم المعرفة التي يمتلكها ومقدار العدالة التي يمارسها. ووظيفته الاجتماعية العلمية هو تعبير عن السلوك المتوقع ان يسلكه مع الأمة في اصدار التعليمات والفتاوى والأوامر.
وبالاجمال، فإن الشخصية السياسية للفقيه تعني حجم المعلومات الفقهية التي يستثمرها من أجل حل مشاكل الإدارة الاجتماعية في التعليم والقضاء والحقوق. وتعني أيضاً مقدار الثقافة السياسية التي يحملها من أجل فهم متطلبات التغيير الاجتماعي وعلاقتها بتركيبة الدولة وسياستها الدينية والاجتماعية.
ثالثاً: الإمكان الاجتماعي
تحدثنا آنفاً عن الجانبين الشرعي والفلسفي في الولاية الشرعية، ونتحدث الآن عن الإمكان الاجتماعي. والإمكان الاجتماعي يعني قدرة الفقيه على معالجته المشاكل الاجتماعية المتمثلة بالمشكلة الحقوقية، والأخلاقية، والتعبدية، والفكرية.
المشكلة الحقوقية
إن المشكلة الحقوقية تبقى أهم شاغل يشغل الإنسان مادام يعيش ويعمل على وجه هذه الأرض. ولما كانت هذه المشكلة خطيرة على الصعيد الاجتماعي، كان لابد من مناقشتها على المستويين النظري والمصداقي.
1 ـ على المستوى النظري
إن المشكلة الحقوقية عالجها القرآن الكريم في معرض حديثه عن الثورة الاجتماعية بالقول: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}، {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها...}، {يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم}، {اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوى الله}، {واوفوا الكيل والميزان بالقسط}، {ولا تنقصوا المكيال والميزان أني أراكم بخير...}. ولا نريد أن نعرض الآيات القرآنية الكريمة عرضاً مجرداً من المعاني والدلالات، بل ما نريده هو فهم دلالات الآيات المجيدة ضمن فكرة "وحدة الاطار". فهنا لابد أن ندرك ـ من خلال تلك الآيات ـ بان المشكلة الحقوقية لا ترتبط فقط بالنشاطات الخيرية التي يقوم بها الأفراد بدافع الكرم أو الاستحباب بل اننا نفهم أن الدين قد صمم حقاً ثابتاً للفقراء في أموال الأغنياء. وهذا الحق الثابت يجب دفعه وجوباً شرعياً من قبل الأغنياء. وبتعبير آخر، ان الإسلام أراد بالانفاق وعدالة الأجور وعدم بخس الميزان تثبيت الحقوق واعادة توزيع الثروة الاجتماعية التي خلقها من البداية التفاضل التكويني أو الاجتماعي بين الأفراد. فالعدالة الاقتصادية تعني ثلاثة أمور:
الأول: الأجر العادل، وهو الذي نطقت به الآيات القرآنية الكريمة: {اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوى الله}، {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}، {ان خير من استأجرت القوي الأمين}. ونفهم من ذلك حرمة الإجحاف بأجر العامل، بل حرمة ظلمه على الإطلاق.
ويلحظ في الأجر العادل الجهد المبذول على إنجاز العمل، ومهارة العامل، ومسؤولية المالك. فالمهارة تستحق أجراً متميزاً، والمسؤولية المتمثلة بالإشراف تستحق أجراً. والإبداع والعبقرية التي نلحظها عند القلة النادرة من الأفراد تستحق أجراً متميزاً أيضاً، وهكذا. وعدالة الأجور تعني ببساطة استلام كل ذي حق حقه بمقدار متناسب مع الجهد المبذول.
الثاني: عدم بخس الميزان. والميزان لا يعني الآلة فحسب، بل يعني ـ مفهوماً ـ السعر أو القيمة العادلة للأشياء. وقد نطقت به الآية القرآنية: {واوفوا الكيل والميزان بالقسط}. ونفهم من ذلك حرمة القيمة الظالمة للحاجات والبضائع. والحاجات التي تباع في السوق اليوم، تخضع لنظام تصنيع دقيق. فهي تقيم من قبل النظام الاقتصادي وتسعر نسبة إلى المهارة التي وضعت فيها، والمسؤولية التي بذلت من أجل تصنيعها وإيصالها إلى السوق.
الثالث: الانفاق في سبيل الله، على سبيل الاستحباب كالصدقة المستحبة وصلة الرحم والهدية، أو على سبيل الوجوب كالزكاة الواجبة والخمس وبقية الفرائض المالية.
وفلسفة الإنفاق تعكس فكرة ضرورة تضييق الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء. فالمسؤولية المالية في زحزحة الثروة من يد إلى يد أصبحت ـ على ضوء الدين ـ مسؤولية شرعية. وهذه المسؤولية الشرعية لم تنكر دور بذل الجهد في تحقيق الأرباح والإثراء المشروع. بل انها أكدت على ذلك وبررت وجود الأغنياء في المجتمع. ولاشك أن الإنفاق هو المساعدة على تشغيل العامل، أو اشباع اليتيم، أو سد حاجات الأرامل والقاصرين والمرضى. والأصل في الفكرة الاجتماعية حول المال هو ان الإنسان لو كان يعمل ويربح من عمله بالمقدار المشروع لما تأسس النظام الطبقي. لأن الأصل في الطبقية هو الثراء الفاحش الذي يستنزف واردات الطبقة الفقيرة في المجتمع. وهو الذي يؤدي إلى حرمان أكبر في ذلك الطرف الاجتماعي. وبالاجمال، فإن فكرة الإنفاق إنما يراد منها ـ على الصعيد الديني ـ سد الفوارق الطبقية واعطاء الفقراء فرصة للعيش الكريم والعمل الشريف. وهذا يمهد المجتمع إلى الوصول إلى طبقة اجتماعية واحدة مختلفة في الدرجات لا في الرتب.
الرابع: التبادل الاقتصادي الأخلاقي بين الأفراد. وهو التبادل الناتج عن ارجاع المنفعة التي يحصل عليها الفرد بطريق من الطرق الشرعية، من أجل اشباع حاجاته الأخرى. وهذا التبادل الأخلاقي يجمع العناصر الثلاثة السابقة. فعن طريق استلام الأجر العادل يستطيع العامل سد حاجاته المعيشية. وعن طريق القيمة العادلة للأشياء في السوق يستطيع الأفراد الاطمئنان على سلأمة البيع والشراء واجراء العقود. وعن طريق الإنفاق الشرعي يشبع الفقراء الذين تقطعت بهم الحيل للكسب الشريف. ولاشك ان الفقيه يفهم يوصله إلى حل المشكلة الحقوقية التي يعاني منها الأفراد. فلا يمكن إدارة المجتمع الإسلامي زمن الغيبة من دون تصور واضح لفلسفة العدالة الحقوقية والاجتماعية في الإسلام.
مبادئ العدالة الحقوقية
والعدالة الحقوقية لا تستدعي المساواة التأمة بين الأفراد لأن الأفراد يختلفون في القابليات والقدرات على أداء التكاليف والواجبات. فهناك، إذن، نطاق مرسوم للتفاضل الحقوقي بينهم. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بالقول: (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أيما يوجهه لا يأت بخير. هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم}. ولكن ذلك التفاضل لا ينتهك طبيعة العدالة الحقوقية الدينية. فالحد الأدنى في القضية الحقوقية هو اشباع حاجات الإنسان حتى يتفرغ لعبادة خالقه عز وجل. وما يطرحه التفاضل الحقوقي من زيادة لا يزعزع طبيعة اشباع تلك الحاجات الأساسية. ولم نجد في المصادر الشرعية ما يعارض اختلاف الأجور تبعاً لإختلاف المهارات والكفاءات، بل أوكل ذلك إلى العرف والارتكاز العقلائي. لأن المساواة المطلقة في الأجور قد تخلق وضعاً معيشياً ظالماً بسبب اختلاف قدرات الأفراد العقلية والجسدية.
ومن أجل تحقيق العدالة الحقوقية، فقد أعلن الإسلام عن ثلاثة مبادئ على درجة عظيمة من الأهمية.
المبدأ الأول: أن الاختلافات التكوينية بين الأفراد هي حقيقة واقعية لا يمكن انكارها أو تجاهلها. ولذلك فإن "المساواة" التي تنادي بها النظريات الاجتماعية تصدق في أمرين: الأول: "المساواة" في اتاحة الفرصة لجميع الأفراد باستثمار خيرات النظام الاجتماعي. والثاني: "المساواة" في العطاء من بيت المال للفقراء والمحتاجين من أجل سد حاجاتهم الأساسية. وفي غير ذلك يستحيل خلق المساواة التكوينية بين الأفراد. فالذي يخلق أبكماً في بطن امه تختلف قدراته وقابلياته عن الفرد السليم الذي يشق طريقه في الحياة. ولذلك فإن فكرة "العدالة الاجتماعية" التي يطرحها الإسلام إنما تجبر الاختلافات التكوينية التي خلقت أصلاً مع الأفراد دون إرادتهم. والمسؤول عن تحقيق العدالة الحقوقية بين الناس ضمن الإمكانيات المتاحة هو الفقيه الولي. فهو الذي يشرف على مؤسسات الدولة في الاقتصاد والسياسة والقضاء والتعليم ونحوها.
المبدأ الثاني: لما كان تحقيق المساواة العقلية بين الأفراد مستحيلاً في الواقع الخارجي، أصبح تحقيق المساواة العرفية من واجبات الفقيه. والمساواة العرفية نعني بها العدالة الحقوقية التي يمكن تحقيقها عن طريق مطلق العدل {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط}، وعن طريق الميزان باعتباره أداةً من أدوات تحقيق العدالة الاجتماعية {فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد اصلاحها}، {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون...}. والروايات الواردة عن أهل البيت (ع) حول تحقيق العدل أكثر من أن تحصى، ولعل المأثور عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "العدل نظام الامر" يجمعها في أقل الكلمات وأعمق المعاني.
المبدأ الثالث: ان الاختلاف بين الفاضل والمفضول في الشريعة يعكس الاختلاف في القدرات العقلية والجسدية بين الأفراد. ويشير القرآن الكريم إلى ذلك: {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم}، {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمنّ لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون}. ولاشك أن التفاضل في الرزق، والتفاوت في القدرة على التصرف بالمال يعتبران من السنن التكوينية كما أشار تعالى إلى ذلك: {الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم}. واشار امير المؤمنين(ع) بالقول: "وقدر الأرزاق فكثرها وقللها، قسمها على الضيق والسعة، فعدل فيها ليبتلي من أراد، بميسورها ومعسورها. وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها". إلا أن هذا التفاضل التكويني لا يترك آثاره الاجتماعية إلا على صعيد ترجمة ذلك التفاضل إلى منفعة يقدمها الفاضل للمفضول. بمعنى أن الرزق ـ الذي منحه الخالق عز وجل إلى الفاضل ـ إذا لم يخرج منه الحق الشرعي ولم يسلمه للمفضول، أصبح ذلك الرزق نقمة إلهية على الفاضل بعد ان كان نعمة فضيلة عليه. وعلى ضوء ما ذكرناه، فإن التفاضل التكويني، والاختلاف في القدرات العقلية والجسدية إنما يؤديان ثمارهما العملية على الصعيد الاجتماعي، إذا التزم الأفراد بتطبيق مفردات الشريعة الإسلامية فحسب؛ وإلا أصبحت تلك الاختلافات من موارد انعدام العدالة الاجتماعية.
2 ـ على المستوى المصداقي
ان قلة تخصيصات قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" التي نوقشت من قبل الفقهاء باسهاب، وشمولها لقضايا اجتماعية واسعة يدعونا للتأمل في مناقشة الحقوق الاجتماعية للأفراد في المجتمع الإسلامي. فمع ان قضية عذق "سمرة بن جندب"، ومنع فضل الماء، والشفعة، وهدم الجدار الساتر بينه وبني الجار ونحوها من القضايا التي وردت ضمن سياق قاعدة نفي الضرر كانت كلها قد تناولت مشاكل جزئية، إلا أن تعليلها كان مندرجاً تحت كبرى قاعدة "لا ضرر ولا ضرار". فكانت القاعدة الكلية في نفي الضرر تقدم مصاديق عملية لفكرتها القائلة بأن نفي حقوق الأفراد في الأمان البيتي، والثروة الحيوانية، والشفعة، والجيرة ونحوها يسبب إضراراً لهم.
وعرض القاعدة الكلية في نفي الضرر بهذا الشكل الواسع، يدعونا للتفتيش عن طبيعة حقوق الفرد في النظام الاجتماعي حيث يفترض حرمة إنتهاكها أو إلحاق الضرر بها. فلاشك أن حقوق الأفراد بصفتهم الفردية، ووضع الجماعة بصفتها التوفيقية ليستا مرتبطتين بالعادات والتقاليد بقدر ما انهما مرتبطتان بالإختيار والتغير الاجتماعي المصاحب للتغيير في طبيعة الحياة البشرية وحاجاتها على الصعيدين الوظيفي والحقوقي. وفي ضوء ذلك فإننا نفترض ان لكل فرد يعيش على الأرض الاجتماعية حقوقاً نستلهمها من إستقراء مصاديق قاعدة نفي الضرر. فنستطيع ـ نظرياً ـ إدراج أربعة حقوق لكل فرد يعيش في مجتمع الإسلام، وهي:
الحقوق الأساسية
وهي الحقوق المتعلقة بالقواعد الأساسية للعيش وفيها:
1 ـ حق الأجر أو الدخل الكافي للمعيشة.
2 ـ حق إمتلاك السكن.
3 ـ حق التعليم.
4 ـ حق التطبيب والعلاج.
وهذه الحقوق تشتد إليها الضرورة لأن الإنسان مدني بالطبع لابد له من أجرٍ كاف، ومسكن يأوي إليه، وحق في التعليم، وحق في العلاج. ولو لم تشرع تلك الحقوق لزم الحرج العظيم وتكليف ما لا يطاق، بل لزم الإضرار بشخصيته ومكانته الاجتماعية والدينية بين الأفراد.
ب) الحقوق الشخصية:
وهي الحقوق المعنوية المتعلقة بكرأمة الفرد في البيت والشارع، ومنها:
1 ـ حق حماية الفرد من الأذى الجسدي والنفسي الذي قد يتعرض له من قبل الآخرين عدواناً.
2 ـ حق حماية الفرد من التمييز العرقي أو المذهبي.
3 ـ حق الامان في البيت والشارع.
ج) الحقوق الاقتصادية:
وهي الحقوق المتعلقة بطبيعة التكسب المشروع، ومنها:
1 ـ حق التملك.
2 ـ حق البيع والشراء دون إكراه.
3 ـ حق إجراء العقود.
4 ـ حق التكسب الوظيفي بكافة أشكاله وصوره المقبولة لدى الأفراد، ضمن اطار الشريعة.
5) الحقوق السياسية:
وهي الحقوق المتعلقة بالمشاركة في إدارة الدولة. وتلك الحقوق متلازمة بطبيعتها مع الواجبات التي تفرضها العملية السياسية، ومنها:
1 ـ حق النشاط السياسي والإدارة.
2 ـ حق الشورى والتوكيل السياسي.
3 ـ وجوب الطاعة للإمام المعصوم (ع) زمن الحضور أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط زمن الغيبة، ووجوب طاعة الدولة عبر مؤسساتها الإجرائية والقانونية.
ومناقشة تلك الحقوق الاجتماعية واقرارها لا تستدعي فقهاً جديداً، ولا تتطلب حيوداً عن طبيعة الإلزمات والأوامر الدينية. بل انها تتطلب فهماً دقيقاً لطبيعة حاجات الإنسان المعاصر، وتتطلب أيضاً اجتهاداً معمقاً لربط القواعد الكلية للشريعة بالفروع المتغيرة التي يعيشها إنسان اليوم.
واي إنتهاك لهذه الحقوق المفترضة يمثل إضراراً معنوياً ومادياً بالأفراد المشتركين في العيش على تراب المجتمع الإسلامي. ولاشك أن لكل تلك الحقوق مؤيدات روائية في كتب الحديث يمكن الرجوع إليها، من أجل إدراك تلك الوجوه والإعتبارات التي يمكن إستلهامها من قاعدة نفي الضرر.
ولاشك أن إزدياد عدد الأفراد في مجتمع جديد معقد يحمل أفكاراً جديدة، ويعيش نمطاً جديداً من الحياة، وينهض بمسؤوليات متغيرة كل يوم، يجعل من قضية تشخيص الحقوق الواجبات أمراً مصيرياً لا يمكن الفرار منه بأي حال من الأحوال.
إن تلك الحقوق الأربعة ليست حقوقاً مدنية محضة، كما هو مدعى البعض، بل هي حقوق دينية تناولتها الشريعة في مواطن مختلفة تحت عناوين: المكاسب، والولاية الشرعية، وكليات البيع والشراء والإجارة ونحوها. حتى أن الحقوق الثانوية التي لم تتناولها لوائح حقوق الإنسان الحديثة كحق الأمومة، والجيرة، والرحم تناولتها الشريعة بتفصيل مسهب.
ولكن تبقى نقطة مهمة ينبغي معالجتها هنا، وهي أن الحقوق التي نستطيع إدراكها عن طريق تطبيق قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" تبقى مجرد إدعاءات ما لم تقترن بنظام إجرائي صارم يحفظ تلك الحقوق ويثبتها ويمنع أي تلاعب لمضمونها وأي إنتهاك لحرمتها. وهذا هو الذي يدعونا إلى مناقشة طبيعة النظرية الاجتماعية زمن الغيبة. فإن في بناء مجتمع إسلامي واحد ـ على الأقل ـ تتحقق فيه العدالة الظاهرية، تهيئة عظيمة لمقدمات ظهور الإمام القائم (عج). وما تثبيت الرابطة الحقوقية بين الأفراد التي تجمع الأفراد، على إختلاف مذاهبهم الفكرية والإقتصادية والدينية، على أرض الواقع هي الرابطة الحقوقية. فالمسلم والنصراني، والفارسي والعربي، والغني والفقير يستطيعون العيش على تراب مجتمع واحد على أساس القانون الحقوقي الذي يجمعهم تحت راية الوطن أو الدولة الواحدة.
وبطبيعة الحال فإن إنتهاك الحقوق المرسومة للأفراد يسبب إضراراً بهم، كما ألمحنا إلى ذلك سابقاً. إلاّ أن التقاعس عن أداء الواجبات يسبب هو الآخر إضراراً ببقية الأفراد في المجتمع. فتكون الحقوق الفردية ـ على الأغلب ـ متلازمة مع الواجبات الاجتماعية ولاشك أن للواجبات محورين رئيسيين: الأول: إيجابي، كدفع الضريبة المالية في الزكاة والخمس، والتكليف الشرعي في الجهاد والقتال، وبقية الواجبات التعبدية بكافة أشكالها وصورها. والثاني: سلبي، وهو ما يتعلق بالسلوك الفردي في المجتمع. وأمثلته: الإلتزام بالإبتعاد عن المحرمات الشرعية الاجتماعية كالسرقة والقتل والغش، والمحرمات العبادية كالإفطار في شهر رمضان وترك الصلاة ونحوها.
وعدم الإلتزام بتلك الواجبات الشرعية يسبب ضرراً أو إضراراً تحرمه الشريعة عبر قاعدة نفي الضرر وعبر قواعد عقلائية أخرى كقاعدة "العدل والإنصاف" ونحوها. فكان لابد من إنشاء نظام خاص بالعقوبات لمعالجة تلك الحالات التي تنتهك فيها الواجبات الاجتماعية بالخصوص، السلبية منها والإيجابية. وهو ما قام به الإسلام في مؤسساته الإجرائية القضائية الخاصة بالقصاص والتعزير وتعويض الضحية.
ولاشك أن فاعلية أداء الواجبات الاجتماعية بين الأفراد في مجتمع إسلامي ينبع من قوة الإلزام الشرعي والأخلاقي الذي تصممه الرسالة السماوية في ذات الفرد المؤمن بها. ولكنها مع ذلك، وضعت لكل واجب يؤديه المكلف حقاً معنوياً أو مادياً يستحقه عاجلاً أو آجلاً. فالواجبات الإيجابية والسلية تستحقان رفع العقوبة الدنيوية والأمان من العذاب الآخروي.
أن الواجبات التي حددتها الرسالة الدينية خضعت دائماً للإطار الأخلاقي الإلزامي. وهي بذلك الإطار نفت الإكراه الذي يلازم الواجبات الوضعية غالباً. فالواجبات الشرعية، إيجابية كانت أو سلبية، هي واجبات أخلاقية قبل أن تكون واجبات قانونية. بمعنى أن الواجبات الشرعية طوعية في طبيعتها، بل يندفع الفرد المتدين نحو تأديتها بدافع الإمتثال لمولاه العظيم. والتقاعس في تأديتها تشعر الفرد بالذنب والندم. فالمتدين ـ بطبيعته الخيرة ـ يبتعد أخلاقياً عن السرقة والعنف والغش، ويحن دائماً نحو مساعدة الآخرين وعدم إيقاع الأذى والحرمان بهم.
وقد يبرز هنا سؤال مهم، وهو: هل ان نفي الضرر والإضرار يعني المساواة بين جميع الأفراد؟ والجواب على ذلك إن قاعدة نفي الضرر لا تعني المساواة التأمة بين الأفراد، لأن الفوارق التكوينية بينهم تقتضي تفاضلاً متبايناً بين فرد وآخر. فالمساواة تعني المشابهة، بمعنى إشتراك جميع الأفراد بنفس المواصفات في الشخصية، والدافع، والتصور، والإدراك، والقوة، والقابلية على الأداء. والمساواة بهذا المعنى لا تنطبق على الواقع الإنساني أبداً. والاختلاف التكويني والقدرة على الأداء يقتضيان إختلافاً في درجات التملك، وحيازة الأشياء، والأجر، والتفاضل الاجتماعي.
إلا أن هناك صفة عأمة يشترك في التلبس بها غالبية الأفراد. وتلك الصفة تتمثل في طبيعة الإنسان ـ وبدرجات متفاوتة ـ في النظر بدافع الأولوية لمصلحته الذاتية والإعتناء بها من خلال مشاعر البهجة والإنشراح بالتملك والكسب، ومن خلال مشاعر الألم والأسى بالفقدان والخسارة والحرمان. ومن هنا كانت قاعدة نفي الضرر والإضرار إطاراً شرعياً عاماً لحفظ مصالح الأفراد الذاتية من الانتهاك من قبل الآخرين. وبتعبير آخر، فإن قاعدة نفي الضرر، ومع ملاحظة الفوارق التكوينية، قد حفظت شخصية الإنسان المعنوية في قضية الكرأمة وحفظ المصلحة الذاتية للإنسان. فقابلية الفرد التكوينية، ومهما بلغت من درجات الضعف مبلغاً، لا تستطيع أن تقف حائلاً أمام حقه في حفظ مصلحته الحقوقية الذاتية من إنزال الضرر أو الإضرار به من قبل الآخرين.
ب) ـ المشكلة الأخلاقية
إن فهم المشكلة الأخلاقية يرتبط بفهم قضية الخير والشر، والحق والباطل. فما لم يكن هناك تحديد واضح لتلك القضايا والمفاهيم، فإنه يصعب تحديد قضية العقوبة والثواب، والجزاء القضائي، وإقأمة الحدود.
ونحن نفهم أن القرآن الكريم بدأ بتحديد قضايا الخير والشر عبر قوله تعالى: {ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}، {قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد}
، {قد أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس}. وتلك آيات مباركات تتعلق بقضايا الخير والشر. ثم وضع قوانين الحدود {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما...}، {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة...}، {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب...}. وتلك آيات مباركات تتعلق بقضايا العقوبة، أو ما بعد تحقق الشر.
وبكلمة، فإن مشكلة الشر تبقى من أهم المشاكل التي تواجه النظام الاجتماعي الديني. فلابد من فهم الأبعاد الفلسفية لمشكلة الشر.
مشكلة الشر
إن مشكلة الشر هي أساس المشكلة الأخلاقية. فالشر هو نقيض الخير في كل الأبعاد التي يمكن تصورها. وعندما نتحدث عن الشر هنا، فإننا نقصد به الشر المناقض للأخلاق الدينية من قبيل {...فالهمها فجورها وتقواها...}. ولا نقصد به الشر الناتج عن الأمراض أو الكوارث الطبيعية من قبيل {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}. فالشر والخير الذي عبر عنهما القرآن الكريم بالفجور والتقوى يعتبران حقيقتان مستقلتان عند المخلوق يستطيع تنميتهما أو حسرهما كلاً على حدة. فقد يستطيع الإنسان تنمية عناصر الخير والجمال والحب عبر استثمار حصة التقوى الموجودة في نفسه، في الوقت الذي يحسر فيه حصة الفجور. ويستطيع أيضاً تنمية عناصر الشر والقبح والكراهية عبر استغلال حصة الفجور الموجودة في نفسه، في الوقت الذي يُحسر فيه حصة التقوى.
ونتوصل هنا إلى نتيجة مهمة وهي أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وهو مصدر الخير المطلق والجمال المطلق، خلق كل شيء للخير ومن أجل الخير. ولكنه سبحانه، وهب الإنسان القدرة على الاختيار بين الخير والشر. فإذا أحب الإنسان الفجور وعمل به أصبح فاجراً فاسداً، وإذا أحب الخير وعمل به أصبح تقياً خيراً.
إن الشر هو المنطلق الرئيسي لكل الآثام الاجتماعية والشخصية التي يرتكبها المذنب. فالعلة الأساسية للأمراض الأخلاقية في المجتمع هو الشر. ولذلك فإن اجتثاث جذور الشر من نفس الإنسان هو من أولويات الرسالة الإلهية. لأن النتيجة النهائية للشر هو معصية الله ـ سبحانه ـ وهي أعظم درجة من درجات الفساد الأخلاقي التي يمكن تصورها عند العقل البشري.
إننا لو حذفنا الشر من حياتنا الدنيوية لعشنا في سعادة مطلقة. ولكننا لا نستطيع أن نحذف الشر من حياتنا، لأن هذه الحياة مبنية على الاختيار بين الخير والشر على ضوء قوله تعالى: {ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها...}. ولو حُذف الشر من هذا العالم لأصبحت حياتنا على وجه هذه الأرض حياة آخروية لا حياة دنيويةً. وهنا تأتي المفاهيم الدينية لتفسر لنا وجودنا في هذه الحياة كالامتحان الآلهي، والاختيار، والحكم على المكلفين بمقدار الذنوب التي يرتكبونها، أو الحكم عليهم بمقدار الطاعات والتكاليف التي يؤدونها.
ومن الطبيعي، فإن الآلام التي تعاني منها الإنسانية في تأريخها الطويل مصدرها عدم وجود حكم ديني عادل يحكم بين الناس بالإنصاف وينظم شؤون الأفراد في الحقوق والواجبات. ولاشك أن الحرب، والظلم، والاعتداء، والتعذيب، والتجويع ونحوها من أهم الوسائل التي تؤدي إلى المعاناة الإنسانية. ولذلك، فإن الشريعة عالجت مشكلة الآلام الإنسانية التي يصنعها الإنسان لأخيه، عبر تاسيس الولاية الشرعية للمعصوم (ع) أو من ينوبه من الفقهاء. أما مصادر الآلام الأخرى كالأمراض، والفيضانات، والزلازل، والمشاعر الطبيعية الناتجة عن فقدان الأحبة فهي تعدُّ من تركيبة العالم الدنيوي الذي نعيش فيه. ولا اخال أن إنساناً يفكر بأن تلك الآلام يمكن أن يختبرها الإنسان المؤمن في جنان الخلد.
إن البحث الفلسفي عن أصل الشر لا يوصلنا إلى نتيجة مثمرة. فهو إن توصل إلى أن الشر من الإنسان، اقتصد الإنسان في البحث عن وسائل غلق الشر. وإن توصل إلى أن الشر نتيجة طبيعية خارج حدود الإنسان، عجز البحث الفلسفي عن إثبات ذلك. ولكننا نستطيع أن نصل إلى ثمرة لو فهمنا وظيفتنا العملية تجاه الشر. ووظيفتنا العملية، حسب مقتضيات التشريع، هي تقليل حجم الشر في المجتمع الإسلامي إلى أدنى حدٍ ممكن.
ولاشك أن الشر على النطاق الاجتماعي يبذر بذوره المدمرة على مساحة واسعة في الجريمة والاعتداء والاغتصاب، تقع كلها تحت مظلة عنوان الانحرافات الاجتماعية.
معالجة الانحرافات الاجتماعية
وتُقسم الانحرافات الاجتماعية إلى أربعة أقسام هي:
1 ـ الاعتداء على النفس البشرية وما دونها، كالقتل والجرح والشجاج ونحوها. والحد فيها عقوبة الموت في قتل العمد وما دون النفس يتعين القصاص، وفي قتل الخطأ وشبه العمد تتوجب الدية. وفيها تفصيلات مسهبة يجدها الباحث في المتون الفقهية؛ والمحور في معالجة هذا القسم من الانحرافات الاجتماعية هو القِصاص، وهو الذي تشير إليه الآية الشريفة: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ، والجروح قصاص فمن تصدّقَ بهِ فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الظالمون}.
2 ـ الاعتداء على الملكية. كالسرقة والغصب والجناية على الحيوانات باعتبارها ملكاً لأصحابها. والحد فيها القطع، ووجوب رد المغصوب، والضمان في تفصيلات تُحّال إلى محالها. ولكن التذكير بالقطع، وهو الوارد في الكتاب الحكيم: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم}، يقلص حجم الشر في المجتمع إلى أدنى حد ممكن. وكذلك امره تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}. فإن منطوقها يصرح بحرمة أكل المال بالباطل، ومفهومها يلمح بمحور الشر من سوق المسلمين ونشر الخير بين الجماعة.
3 ـ الجرائم الخلقية كالزنا والقذف ونحوها. وفي معالجتها الرجم والقتل والجلد. وفي قوله ـ تعالى ـ تأديب للمنحرفين: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}. وتلك بحد ذاتها عملية أخلاقية لإبعاد الشر عن النظام الاجتماعي.
4 ـ المخالفات المرتكبة ضد النظام الاجتماعي. ويلحظ فيها ضرر النظام كله، كالمحاربة والاحتكار وظلم الحاكم. وفي معالجتها القتل، والتعزير، ومحاربة الظالم. يقول تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}.
ومعالجة تلك الانحرافات الاجتماعية لا تتم بشكلها الطبيعي ما لم يتواجد على تراب المجتمع الإسلامي عدالة قضائية تأخذ حقوق الضعفاء من سطوة الأقوياء. فالمحكمة الشرعية في المجتمع الديني تشكل واجهة من واجهات ميزان العدالة القضائية.
العدالة القضائية
ولاشك أن تطبيق الحدود بصورتها الكلية يستلزم تحقيق العدالة القضائية. بمعنى أن اختلاف إنزال العقوبات يجب أن يكون مرتبطاً فقط باختلاف القرائن الموضوعية والشروط والظروف التي تم فيها الانحراف.
والأصل، أن العقوبات تنزل بجميع الجناة الذين ارتكبوا الانحراف فعلاً بنوايا مسبقة ومصممة لانزال الأذى بالآخرين. ومعنى هذا انه ليس هناك تمييز بين جاني وآخر في تطبيق العقوبة المفروضة. بل ان الاختلاف، لو حصل، إنما يتعلق بتباين الظروف الموضوعية التي أحاطت بالجناية. فعندما لا يعثر على الجاني فإنه يرجع إلى القسأمة ضمن شروط معينة مثلاً.
وإذا لم تتحقق العدالة الاجتماعية، فلا يمكن قطع يد السارق الذي سرق لاطعام اسرته الجائعة. وما لم تمتد يد الفقيه وتُبسط في جميع أركان المجتمع، لا يمكن التحدث عن إنزال العقوبات الأخلاقية بالمنحرفين. وما لم تنشط الوسائل الاجرائية الخاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن التحدث عن النزاهة الأخلاقية للأفراد.
وهذا التفكير يقودنا إلى فكرة مهمة وهي أن إنزال العقوبات بالمنحرفين تعني احترام الحياة الإنسانية للأبرياء، والاهتمام بالجماعة ونظافتها الأخلاقية. فكانت أهم نتائج نظام العقوبات الإسلامي هو تغيير السلوك الاجتماعي العام إلى مستوى تضييق الفجوة بين نيات الأفراد وبين أعمالهم، وتقريب دوافعهم الخيرة إلى مسافة قريبة من آمال الدين في تحقيق المجتمع الأخلاقي العادل.
الواجبات الدينية والأخلاقية
فمن الطبيعي أن الحقوق الدينية والمدنية مرتبطة بالواجبات. ولكن الواجب لا يؤدي بشكله الشرعي الصحيح ما لم يتحقق على أرض الواقع أمران، الأول: وجود الوازع الذاتي عند الإنسان حيث يدفعه لأداء الواجب. والثاني: القانون الخارجي الذي يفرض على المكلف عقوبة إذا تماهل في أداء ذلك الواجب.
ولكن إذا مات الوازع الذاتي فإن العقوبة تكون الخط الفاصل بين الحقوق والواجبات الاجتماعية والجزائية. وإذا كان الدين يمنح حقوقاً أخلاقية للفقراء كحق استلام الصدقات والمساعدات الخيرية من الأثرياء، فإنه يفرض واجبات أخلاقية مشابهة فيما إذا تبدل وضع الفرد المالي وانتقل من الفقر إلى الثراء؛ ومصاديقها دفع الصدقات المستحبة والإحسان إلى الفقراء والمساكين. وتلك حقوق وواجبات إضافية غير الحقوق والواجبات الأساسية، كدفع الزكاة والخمس والصدقات الواجبة.
ومن خلال استقراء الأحكام الشرعية الخاصة بالأفراد والجماعة، فإننا نلمس اننا لا نملك خياراً غير عدم التفريط بالحقوق والواجبات في النظام الاجتماعي. فمقابل كل حق هناك واجب ضروري ينبغي أن يؤدى، أخلاقياً، على الأقل. فكما أن حقوق الأفراد في النظام الاجتماعي مصانة في الإسلام، فإن الواجبات المفروضة عليهم ينبغي أن يراعيها الأفراد أنفسهم. فالحقوق الممنوحة للأفراد في النظام الإسلامي مرتبطة بالإلزامات الاجتماعية والدينية التي فرضتها الرسالة الإلهية على المكلفين. فالقدرة على كتابة الوصية، والقدرة على نقل الملكية بالبيع، والقدرة على توكيل الوكيل كلها تعطينا صورة واضحة عن طبيعة الحقوق والواجبات من الزاوية الشرعية.
فالقدرة هنا تعني القابلية على تحمل المسؤولية الأخلاقية لنقل الحقوق وتبديل صورة الواجبات. أي أن المكلف يمتلك قدرة نفسية وجسدية على تحمل مسؤوليات الواجب الشرعي عندما يتطلب التكليف ذلك. ولديه قدرة أيضاً على تسليم الحق الذي بحوزته إلى مكلف آخر، عن طريق البيع أو التوكيل أو الوصية، إذا استدعى الموقف الشخصي أو الاجتماعي ذلك.
ومن هنا ندرك، كبشر، ان الحق لا يمنح مجاناً ما لم يتلازم مع صورة من صور الإلزام الأخلاقي بأداء الواجب. وتلك الفكرة بحد ذاتها تساهم في تنشيط الجانب الابداعي للأفراد في المجتمع. فليس في المجتمع الديني مقاعد خاصة بالأفراد الذين يستلمون الحقوق فقط دون أداء واجباتهم الاجتماعية. فالعامل له حق الأجر العادل وعليه واجب أداء العمل، والفلاح له حق الأجر العادل وعليه الانتاج، والفقيه له حق الفتوى وعليه طلب العلم وممارسة الاجتهاد، والولي له حق الطاعة وعليه الادارة الاجتماعية، وهكذا الأمر بالنسبة لجميع المكلفين. ويستثنى من ذلك القصر والقاصر والمضطرب عقلياً ونحوها من الاستثناءات التي فصلتها المتون الفقهية.
ج) المشكلة التعبدية
إن الحقوق الدينية مرتبطة بالواجبات والتكاليف الشرعية. ومعنى أداء التكليف، أن المكلف ينبغي أن يؤديه بوازع ذاتي يدفعه لأداء ذلك الواجب. وإلى ذلك أشارت الكثير من الآيات القرآنية المجيدة مثل قوله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الألباب}، {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
والمشهور أن ملاكات الأحكام التعبدية غير قابلة للفهم عند الفقهاء. ولذلك فإن العبادات ثابتة حكماً ولا تتغير موضوعاتها. والمعروف أن أحكام العبادات توقيفية، بمعنى أن صحتها تتوقف على النية لا على ما هو راجح عقلاً. والحقيقة المتشرعيه في المعنى العبادي إجمالاً يقينية واجماعية.
إن الأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات مثلها مثل الثوابت المنطقية التي لا تتأثر بالمتغيرات ولا تقبل التبعيض أو التجزيء أو الالغاء. فهي توقيفية وثابتة بثبوت الجوهر والصفات؛ ولا نستطيع ادراك ملاك الأحكام التعبدية، بل لا نستطيع ادراك العلاقة بين الحكمين الشرعي والعقلي في العبادات. ولكننا نستطيع ادراك حقيقة وجوب أداء العبادات الجماعية والفردية. ولكن ما هي مسؤولية الفقيه وحدود ولايته في تعبيد الناس لله سبحانه؟ سؤال قد تتحدد الاجابة عليه عبر فهم قضيتين: القضية الموضوعية، والقضية الحكمية.
1 ـ القضية الموضوعية: وهي قضية تنمية الدوافع نحو أداء التكاليف. ولاشك أن الولاية الشرعية للفقيه تفتح أبواباً لتطبيق فكرة "وحدة الاطار" التي أشرنا إليها سابقاً. فعن طريق تطبيق الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينظف المجتمع من الرذائل الأخلاقية ويلقي عن ذاته عباءة الآثام والذنوب. وعندها تنمو الدوافع الذاتية نحو أداء التكاليف الشرعية بما فيها من واجبات ومستحبات.
ولاشك أن الأصل في العمل التعبدي هو إيجاد نية القربة إلى الله تعالى في الأداء. فلولا النية لا يتحقق القصد إلى العبادة. فالتأثير على الأفراد من أجل استحداث نوايا خيرة لأداء التعبديات هو الذي يساهم في تنمية الدوافع الذاتية نحو تحقيق الاتصال بالله سبحانه وتعالى عبر الصلاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها. والاندفاع نحو تأدية الصلاة جماعة مثلاً لا يتم إلا بتنشيط الجانب العقلي الذي يمتثل للأمر المولوي المتحدث بلغة الفطرة الانسانية والداخل إلى أعماقها. فالفقيه يحاول، عبر الأمر بالمعروف، تنمية الدافع الذاتي نحو أداء الأعمال التعبدية. وبتعبير آخر أن الفقيه يستطيع أن يؤسس لعلاقة فلسفية بين جسد المكلف وعقله. فعندما تتحرك نوايا المكلفين لأداء العبادات ينجح الدين في بناء الجسر الموصل بين النية والعمل، والقلب والجسد، والقصد والواقع. فالدوافع التي يحركها الفقيه عند المكلفين إذن، هي دوافع امتثالية للأوامر الشرعية الإلهية.
وبكلمة، فإن القضية الموضوعية منعكسة في قابلية الفقيه وقدرته على التأثير على سلوك الأفراد عبر تنمية نواياهم نحو الاندفاع لأداء الأعمال التعبدية. وهذا المقدار هو المتيقن من قولنا بأن من شروط الأمر بالمعروف هو أن يكون الآمر قادراً على التأثير. وقد نوقش في هذا الشرط باعتبار أن الأوامر مطلقة ومقتضاها الوجوب على الاطلاق حتى في صورة العلم بعدم التأثير. ولكن خبر سعدة أخذ حجة في هذا الحقل وهو "انه لما سئل (ع) عما جاء عن النبي (ص): (إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر) قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا فلا". فكان هذا الخبر والإجماع مبرِّراً في وجوب شرط القدرة على التأثير. ولسان الدليل الشرعي هنا ينسجم مع مقتضى الارتكاز العقلائي القائل بأهمية القدرة على التأثير على المكلفين. فالقدرة لدى الفقيه على تنمية دوافع المكلفين نحو أداء التكاليف تعني القدرة على تحقيق تطبيق الإسلام في المجتمع.
2 ـ القضية الحكمية: وهي قضية تحقيق الأمان الاجتماعي. أو حماية المؤمنين في أداء شعائرهم. وهي من باب المقدمة الموصلة لأداء الشعائر الإسلامية الجماعية كصلاة الجمعة والجماعة والعيدين والحج ونحوها. فما لم يكن هناك أمن على النفس والمال والعرض، فإن المكلف لا يستطيع التوجه بنيّة صادقة وقلب مطمئن نحو تأدية العبادات الجماعية وهو الذي يصطلح عليه في أصول الفقه: بوجوب خصوص المقدمة التي تنتهي إلى ذي المقدمة. ويمكن اعتبار الأمان الاجتماعي غرض ابتدائي وهو التمكن من الوصول إلى ذي المقدمة، بينما يمكن اعتبار تأدية العبادات غرض نهائي يعبر عنه بذي المقدمة. وإذا كان الموصل إلى ذي المقدمة مقدوراً للمكلف عبر الأمان الاجتماعي فلابد أن يكون طلب المولى لأداء ذي المقدمة وهي العبادات أشد وأولى. والفقيه، عبر ولايته، يستطيع تحقيق القدر المطلوب من الأمان الاجتماعي.
ولاشك أن تطبيق الحدود الشرعية في القصاص والقطع والجلد والرجم، يحقق قدراً عظيماً من الأمان العام. وثبوت الولاية الشرعية للفقيه يحقق قدراً أعظم في حرية التعبير فيما يتعلق بممارسة العبادات الفردية والجماعية. وفي ضوء ذلك يمكن القول بأن القضايا التعبدية تتحقق باتم صورها عندما تتحقق الولاية الشرعية للفقيه.
د) المشكلة الفكرية
ان المشكلة الفكرية في المجتمع ترتبط بالثقافة العأمة وتوجهاتها. ويقصد بالثقافة: الأمور الفكرية التي يحملها الإنسان في ذهنه ويعتقد بها كالمعرفة، والعقيدة، والقيم الأخلاقية، والعادات، والقانون، وبقية القضايا التي تكون شخصيته الفكرية والاجتماعية. ولاشك أن الفقيه الولي يهتم بالنظام الثقافي في المجتمع الإسلامي. وهو النظام الذي يهتم بتلك الأمور الفكرية التي تشملها اهتمامات الشريحة المثقفة في المجتمع.
ومن الطبيعي، فإن وظيفة الثقافة الدينية هو توحيد آراء المكلفين ونظراتهم تجاه القضايا الكبرى التي تواجههم على صعيد الدين والفكر والنظام الاجتماعي. فالثقافة ليست سلوكاً، لكنها وسيلة من وسائل توحيد سلوك الأفراد في المجتمع.
ان نظافة الثقافة الاجتماعية تدفع الأفراد إلى تحسس مسؤولياتهم الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية.
المسؤولية الأخلاقية في العلاقات الاجتماعية
ولاشك أن عدم وضوح حقوق الأفراد وواجباتهم هو الذي يؤدي إلى التصادم، وبالتالي إلى انهيار النظام الاجتماعي. ولذلك فإن بيان حقوق الأفراد وتحديد واجباتهم ومسؤولياتهم الشخصية والاجتماعية مهم إلى درجة أنه يؤدي لاحقاً إلى انسجام وتوافق وانسيابية في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. وهذا كله من مسؤولية النظام الثقافي للأمة الإسلامية. والشخصية الثقافية للمسلم متميزة بتميز الديانة الإسلامية عن بقية الديانات في العالم المعاصر أو القديم. وينطبق ذات الأمر على العلاقات الاجتماعية للمكلف.
فحقوق الأبوة والبنوة والزوجية والقرابة والجيرة كلها تضع حدوداً لتهذيب العلاقات الاجتماعية وتنظيمها. وطريق تبادل الثروة الاجتماعية عن طريق الزكاة والخمس والصدقات الواجبة والمستحبة تقلل من فرص الحرمان الاجتماعي، وبذلك تؤدي إلى انسجام في العلاقات الاجتماعية أيضاً. وأخلاقية الحرفة الزراعية والصناعية عبر الحفاظ على البيئة الجغرافية نقية ومنتجة، تؤدي أيضاً إلى انسجام في علاقات البشر مع بعضهم البعض وإلى انسجام مع الطبيعة وإلى اشباع حاجات الناس.
فلاشك ان المسؤولية الأخلاقية والشرعية التي يضعها الفقه الإسلامي على الأفراد تساهم في تحديد أدوارهم ووظائفهم الاجتماعية والدينية. فلكل فرد دور محدد عبّر عنه القرآن الكريم بالقول: {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً}. فبالاضافة إلى الوظيفة الشرعية التكليفية في العبادات والوظيفة الشرعية الوضعية في الحقوق الاجتماعية كحق الزوجية وحق النفقة وحق التوكيل، هناك وظيفة اجتماعية انتاجية خاصة بكل فرد. فكل مكلف في المجتمع يتمتع بمقعد اجتماعي معين تترتب عليه وظيفة معينة. والفقه لا يتدخل في شكل الوظائف الاجتماعية ولكن يجعل لها نظاماً ودستوراً. لأن الوظائف الاجتماعية موجودة في كل مجتمع إنساني بالفطرة، لكنها تحتاج إلى تنظيم شرعي وإلزام أخلاقي وتنظير فكري. وهذا هو ما نقصده من دور الفقيه في معالجة المشاكل الفكرية للمجتمع.
فالإسلام لا يحث الناس على إنشاء المستشفيات، بل إنه يضع الضوابط لتنظيمها عندما تعي الفطرة الإنسانية والعقل حاجتها. فمن ضوابط تنظيم المؤسسة الطبية مثلاً هو أن يكون أجر العاملين عليها عادلاً، وأن تكون نفقاتها من مسؤولية الدولة لأن ولي الأمر مسؤول عن ضمان الأفراد عند العجز. فالتطبيب، بعنوان ثانوي، هو ارجاع العاجز إلى عمله الانتاجي من أجل اعالة عائلته ومتعلقيه. وبعنوان أولي، هو تخفيف الألم الناتج عن المرض وتجسيد رحمة الدولة الشرعية بالأفراد. ولكلا العنوانين وجود فقهي ومباني عقلائية واضحة. فكانت مهمة الفقه هنا التنظير لضوابط الوظيفة الاجتماعية لتلك الشريحة من الأفراد في القطاع الطبي.
والفقه لا يتدخل في الوظيفة المهنية للتاجر، بل انه يضع الضوابط لتنظيم تلك الوظيفة في التجارة، والسوق التجاري، وعقود البيع والشراء، والسعر العادل، والميزان القسط، وعدم الغش، وطبيعة المواد المنتجة، وزكاة التجارة. وهذه مباني فقهية. أما نظرية العرض والطلب، وتحليل السوق التجاري، ونظرية فائض القيمة، ونظرية التوزيع، ونظرية النقد، ونحوها فهي تمثل مباني الدليل العقلي.
والفقه لا يتدخل في الوظيفة المهنية للكاتب المثقف، بل انه يضع الضوابط لتنظيم الوظيفة الثقافية والأخلاقية للمجتمع. فهو يضع نظاماً في حرمة: الغيبة، والنميمة، والكذب، والتشهير بالناس مما يؤدي إلى خلق العداوات بينهم. ويضع نظاماً في حرمة تسفيه العقيدة بأي طريق كان. وبالنتيجة، فهو يضع ميزاناً أخلاقياً للثقافة بنشر مباني الفضيلة، والحب، والخير، والتفكر في الخالق عز وجل، والنظر للكون والمخلوقات. ولاشك أن المباني العقلائية تدعو المثقف إلى طرح مشاكل مجتمعه طرحاً نقدياً صادقاً نزيهاً.
وبالاجمال، فإن معالجة المشكلة الفكرية في المجتمع المعاصر تستدعي وقفة طويلة لدراسة الشخصية الثقافية للمسلم الذي يعيش على تراب المجتمع الإسلامي. وولاية الفقيه تتكفل بطرح شامل لقضايا المعرفة، والعقيدة، والقيم الأخلاقية، والقوانين التي يمكن أن يعيش معها الإنسان.
رابعاً: الإمكان العملي
هل ان نظرية "ولاية الفقيه" صالحة لحكم العالم الإسلامي اليوم؟
ان مناقشة نظرية سياسية إسلامية كنظرية ولاية الفقيه في إدارة أي مجتمع من مجتمعات العالم الإسلامي يقودنا إلى التفكير بمبدأين، الأول: مبدأ التمثيل والتركيب الاجتماعي. بمعنى لحاظ طبيعة الأفراد، والتنظيمات الاجتماعية، والأحزاب السياسية، ومدى انسجام هويتها الدينية ووظيفتها الاجتماعية مع فكرة الولاية السياسية للفقيه. والثاني: مبدأ الزاوية المعرفية أو الفكرية لنظرية الولاية الشرعية للقائد الديني، بلحاظ القيم والعقائد والعادات والرموز الدينية.
لاشك ان مجتمعات العالم الإسلامي تحمل كل مقومات المجتمع الديني. فمن الناحية التاريخية، تحمل تلك البلدان في احشائها ذكريات العصور الذهبية للسلطة السياسية الزمنية حيث كانت بغداد ودمشق والقاهرة واصفهان المراكز العالمية للحضارة الإنسانية في القرون المتقدمة من انتشار الإسلام في العالم القديم. ونحن لا نتحدث عن طبيعة حكم تلك المدن وما كانت تمثله من ظلم واضطهاد لأهل البيت (ع) واتباعهم، فلذلك محل آخر. ولكن نقول إن تلك البلدان كانت مراكز للسلطة الزمنية باسم الإسلام. ومن الناحية المذهبية، فإن اختلاف المذاهب في العالم الإسلامي يفترض أن يفهم نظرياً على أساس انه اختلاف في التطبيقات لا اختلاف في الثقافات. ومن الناحية الإنسانية، يحتل الدين مكانة واسعة في شخصية الإنسان المسلم أينما كان. ومع أن المؤثرات الخارجية حاولت تقويض الدين في شخصية ذلك الإنسان عبر مفاهيم الماركسية والقومية والعلمانية والتبعية للغرب، إلا أن الجذور المذهبية المتأصلة في شخصيته لم تقتلع أبداً. فحينما تتوفر أجواء الحرية ويستنشق فيها نسيم الإنطلاق يرجع المسلم إلى جذوره الدينية والمذهبية بكل قوة.
ولكن السؤال الخطير الذي يُطرح هنا لا يكمن في التساؤل التقليدي الذي يقول: هل ان الحكم الديني يصلح لإدارة العالم الإسلامي أم لا؟ فإن الجواب على هذا التساؤل أصبح في حكم البديهيات. فكما استطاع الديني إدارة المجتمع الإيراني الحديث بكفاءة فإنه يستطيع أن يدير مجتمعات أخرى من مجتمعات المسلمين بكفاءة مماثلة. إلا أن السؤال الجدير بالتأمل هو: هل يستطيع فقيه تجمعت عنده شروط القيادة والأعلمية والكفاءة اللازمة قيادة العالم الإسلامي؟
والجواب على ذلك يستدعي مقدمة قصيرة، ونقاط عشر تبلور جوهر الموضوع الذي نحن بصدده.
والمقدمة تتلخص بالقول بان المبنى الشرعي أو الفلسفي للسلطة الدينية يتمحور في محوري المعرفة والعدالة. فإذا كانت المعرفة القطعية لا توصل الحاكم الشرعي إلى العدالة، فإن ذلك الحاكم لا يكون مؤهلاً لإدارة الأمة. وإذا كانت العدالة تطبق بدون سند علمي مبرء للذمة، فإنها قد تقع في مطبات أو قد تختبر عثرات توصلها إلى الظلم بدون قصد. وقد وصف الإمام أمير المؤمنين (ع) من يتصدى للحكم من الأمة وهو ليس بأهل، فقال في مورد نزول المبهمات عليه ليحلها: "... لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ. وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب...". وهذا هو الذي يوصل الأمة إلى الظلم دون أن يعلم ما كسبت يمناه. وعلى أي تقدير، فإن المعرفة يجب أن تقترن بالعدالة عند الحاكم الشرعي الذي انيطت به مسؤولية إدارة الدولة والمجتمع الإسلامي. ولاشك أن جميع المذاهب الإسلامية تقر وتعترف بسلطة الفقيه العادل لإدارة أمور الأمة الإسلامية، ولكن نظرية الولاية المناطة بالفقيه الذي يجمع كل شروط التأهيل الاداري والعلمي هو أفضل ما يقدمه الإسلام من نظريات في الإدارة الاجتماعية.
ومن أجل بلورة فكرة إمكانية نجاح نظرية الولاية الشرعية للفقيه في إدارة العالم الإسلامي، لابد من طرح النقاط التالية:
أولاً: إن التركيبة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية تسمح لفكرة الولاية الشرعية بالنمو والازدهار والانتشار. خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن مجتمعات العالم الإسلامي مجتمعات مغلوب على أمرها تعاني من الظلم والاضطهاد، وان الطبقة الفقيرة منتشرة في أغلب مدن العالم الإسلامي، وان أكثر من نصف سكان بلدانه يعيشون في الارياف أو يعيشون في المدن ولكنهم يحملون جذورهم الريفية. فالفقراء يرون في الدين أملاً لتحقيق أهدافهم نحو حياة كريمة عزيزة، وأهل الريف أكثر تعلقاً بالمعتقدات الدينية من غيرهم لأن فطرتهم تنسجم مع القيم الأخلاقية التي تحملها تلك المعتقدات. فالبيئة الاجتماعية في العالم الإسلامي بالعموم، والشيعي بالخصوص، بيئة خصبة للفقيه الولي الذي يمتلك وعياً فائقاً في فهم الدين وفهم متغيرات الزمان والمكان.
ثانياً: ان الولاية الشرعية للفقيه تعترف بجميع الحركات الاجتماعية والسياسية الدينية وبضمنها الأحزاب الدينية والشخصيات العلمائية والأدبية، وتضع تلك الحركات في موقعها الحقيقي اللائق بها. فالولاية لا تنافس حركة ما أو شخصية ما. بل ان للفقيه الولي دوره المتميز في تثبيت الانسجام الاجتماعي والديني بين الأفراد في المجتمع، وفي جمع الشخصيات والحركات تحت مظلته الشرعية في الارشاد والتوجيه. وقد أثبتت التجارب المعاصرة أن أية حركة من الحركات السياسية أو الدينية لم تستطع قيادة الساحة الاجتماعية أو الانفراد بها، بينما أثبتت التجارب ان القيادة الاجتماعية للفقيه قابلة للتحقق والنجاح أيضاً.
ثالثاً: أن الولي الفقيه أقدر الأفراد، على الصعيدين العلمي والديني، فهماً لقضية الحقوق والواجبات في المجتمع. فالشريعة التي يحاول الفقيه الولي تطبيقها، تحفظ أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم. وإذا تحقق ذلك القدر من الأمان تجاه عرض الإنسان وماله ونفسه، فإنه سينفتح نحو التعبير عن آماله في بناء المجتمع الديني. ولاشك أن مجتمعات العالم الإسلامي تحتاج إلى هذا القدر من الأمان بعد أن عانت من مظالم عظيمة خلال القرون العديدة الماضية.
رابعاً: ان المشكلة العرقية والمذهبية في العالم الإسلامي قابلة للحل. فنظرة إلى التركيبة السكانية للمسلمين في العالم نلحظ أن أكثر من ثلاثين بالمائة من الشيعة، وسبعين بالمائة من السنة، يشكلون التركيبة المذهبية الرئيسية للمسلمين مع وجود مذاهب أخرى ويشكل المسلمون أعراق مختلفة كالعرب والفرس والأتراك والهنود وغيرهم. وإذا كانت هناك خطورة للتفكك في هذه التركيبة التي يجمعها الدين الواحد والتراب الواحد، فإن ضمان الحقوق والواجبات بشكل عادل بين جميع تلك الفئات ينزع فتيل تلك المشكلة. بل يمكن أن تكون تلك الصورة اطاراً لمجتمع مثالي معاصر متعايش على صعيدي اختلاف العرق والمذهب. ولا يستطيع تحقيق ذلك التعايش إلا قائد ديني يستلهم من سماحة الشريعة وتكاملها وجوده الفكري والفلسفي. وذلك القائد هو الفقيه مبسوط اليد ذو الولاية المطلقة.
خامساً: أن ولي الأمر الفقيه يستطيع ممارسة حقه في الإدارة الاجتماعية لاتباع المذاهب والقوميات المختلفة عبر إنشاء مجالس محلية تهتم بشؤونهم ومصالحهم الدينية والاجتماعية، وتنقل له همومهم الحقوقية والتكليفية. فالقيادة في عالمنا المعاصر تعتبر رمزاً لجمع الأمة على وحدة الهدف والمصير، ووسيلة لاشباع حاجات الأفراد عبر بيان حقوقهم وواجباتهم، ومركباً لانقاذ المحرومين وإيصالهم إلى شاطئ العدالة والحرية والابداع.
سادساً: إن الشعاع الفكري الذي يؤمل أن تبثه المؤسسات العلمية الشيعية في النجف الأشرف وقم المقدسة والمؤسسات العلمية السنية في الأزهر والزيتونة والقيروان ينبغي أن تشد مجتمعات العالم الإسلامي نحو التيار العلمائي الذي يقوده الفقيه الذي ما فتئ يطالب ببناء حضارة إسلامية واعية على انقاض التخلف والجهل والتبعية التي روجها سلاطين الظلم والفساد. ولاشك أن توعية الأمة نحو الارتباط بالفقهاء الواعين يضيف إلى عمل الفقيه الولي قدراً من الانسياب والتقبل لدى جميع الفئات الاجتماعية على اختلاف امزجتها الثقافية والفلسفية.
سابعاً: ان حدود الدول الحديثة في العالم الإسلامي والتي انشئت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى هي حدود مصطنعة. وهي إنما انشئت من أجل تمزيق المؤسسة السياسية والاجتماعية الإسلامية. فليس لتلك الدول من شخصية إلا الشخصية القومية أو المذهبية الضيقة. وكذلك الحال في تركيا وإيران قبل الثورة. ولكن الثورة الإسلامية في إيران غيرت الخريطة السياسية والدينية للمنطقة. فبات المثقفون الواعون يتسائلون: ما هو المبرر في عدم رسم خريطة سياسية جديدة قائمة على أساس الإسلام والولاية الشرعية للفقيه؟ وما هو المبرر في عدم ارجاع أمور القيادة الدينية والاجتماعية إلى فقيه واحد له مؤهلات الولاية على مجتمعات العالم الإسلامي؟ والجواب على ذلك انه ليس هناك من مبرر يمنع توحيد القيادة الدينية للعالم الإسلامي، تحت راية فقيه مقتدر قادر على توحيد صفوف الأمة وتجاوز الفوارق التاريخية التي سببتها عصور التخلف والجهل والانحطاط.
ثامناً: ان تجربة ولاية الفقيه تجربة جديدة في العمل السياسي الإسلامي المعاصر، ولتبقى تجربة فريدة من نوعها. فهي تختلف عن تجربة الدولة العثمانية التي جلبت البؤس والفقر والتخلف للمجتمعات العربية التي كانت تحت سيطرتها. وهي تختلف عن التجربة الأزهرية التي حاول فيها جمال عبد الناصر أحد قادة مصر اخضاع الأزهر لهيمنته السياسية وتجريده من محتواه الديني المستقل. وهي تختلف عن التجربة الحجازية في عهد فيصل بن عبد العزيز والتي جعلت من الفكرة الوهابية الضيقة قاعدة لحل المشاكل الاجتماعية المعاصرة دون استخدام الدليل العقلي في الاستنباط. ان الولاية الشرعية للفقيه تعني القدرة على استيعاب التغيرات الاجتماعية التي جلبها نشوء الدولة الحديثة، وتعني القدرة على استيعاب جميع المذاهب والطوائف والقوميات تحت راية دينية واحدة، وتعني القدرة على ارجاع دور الإسلام في تحقيق العدالة الاجتماعية والحقوقية والتعبدية للأفراد. وبهذا اللحاظ فهي مسؤولية أخلاقية يتصدى لها أقدر الأفراد على تحملها أمام الله سبحانه وأمام الأمة الإسلامية.
تاسعاً: ان الولاية الشرعية للفقيه تعني حفظ الثروات الطبيعية الهائلة التي يملكها العالم الإسلامي بيد الشعوب المسلمة، وصيانتها من عبث الشركات الاستعمارية العملاقة. فالثروة الهائلة التي يملكها العالم الإسلامي تستطيع أن تجعل بلدانه من أغنى بلدان العالم في العلم والثقافة والحضارة والصحة والنظام والعطاء. ولاشك أن تولي من أثبتت الأيام والشهور والسنين نزاهته وتعففه من أي مطمع مالي أو مادي، سيجعل من تلك الثروة وسيلة من وسائل بناء العالم الإسلامي اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً. فالثروة هنا تستخدم من أجل اشباع الفقراء وسد حاجاتهم الأساسية، ومن أجل تثقيف الناس وتوعيتهم، ورفعهم إلى مستوى الابداع والإيجاد الرائع لكل ما ينفع البشرية.
عاشراً: ان ولاية الفقيه في الجمهورية الإسلامية على مدى العقود الماضية قد أثبتت حسن التدبير، وحكمة القرار، وقوة الرأي، والحزم في الإدارة. وقد أوصلت تلك الإدارة الحكيمة البلد الإسلامي إلى هذا المستوى الرفيع من التقدم والحضارة والرقي الديني والمدني. وفي عقيدتنا أن ولي الأمة هو وليها أينما كان وبأي لغة تحدث ومن أي منشأ نشأ وترعرع. فهو ولي الأمة في أي بلد تبسط يده فيه. وهذه أمنية لا يمكن انتزاعها من قلوب المؤمنين بالولاية الشرعية. وإذا كان الغرب النصراني يهيمن ولا يزال على منطقة واسعة من العالم، وإذا كانت الشيوعية في الماضي القريب تسيطر على منطقة واسعة من العالم، فلماذا لا يبسط الفقيه الولي يده على العالم الإسلامي من أجل إقأمة حكم الله تعالى؟ أليست العدالة الحقوقية والاجتماعية تستدعي تولي الفقيه العادل أمور الإدارة الاجتماعية؟ إذن فلماذا لا تمد أيدي المسلمين إلى الولاية الشرعية المبسوطة، لتعاهدها على اطاعتها والالتفاف حولها؟ لا مفر لنا من ذلك إذا أردنا لأبنائنا غدٍ إسلامي مشرق تشرق على جنباته أنوار الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية إلى الأبد.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية