مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

مبدأ ولاية الفقيه عند أهل السنة وتطبيقاته
د. بسطامي محمد سعيد*


مقدمة
تضم كتابات علماء المسلمين التي تناولت موضوعات السياسية أموراً ثلاثة، الأول: الأصول والأسس النظرية التي يقوم عليها الحكم الإسلامي، مأخوذة من القرآن والسنة ومن السوابق التاريخية، وبخاصة عهد الخلافة الراشدة التي كانت نموذجاً عملياً سليماً للدولة المسلمة، حسب ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ". الثاني: التأصيل للحاجات المتغيرة في تطورات الدولة المسلمة، وتنزيل الأحكام على الواقع السياسي المتجدد. ومن أمثلة ذلك بحث مشروعية ولاية العهد حين تحوّل نظام الحكم من خلافة راشدة إلى ملكية في عهد الأمويين ومن بعدهم. ومن ذلك أيضاً دراسة مشروعية الاستيلاء على الحكم بالقوة، حين ضعفت سلطة الخليفة المركزية، واستلب الحكم أمراء محلّيون في أقاليم الدولة المختلفة. ومن ذلك أيضاً حكم مشروعية انتقال سلطة الدولة المركزية إلى يد من عرف باسم السلطان، وتوليه الحكم الفعلي مع الإبقاء على سلطة اسمية للخليفة. فلقد تناول الفقه السياسي هذه التغيرات التي طرأت في نظام الحكم وشرّع لها أحكاماً استثنائية اضطرارية تحل مشكلات الواقع المتدهور.
ومن التطورات التي ظهرت في عصر مبكر، زوال سلطان الدولة المسلمة من بعض الأقاليم التي كانت تحكمها، مثل ما حدث في صقلية والأندلس. ومع بقاء أقليات مسلمة في تلك الأقطار فقد تناول الفقهاء أحكام هذه الأقليات في غياب سلطان مسلم. ولقد كان مبدأ ولاية العلماء في غياب السلطان المسلم من المبادئ المهمة التي أسسها العلماء في مواجهة هذا الواقع الجديد.
أما الأمر الثالث التي شملته الدراسات السياسية الإسلامية فقد كان ناظراً للمستقبل، محاولاً استقراء تغيرات أكبر من تلك التي شهدها العالم الإسلامي في عصوره الماضية قبل العصر الحاضر. ومن أوائل من تفكر في ذلك إمام الحرمين الجويني في كتابه (غياث الأمم في التياث الظلم). فقد حاول الجويني التنبؤ بزوال الدولة المسلمة وفقدان الحاكم المسلم، ثم شرّع يؤصل لمعالجة مثل هذا الوضع. ولقد دفعه ذلك إلى توسيع قاعدة ولاية العلماء التي أصّلها علماء قبله، وأفرد لذلك فصلاً كاملاً في كتابه، لم يسبقه إليه أحد.
ولا شك أن زوال الخلافة وغياب الدولة المسلمة التي تنبأ بها الجويني قد حدثت في عصرنا الحاضر، فقد استبدل الحكم الإسلامي بالنمط العلماني الغربي للحكم، واستبدلت الشريعة بالقوانين الوضعية في معظم بلاد الإسلام. فأين مكانة مبدأ ولاية العلماء الذي اقترحه الجويني في مثل هذا الوضع؟ وما معنى ولاية العلماء في ظل الدولة المسلمة؟ وما السلطة التي يتمتعون بها في غياب الدولة المسلمة؟ تحاول الدراسة الحالية الإجابة على هذا السؤال. وسوف يوضح هذا البحث أصول هذا المبدأ وتاريخ تطوره، ويسوق أقوال الفقهاء الكثيرين الذين قالوا به من مشاهير المذاهب الفقهية المعروفة، ويعدد بعض التطبيقات التاريخية لهذا المبدأ والتطبيقات المعاصرة له.
ومن المعلوم أن الشيعة قد أخذوا أيضاً بمبدأ ولاية الفقيه، ولقد استخدم الإمام الخميني هذا المبدأ في إقامة الدولة الإسلامية في إيران. ولكن مبدأ ولاية الفقيه عند الشيعة فيه دراسات كثيرة، ولهذا لن يتعرض هذا البحث له، إنما سيقتصر الحديث هنا على مبدأ ولاية الفقيه عند أهل السنة، الذي قد يجهله تماماً كثير من الناس. وقد عرف المبدأ عند أهل السنة بمصطلح ولاية العلماء وهو المصطلح الذي يفضل هذا البحث استعماله، بدلاً من مصطلح ولاية الفقيه الذي أشاعه الشيعة المعاصرون.
تعريف الولاية اللغوي
الولاية من المصطلحات الإسلامية الشائعة المتداولة في بحوث العقيدة والتصوّف والفقه والسياسة الشرعية، وقد لا تكون هناك حاجة لتفصيل استعمالاتها في كل هذه الميادين، ولعله تكفي الإشارة هنا إلى الأهم الذي يتضح به المعنى المقصود بالولاية في هذا البحث. و كلمة الولاية في أصولها مشتقه من القرب والدنو، ومن ذلك المعنى ما يروى في الحديث (كل مما يليك) يعني مما يقاربك. ومن هذا المعنى الأصلي تولّدت المعاني الأخرى، ومن أهمها اثنان.
1/ الاستعمال الأول أن الولاية بمعنى المحبة والموادّة والمتابعة والعون والنصر والمحاماة، وتستعمل كلمة الموالاة في نفس هذه المعاني، وكذلك كلمة الولاء. والولي والمولى في هذا السياق ضد العدو ويطلقان على جماعة من الناس مثل المحب والصديق والتابع والمطيع والحليف والناصر والجار والشريك والمنعِم والمنعَم عليه والمعتِق والمعتَق.
2/ أما الاستعمال الثاني لكلمة الولاية فبمعنى القيام على الأمر والتصرف فيه والملك له، ومن ذلك السلطان والإمارة، ومنه يقال وإلى البلد للحاكم فيه. قال ابن الأثير: وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي. وفي أسماء الله تعالى الولي قيل هو الناصر على المعنى الأول للولاية، وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها، على المعنى الثاني للولاية. ومن أسمائه عز وجل الوالي وهو مالك الأشياء جميعها المتصرف فيها. ومن هذا المعنى ولي اليتيم الذي يلي أمره ويقوم بكفايته، وولي المرأة الذي يلي عقد النكاح عليها ولا يدعها تستبد بعقد النكاح دونه.
وقد ذهب بعض اللغويين - مثل ابن السكيت = للفصل بين المعنيين فقال إن الوَلاية بفتح الواو للمعنى الأول وهو المحبة وتوابعها، أما الوِلاية بكسر الواو فللمعنى الثاني وهو القدرة والقيام على الشيء. وذهب آخرون - منهم سيبويه - أن كلا اللفظين بفتح الواو أو كسرها بنفس المعنى سواء الأول أو الثاني مثل لفظ الرَّضاعة والرِّضاعة.
تعريف الولاية الفقهي:
المعنى اللغوي الثاني لكلمة الولاية هو الشائع في استعمالات الفقهاء في المواطن التي تستخدم فيها مثل النكاح والبيوع والوقف والإمارة. ومن أجل ذلك عرَّف الجرجاني الولاية في تعريفاته بأنها: (تنفيذ القول على الغير شاء الغير أو أبى). فمن الواضح أن مصطلح الولاية في الفقه يعني سلطة يمنحها الشرع لمن كان أهلاً لها تخول له حق التصرف في شأن من الشئون الخاصة به أو بغيره وإنفاذه، وإلزام غيره به دون توقف على رضاه. وتنقسم الولاية عند الفقهاء إلى أنواع على أساس نطاق سلطتها ومجال عملها، حسب سعتها وضيقها وشمولها وتقييدها. فالقسمان الكبيران للولاية هما الولاية العامة والولاية الخاصة.
أما الولاية العامة فتتعلق سلطتها بشئون المجتمع وتنظيم علاقات الناس ورعاية مصالح الجماعة. فالولاية العامة الكبرى هي ولاية الحاكم في الدولة المسلمة، الذي يفوّض الشارع له حق "حراسة الدين وسياسة الدنيا" نيابة عن المجتمع. وللحاكم أن يفوّض بعض سلطاته لنوابه ووزرائه وقضاته وموظفيه، فتكون لهم ولاية عامة تضيق أو تتسع حسب ما حدد لكل منهم من اختصاص وصلاحيات. وولاية كل واحد منهم مستمدة من تفويض الحاكم له، وليس لأحد أن يتولى ولاية عامة إلا بإذن الحاكم.
أما الولاية الخاصة فتتعلق بشؤون الأفراد، وهي سلطة شرعية يتمكن بها صاحبها من إنشاء العقود والتصرفات المالية والشخصية، وتنفيذها وترتيب آثارها الشرعية عليها. وتكون هذه الولاية أصلية إذا كان الشخص يتولى عقداً أو تصرفاً لنفسه، وتكون نيابية إذا كان الشخص يتولى أمور غيره، مثل قيام شخص كبير راشد على شخص قاصر في تدبير شؤونه الشخصية، وتسمى الولاية على النفس، أو شؤونه المالية وتسمى الولاية على المال. وجدير بالذكر أن جميع صلاحيات الولاية الخاصة تنتقل إلى الحاكم عند عدم وجود من يقوم بها بمقتضى ولايته العامة يمارسها بنفسه أو بواسطة من يأذن له أو من ينوب عنه مثل القاضي.
وسوف يتضح - حسب ما سيأتي بيانه وتفصيله في هذا البحث - أن ولاية العلماء عند أهل السنة من أنواع الولايات العامة.
أصول ولاية العلماء:
وأول ما ينبغي البدء به في بحث أصول مفهوم ولاية العلماء، النظر في أقوال المفسرين في تأويل المقصود بأولى الأمر في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). فالمشهور في ذلك رأيان: أولهما أن المراد بأولي الأمر الأمراء وهو قول جمهور المفسرين، وثانيهما أن المقصود العلماء وهو قول أكثر التابعين واختيار مالك بن أنس. وقد ساق أصحاب كل رأي حججا لترجيح صحة ما ذهبوا إليه. فأما من قال أن المقصود الأمراء فقد استدل على ذلك بأمور. منها سياق الآية في السورة، ذلك أن الله تعالى قال قبل هذه الآية مباشرة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)، ثم قال (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْر مِنْكُمْ). فخاطب الله تعالى في الآية المتقدمة الأمراء فأمرهم بأداء الأمانات والحكم بالعدل، ثم أردف ذلك بتوجيه الخطاب إلى المحكومين في الآية التالية آمراً لهم بطاعة الأمراء. يقول القرطبي في ذلك:
"لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعزّ أولاً، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانياً فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثاً على قول الجمهور. روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه، لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته."
ومن الأدلة على أن المقصود بالآية الأمراء سبب نزول الآية، ومما ورد في ذلك ما روى الصحيحان عن ابن عباس قال: نزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} النساء59 في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية. قال أبو عمر: وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة، ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّرَه على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطباً ويوقدوا ناراً، فلما أوقدوها أمرهم بالتقحّم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ وقال: (من أطاع أميري فقد أطاعني). فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار! فصوّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} النساء29) قال القرطبي: وهو حديث صحيح الإسناد مشهور.
ومن الأدلة أيضاً على نصر هذا القول الأحاديث الكثيرة التي أمرت بطاعة الأمراء، فتبين منها أن المقصود بأولى الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم في الآية هم الأمراء، لأن السنة تبيِّن القرآن. وممن استدل بهذا الدليل الطبري حين قال:
"وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة وللمسلمين مصلحة.... فإذا كان معلوماً أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} النساء59 بطاعة ذوي أمرنا، كان معلوماً أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن ولاه المسلمون دون غيرهم من الناس. وإن كان فرضاً القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية. وإذ كان ذلك كذلك كان معلوماً بذلك صحة ما اخترنا من التأويل.
أما أصحاب الرأي القائل أن المراد بأولي الأمر في الآية هم العلماء، فقد استدلوا أيضاً بأمور، منها ما ذكره القرطبي، قال: "وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ). فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة." وقريب من هذا ما احتج به أبو العالية فيما رواه عنه الطبري، قال: "قوله (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). فأبو العالية يرى أن المقصود بأولى الأمر في الآيتين العلماء لأنهم هم أهل الاستنباط.
والرأي الثالث في تفسير أولي الأمر في الآية أنهم الأمراء والعلماء جميعاً، وممن ذهب إلى ترجيح هذا القول الفقيه المالكي أبو بكر بن العربي، قال:
"والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعاً؛ أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم، وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم وامتثال فتواهم واجب؛ ويدخل فيه الزوج للزوجة. لا سيما وقد قدمنا أن كل هؤلاء حاكم وقد سماهم الله تعالى بذلك فقال: (يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ)، فأخبر تعالى أن النبي حاكم والرباني حاكم والحبر حاكم. والأمر كله يرجع إلى العلماء، لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال وتعين عليهم سؤال العلماء... وزال عن الأمراء لجهلهم واعتدائهم، والعادل منهم مفتقر إلى العالم كافتقار الجاهل."
وقد نصر هذا الرأي الإمام ابن تيمية، فكان مما قال فيه:
"وقد أمر الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه؛ وهم الذين يأمرون الناس؛ وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام. فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء؛ والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس؛ كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم. ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان؛ وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر. وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه؛ وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله؛ ولا يطيعه في معصية الله؛ كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم؛ فقال في خطبته: (أيها الناس القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق؛ والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق؛ أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.)".
فمن الواضح من هذه النقول والمناقشات، أن تفسير معنى (أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يدور بين موسّع ومضيّق. ولما كان لفظ (َأُولِي الْأَمْرِ) في عمومه "يعني ذويه، وهم أصحاب الأمر والمتولّون له. والأمر هو الشأن، أي ما يهتمّ به من الأحوال والشؤون، فأولو الأمر من الأمّة ومن القوم هم الذين يسند الناس إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنّه من خصائصهم، فلذلك يقال لهم: ذَوو الأمر وأولو الأمر، ويقال في ضدّ ذلك: ليس له من الأمر شيء." فاللفظ بعمومه هذا يشمل كل من تولى أمراً وكانت له سلطة تدبيره، ولا شك أن ذلك يشمل طوائف كثيرة من الناس ممن يقومون بإدارة شؤون المجتمع، ويدخل في أولئك الأمراء ونوابهم دخولاً أولياً، ويدخل فيه العلماء، كما يدخل فيه الزوج راعياً على أسرته. وقصر لفظ أولي الأمر على بعض أنواعه يحتاج إلى قرائن وأدلة، ولهذا يظهر أن شمول اللفظ لكل من كانت له سلطة وولاية من المسلمين. ومن الواضح أن طاعتهم تجب على من كان تحت دائرة اختصاصهم، مع قصر هذه الطاعة على من أمر بمعروف موافق للشرع، ولا طاعة على مسلم لأحد في غير ذلك.
والمقصود هنا أن العلماء لا شك من ولاة الأمر، ولهم نوع ولاية. ولكن يبقى البحث عن طبيعة هذه الولاية وسلطتها، والتفريق بينها وبين سلطة الأمراء والحكام في الدولة المسلمة، وبيان سلطة ولاية العلماء في غياب الدولة المسلمة.
ولاية العلماء في الدولة المسلمة
مما لا شك فيه أن السلطة العامة في المجتمع المسلم، بيد الحكومة التي تتكون على أساس القواعد والمبادئ التي قررتها الشريعة، ولا شك أن أصحاب هذه السلطة هم رؤساء الدولة المسلمة، من خلفاء وملوك وسلاطين وأمراء، حسب ما عرفوا به من مصطلحات في الفقه السياسي. وسلطة الحكومة الإسلامية وحكمها نافذ وسائر على كافة الناس، وكلهم يدخل تحت سلطانها ويخضع لطاعتها. ولهذا نجد كثيراً من تعريفات الإمامة الإسلامية تتضمن صياغة صريحة لخاصية عموم سلطتها. فقد عرّفها الإمام الجويني مثلاً فقال: "الإمامة رئاسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا". ويقول ابن خلدون: "الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية". وتعريف ابن خلدون يشير بوضوح إلى أن عموم سلطة الخلافة لا يعني أنها سلطة مطلقة، بل هي قائمة "على مقتضى النظر الشرعي"، أو بعبارة أخرى خاضعة لحكم الشريعة الإسلامية ومقيدة بحدودها، ومن أهم هذه الحدود أنها سلطة شوريّة. ومن تعريفات الإمامة التي أكدت أيضاً عموم سلطة الخلافة، ما ذكره القاضي عبد الجبار حين قال:
فإذا كانت سلطة الحكومة الإسلامية بهذا العموم، حيث "لا يكون فوق يدها يد"، فما معنى ولاية العلماء في ظل الدولة الإسلامية؟ وما مدى سلطتهم مقارنة بسلطة الحكومة؟ لعله من الصعب أن توجد إجابة مباشرة لهذا السؤال في كتابات السلف، رغم شهرة ما نقل من تفسير فيما سبق أن العلماء من ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم. لكن يبدو أنه لا أحد كان يتحدث عن واجب العلماء في الدولة المسلمة ومكانتهم ووظائفهم تحت مصطلح ولاية العلماء. وحين ظهر هذا المصطلح في العصور التي بدأ فيها سلطان الدولة المسلمة يغيب عن بعض البلدان مثل الأندلس، كان المقصود منه ولاية العلماء في غياب الحاكم المسلم كما سيوضح لاحقاً. ومع أن مصطلح ولاية العلماء لم يستخدم صراحة في داخل الدولة المسلمة ووجود الحاكم المسلم، إلا أن محتواه ومضمونه كان واقعاً. وما دام ذلك كذلك فلا مشاحّة في استعمال هذا المصطلح للدلالة على وظائف العلماء ومهامهم وواجباتهم في ظل الحكومة الإسلامية، لأنه مصطلح جامع ومفيد. وبعد هذا التقرير ينبغي النظر في معنى ولاية العلماء في الدولة المسلمة، ومحاولة البحث عن مدى سلطتهم بجانب سلطة الحكومة.
بالبحث في الأقوال المتناثرة في بطون الكتب عن ولاية العلماء، يتضح أن هناك فروقاً مهمة بينها وبين ولاية الحكام والأمراء. وتختلف العبارات في وصف هذه الفروق ولكن مبناها على أن ولاية الحكام قائمة على القوة والقدرة التي تقهر الناس وتجبرهم على الطاعة، أما ولاية العلماء فقائمة على البيان بالحجة والبرهان، وطاعة الناس لهم طاعة اختيارية وليست قهرية. ويكفي نقل بعض الاقتباسات من الأقوال التي ذكرت هذا الفرق. فمن ذلك الاقتباس السابق المنقول عن ابن تيمية في تعليقه على قول الله تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، قال: "وأولو الأمر أصحاب الأمر وذووه؛ وهم الذين يأمرون الناس؛ وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام. فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء؛ والأمراء. فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس". وفي نفس المعنى يقول الرازي في تفسير لفظ السلطان: "السلطان مشتق من التسليط، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية، والملوك سلاطين بسبب ما معهم من القدرة والمكنة". ويقول في موضع آخر: "الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان: العلم والقدرة، أما العلماء، فهم نواب الأنبياء في العلم، وأما الملوك، فهم نواب الأنبياء في القدرة، والعلم يوجب الاستيلاء على الأرواح، والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأرواح، والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد". ويقول ابن تيمية في موضع آخر:
"قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} الحديد25. فأخبر أنه أرسل الرسل وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق فالكتاب يهدي والسيف ينصر وكفى بربك هادياً ونصيراً.
ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحوا صلح الناس الأمراء والعلماء، وقالوا في قوله تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، أقوالاً تجمع العلماء والأمراء؛ ولهذا نص الإمام أحمد وغيره على دخول الصنفين في هذه الآية، إذ كل منهما تجب طاعته فيما يقوم به من طاعة الله."
ومع هذا الفرق الواضح بين طبيعة الولايتين، فإنهما يتداخلان فيما بينهما. فمن ناحية يدخل العلماء مثل بقية طوائف المجتمع تحت ولاية الحكام وسلطانهم، وعليهم طاعتهم فيما يأمرون به في أمور الحكم وشئون الدولة، ما دام موافقاً للشرع. والأدلة على هذا مشهورة معروفة مما يغني عن ذكرها. ولكن من ناحية أخرى، يدخل الحكام تحت ولاية العلماء، ذلك أن واجب الحكام أن يحكموا وفق الشريعة الإسلامية، والعلماء هم المرجع في بيان الشريعة وتوضيح أحكامها، فكان الحكام من هذه الناحية داخلون تحت سلطان ولاية العلماء وخاضعون لطاعتهم فيما يبينونه من الأحكام الشرعية. ومن الأقوال المشهورة في بيان هذا عبارة أبي الأسود الدؤلي الذي قال: "ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك". ومن النقول التي توسعت في بيان هذه العلاقة بين العلماء والحكام ما قرره الإمام ابن القيم، بعد حكايته للقولين في تفسير أولي الأمر أنهم العلماء أو الأمراء، فقال:
"والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء. ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء)."
التطبيقات التاريخية والمعاصرة:
بعد إيضاح مبدأ ولاية العلماء في الدولة المسلمة نظرياً، يحسن البحث عن سوابق في التاريخ الإسلامي تبين وقوعه عملياً، مع محاولة النظر في مدى صلاحية المبدأ للتطبيق المعاصر.
لا شك أنه من المعروف أن المرحلة الأولى من التاريخ الإسلامي، وخاصة في عهد الخلفاء الراشدين، قد تميزت بخاصية فريدة، وهي اجتماع ولاية الحكم وولاية العلم، أو السلطة السياسية والسلطة العلمية، وتوحدهما حتى لكأنّهما سلطة واحدة. فالخلفاء الراشدون ونوابهم أمراء الأقطار، كانوا من العلم الشرعي في مكانة عالية، ولم يكن يتولى سلطة الحكم والإمارة إلا من كان عالماً متمكناً، عارفاً بالفقه الشرعي. ومن المعروف أيضاً أن طريقة الحكم كانت تقوم على قاعدة الشورى، وكان من يستشارون هم رؤساء الناس وعلماءهم، فكان أهل الشورى هم أهل الرأي وأهل العلم. ومن الأمثلة التاريخية على ذلك ما رواه البخاري تعليقاً قال: "وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً." وتحدث ابن القيم عن طريقة أبي بكر وعمر في الحكم فقال:
"وقال أبو عبيد في كتاب القضاء، كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم، نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنّة سنّها النبي صلى الله عليه وسلم، جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به. وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة، سأل هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به."
وفي المرحلة الثانية بعد قيام الدولة الأموية، بدأت ولاية الحكام تنفصل عن ولاية العلماء تدريجياً. فمن ناحية لم يكن يتولى الحكومة والسلطة التنفيذية، من كان جامعاً للشروط المعتبرة في ذلك، من العدالة والعلم المؤدي للاجتهاد في النوازل والأحكام، كما كانت الحال في عهود الإسلام الأولى. ولكن استمرت ولاية العلماء مهيمنة على شعب كثيرة في حياة الناس، فقد كان القضاء والإفتاء والاجتهاد والتشريع للنوازل الجديدة بأيدي العلماء، واستمر الحكام في كثير من الأمور يخضعون لرأي العلماء وفتاواهم. يقول الغزالي واصفا هذا التغير:
"اعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادراً في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة... فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم."
وإذا أخذ المرء في الاعتبار حقيقة الحكومة الإسلامية في التاريخ الإسلامي قبل العصر الحديث، لتبين له أنه لم يكن لها من وظائف إلا في دوائر خاصة من أهمها القضاء والجيش والشرطة وجمع الأموال العامة وصرفها، أما أكثر وظائف الدولة المعاصرة قد كان يقوم بها المجتمع في شبه استقلال عن الحكومة من تعليم وصحة وطرق ومواصلات وغيرها. وإذا كان العلماء هم قادة المجتمع ومن أصحاب النفوذ والتأثير فيه، تبين أنهم كانوا يملكون من السلطان والولاية والمكانة في الأمور العامة ما لا يملكه الحكام والملوك، بل كان الملوك والحكام أنفسهم خاضعين لسلطان العلماء في كثير من الأمور.
ثم تغيرت الحال وتبدلت إذ بدأ سلطان العلماء يضعف ويضمحل، ومثل ما أصاب الضعف الحكومة الإسلامية أصاب القصور والعجز ولاية العلماء. ولا شك أن ذلك حدث تدريجياً ولم يحدث فجأة، إذ استمر للعلماء دورهم حتى في أواخر عهود الدولة العثمانية. وبحلول العصر الحديث الذي سيطر فيه الغرب بجيوشه وقيمه وعلمانيته على المجتمع، انحسر سلطان العلماء وتأثيرهم، وانحصر في دوائر محدودة مثل المساجد ودور العبادة وبعض معاهد العلم، وقضاء الأحوال الشخصية، والإفتاء في المشكلات الخاصة. وإن كان لا شك أنه لم يخل زمان ولا بلد من بقية من العلماء حاولوا جهدهم القيام بمهمة الولاية الملقاة على عاتقهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ووجدوا أحياناً من بعض الحكام من مكّن لهم وساعدهم على ذلك. ولعل من أهم أسباب ضعف ولاية العلماء انفصال العلم الشرعي عن واقع الحياة، وانفصاله عن العلوم الطبيعية والاجتماعية، وانحسار الإسلام عن أوجه الحياة العامة بسبب علمانية المجتمع.
وإذا كانت ولاية الأمر في المجتمع المسلم في يد طائفة الحكام وطائفة العلماء، فإن صلاح المجتمع المسلم المعاصر بصلاح هاتين الطائفتين، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ولا شك أن القمة العالية لصلاح هاتين الطائفتين في عهد الخلافة الراشدة يظل هو المثال المنشود، فقد كان العلماء في الرعيل الأول، هم رؤساء الدولة ووزرائها وساستها وقضاتها وقادة جيوشها. وقد كان ذلك هو مصداق شعار أن السياسة من الدين، إذ لا سياسة بلا دين ولا دين بلا سياسة، كما قال ابن تيمية: "إن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس." فإذا كان مبدأ ولاية العلماء صالح للتطبيق المعاصر مثل صلاحية مبدأ الحكومة الإسلامية، فهناك أشكال كثيرة لمثل هذا التطبيق، لعل من أهمها أن يكون أعضاء السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، متأهلين بالعلم الشرعي مع تخصصاتهم الأخرى. ولعل من الخطوات المهمة في ظل أوضاع العالم الإسلامي الحالية إلى حين أن يتحقق ذلك الإصلاح الشامل، إصلاح التعليم في الدولة حتى تضيق الفجوة الكبيرة بين العلوم الشرعية والطبيعية والاجتماعية، والسعي لتقريب الشقة بين العلماء والحكام وتعاونهم في الخير، ومشاركة العلماء في العمل السياسي، وإشراكهم في المجالس الاستشارية، وإفساح المجال للمتخصصين منهم في تولي المناصب العامة.
ولاية العلماء في غياب الدولة المسلمة:
كان من أهم ما دفع لظهور مبدأ ولاية العلماء وتأصيله، غياب الحكم الإسلامي عن بعض الأقاليم، مثل ما حدث في الأندلس وصقلية، ووجود أقليات مسلمة خاضعة لسلطة غير إسلامية. ولقد صدرت فتاوى كثيرة من عدد كبير من الفقهاء، تتضمن مبدأ قيام العلماء مقام الحاكم المسلم في مثل هذه الأوضاع. وبمراجعة المجاميع التي تضمنت هذه الفتاوى، يتضح أنها كانت صادرة من أسماء مشهورة ومعتمدة لدي مذاهبها الفقهية. ومن الملاحظ أن فقهاء المالكية كان لهم السبق في تقرير هذا المبدأ، ولعل ذلك بسبب الظروف التاريخية التي واجهوها، فقد كان المذهب المالكي منتشراً في الأندلس وصقلية وبلاد المغرب الكبير. وفيما يلي تحليل لأهم هذه الفتاوى الصادرة المتضمنة لمبدأ ولاية العلماء في غياب الحكم الإسلامي.
فتاوى المالكية:
جمع الونشريسي (834هـ -914هـ) في مجموعه المسمى (المعيار المعرب)، أكثر من ست آلاف فتوى صادرة عن مشاهير العلماء، الذين عاشوا في بلاد الأندلس والمغرب وشمال إفريقيا، في خلال الفترة ما بين أواخر القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي والقرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي. ولقد تناولت كثير من هذه الفتاوى النوازل والمشكلات التي واجهت المسلمين في هذه البلاد على مدى قرون، ومنها استيلاء النصارى على أجزاء كبيرة منها، ووقوع المسلمين تحت حكمهم. وتضمنت بعض هذه الفتاوى مبدأ ولاية العلماء، وقيامهم مقام الحاكم المسلم في غيابه. وهذه مناقشة لبعض هذه الفتاوى.
1/ أحمد بن نصر الداودي (ت. 402هـ/1012م)
سئل الداودي عن بلاد المصامدة في منطقة جبلبة معزولة بالمغرب، لم تكن تخضع لسلطة الدولة المسلمة، من يملك حق تحكيم الشريعة في المقيمين بها، فأجاب بعبارة صريحة بقوله: "كل بلد لا سلطان فيه، أوفيه سلطان يضيع الحدود، أو السلطان غير عدل، فعدول الموضع وأهل العلم، يقومون في جميع ذلك مقام السلطان."
2/ أبوالحسن القابسي (ت 403هـ/1012م)
سئل القابسي عن مكان في بلاد السودان القديمة، كان خاضعاً لحاكم غير مسلم، وفي البلد رجل مسلم ولاه ملك البلد القضاء بين المسلمين ورضي به المسلمون لأنفسهم، هل تجوز أحكامه وتنفذ على المسلمين؟ فأجاب بتفصيل:
"إذا كان هذا المكان الذي دار فيه هذا الأمر، مستقراً للمسلمين سكنوه وأقاموا فيه، فلا بد لهم ممن ينظر في أمورهم ويحكم بينهم، وتكون لهم يد يقوى بها على من عصى الحكم ويأمر بها من الغالب على المكان، إذ لا يمكن أن يفتات على الملوك في سلطانهم، ولا سيما سلطان الكفر والعداوة. فإن كان ناظر المسلمين منهم يحكم فيهم بأحكام المسلمين فحكمه ماض إذا أصاب وجه الحكم، ولازم لمن رضي أن يدخل في سلطانه ويقيم تحت نظره من مقيم أو مجتاز".
فمن الواضح أن القابسي يضع شروطاً لإمكانية قيام أحد مقام الحاكم المسلم، منها أن يكون ذلك مأذوناً به من السلطة غير المسلمة القائمة على البلد، إذ لا يمكن لأحد أن يتعدى على سلطانها، وأن تكون له قوة لتنفيذ أحكامه يستمدها من السلطة القائمة أو من المسلمين الذين رضوا بنصبه على أنفسهم.
3/ وسئل المازري (ت 536هـ/1142م) عن أحكام قضاة جزيرة صقلية، من المسلمين الذين تقلدوا القضاء على المسلمين بتولية النصارى لهم. فأجاب بأن الأصل أن تولية الكافر للقاضي المسلم لا تصح، لكن توليته في مثل هذا الوضع ضرورة بل واجب، خاصة إذا كان ذلك بطلب من المسلمين، وذلك لا يقدح في حكمه وتنفيذ أحكامه كما لو ولاه سلطان مسلم. ثم صاغ عبارة جامعة تؤصل لمثل هذا الوضع فقال: "أقام شيوخ المكان مقام السلطان عند فقده، لما يخاف من فوات القضية."
فتاوى الشافعية
يضم كتاب الفتاوي الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي، مجموعة من فتاوى الشافعية عن مبدأ قيام الفقيه مكان الحاكم المسلم، إن فقدت سلطته في قطر من الأقطار. وفيما يلي عرض لبعض هذه الفتاوى.
1/ سئل أبو الحسن الأصبحي (ت 703هـ/1303م) فقيه الشافعية باليمن، عن واقعة وهي "إذا عدم في قطر ذو شوكة وحاكم، ولم يوجد للمرأة ولي ولا للأطفال وصي ونحوه، فهل لجماعة من أهل البلاد تنصيب فقيه يتعاطي الأحكام في الأبضاع والأموال؟" فأجاب الأصبحي رحمه الله تعالى بقوله: "نعم، إذا لم يكن رئيس يرجع أمرهم إليه، اجتمع ثلاثة من أهل الحل والعقد، ونصبوا قاضياً صفته صفة القضاة. ويشترط في الثلاثة صفة الكمال كما في نصب الإمام."
2/ وعلّق فقيه المدينة الشافعي المعروف علي السمهودي (ت 911 هـ /1505م) على فتوى الأصبحي بقوله: "ووجهه أن الميسور لا يسقط بالمعسور، فحيث تعذر الإمام وأمكن نصب القاضي وجب، لأن الضرورة داعية إليه فيأثم أهل تلك البلاد بتركه، وقوله صفته صفة القضاة، أي التي يمكن وجودها في زمانهم."
3/ ونسبت فتاوى مشابهة لعدد من فقهاء الشافعية، منهم فقيه مكة جمال الدين بن ظهيرة (ت 817 هـ/1414م)، مجيزاً لشيوخ وكبراء أية قرية لا تخضع مباشرة لسلطة الحكومة القائمة، أن ينصبوا قاضياً من بينهم يحكم بين الناس بالشرع، ويتولى جميع ما يتولاه القضاة. ويتأكد ذلك في المناطق النائية التي عادة ما يكون شيوخ القبائل فيها أكثر نفوذاً من السلطة المركزية. وقد أفتى الفقيه اليمني أبو العباس أحمد بن موسى ابن عجيل، قبائل اليمن بمثل هذه الفتوى وأجاز لهم نصب قاض على أنفسهم.
4/ ومن أوائل من نسبت إليهم نفس الفتوى فقيه الشافعية المشهور الماوردي (ت 450 هـ/ 1058م)، وعبارته في ذلك هي: "إذا خلا بلد عن قاض وخلا العصر عن إمام، فقلّد أهل الاختيار أو بعضهم برضا الباقين واحداً، وأمكنهم نصرته وتقوية يده جاز تقليده، ولو انتفى شيء من ذلك لم يجز تقليده."
5/ ومن الفتاوى المنقولة أيضاً: "إذا لم يكن في البلد قاض وكان فيها رجل عالم أو عدل ثقة مرضي به عند عدم الحاكم، وتراضى به أهل البلد ونصبوه بإجماع عشرة عدول، وكان عالماً بالشرع أو غير عالم إلا أنه يستفتي من يثق بفتواه ويحكم بها، فأحكامه وتصرفاته في ذلك نافذة."
6/ ووافق ابن حجر الهيتمي على هذه النقول وصححها بقوله: "ما ذكر في هذه الأجوبة صحيح جار على القواعد،... وهو اللائق بقاعدة أن المشقة تجلب التيسير، وأن الضرورات تبيح المحظورات وغيرهما، فإذا خلا بلد أو قطر عن نفوذ أوامر السلطان فيه، لبعده وانقطاع أخباره عنه وعدم انقياد أهله لأوامره لو بلغتهم، فلم يرسل لهم قاضياً، وجب على كبراء أهله أن يولوا من يقوم بأحكامهم، ولا يجوز لهم أن يتركوا الناس فوضى، لأن ذلك يؤدي إلى ضرر عظيم. فإذا ولوا عدلاً نفذت جميع أحكامه، وصار في حقهم كالقاضي."
فتاوى الحنفية
يمثل رأي الأحناف ما أورده ابن الهمام (ت 861 هـ/ 11456م) الفقيه الحنفي المصري، في كتابه فتح القدير حين قال:
" وإذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقلد منه، كما هو في بعض بلاد المسلمين غلب عليهم الكفار كقرطبة في بلاد المغرب الآن وبلنسية وبلاد الحبشة، وأقروا المسلمين عندهم على مال يؤخذ منهم، يجب عليهم أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه والياً، فيولي قاضياً أو يكون هو الذي يقضي بينهم، وكذا ينصبون لهم إماماً يصلي بهم الجمعة."
التنبؤ بزوال الدولة المسلمة:
أفرد إمام الحرمين الجويني (ت 487 ﻫ/ 1085م) في كتابه في الفقه السياسي، الذي عنوانه "غياث الأمم"، فصلاً كاملاً تنبأ فيه بزوال الحكم الإسلامي بالكلية عن العالم، ثم تساءل عن كيف يمكن تحكيم الشريعة الإسلامية في مثل هذه الظروف؟ ولقد دفع الجويني للنظر في مثل هذا الاحتمال رؤيته للتغيرات التي طرأت على شكل الحكم الإسلامي منذ عصور الخلافة الراشدة، وما اعتراها من خلل. فجنح به خياله هل يمكن أن يأتي زمان يخلو فيه العالم من دولة مسلمة؟ وقد جعل عنوان الفصل الذي ناقش فيه هذا الفرض "القول في خلو الزمان عن الإمام". ثم ذهب يقترح حلاً لمثل هذا الوضع، قائماً على مبدأ ولاية العلماء في غياب الدولة المسلمة. وهذه بعض اقتباسات من كتاب الجويني تبين فقهه للمسألة ونظرته لحلها. قال:
"فإذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء. وحقٌّ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم؛ فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل؛ وصار علماء البلاد ولاة العباد".
وإذا كان الجويني غير مسبوق لفرضه خلو العصر عن حكومة إسلامية، إلا أنه لم يكن أول من قال بمبدأ ولاية العلماء في مثل هذا الوضع، بل من الواضح أنه كان ناقلاً عن غيره، وقد صرح هو بنفسه بذلك ناسباً مبدأ ولاية العلماء إلى غيره. قال:
"وقد قال بعض العلماء، لو خلا الزمان عن السلطان فحقٌّ على قُطَّان كل بلدة وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى، وذوي العقول والحجا، من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلّدوا عند إظلال الواقعات."
وينبغي التنويه أن الجويني هنا كان ناظراً للمستقبل، وكان بحثه للمسألة أمراً فرضياً وبحثاً نظرياً، ولهذا قد خلت مناقشته عن أي تفصيل، عن كيف يمكن أن يقوم العلماء مقام الحاكم المسلم في غيابه. فهل كان الجويني يتحدث عن مجتمع فوضوي ليست له حكومة؟، أو كان يتحدث عن مجتمع مسلم خاضع لدولة غير مسلمة؟ لا يبدو الأمر جلياً من مناقشة الجويني له، ولكن أياً كان الأمر فإن ما سقناه من قبل من فتاوى، تبين أن قيام العلماء مقام الحاكم المسلم لا يمكن إلا أن يكون برضا وتفويض من مسلمي البلد وأهل الرأي فيهم، وبإذن من السلطة الحكومية القائمة، وأن تكون لهم قدرة وسلطة تمكِّنهم من تنفيذ أحكامهم القضائية. ولا يمكن أن يتصور بغير ذلك أن تكون للعلماء سلطة فعلية في المجتمع، تمكنهم من تطبيق الشريعة الإسلامية وتحمل واجباتها القضائية.
ومن هنا تبرز الحاجة للتساؤل هل كان مبدأ ولاية العلماء في غياب الدولة المسلمة، قاعدة فرضيه نظرية، أم كان لها تطبيق في تاريخ الإسلام؟ وهل تصلح القاعدة للتطبيق المعاصر؟ هذا ما ستنظر فيه السطور التالية.
التطبيقات التاريخية:
من المعروف تاريخياً أنه منذ فجر الإسلام قد كانت هناك أقليات مسلمة تعيش في دول غير مسلمة. فقد كانت أول هجرة للمسلمين إلى الحبشة، وبقي بها المسلمون بعد قيام الدولة المسلمة في المدينة حتى السنة السابعة من الهجرة؛ وإن لم تكن هذه الهجرة للاستقرار والتوطين، إلا أنه ظلت بالحبشة أقلية مسلمة منذ ذلك التاريخ إلى اليوم. ومن الأقليات المسلمة الأولى تلك التي وجدت في مملكة المقرة المسيحية في منطقة النوبة، بعد أن عقد الصحابي الجليل عبد الله بن سعد بن أبي السرح معاهدة صلح معهم، كان من شروطها الحفاظ على أمان المسلمين ومساجدهم وحريتهم الدينية، وهي المعاهدة التي ظلت سارية لمدة ستمائة عام، حين قضى المسلمون على الممالك المسيحية في السودان. وفي المناطق الساحلية للهند التي دخلها الإسلام عن طريق التجار المسلمين، وجدت أقليات مسلمة في عصور متعاقبة تحت حكم الهندوس، قبل قيام الممالك الإسلامية هناك. وفي الصين عاشت أقلية مسلمة طوال عمرها ولقرون مديدة تحت حكم غير إسلامي. وظلت أقليات مسلمة متعددة في أوروبا في الأقاليم التي أزيل عنها الحكم الإسلامي مثل صقلية، أما في الأندلس التي استغرق سقوطها في أيدي النصارى زهاء أربعة قرون، فقد استمر المسلمون يعيشون تحت حكم النصارى. ولم تدرس أحوال هذه الأقليات المسلمة في البلاد غير المسلمة، ولم يسلط عليها الضوء بالقدر الكافي. فمع كثرة حالات اضطهاد المسلمين في غالب الأحيان، إلا أنه من الملحوظ أن بعض هذه الأقليات كانت تتمتع على درجات متفاوتة بقدر من الحريات الدينية، سمحت لها بممارسة شعائرها وإقامة المساجد والمدارس، وبل وحكم نفسها بالشريعة الإسلامية في شبه استقلال عن السلطة غير المسلمة القائمة. وهذا ما ستوضّحه الأدلة والأمثلة التالية، التي تظهر بوضوح تطبيق قاعدة ولاية العلماء في غياب الحاكم المسلم.
نماذج من الهند:
زار الرحالة المؤرخ المسعودي في عام 304هـ/916م مدينة صيمور في غرب الهند، وهي مدينة قديمة درست قرب مدينة بومباي الحالية، ووجد فيها قرابة عشرة آلاف مسلم، يعيشون تحت ملك الهنود ولقبه المعروف به عندهم البلهرا، وعلى رأسهم شيخ يحكمهم بالشريعة يسميه الهنود الهرنمة، وهذا ما ذكره عنهم:
"وقد حضرت ببلاد صيمور من بلاد الهند من أرض اللار من مملكة البلهرا، وذلك في سنة أربع وثلثمائة، والملك يومئذ على صيمور المعروف بجانجا. وبها يومئذ من المسلمين نحو من عشرة آلاف قاطنين، بياسرة وسيرافيين وعمانيين وبصريين وبغداديين، وغيرهم من سائر الأمصار ممن قد تأهل وقطن في تلك البلاد. وفيهم خلق من وجوه التجار مثل موسى بن إسحاق الصندالوني؛ وعلى الهرنمة يومئذ أبو سعيد معروف بن زكريا، وتفسير الهرنمة يراد به رئاسة المسلمين، يتولاها رجل منهم عظيم من رؤسائهم تكون أحكامهم مصروفة إليه، ومعنى قولنا البياسرة يراد به من ولدوا من المسلمين بأرض الهند، يُدْعَوْن بهذا الاسم، وأحدهم بيسر، وجمعهم بياسرة".
ويذكر المسعودي أن هذه سنة ملك الهند الملقب باسم البلهرا، مثل فرعون وكيسر وقيصر، يقول:
"وليس في ملوك السند والهند من يعز المسلمين في ملكه إلا البلهرا، فالإِسلام في ملكه عزير مَصُون، ولهم مساجد مبنية وجوامع معمورة بالصلوات للمسلمين. ويملك الملك منهم الأربعين سنة والخمسين سنة فصاعداً، وأهل مملكته يزعمون أنه إنما طالت أعمار ملوكهم لسنته العدل وإكرام المسلمين".
نماذج من الصين:
دخل الإسلام إلى الصين عن طريق التجارة منذ عهد الخلافة الراشدة، وتعيش في الصين أقلية مسلمة كبيرة، تمتعت بحرية دينية متفاوتة حتى القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي. وقد زار الرحالة ابن بطوطة أرض الصين، وسجل في مذكراته عن حرية المسلمين ما يأتي:
"وأهل الصين كفار يعبدون الأصنام ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود، وملك الصين تترى من ذرية جنكيز خان. وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناها، ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها، وهم معظمون محترمون".
وكان من المدن التي زارها مدينة صين كلان، فكان مما وصفه عن وضع المسلمين ما يأتي:
"... وهكذا إلى أن وصلنا مدينة صين كلان، وهي مدينة صين الصين، وفي بعض جهات هذه المدينة بلدة المسلمين، لهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق، ولهم قاض وشيخ. ولا بد في كل بلد من بلاد الصين من شيخ الإسلام، تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه وقاض يقضي بينهم."

نماذج من آسيا الوسطى:
عاشت أقليات مسلمة في آسيا الوسطى، وكان من أولئك من وصفهم المسعودي في زيارته لمنطقة بحر الخزر (قزوين) حين قال عن مدينة آمل عاصمة البلد التي يقيم فيها ملك الخزر:
"وفي هذه المدينة خلق من المسلمين والنصارى واليهود والجاهلية؛ فأما اليهود فالملك وحاشيته والخزر من جنسه، وكان تهوَّدَ ملك الخزر في خلافة هارون الرشيد، وقد انضاف إليه خلق من اليهود، وَرَدُوا عليه من سائر أمصار المسلمين ومن بلاد الروم.
والغالب في هذا البلد المسلمون؛ لأنهم جند الملك، وهم يعرفون في هذا البلد باللارسية، وهم ناقلة من نحو خُوَارزْمَ، وكان في قديم الزمان بعد ظهور الِإسلام وقع في بلادهم جدب، ووباء، فانتقلوا إلى ملك الخزر، وهم ذو بأس وشدة، وعليهم يعول ملك الخزر في حروبه، وأقاموا في بلده على شروط بينهم، أحدها إظهار الدين والمساجد والأذان، وثانيها أن تكون وزارة الملك فيهم، والوزير في وقتنا هذا منهم هو أحمد بن كويه، وثالثها أنه متى كان لملك الخزر حرب مع المسلمين وقفوا في عسكره منفردين عن غيرهم لا يحاربون أهل ملتهم، ويحاربون معه سائر الناس من الكفار. ويركب منهم مع الملك في هذا الوقت شخوص منهم سبعة آلاف ناشب بالجواشن والدروع والخوذ، ومنهم رامحة أيضاً على حسب ما في المسلمين من آلات السلاح. ولهم قضاة مسلمون، ورَسْمُ دار مملكة الخزر أن يكون فيها قضاة سبعة: اثنان منهم للمسلمين، واثنان للخزر يحكمان بحكم التوراة، وائنان لمن بها من النصرانية يحكمان بحكم النصرانية، وواحد منهم للصقالبة والروس وسائر الجاهلية يحكم بأحكام الجاهلية وهي قضايا عقلية؛ فإذا ورد عليهم ما لا علم لهم به من النوازل العظام اجتمعوا إلى قضاة المسلمين فتحاكموا إليهم وانقادوا إلى ما توجبه شريعة الِإسلام. وليس في ملوك الشرق في هذا لصقع من له جند مرتزقة غير ملك الخزر، وكل مسلم من تلك الديار عرف بأسماء هؤلاء القوم اللارسية. والروس والصقالبة الذين ذكرنا أنهم جاهلية هم جند الملك وعبيده. وفي بلاده خلق من المسلمين تجار وصناع غير اللارسية فروا إلى بلاده لعدله وأمنه، ولهم مسجد جامع، والمنارة تشرف على قصر الملك، ولهم مساجد أخرى فيها المكاتب لتعليم الصبيان القرآن. فإذا اتفق المسلمون ومن بها من النصارى لم يكن للمك بهم طاقة."
نماذج من الأندلس:
من المعروف أن سقوط الأندلس في أيدي النصارى قد استغرق زهاء ثلاثمائة سنة، فقد هزموا المسلمين واستولوا على طليطلة في عام 609ﻫ/1212م، وتوالى سقوط المدن الأخرى واحدة بعد أخرى، إلى أن استسلمت غرناطة آخر معاقل المسلمين في سنة 879ﻫ/1492م. وفي خلال هذه الفترة الطويلة من الصراع بين الجانبين حدثت تحولات كبيرة في أوضاع المسلمين في البلاد. فقد قتل قسم منهم أو أبعد مضطراً إلى الخارج، أكثرهم من أهل المدن التي قاومت ولم تستسلم بل سقطت عنوة. واختار قسم منهم الهجرة تلقائياً استجابة للفتاوى الصادرة من كثير من علماء العصر بحرمة العيش تحت سلطان الكفر. ولكن مع هذا ظل قسم منهم يعيش تحت حكم النصارى، إما بحكم معاهدات الصلح التي أبرمت في المدن التي استسلمت صلحاً، أو بسبب حماية بعض نبلاء النصارى لهم لحاجتهم إلى أيدي عاملة.
وقد أطلق على هؤلاء المسلمين المقيمين بالأندلس تحت حكم الكفار لفظ المدجنين، وأصله من كلمة دجن بمعنى أقام، وتسمى الحيوانات المستأنسة التي تألف البيوت داجنة. ومن الواضح أن الاسم يعكس نظرة العالم الإسلامي واحتقاره لهؤلاء الذين اضطرتهم الظروف أو فضلوا البقاء تحت حكم النصارى، ولكن شاع اللقب حتى في اللغات الأوربية عامة والأسبانية خاصة. وقد تمتع المدجنون ببعض الحريات التي كفلتها لهم شروط الصلح التي استسلموا للنصارى بموجبها، وإن عاد النصارى فنكثوا عهودهم وقتلوا وشردوا المسلمين وأبادوهم في نهاية المطاف كما هو معروف في التاريخ. ويكفي أن تساق بعض الأمثلة على وضع المدجنين في ظل هذه المعاهدات لتتبين منها تطبيقات قاعدة مبدأ ولاية العلماء في غياب الدولة المسلمة. ومن أمثلة هذه المعاهدات التي أثبت المؤرخون المسلمون نصها بالكامل، الصلح الذي استسلمت بموجبه غرناطة آخر مدن الأندلس سقوطاً في أيدي النصارى. وفيما يلي بعض نصوص هذا الصلح حسب ما أورده كتاب "نفح الطيب":
وكانت الشروط سبعة وستين، منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم. ومنها إقامة شريعتهم على ما كانت ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحداً. وأن لا يولى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي، ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم قبل، وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا وخصوصاً أعياناً نص عليهم، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه،... وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياماً حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد. ولا يعاتب على من قتل نصرانياً أيام الحرب ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة. ولا يكلّف المسلم بضيافة أجناد النصارى... ولا يطلع نصراني للسور ولا يتطلع على دور المسلمين ولا يدخل مسجداً من مساجدهم. ويسير المسلم في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب... وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره".
ومن الواضح أن نصوص المعاهدة تسمح للمسلمين بنوع من الحريات في ممارسة شعائر دينهم، ومنها الاستقلال في حكم أنفسهم حسب الشريعة الإسلامية، وأن يتولى ذلك المسلمون بأنفسهم. وتتشابه معاهدات الصلح السابقة التي استسلم المسلمون بموجبها للنصارى في المدن والأقاليم الأخرى، في كثير من النصوص والمضمون. وفيما يلي نماذج منها توضح كيف طبّق المسلمون من خلالها، حكم أنفسهم عن طريق تولية علمائهم عليهم، حسب ما قررته قاعدة ولاية العلماء.
ففي أقليم قسطلة تضمنت معاهدة الصلح التي أبرمها ملك النصارى الأذفونش (الفونس) العاشر مع المسلمين، نصوصاً تضمن للمسلمين تعيين حاكم من أنفسهم يقضي بينهم بالشريعة الإسلامية. وشبيه بهذا الصنيع ما تضمنته معاهدة الصلح التي أبرمت بين ملك برشلونة النصراني (جيمس الأول) ومسلمي مدينة بلنسية عام 637هـ /1239م، وفيها أن للمسلمين أن ينصبوا عليهم قاضياً من أنفسهم وأميناً يقوم برئاستهم. أما في إقليم أرغون فقد كان حكام النصارى يعينون حاكماً وقاضياً من المسلمين يحكم بينهم بالشريعة، وكان القاضي على كل المملكة في عام 761هـ/1360م عالم يدعى فرج البلفيسي. ومن النماذج المتميزة وضع المسلمين في إقليم نربونة، وهي مملكة نصرانية صغيرة في أقصى شمال الأندلس مجاورة لفرنسا. فقد تغلب الأذفونش الأول ملك النصارى على الإقليم في مرحلة مبكرة من غزو الإفرنج للجزيرة في عام 512هـ/1119م، بموجب معاهدة صلح سمحة تشجيعاً للمسلمين على البقاء والعيش بالإقليم. وقد بقيت أعداد كبيرة منهم حتى قدر عددهم بخمس سكان الإقليم، وكانوا يتمتعون بشبه استقلال في قضائهم وحكم أنفسهم بأحكام الشرع، وإن تدخل النصارى أحياناً في تعيين قضاتهم. ومع أن بنود هذه الاتفاقية تتشابه مع معاهدات أخرى، إلا أن ما يميز وضع المسلمين في إقليم نربونة أنهم تمتعوا باستمرار سريان نصوص الاتفاق والحرية النسبية المتاحة لمدة أربعمائة عام، إلى أن ضم الإقليم إلى مقاطعة قسطلة وفقد المسلمون حريتهم بل أجبروا على التنصر أو أبيدوا.
التطبيقات المعاصرة
توجد أقليات إسلامية كثيرة تعيش في بلاد غير إسلامية في كل قارات العالم، ولا يسمح النظام القانوني الغربي الذي يهيمن على العالم أجمع، بما كان شائعاً في القرون قبل العصر الحاضر، من تعدد القوانين والشرائع التي تحكم حياة الناس، بل المبدأ المعمول به هو وحدة القانون في البلد الواحد. وفي ظل مثل هذه الأوضاع لا يستطيع المسلمون تحكيم الشريعة الإسلامية في بلد غير مسلم، إلا من قبيل العرف والتقاليد التي لا تترتب عليها آثار قانونية. ومع هذا يبدو أن كثيراً من هذه الأقليات قد سعى بطريقة أو أخرى لتطبيق الشريعة الإسلامية في أحوالهم الشخصية من زواج وطلاق. ويقوم علماؤهم وأئمة المساجد عندهم بدور القضاة الشرعيين، وهو ما يمكن أن يعتبر تطبيقاً معاصراً لمبدأ ولاية العلماء في غياب الدولة المسلمة. ومن الأمثلة على ذلك التي تبين هذا الأمر وضع الأقلية المسلمة في بريطانيا، وهو نموذج توجد له نماذج متشابهة في كثير من الدول الأوربية والأمريكية وغيرها.
يبلغ عدد الأقلية المسلمة في بريطانيا بضعة ملايين، وليس هناك تقدير دقيق لذلك، وفي الإحصاء السكاني الأخير في عام 2001 بلغ تعدادهم 1.8 مليوناً، بما يساوي 3% من مجموع السكان، ولكن من المؤكد أن عددهم أكبر من هذا، ويتجاوز المليونين إن لم يبلغ الثلاثة. ومعظمهم من أصول باكستانية وبنجلاديشية وهندية، وقلة منهم من أصول عربية وإفريقية. ويعتبر الإسلام أكثر الأديان أتباعاً بعد المسيحية، ومع هذا فإنه لا يوجد أي اعتراف رسمي به من الدولة، والكنيسة الإنجليزية هي الوحيدة التي تتمتع باعتراف رسمي ممثلاً في أن الملكة تعتبر رأس الدولة وراعية الكنيسة. ورغم أن حرية العبادة مكفولة للجميع، إلا أن الأقليات الدينية – بخلاف الحال في البلاد الإسلامية - لا تتمتع بحرية قانونية في مجال الأحوال الشخصية، بل يحكمها قانون علماني موحد في كل ما يتصل بالزواج والطلاق والميراث، استمدت أصوله من المسيحية ولكنه لا صلة له مباشرة بالدين، بل ويناقض المسيحية أحياناً في بعض أحكامه، مثل قانون التزاوج المدني الذي صدر في عام 2004م، مضفياً على العلاقة بين رجلين أو امرأتين، وضعاً قانونياً تترتب عليه جميع حقوق وواجبات الزواج. ولما كان المسلمون من جهة محكومين بالقانون البريطاني الموحد في مسائل الزواج والطلاق، ومن جهة أخرى يأمرهم دينهم بالالتزام بالشريعة الإسلامية في ذلك، فإنهم بذلك يعيشون ازدواجية وثنائية في مسائل الأحوال الشخصية، ويعانون فصاماً نكدا في حياتهم وفي علاقاتهم الزوجية، بسبب التعارض بين التشريعين الإسلامي والبريطاني.
ولقد سعت الجالية المسلمة لإيجاد حلول لهذه المشكلة المستعصية، تمثل من ناحية في المطالبة باعتراف الدولة بقانون للأحوال الشخصية خاص بالمسلمين، ومن ناحية لجأ المسلمون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بطرق عرفية غير رسمية، وحتى تكوين محاكم شرعية غير رسمية للفصل في الخلافات الزوجية حسب الشريعة الإسلامية، من أبرزها ما يسمى مجلس الشريعة الإسلامية. بدأت المطالبة بقانون أحوال شخصية خاص بالمسلمين منذ عام 1970، حين نظم اتحاد المنظمات الإسلامية في بريطانيا، الذي كان يضم آنذاك أكثر من 150 منظمة، سلسلة من الاجتماعات، تمخضت عن قرار بمطالبة الحكومة تقنين تشريع خاص بالأسرة يحكم المسلمين في بريطانيا. وقد تجددت هذه المطالبة على فترات مختلفة، إلا أنها لم تجد آذنا صاغية من كل الحكومات المتعاقبة، بل قوبلت بالرفض الكامل ليس من الحكومة فحسب بل من خبراء قانونين.
وجدت الأقلية المسلمة في بريطانيا نفسها أمام خيار وحيد متاح لها لحل مشكلتها فيما يخص شئون الزواج والطلاق، وهو اللجوء إلى علمائها وأئمة مساجدها، وتحكيمهم في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليهم في زواجهم وطلاقهم. ولم تكن مهمة العلماء وأئمة المساجد قاصرة على إصدار الفتاوى والتوجيه والوعظ، بل تعدته إلى القيام بمهمة المحكمة الشرعية والقاضي المسلم في الفصل في الخلافات الزوجية، بل والتفريق بين الزوجين بسبب الخلع أو بأسباب الفرقة القضائية الأخرى مثل غياب الزوج أو عدم نفقته على زوجته أو غير ذلك من الأسباب الشرعية. ومن أهم هذه المؤسسات ما يسمى بمجلس الشريعة الإسلامية، الذي أنشئ في بريطانيا في عام 1982، ويضم في عضويته عدداً من العلماء وأئمة المساجد في بريطانيا من أهل السنة، ومركزه الرئيس في لندن وله فروع في المدن الكبرى. ووظيفة المجلس الأساسية أن يقوم بمهمة المحكمة الشرعية للفصل في قضايا الأسرة المسلمة التي تحال إليه. وقد أعلن المجلس صراحة أنه يقوم بهذه المهمة بناء على قاعدة قيام العلماء مقام الحاكم المسلم في البلاد غير الإسلامية.
ولما كانت أكثر قضايا الأسرة التي تحال للمجلس تخص الطلاق، فإن المجلس قد أخذ بمبدأ الاختيار من المذاهب السنية المعروفة في أحكامه. وترفع للمجلس قضايا قليلة من الأزواج، تتعلق معظمها بإصدار شهادة طلاق أو محاولة الإصلاح لنشوز الزوجة. لكن أكثر القضايا من النساء اللائي يطلبن الفرقة من أزواجهن، عن طريق التفريق القضائي الذي يأخذ به المجلس لأحد الأسباب الشرعية المعروفة، من غيبة الزوج أو عدم إسلامه أو عدم قيامه بحقوقه الزوجية من نفقة وغيرها أو عجزه الجنسي أو إضراره بزوجته قولياً أو جسدياً. ويأخذ المجلس بالتفريق بين الزوجين حسب الإجراءات التالية. يطلب المجلس من الزوجة أن تملأ كتابياً استمارة تبين فيها رغبتها في الفرقة، وتشمل الاستمارة معلومات عن الزوج وشهادة بالزواج والمهر المقدم والمؤجل والأولاد مع بيان موجز لأسباب طلب الطلاق. يرسل المجلس خطاباً للزوج يعلمه فيه برغبة زوجته، ويطلب منه الرد وبيان موقفه. ويستدعي المجلس الطرفان مجتمعين أو متفرقين لاستماع أقوالهما ومحاولة الإصلاح بينهما. في حالة موافقة الزوج على الطلاق أو الخلع، وقبوله للمهر أو أي مال آخر تدفعه له الزوجة، يأمره المجلس بتطليق زوجته. وفي حالة عدم رد الزوج على خطابات المجلس أو عدم موافقته على الطلاق، فإن المجلس قد يصدر حكماً قضائياً بالتفريق بين الزوجين. وفي كل الحالات فإن الفرقة بين الزوجين التي يحكم بها المجلس عن طريق التراضي أو بحكم قضائي، تنهي الزواج من الناحية الشرعية، وينصح الزوجان بإنهاء الزواج قانوناً عن طريق المحكمة الإنجليزية إذا كان ذلك ضرورياً.
لقد استطاع مجلس الشريعة الإسلامية أن يحل كثيراً من المشاكل، ويظهر ذلك جلياً من عدد القضايا التي حكم فيها المجلس، والتي قد بلغت نحو أربع آلاف وخمسمائة قضية خلال عشرين سنة منذ إنشائه. ومن هذا العدد الكبير يتبين الإقبال الكبير من النساء المسلمات أو الكتابيات المتزوجات من مسلمين، على حل مشاكلهن الزوجية عن طريق محكمة شرعية إسلامية، وإن كانت غير معترف بأحكامها قانونياً في بريطانيا.
الخاتمة
وهكذا يتضح أن مبدأ ولاية العلماء من المبادئ المهمّة التي لها آثار عملية كبيرة في المجتمع المسلم، يظهر ذلك جلياً من تطبيقاتها التاريخية والمعاصرة، في ظل الدولة المسلمة وفي غيابها. ويمكن القول أن صلاح أي مجتمع مسلم يعتمد أساساً على صلاح علمائه، فهل يفيق العلماء لهذه المهمة الكبيرة ويقوموا بالواجبات المناطة بهم.
____________________________
[*] أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة بيرمنجهام - أمريكا.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية