مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران


جواب الرسالة التي وجهها جماعة من علماء المسلمين في لبنان إلى سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قده) ستوضحون فيها فقهياً عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران الذي طرحه إمام المجاهدين وزعيم المسلمين سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني (قدس سره الشريف).
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على قائد البشرية محمد وعلى الهداة الميامين من آله الطاهرين والخيرة من أصحابه الصالحين.
وبعد، فإنا إذ نثمّن اهتمامكم المسؤول بالأطروحة المباركة التي رفع سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني رايتها فأنعشت قلوب المسلمين جميعاً، وأنارت نفوسهم، نحاول فيما يلي أن نتحدث إليكم ببضع كلمات قد تلقي ضوءاً في هذا المجال وتساعد على طرح أفكار بمستوى مفاهيم الإسلام وافتراضات قابلة للتطبيق إسلامياً، مع التأكيد على أن هذا الإمام المجاهد الذي رفع هذه الراية واستطاع أن يحقق لها النصر، هو صاحب الكلمات العليا وسيد الموقف الفصل بشأنها، وكلنا ثقة أن نجاحه العظيم في تجسيدها وتطبيقها، لن يقل روعة عن جهاده العظيم في نسف الطاغوت واخراج إيران من ظلمات الطغيان.
إن الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان. وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية، ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال من تنظيم اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح.
قال الله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 213].
ونلاحظ من خلال هذا النص أن الناس كانوا أمة واحدة في مرحلة تسودها الفطرة، وتوحد بينها تصورات بدائية للحياة وهموم محددة وحاجات بسيطة. ثم نمت ـ من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة ـ المواهب والقابليات وبرزت الامكانات المتفاوتة واتسعت آفاق النظر وتنوعت التطلعات وتعقدت الحاجات، فنشأ الاختلاف وبدأ التناقض بين القوي والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل وتضمن استمرار وحدة الناس في إطار سليم، وتصب كل تلك القابليات والامكانات التي نمتها التجربة الاجتماعية في محور ايجابي يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار بدلاً عن أن يكون مصدراً للتناقض وأساساً للصراع والاستغلال. وفي المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها كما لاحظنا في الآية الكريمة المتقدمة الذكر.
وظل الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولى عدد كبير منهم الاشراف المباشر على الدولة كداوود وسليمان وغيرهما، وقضى بعض الأنبياء كل حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى (ع)، واستطاع خاتم الأنبياء (ص) أن يتوّج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولة في التاريخ شكلت بحق منعطفاً عظيماً في تاريخ الإنسان وجسدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً.
وعلى الرغم من أن هذه الدولة قد تولاّها في كثير من الأحيان بعد وفاة الرسول الأعظم قادة لا يعيشون أهدافها الحقيقة ورسالتهم العظيمة، فإن الإمامة التي كانت امتداداً روحياً وعقائدياً للنبوة ووريثاً لرسالة السماء مارست باستمرار دورها في محاولة تصحيح مسار هذه الدولة واعادتها إلى طريقها النبوي الصحيح، وقدم الأئمة عليهم السلام في هذا السبيل زخماً هائلاً من التضحيات التي توّجها استشهاد أبي الأحرار وسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين مع الصفوة من أهل بيته وأصحابه في يوم عاشوراء.
وقد امتدت الإمامة بعد عصر الغيبة في المرجعية، كما كانت الإمامة امتداداً بدورها للنبوة، وتحملت المرجعية أعباء هذه الرسالة العظيمة، وقامت على مر التاريخ بأشكال مختلفة من العمل في هذا السبيل أو التمهيد له بطريقة وأخرى.
وقد عاش العالم المسلم الشيعي دائماً مع كل الصالحين وكل المستضعفين من أبناء هذه الأمة الخيرة عيشة الرفض لكل ألوان الباطل والاصرار على التعلق بدولة الأنبياء والأئمة، بدولة الحق والعدل التي ناضل وجاهد من أجلها كل أبرار البشرية وأخيارها الصالحين.
وقد استطاع الشعب الإيراني المسلم أن يشكل القاعدة الكبرى لهذا الرفض البطولي والثبات الصامد على طريق دولة الأنبياء والأئمة والصديقين باعتباره الجزء الأكثر التحاماً مع المرجعية الدينية وأسسها الدينية والمذهبية، وقد بلغت هذه القاعدة الرشيدة بفضل القيادة الحكيمة للمرجعية الصالحة التي جسّدها الإمام الخميني دام ظله، قمة وعيها الرسالي والسياسي الرشيد من خلال صراعها المرير مع طواغيت الكفر ومقاومتها الشجاعة لفرعون إيران الحديث حتى استطاعت أن تلحق به وبكل ما يمثله من قوى الاستعمار الكافر أكبر هزيمة يمنى بها المستعمر الكافر في عالمنا الإسلامي العظيم.
وكان من الطبيعي أن يزداد الشعب الإيراني المسلم إيماناً برسالته التاريخية العظيمة وشعوراً بأن الإسلام هو قدره العظيم، لأنه بالإسلام وبزخم المرجعية التي بناها الإسلام وبالخميني القائد استطاع أن يكسر أثقل القيود ويحطم عن معصميه تلك السلاسل الهائلة، فلم يعد الإسلام هو الرسالة فحسب، بل هو أيضاً المنقذ والقوة الوحيدة في الميدان التي استطاعت أن تكتب النصر لهذا الشعب العظيم.
ومن هنا كان طرح المرجعية الرشيدة للجمهورية الإسلامية شعاراً وهدفاً وحقيقة وتعبيراً حياً عن ضمير الأمة وتتويجاً لنضالها بالنتيجة الطبيعية وضماناً لاستمرار هذا الشعب في طريق النصر الذي شقّه له الإسلام.
والشعب الإيراني العظيم، بحمله لهذا المنار وممارسته مسؤوليته في تجسيد هذه الفكرة وبناء الجمهورية الإسلامية، يطرح نفسه لا كشعب يحاول بناء نفسه فحسب، بل كقاعدة للاشعاع على العالم الإسلامي وعلى العالم كله في لحظات عصيبة من تاريخ هذه الإنسانية، يتلفت فيها كل شعوب العالم الإسلامي إلى المنقذ من هيمنة الإنسان الأوربي والغربي وحضارته المستغلة، ويتحسس فيها كل شعوب العالم بالحاجة إلى رسالة تضع حداً لاستغلال الإنسان للإنسان.
وعلى هذا الأساس يقوم الشعب الإيراني المسلم في هذه اللحظات الزاخرة بالتاريخ والغنية بمعاني البطولة والجهاد والمفعمة بمشاعر النصر وارادة التغيير، يقوم هذا الشعب بدوره التاريخي؛ فيصنع لأول مرة في تاريخ الإسلام الحديث دستور الجمهورية الإسلامية ويصمم على أن يجسد هذا الدستور في تجربة رائعة ورائدة، وكما هز هذا الشعب العظيم ضمير العالم وزعزع مقاييسه المادية بقيمه التي جسدها في مرحلة المبارزة، كذلك سيهز ضمير الإنسانية المضللة وودجدان الملايين المعذبين ويغمر العالم بنور جديد هو نور الإسلام، الذي حجبه الإنسان الغربي وعملاؤه المثقفون وبذلوا كل وسائلهم من الاحتلال العسكري إلى التشويه الثقافي والتحريف العقائدي في سبيل إبعاد العالم الإسلامي عن هذا النور لكي يضمنوا لأنفسهم السيطرة عليه ويفرضوا عليه التبعية.
إن الإسلام الذي حجزه الاستعمار عسكرياً وسياسياً في قمقم ليصبغ العالم الإسلامي بما يشاء من ألوان، قد انطلق من قمقمه في إيران فكان زلزالاً على الظالمين، ومثلاً أعلى في بناء الشعب المجاهد والمضحي وسيفاً مصلتاً على الطغاة ومصالح الاستعمار وقاعدة لبناء الأمة من جديد. ولم يبرهن الإمام الخميني بإطلاقه للإسلام من القمقم على قدرته الفائقة وبطولة الشعب الإيراني فحسب، بل برهن أيضاً على ضخامة الجناية التي يمارسها كل من يساهم في حجز الإسلام في القمقم وتجميد طاقاته الهائلة البناءة وإبعادها عن مجال البناء الحضاري لهذه الأمة.
وهذا النور الجديد الذي قدر للشعب الإيراني أن يحمله إلى العالم، سوف يعري أيضاً تلك الأنظمة التي حملت اسم الإسلام زوراً، بالدرجة نفسها التي يدين بها الأنظمة التي رفضت الإسلام.
وفيما يلي نستعرض عدداً من الأفكار الأساسية في مجال التمهيد لمشروع دستور للجمهورية الإسلامية في إيران مستنبطين الحالة المعنوية للشعب الإيراني على ضوء تعاليم الإسلام.
يؤمن الشعب الإيراني العظيم إيماناً مطلقاً بالإسلام بوصفه الشريعة التي يجب أن تقام على أساسها الحياة، وبالمرجعية المجاهدة بوصفها الزعامة الرشيدة التي قادت هذا الشعب في أحلك ظروف المبارزة حتى حطّم الطاغوت وحقق النصر، وبالإنسان الإيراني وكرامته وحقه في الحرية والمساواة والمساهمة في بناء المجتمع.
وعلى أساس هذا الإيمان يقرر الأمور التالية:
1 ـ إن الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً.
وهذه الحقيقة الكبرى تعتبر أعظم ثورة شنّها الأنبياء ومارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان من عبودية الإنسان.
وتعني هذه الحقيقة أن الإنسان حر، ولا سيادة لإنسان آخر أو لطبقة أو لأي مجموعة بشرية عليه، وإنما السيادة لله وحده. وبهذا يوضع حد نهائي لكل ألوان التحكم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان.
وهذه السيادة لله تعالى التي دعا إليها الأنبياء تحت شعار (لا إله إلا الله)، تختلف اختلافاً أساساً عن الحق الإلهي الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين، فإن هؤلاء وضعوا السيادة اسمياً لله لكي يحتكروها واقعياً وينصبوا من أنفسهم خلفاء لله على الأرض.
وأما الأنبياء والسائرون في موكب التحرير الذي قاده هؤلاء الأنبياء والأمناء من خلفائهم وقواعدهم، فقد آمنوا بهذه السيادة وحرروا بها أنفسهم والإنسانية من ألوهية الإنسان بكل أشكالها المزورة على مر التاريخ، لأنهم أعطوا لهذه الحقيقة مدلولها الموضوعي المحدد المتمثل في الشريعة النازلة بالوحي من السماء، فلم يعد بالإمكان أن تستغل لتكريس سلطة فرد أو عائلة أو طبقة بوصفها سلطة إلهية.
ومادام الله تعالى هو مصدر السلطات وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعي المحدد عن الله تعالى، فمن الطبيعي أن تحدد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلامية.
2 ـ إن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، بمعنى أنها هي المصدر الذي يستمد منه الدستور وتشرع على ضوئه القوانين في الجمهورية الإسلامية، وذلك على النحو التالي:
أولاً ـ إن أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية جزءاً ثابتاً في الدستور سواء نص عليه صريحاً في وثيقة الدستور أو لا.
ثانياً: إن أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد، يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية التي تمارسها الأمة على ضوء المصلحة العامة.
ثالثاً ـ في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو ايجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسن من القوانين ما تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور، وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، وتشمل هذه المنطقة كل الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلف اختيار اتخاذ الموقف، فإن من حق السلطة التشريعية أن تفرض عليه موقفاً معيناً وفقاً لما تقدره من المصالح العامة، على أن لا يتعارض مع الدستور.
3 ـ ان السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد أسندت ممارساتها إلى الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور، وهذا الحق حق استخلاف ورعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي وهو الله تعالى. وبهذا ترتفع الأمة وهي تمارس السلطة إلى قمة شعورها بالمسؤولية لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة لله في الأرض فحتى الأمة ليست هي صاحبة السلطان، وإنما هي المسؤولة أمام الله سبحانه وتعالى عن حمل الأمانة وأدائها {إنا عرضنا الامانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان}.
والأمة تحقق هذه الرعاية بالطرق التالية:
أولاً: يعود إلى الأمة انتخاب رئيس السلطة التنفيذية بعد أن يتم ترشيحه من المرجعية كما يأتي في الأمر الرابع، ويتولى الرئيس المنتخب بعد ذلك بنفسه تكوين أعضاء حكومته.
ثانياً: ينبثق عن الأمة بالانتخاب المباشرة، مجلس وهو مجلس أهل الحل والعقد. ويقوم هذا المجلس بالوظائف التالية:
أولاً ـ إقرار أعضاء الحكومة التي يشكلها رئيس السلطة التنفيذية لمساعدته في ممارسة السطلة.
ثانياً ـ تحديد أحد البدائل من الاجتهادات المشروعة.
ثالثاً ـ ملء منطقة الفراغ بتشريع قوانين مناسبة.
رابعاً ـ الاشراف على سير تطبيق الدستور والقوانين ومراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها.
4 ـ إن المرجعية الرشيدة هي المعبر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشرعية، وعلى هذا الأساس يتولى ما يلي:
أولاً ـ ان المرجع هو المثل الأعلى للدولة والقائد الأعلى للجيش.
ثانياً ـ المرجع هو الذي يرشح أو يمضي ترشيح الفرد أو الأفراد الذين يتقدمون للفوز بمنصب رئاسة السلطة التنفيذية. ويعتبر الترشيح من المرجع تأكيداً على انسجام تولي المرشح للرئاسة مع الدستور، وتوكيلاً له على تقدير فوزه في الانتخاب، لاسباغ مزيد من القدسية والشرعية عليه كحاكم.
ثالثاً ـ على المرجعية تعيين الموقف الدستوري للشريعة الإسلامية.
رابعاً ـ عليها البت في دستورية القوانين التي يعينها مجلس أهل الحل والعقد لملء منطقة الفراغ.
خامساً ـ انشاء محكمة عليا للمحاسبة في كل مخالفة محتملة في المجالات السابقة.
سادساً ـ إنشاء ديوان المظالم في كل البلاد لدراسة لوائح الشكاوى والمتظلمين وارجاء المناسب بشأنها.
ويقوم المرجع بتأليف مجلس يضم مئة من المثقفين الروحانيين، ويشتمل على عدد من أفاضل العلماء في الحوزة، وعدد من أفاضل العلماء الوكاء، وعدد من أفاضل الخطباء والمؤلفين والمفكرين الإسلاميين على أن يضم المجلس ما لا يقل عن عشرة من المجتهدين، وتمارس المرجعية أعمالها من خلال هذا المجلس.
والمرجعية حقيقة اجتماعية موضوعية في الأمة تقوم على أساس الموازين الشرعية العامة، وهي كتطبيق تتمثل فعلاً في المرجع القائد للانقلاب الذي قاد الشعب قرابة عشرين عاماً وسارت الأمة كلها خلفه حتى حقق النصر. وأما كمقولة عليا للدولة الإسلامية على الخط الطويل فيجب أن يتوفر في الشخص الذي يجسد هذه المقولة:
أولاً ـ صفات المرجع الديني من الاجتهاد المطلق والعدالة.
ثانياً ـ أن يكون خطه الفكري من خلال مؤلفاته وأبحاثه واضحاً في الإيمان بالدولة الإسلامية وضرورة حمايتها.
ثالثاً ـ أن تكون مرجعيته بالفعل في الأمة بالطرق الطبيعية المتبعة تاريخياً.
رابعاً ـ أن يرشحه أكثرية أعضاء مجلس المرجعية ويؤيد الترشيح من قبل عدد كبير من العاملين في الحقول الدينية ـ يحدد دستورياً ـ كعلماء وطلبة في الحوزة، وعلماء وكلاء وأئمة مساجد، وخطاء ومؤلفين ومفكرين إسلاميين.
وفي حالة تعدد المرجعيات المتكافئة من ناحية هذه الشروط، يعود إلى الأمة أمر التعيين من خلال استفتاء شعبي عام.
خامساً ـ إن الأمة كما تقدم هي صاحبة الحق في الرعاية وحمل الأمانة وافرادها جميعاً متساوون في هذا الحق أمام القانون، ولكل منهم التعبير من خلال ممارسة هذا الحق عن آرائه وافكاره، وممارسة العمل السياسي بمختلف أشكاله، كما أن لهم جميعاً حق ممارسة شعائرهم الدينية والمذهبية.
وتتعهد الدولة بتوفير ذلك لغير المسلمين من مواطنيها، الذين يؤمنون بالانتماء السياسي إليها وإلى إطارها العقائدي، ولو كانوا ينتسبون دينياً إلى أديان أخرى.
سادساً ـ للجمهورية الإسلامية الإيرانية أهداف تاريخية بحكم رسالتها ومسؤوليتها العظيمة، وهي أهداف تقوم على أساسها خطوطها السياسية ومناهجها في مختلف المجالات، ففي الداخل تستهدف:
أولاً ـ تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة.
ثانياً ـ تجسيد روح الإسلام باقامة مبادئ الضمان الاجتماعي والتوازن الاجتماعي، والقضاء على الفوارق بين الطبقات في المعيشة وتوفير حد أدنى كريم لكل مواطن، واعادة توزيع الثروة بالأساليب المشروعة وبالطريقة التي تحقق هذه المبادئ الإسلامية للعدالة الاجتماعية.
ثالثاً ـ تثقيف المواطنين على الإسلام تثقيفاً واعياً، وبناء الشخصية الإسلامية العقائدية في كل مواطن، لتتكون القاعدة الفكرية الراسخة التي تمكن الأمة من مواصلة حمايتها للثورة.
وفي الخارج تستهدف الدولة:
أولاً ـ حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كله.
ثانياً ـ الوقوف إلى جانب الحق والعدل في القضايا الدولية، وتقديم المثل الأعلى للإسلام من خلال ذلك.
ثالثاً ـ مساعدة كل المستضعفين والمعذبين في الأرض ومقاومة الاستعمار والطغيان، وبخاصة في العالم الإسلامي الذي تعتبر إيران جزءاً لا يتجزأ منه.
إن دولة القرآن العظيمة لا تستنفد أهدافها، لأن كلمات الله تعالى لا تنفد والسير نحوه لا ينطقع، والتحرك في اتجاه المطلق لا يتوقف.
وهذا هو سر الطاقة الهائلة في هذه الدولة وقدرتها على التطور والابداع المستمر في مسيرة الإنسان نحو الله {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} [الكهف: 109].
وتستطيعون أن تستخلصوا على ضوء ما تقدم: أن الصورة التي أعطيناها تقوم على المبادئ التشريعية التالية في الفقه الإسلامي:
1 ـ لا ولاية بالأصل إلا لله تعالى.
2 ـ النيابة العامة للمجتهد المطلق العادل الكفؤ عن الإمام، وفقاً لقول إمام العصر عليه السلام "وأما الحوادث الواقعة فارجعو فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله"، فإن هذا النص يدل على أنهم المرجع في كل الحوادث الواقعية بالقدر الذي يتصل بضمان تطبيق الشريعة على الحياة، لأن الرجوع إليهم بما هو رواة أحاديثهم وحملة الشريعة يعطيهم الولاية بمعنى القيمومة على تطبيق الشريعة وحق الاشراف الكامل من هذه الزاوية.
3 ـ الخلافة العامة للأمة على أساس قاعدة الشورى التي تمنحها حق ممارسة أمورها بنفسها، ضمن إطار الاشراف والرقابة الدستورية من نائب الإمام.
4 ـ فكرة أهل الحل والعقد التي طبقت في الحياة الإسلامية والتي تؤدي بتطويرها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى وقاعدة الاشراف الدستوري من نائب الإمام، إلى افتراض مجلس يمثل الأمة وينبثق عنها بالانتخاب.
ويتاح لكم من خلال هذه الخطوط الموجزة أن تقارنوا في المجال الفقهي للقانون الدستوري بين المواقف الآنفة الذكر ومواقف المذاهب الاجتماعية الأخرى في أهم النقاط التي درسها القانون الدستوري الحديث.
فمن ناحية تكون الدولة ونشوئها تاريخياً، نرفض إسلامياً نظرية القوة والتغلب ونظرية التفويض الإلهي الإجباري ونظرية العقد الاجتماعي ونظرية تطور الدولة على العائلة، ونؤمن بأن الدولة ظاهرة نبوية وهي تصعيد للعمل النبوي، بدأت في مرحلة معينة من حياة البشرية.
ومن ناحية وظيفة الدولة: نرفض إسلامياً المذهب الفردي أو مذهب عدم التدخل المطلق (أصالة الفرد) والمذهب الاشتراكي أو أصالة المجتمع، ونؤمن بأن وظيفتها تطبيق شريعة السماء التي وازنت بين الفرد والمجتمع وحمت المجتمع، لا بوصفه وجوداً هيغليا [نسبة إلى الفيلسوف الديالكتيكي هيغل] مقابلاً للفرد، بل بقدر ما يعبر عن أفراد وما يضم من جماهير تتطلب الحماية والرعاية.
ومن ناحية شكل الحكومة تعتبر الحكومة قانونية، أي تتقيد بالقانون على أروع وجه، لأن الشريعة تسيطر على الحاكم والمحكومين على السواء.
كما أن النظرية الإسلامية ترفض الملكية، أي النظام الملكي، وترفض الحكومة الفردية بكل أشكالها، وترفض الحكومة الارستقراطية، وتطرح شكلاً للحكم يحتوي على كل النقاط الايجابية في النظام الديمقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعية وضماناً لعدم الانحراف، فالأمة هي مصدر السيادة في النظام الديمقراطي، وهي محط الخلافة ومحط المسؤولية أمام الله تعالى في النظام الإسلامي، والدستور كله من صنع الإنسان في النظام الديمقراطي ويمثل على أفضل تقدير وفي لحظات مثالية تحكم الأكثرية في الأقلية، بينما تمثل الأجزاء الثابتة من الدستور شريعة الله تعالى وعدالته التي تضمن موضوعية الدستور وعدم تحيزه.
فالشريعة الإسلامية التي وضعت مثلاً مبدأ الملكية العامة وملكية الدولة إلى جانب الملكية الخاصة، لم تعبر بذلك عن نتاج صراع طبقي أو تقديم مصالح هذا الجزء من المجتمع على ذلك الجزء، وإنما عبرت عن موازين العدل والحق، ولهذا سبقت بذلك تاريخياً كل المبررات المادية أو الطبقية لظهور هذا اللون من التشريع.
ومن ناحية تحديد العلاقات بين السلطات تقترب الدولة الإسلامية من النظام الرئاسي، ولكن مع فوارق كبيرة عن الأنظمة الرئاسية في الدول الرأسمالية الديمقراطية التي تقوم على أساس الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطات التشريعية.
وكان التطبيق العملي للحياة الإسلامية دائماً يفترض الدولة ممثلة في رئيس يستمد شرعية تمثيله من الدستور ـ النص الشرعي ـ أو من الأمة مباشرة ـ الانتخاب المباشر ـ أو منهما معاً.
ولا مجال في هذه العجالة للدخول في تفاصيل الفرق بين تنظيم السلطات وتحديد علاقاتها في الصورة الإسلامية المقترحة وتنظيمها وتحديد علاقاتها في النظريات والتطبيقات الأخرى.
هذه فكرة فقهية موجزة، أيها العلماء الأعلام، قد تفي باختصار في الجواب على سؤالكم الكريم وتكون نظرة اجمالية عن فكرة الجمهورية الإسلامية التي طرحها الشعب الإيراني المسلم بقيادة الإمام الخميني (دام ظله). ونحن نقدمها بوصفها مجرد اقتراحات نظرية قابلة للدرس والتطبيق وتلقي ضوءاً إسلامياً على الموقف.
نسأل المولى سبحانه أن يحفظكم ويوفقكم لخدمة الإسلام ورفع رايته، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
النجف الأشرف/ 6 ربيع الأول 1399

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية