مركز الصدرين للدراسات السياسية || المقالات السياسية

تطور الفكر السياسي الإمامي من الغيبة إلى الانتظار الايجابي
محمد دكير


قراءة في كتاب: «الفقيه والسلطة والأمة» للشيخ مالك مصطفى وهبي العاملي
«إن أمر الولاية في الحكومة الإسلامية، في زمن الغيبة الكبرى، مرجعه إلى العالم بالقانون الإلهي العادل الكفؤ..»
المؤلف
خلفيات التطور
هناك أسباب تاريخية ومذهبية متعددة، تقف وراء ضمور البحث العلمي الفقهي في المجال السياسي واهماله لدى الشيعة الإمامية، فعلى المستوى التاريخي العام، هناك الموقف العقائدي من الخلافة القائمة، والايمان بالإمامة المعينة بالنص الإلهي. هذا الموقف لم يطرأ عليه أي تغيير من حيث المبدأ طوال مدة تواجد الأئمة، بالرغم من كونهم ظلوا مبعدين ومن أن حركاتهم ظلت محاطة. لكن مع غياب الإمام الثاني عشر ستظهر معطيات جديدة، فالمشروع السياسي للإمامة توقف لأجل غير معلوم، وظهرت أمام المجتمع الإمامي تحديات موضوعية ومذهبية كثيرة، ولم يكن أمام فقهاء المذهب وعلمائه سوى خيار الانشغال بمعالجة المسائل والمستجدات الآنية للمجتمع الإمامي والإجابة على احتياجاته الدينية على المستويين العقائدي والفقهي. وقد نجم عن هذا الانشغال الذي دام عقودا طويلة من الزمن، وضع الهيكل العام للمذهب وجمع تراثه وترتيب أصوله وفروعه، وأثناء ذلك نشطت البحوث الفقهية والأصولية بشكل كبير، وانفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، لكن بحوث الإمامة ظلت كما هي لا تتجاوز البحوث الاستدلالية على صحة القول بالنص والتعيين الإلهي لشخص الإمام، لكنها تطورت كما وكيفا بشكل يثير الدهشة، الأمر الذي جعل أحد فقهاء الإمامية يؤلف كتابا، أواخر القرن السابع الهجري، يستعرض فيه ألف دليل نقلي على صحة القول بالنص والتعيين الإلهي للإمام علي (ع)، وألف دليل عقلي آخر.
أما الموقف من المشروع السياسي للإمامة فقد ساده الانتظار، انتظار الفرج وظهور الإمام الثاني عشر، أو المهدي المنتظر، الذي سيملأ الأرض عدلا بعدما تكون قد ملئت ظلما وجورا. لذلك لم يظهر أي اهتمام يذكر من جانب فقهاء المذهب بالمجال السياسي أو البحث في امكانية إقامة دولة إسلامية زمن الغيبة، بل ظهرت مواقف متطرفة تدّعي أن انتشار الفساد والظلم في الأرض سيعجل في ظهور الإمام المهدي (ع). لكن الغالبية من الفقهاء الإمامية لم يكن لديهم مانع من قيام دولة إسلامية، زمن الغيبة، تسود فيها قيم الإسلام ويتحاكم الناس فيها للشريعة، لكن «الخروج»، أو الثورة والعمل في سبيل إقامة هذه الدولة، كانت تقف في وجهه «محذورات شرعية» تنطلق من الروايات الكثيرة حول خصوصية ظهور الإمام المهدي واقامته للدولة الإسلامية المنشودة، وكذلك ما جاء في بعض هذه الروايات من التحذيرمن «الخروج» واتباع الرايات الباطلة، وقد فهم من هذا التراث الروائي، أن مشروع الدولة الإسلامية أجّل إلى زمن الظهور وانتظار الإمامة الحقة، وأن التكليف الشرعي هو الانتظار والدعاء بتعجيل الفرج، هذا هو الموقف الذي كان سائدا منذ زمن الغيبة الكبرى الذي انطلق أواخر القرن الثالث، وما زال ممتدا إلى يوم الناس هذا. لكن المعطيات الواقعية الجديدة، وخصوصا مع بزوغ بداية هذا القرن وقبله بقليل، جعلت الموقف الإمامي يتغير باتجاه التطور على المستوى النظري والبحثي بالخصوص، في محاولة لاعادة النظر في مفهوم المشروع السياسي المؤجل، والاشكالات التي يطرحها مفهوم الانتظار وتداعياته الواقعية السلبية، خصوصا مع بروز معطيات جديدة على الساحة الإسلامية بعامة، ونقصد بها الاستعمار الغربي الذي هجم بجيوشه ومخترعاته ونظمه السياسية والاقتصادية، وبدأ يبسط هيمنته السياسية والعسكرية على مناطق الإسلام، ويحل بوصفه بديلا حضاريا، هدد بيضة الإسلام من الداخل والخارج. هذا المعطى الواقعي الجديد، بالاضافة إلى الوضع السياسي الداخلي الذي يعشعش فيه الاستبداد والطغيان لسنين خلت، دفع العلماء والفقهاء الإمامية، على غرار علماء المذاهب الأخرى ومفكريها، في باقي المناطق الإسلامية، لاعادة النظر في كثير من القضايا والمسائل، يهمنا منها هنا الجانب السياسي فقط، لأننا نتحدث عن خلفيات تطور الفكر السياسي الإمامي. إذن هناك واقع جديد بمعطيات تصب كلها في الانذار واعلان حالة الخطر، لأن بيضة الإسلام أصبحت مهددة من جميع النواحي، إذ إن هناك قوانين ونظم سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية في طريقها لنسخ شريعة الإسلام، وهناك دعوات اصلاحية وتغييرية ترى أن الحل الوحيد للخروج من حالة التخلف ومحاربة الاستعمار والنهوض يكمن في القضاء نهائيا على الاستبداد والطغيان السياسي الذي تعيش تحت نيره المجتمعات الإسلامية، بل لقد ذهب بعضهم إلى أن الاستبداد السياسي هو السبب في جميع مظاهر الانحطاط الحضاري الذي تتخبط الأمة الإسلامية في أوحاله. لذلك نشطت الأبحاث في هذا المجال، ومنها ما يعري ويكشف جذور هذا الاستبداد وتداعياته، ومنها ما يدرس ويقترح وصفات بديلة للحكم مخالفة للاستبداد، وتعطي للأمة وأفراد الشعب صلاحيات واسعة لإدارة شؤونهم السياسية وتحصيل حقوقهم الإنسانية. وليس هنا مقام الحديث عن هذه الكتابات ولا عن أصحابها. لكن هذه الخلفيات كانت مشتركة كما قلنا بين علماء جميع المذاهب الإسلامية وفقهائها، وجاءت الاستجابة شاملة.
أما بخصوص الاستجابة الشيعية فهناك نماذج معينة من كتابات ومساهمات في هذا المجال أهمها وأكثرها شمولية واحاطة محاولة الفقيه الأصولي الإمامي البارز الشيخ محمد حسين النائيني النجفي (ت 1355هــ) الذي كتب: «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» دفاعا عن النظام الديمقراطي، أو ما سمي آنذاك بــ «المشروطة»، أي الحكم المشروط والمقنن، الذي يكون فيه الحاكم خاضعا للقانون والشريعة، عاملا من أجل تطبيق القوانين لتحقيق المصالح والأهداف العامة للأفراد وللأمة ككل.
طبعا، يمكن اعتبار هذا الكتاب نقلة نوعية في مسيرة التفكير السياسي الإمامي على مستوى البحث التأصيلي. فالدفاع عن النظام السياسي المشروط والمقيد بدستور ومجلس شعبي، واكبته محاولة لعلاج عدد من القضايا المهمة باعتبارها مقدمات لابد منها في هذه المحاولة التأصيلية لاضفاء الشرعية على النظام المشروط، ومن هذه القضايا قضية مشروعية إقامة الدولة الإسلامية، ومشروعية عمل النواب المنتخبين، وموقع الفقهاء في هذا النظام والدور الذي يجب ان يقوموا به، وقضية الشورى، وغيرها من المواضيع التي عالجها الشيخ النائيني. ومن أهم ما توصل اليه، وهو ما سيغير الموقف الشيعي السياسي باتجاه الانتظار الايجابي، ويشكل بالتالي مقدمات أولية في بداية هذا القرن لنضج الأفكار السياسية وتطورها، التوصل إلى إقامة الدولة الإسلامية في ايران فعلا بعد ثورة شعبية عارمة قادها فقيه وعالم متميز من علماء الإمامية وأحد مراجع التقليد، له وجهة نظر خاصة ونظرية متبلورة حول طبيعة النظام السياسي الإسلامي في زمن الغيبة.
أقول: من هذه الأفكار ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية لرفع الظلم والاستبداد عن الناس وتمكينهم من حقوقهم الشرعية، وعدم اعطاء الحاكم المستبد الفرصة لاغتصاب حقوق الناس، بالاضافة إلى اغتصاب منصب الإمام المعصوم، لأنه ليس نائبا له ولا يحكم بإذن منه أو بإذن نوابه الشرعيين، أي الفقهاء، وتقييد السلطة والحاكم بالشريعة، ومشاركة الفقهاء والمجتهدين في مراقبة التشريعات والقوانين التي تصدرها السلطة الحاكمة لكي لا تكون مخالفة للشريعة، وغير ذلك من القضايا. أما ما يخص هذا التطور بالذات فهو اعلان أهمية مشاركة الفقيه في الحكم وضرورة ذلك، بعدما كان منزويا في مدرسته أو حوزته منشغلا بقضايا الطهارة والحلال والحرام في أبواب الفقه المعروفة، ضرورة أن يرجع إليه في عدد من القضايا الدينية والسياسية، باعتباره نائبا للإمام الغائب، وبحكم انشغاله بالنظر في نصوص الشريعة واستنباط الأحكام من أدلتها وأصولها المعتبرة.
طبعا، وجدت في كتب القدماء بحوث فقهية مطولة تعرضت بشكل غير مباشر لمسألة السلطة والحكم، عندما تحدثت عن بعض موارد ولاية الفقيه، وكذلك البحوث المتعلقة بالقضاء والافتاء، لكنها ظلت بحوثا تنقصها المقدمات الضرورية لجعلها تنتظم ضمن مشروع تأصيلي يكشف عن أنموذج مقترح للنظام السياسي الإسلامي، كما هو الحال مثلا مع نظرية ولاية الفقيه وغيرها من الأفكار التي كشف عنها هذا التطور في الفكر السياسي الإمامي المعاصر، الذي لا يمكن فهمه من دون المعرفة بخصوصيات المذهب الإمامي على المستويين: التاريخي والمذهبي كما قلنا قبل قليل، وذلك لأن خصوصية موقع الفقيه وصلاحياته في المذهب الإمامي تبقى متميزة وتزداد تميزا عندما يصبح هذا الفقيه وليا للأمر، وهذا التميز كما قلنا له علاقة بمفهوم الإمامة لدى الشيعة الإمامية.
محتويات الكتاب
وسيظهر ذلك من خلال استعراضنا لمحتويات الكتاب الذي سنقوم بعد قليل بجولة في ربوع أبوابه وفصوله، لمعرفة المرحلة الجديدة التي وصل إليها التفكير السياسي الإمامي من جهة أولى، وللكشف عن الملامح العامة لنظرية ولاية الفقيه التي نادى بها زعيم الثورة الإسلامية في ايران الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني (قدس سره) من جهة ثانية، فالكتاب محاولة جادة وعميقة وشاملة لتأصيل هذه النظرية. جادة لأن البحوث جاءت على غرار المباحث الفقهية الأصولية في كتب الفقه، من حيث الاستدلال والمناقشة والتحليل للأدلة والبراهين، وعمقها مصدره مناهج البحث المعتمدة لدى المدرسة الأصولية الإمامية، أما الشمولية فيكفي أن نعرف أن أبواب الكتاب سبعة وفصوله ستة وأربعون فصلا، بالاضافة إلى تمهيد طويل وخاتمة. وخلال هذه الفصول والأبواب، حاول المؤلف، وهو من ذوي الاختصاص الفقهي والأصولي، أن يعالج مجمل القضايا والمسائل التي لها علاقة بهذه النظرية، تأصيلا ودفاعا وعلاجا للشبهات والتساؤلات الواردة، وأخيرا الانتصار للتطبيق العملي والواقعي لهذه النظرية في الجمهورية الإسلامية الايرانية اليوم.
يمكن تقسيم مباحث الكتاب، بشكل عام، إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يبحث فيه المؤلف ويستعرض الأدلة التفصيلية على مشروعية ولاية الفقيه العامة في زمن الغيبة، وما يتعلق بها من بحوث وقضايا، والقسم الثاني نقد مفصل وشامل لنظرية ولاية الأمة على نفسها التي طرقها الشيخ محمد مهدي شمس الدين في أحد كتبه، والقسم الثالث مناقشة مجموعة من الاشكالات والأسئلة التي ترد على الولاية المطلقة أو العامة للفقيه وصلاحياته الواسعة، وخلال هذه العناوين الثلاثة الكبرى هناك عشرات القضايا الجزئية عالجها الكتاب.
مفهوم الولاية ومشروعية إقامة الدولة زمن الغيبة
يلاحظ أن جل من كتبوا من علماء الشيعة حول المشروع السياسي في زمن الغيبة، تحدثوا في بدايات كتاباتهم ومؤلفاتهم حول مشروعية تأسيس الدولة الإسلامية واستعراض الأدلة العقلية والنقلية لإثبات هذه المشروعية، والسبب كما قلنا يرتبط بمفهومي الإمامة من جهة، والغيبة الكبرى من جهة ثانية، وانتظار الإمام المهدي الذي سيقيم وحده دولة الإسلام الحقة من جهة ثالثة، وقد سلك المؤلف النهج نفسه، لكنه مهد لذلك بالحديث عن معنى الولاية وأقسامها ومراتبها، وعن الولايتين التكوينية والتشريعية، وقسم الولاية التشريعية إلى قسمين: أولا حق التشريع والمقصود به، بالنسبة للأنبياء والأئمة، «القدرة على بيان الحكم الشرعي الواقعي الذي يريده الله تعالى». ثانيا: حق الأمر والنهي ووجوب طاعة الولي وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم أوضح أن معنى ولاية الفقيه يرتكز على القسم الثاني في الولاية التشريعية، أي أن للفقيه حق الأمر والنهي، «ويجب أن يطاع» عند فقد الإمام المعصوم، قبل الغيبة وبعدها، لذلك يلاحظ كما يقول المؤلف «أن الاجازات التي أعطيت للفقهاء بالتصدي للساحة في ما تحتاجه من تصد لرفع حاجات الناس الدينية والاجتماعية، إنما أعطيت في عصور وجود الأئمة المعصومين، وأن كثيرا من الروايات التي يستدل بها على ولاية الفقيه قد ظهرت في عصور الأئمة (ع)»، وذلك بسبب تعذر الوصول إليهم والأخذ عنهم مباشرة.
بعد هذا التمهيد حول مفهوم الولاية وأقسامها، يقدم المؤلف ثلاثة أدلة لضرورة إقامة الحكومة الإسلامية زمن الغيبة: أولا: أحكام الإسلام تستلزم الحكومة لأن «من البديهيات الاجتماعية أن التشريع وحده لا يكفي لسعادة البشرية ما لم ترافقه سلطة تنفيذية»، لذلك «كان من توابع النبوة الخاتمة والإمامة ضرورة تشكيل حكومة إسلامية وايجاد مؤسسات تنفيذية على يد الرسول (ص)». ثانيا: حفظ نظام الناس وحقوقهم، وهذا ما تسالم عليه العقلاء. ثالثا: الأدلة من القرآن والسنة وروايات أهل البيت (ع) لم تهمل أمر الحكم، لأن تحقيق العدل وأهداف الرسالات السماوية يحتاج لوجود نظام يجمع الناس «في ظل سقف ولاية دينية شرعية يتولاها أولو الأمر محددين بالاسم والصفات»، بالاضافة طبعا إلى أن الأحكام والتشريعات الإسلامية لم تسقط ولم ينته العمل بها بموت الرسول (ص) وغياب الأئمة (ع). ومن خلال هذه الأدلة العقلية والنقلية والمقدمات الضرورية يصل المؤلف إلى نتيجة، وهي: «أن العقل والشرع متفقان على ضرورة إقامة حكم عادل والسعي له، ويكون ذلك من الواجبات الكفائية على من يقدر عليها».
الولي الفقيه والصفات المعتبرة فيه وعليه
فقد آن الاوان للحديث عن طبيعة هذا النظام السياسي الذي يحقق أهداف الرسالة الإسلامية في زمن الغيبة، وماهي صفات الولي أو الشخص الذي سيتولى الاشراف على هذا النظام وتسييره، والإجابة على عدد من الأسئلة التي ستشكل الإجابة عنها صرح هذا النظام السياسي الشرعي المطلوب وطبيعته. والأسئلة والأجوبة تستدعي الرجوع إلى وقائع التاريخ والتراث الضخم من الأحاديث والروايات للتنقيب والبحث المضني في دلالات المتون ومشكلات الأسانيد، من أجل بناء النظرية لبنة لبنة. وهذا ما قام به المؤلف في الباب الثاني من الكتاب، وهو يبحث عن صفات الولي في الحكومة الإسلامية. ولأهمية التأسيس والتأصيل فقد استغرق البحث، في هذه القضية، ثمانية فصول ومباحث متعددة. والنتيجة المتحصلة بعد البحث في الأدلة العقلية والنقلية أن الحاكم في الدولة الإسلامية له مواصفات خاصة أهمها: العدالة والكفاءة. فالعدالة التزام مبدئي بالشريعة ومبادئها التزاما شخصيا وفي العلاقة مع الآخرين. أما الكفاءة فهي قدرة على إدارة شؤون الأمة والعمل على تحقيق مصالحها وأهدافها المنسجمة مع الرسالة ومبادئها. وعلى ضوء ما استعرض المؤلف من أدلة ومباحث ونقاشات مطولة يصل إلى «أن أمر الولاية، في الحكومة الإسلامية، في زمن الغيبة الكبرى، مرجعه إلى العالم بالقانون الإلهي العادل الكفؤ»، لكن هل يجب أن يكون فقيها؟ عودة مرة أخرى إلى الأدلة التفصيلية للإجابة عن هذا السؤال، ونحن نقترب من رسم صورة النظام السياسي الإسلامي في زمن الغيبة، أو نظرية ولاية الفقيه التي يؤسس لها المؤلف. في الروايات والأحاديث عن الرسول (ص)، وفي روايات الأئمة، هناك تصريح واضح بالرجوع إلى الفقيه لمعرفة الأحكام الإسلامية عند فقد الإمام المعصوم، أهم هذه الروايات التوقيع المنسوب للإمام المهدي (ع) والذي نقله الشيخ الصدوق عن الشيخ الكليني، وفيه «... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله...»، وكذلك مقبولة عمر بن حنظلة، وغيرها من الروايات التي تحدثت عن العلماء ورواة الأحاديث. وقد أوضح المؤلف وجه الاستدلال بها، وناقش الاشكالات الواردة عليها، من حيث الدلالة والسند.
إن الأدلة العقلية دلت على ثبوت الولاية للفقيه، وتحصل من مجمل الروايات المعتبرة ثبوت هذه «الولاية للفقهاء من قبل المعصومين (ع) في جميع ما ثبت لهم الولاية فيه من جهة كونهم الولاة على الأمة، وحتى نخرج عن هذه القاعدة في مورد ما ونسلب عن الفقيه صلاحية الولاية في هذا المورد يجب أن يدل دليل على اختصاص المورد بالإمام المعصوم (ع)».
وهذه النتيجة ليست نهاية المطاف، لأن الأدلة المعتبرة تحدثت عن ولاية الفقيه في موارد متعددة، لكن اثبات الولاية العامة له عبر هذه الاستدلالات يحتاج إلى مزيد من البحث والمناقشة وترتيب المقدمات واستخلاص النتائج، وهذا ما سيقوم به المؤلف في ما بعد، لأن اثبات الولاية العامة هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها نظرية ولاية الفقيه. إن الفقاهة وحدها لا تجلب الشخصية القادرة على إدارة شؤون البلاد وقيادة العباد، بل لابد من توفر شروط أخرى، وأهمها العدالة والكفاءة كما مر بنا، وليس من الصعب الاستدلال على اشتراط العدالة في الولي لوجود نصوص عن الرسول (ص) والأئمة (ع) صريحة الدلالة في ذلك. «أما الكفاءة فقد أشرنا سابقا يقول المؤلف في الدليل الاجمالي إلى أن هذا الشرط هو في الحقيقة شرط موضوعي لا يمكن فرض ولاية شخص بدونه إلا إذا كنا نريد أن نستهتر بشؤون الأمة ومصالحها كما يحصل في كثير من البلدان»، وقد تكاثفت الأدلة العقلية والنقلية لدعم هذا الشرط، أو الصفة، في الولي أو الحاكم الإسلامي. وهناك صفات وشروط أخرى معتبرة مرجعها إلى الكفاءة كذلك. طبعا لا يمكن اغفال الأدلة العقلية لأنها تكشف عن موارد أخرى تعالج وتتمم البحث في عناصر الاستدلال، لأن الأدلة الاجمالية المذكورة لا تكفي لاثبات شرطية الفقاهة، لذلك «لابد من دليل عقلي» يدل بوضوح على اشتراط الاجتهاد في الولي، الأول عدم لزوم طاعة غير الفقيه أو الذي يقلد غيره.
ثانيا: دليل العقل في موارد الحسبة. ويرد على الدليل الأول بأن الموارد التي تحتاج لخبرة لا تكون متوفرة للولي الفقيه يكتفى فيها بالاستشارة والرجوع إلى أهل الخبرة. «لكن لا نستطيع ــ يقول المؤلف ــ الاستغناء عن شرطية الفقاهة في الولي اكتفاء بأن يراجع الولي الفقهاء حتى وإن فرضنا عدم الدليل على اعتباره».
قضية أخرى متفرعة عن هذه المباحث، وهي: هل يشترط في الفقيه الولي أن يكون الافضل في العلم والكفاءة؟ الجواب الأولي الاجمالي يرى أنه إذا ثبت بالدليل ضرورة أن يكون الولي هو الأعلم والأكفأ لم يجز لغيره تولي شؤون الأمة، ويجب في هذه الحالة البحث عن هذا الأفضل. «وإن لم يثبت ذلك بدليل جاز لمن توفرت فيه الشروط أن يتولى شؤون الأمة، وإن وجد الأفضل»، وهذا الجواب بدوره يفتح الباب مشرعا لعلاج قضايا أخرى لا تخلو من الصعوبة مثل مسألة الأعلمية الفقهية، وهل يمكن فعلا معرفة الأعلم في مجال الاجتهاد. هناك نصوص وآراء كثيرة معروضة في مباحث التقليد. والمسألة فيها أخذ ورد طويلان، لكن يمكن الاكتفاء بالخلاصة التي توصل إليها المؤلف، وهو على علم ودراية باشكالات الأعلمية الفقهية، «فالأعلمية هنا ليس من الواجب تعميمها على جميع أبواب الفقه، بل يجب تقييد موردها بخصوص الأبواب المحتاج إليها في باب الولاية السياسية، مثل الإدارة وشؤون الحرب والسلم وغيرها من القضايا ذات العلاقة المباشرة بتسيير الحكم.
والترجيح في الولاية ينبغي أن يكون للأعلم والأكفأ في هذه الأبواب، لو قلنا بلزوم تقديم الأعلم على غيره..».
طرق تشخيص الولي الفقيه
يبقى أن نتحدث عن ركيزة ثالثة مهمة ليقوم الهيكل الأساسي لنظرية ولاية الفقيه ويكتمل، بعدما أثبتنا ولايته والصفات التي يجب أن تتوفر فيه، السؤال الذي يطرح الآن هو: كيف يعين الولي الفقيه؟ أو ما هي طريقة تشخيصه الفعلي؟ هناك نظريتان لا ثالث لهما حسب رأي المؤلف: الأولى نظرية التصدي، والثانية نظرية الانتخاب. أولا يمكن القول إن مجرد تصدي الفقيه لولاية الأمر وشؤون الأمة كاف لصيرورته وليا شرعيا، ولا تجوز مزاحمته، لكن هل هناك دليل على هذا القول؟
إذا تصدى، وسلم الآخرون، وتوفرت فيه الشروط، فإنه يصبح فعلا الولي الشرعي، فليس التصدي وحده هو الذي يمنحه الشرعية والأحقية، وإنما التصدي اضافة إلى الشروط الأخرى المذكورة. هناك نقاش طويل عريض في هذه القضية يحتاج إلى الرجوع لفصول الكتاب ومباحثه لكي يطمأن إلى النتائج والخلاصات، فليس هناك دليل على كفاية التصدي، لذلك يستنتج المؤلف «أنه لابد من اضافة قيد أو قيود على التصدي ليكون مؤثرا، وهي جملة الشروط المتقدمة في الولي، لأن الشروط المعتبرة حددها الشرع، والانتخاب اعلان عن معرفته، سواء أكان واحدا بعينه أم تطلب الأمر الاختيار بين مجموعة ممن تحققت فيهم الشروط المعتبرة، والانتخاب هنا سيعني اختيار الأمة أفضل هؤلاء».
لقد تحدث المؤلف مطولا عن طرق التشخيص المعروفة لدى المرجعية وغيرها، واختار بدوره، أو لنقل قدم طريق الشياع على غيره من الطرق، واعتبر أن أفضل طريق له هو «تشكيل مجلس يضم حشدا من أهل العلم والخبرة يشخصون، من خلال المشاورات بينهم، واستشارة الآخرين من هو الولي، ويكون الانتخاب منهم وليس انتخابا مباشرا من الناس». وهذا المجلس الذي يضم الخبراء العدول والقادرين على اختيار الأفضل سيكون أعضاؤه منتخبين من طرف الأمة، وبالتالي ستمارس الأمة حقها في انتخاب ولي أمرها عن طريق هؤلاء الخبراء.
والخلاصة أن الأدلة حددت الشروط المعتبرة في الولي، «والانتخاب تعبير عن احراز ثبوت الصفات ووسيلة لتشخيص الولي الأفضل من بين جميع العلماء المتصدين، أو الذين يقبلون بالتصدي. ومجلس الخبراء، كما هو الحال في الجمهورية الإسلامية الايرانية، هو من ينتخب ويرشد الأمة إلى الولي الفقيه الأفضل لتولي زمام السلطة السياسية في المجتمع الإسلامي الإمامي زمن الغيبة الكبرى».
صلاحيات الولي الفقيه
بعد اثبات شرعية ولاية الفقيه العادل الكفؤ، يأتي البحث الآن في صلاحياته، وهذا مبحث له أهميته الكبرى، لأن بعض الاعتراضات على نظرية ولاية الفقيه، إنما تنطلق من مناقشة موضوع الصلاحيات، والتخوف من الحكم الفردي الشمولي والصلاحيات المطلقة للحاكم، وبالتالي عودة لشرعنة الاستبداد والطغيان السياسي من جديد. ولنا عودة لمناقشة هذه الاعتراضات أو التساؤلات، لأن المؤلف أفرد لها مباحث خاصة وعالجها بشكل مفصل. بالرجوع إلى أدلة الولاية المذكورة، يظهر أن الأدلة اللفظية «تعطي عموم الولاية للفقيه»، باستثناء الصلاحيات التي كانت للإمام المعصوم باعتباره معصوما، مثل اعلان الجهاد الابتدائي. ومن خلال الرجوع إلى سيرة الرسول (ص) وسيرة الإمام علي، أثناء مدة خلافته، وما جاء في النصوص والروايات التي تحدثت عن صلاحيات الإمام أو الأمير، يمكن معرفة موارد هذه الصلاحيات العامة. وقد ذكر المؤلف عشرة موارد نذكر منها: الولي الفقيه هو المسؤول السياسي الأول عن اتخاذ القرارات السياسية المتعددة داخل الدولة، الاشراف على تطبيق الأحكام الإسلامية، المسؤول عن أمن الناس وحقوقهم، الولي على جميع الأموال الشرعية (الخمس، الزكاة، الأنفال..) المسؤول الأول عن القضاء، يراقب الوضع الاقتصادي، وله صلاحيات في هذا المجال لمراعاة المصلحة العامة، الاشراف على الوضع الثقافي، قيادة القوة العسكرية، وهو ولي من لا ولي له، وغيرها من الصلاحيات التي ترتكز بالاضافة إلى النصوص المذكورة على دليل الحسبة والموارد التي حددها. «فإذا استطعنا كما يقول المؤلف اثبات أن الحاكم الشرعي، في عصر الغيبة، هو الفقيه ولو بدليل الحسبة، ثبتت له هذه الصلاحيات، وإن لم يكن لنا غير دليل الحسبة وجب اجراء دليل الحسبة على كل مورد يريد الفقيه إعمال الولاية فيه..».
ويمكن الاشارة هنا إلى أن عددا من كبار علماء الإمامية قالوا بالولاية العامة للفقيه مثل صاحب الجواهر والمحقق الكركي، وحددها غيرهم بموارد خاصة، وقالوا بأن فحوى الأدلة اللفظية يمكن أن تقوي بمجموعها القول بالولاية العامة، لكن وكما يقول صاحب كتاب «ما وراء الفقه» السيد محمد الصدر في باب القضاء، «غير أنه من المعلوم أن مثل هذا الاستدلال لا يثبت الولاية العامة على سعتها، لأنه مضمون اجمالي، يؤخذ منه بالقدر المتيقن، وهو اثبات الولاية بشكل جزئي لا مطلق»، لكن إذا ضم هذا المعنى الاجمالي لرواية عمر بن حنظلة التي تبت سندا ودلالة في الحجية على الولاية «أمكن أن تكون حجة في اثبات اطلاقه.. فيكون دليلا تاما على الولاية العامة»، والذي يراجع البحوث الخاصة بهذه المسألة المهمة، يجد الكتاب حافلا باستعراض أقوال العلماء ومناقشتها والرد عليها أو اظهار المقصود منها، كل ذلك في سبيل تقوية القول بالولاية العامة للفقيه وهو صلب البحث وهدفه.
وتجدر الاشارة هنا إلى وجود تشابه كبير في الصلاحيات التي أعطاها فقهاء المذاهب الإسلامية للحاكم سواء أكان فقيها أم غير ذلك. فالصلاحيات، أو وظائف الحاكم عند الماوردي وأبي يعلى الفراء الحنبلي، لا تكاد تختلف عما ذكره المؤلف وغيره من علماء الإمامية، بالاضافة إلى وظائف معينة لها علاقة بالخصوصية المذهبية، وفي الكتابات الإسلامية السياسية المعاصرة، نجد الكثير من هذه الصلاحيات مع اختلافات واقتراحات وشروط وتقييدات ليس هنا مكان بسط القول فيها.
لكن أشرنا إلى ذلك لأهميته في تكامل النظرية السياسية الإسلامية انطلاقا من الاستفادة من تراث جميع المذاهب والفرق الإسلامية، ما دامت هناك حاجة مشتركة بين الجميع يمكن اعتبارها أرضية لانطلاق البحث من أجل التأسيس والتأصيل، وهذا ما نحن بحاجة ماسة له.
ولاية الأمة على نفسها في الميزان
نصل الآن إلى القسم الثاني، أي إلى المباحث الخاصة بنقد نظرية ولاية الأمة على نفسها. يرى المؤلف، في هذا الصدد، أن منشأ هذه النظرية يعود للفكر السني ومدرسة الخلافة الرافضة للقول بالتعيين والنص الإلهي على ولاية الإمام علي بن ابي طالب (ع)، لكن ظهر في العقود الأخيرة من يروج لها داخل الدائرة الشيعية الإمامية، باعتبارها الصيغة الثانية للمشروع السياسي الشيعي في زمن الغيبة.
تنطلق هذه النظرية من مسلمة عقلية وشرعية، وهي أن لا ولاية لأحد على أحد إلا من ثبتت ولايتهم، مثل النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع)، و«لا وجود لنص يدل على ولاية الفقيه العامة، وأن دليلها يصنع من اجراء دليل الحسبة، وأن دليل الحسبة لا يجري أساسا لاثبات ولاية الفقيه». من هنا ينطلق البحث حول نظرية ولاية الأمة على نفسها، أما أدلة القائلين بها ومرتكزاتهم فهي: دليل البيعة، سيرة الرسول (ص)، دليل الشورى، السيرة العقلائية، قاعدة السلطنة، نظرية العقد، خلافة الإنسان، ولاية عدول المؤمنين، الخطاب في القرآن للأمة.
بالمنهج الاستدلالي نفسه الذي عالج به أدلة ولاية الفقيه، يناقش المؤلف الوجوه التي يمكن أن يستدل بها من خلال الأدلة والمرتكزات المذكورة وما يمكن أن يستند إليه من شروح وتفسيرات لترجيح ولاية الأمة على نفسها، ومع جريانه يمتنع جريان دليل الحسبة. لقد ناقش المؤلف كل وجه ودليل في فصل خاص به، وختم الباب بفصل ناقش فيه النظرية بشكل عام.
ومختصر الردود أن البيعة لم يثبت كونها سببا شرعيا لاثبات ولاية شخص ما، سواء كان هذا الشخص معصوما أم لا. ولا يمكن اعتبارها وسيلة لانشاء ولاية للحاكم لا على سبيل التأسيس ولا على سبيل التأكيد.
قد يراد بها الانتخاب كما حدد سابقا، باعتباره كشفا واختيارا للأفضل المتوفرة فيه الشروط المحددة سلفا من طرف الشريعة. أما الشورى فالتأمل في أدلتها يوصل إلى أهمية استشارة الحاكم وضرورتها لمن حوله من ذوي الخبرة والاختصاص، وكما يقول المؤلف: «يمكن القبول بالشورى على مستوى القيادة كخيار من الخيارات بناء على نظرية ولاية الفقيه». وأما بالنسبة لقاعدة السلطنة، وأن الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم، وأن الحكم شان من شؤونهم، ليس لأحد أن يأخذه بغير رضاهم، فالجواب أن هذه السلطنة غير مطلقة إلا بمقدار تسليط الله تعالى لهم، لهذا قيدت الشريعة عددا من التصرفات، ومنها أن الأمة ليس لها حق أن تنشئ الولاية ابتداء لأي حاكم من دون الاعتبارات التي حددتها الشريعة.
لن نسترسل في تتبع الردود والاستدلالات النقدية الهادمة لنظرية ولاية الأمة على نفسها، وإنما استعرضنا بعض الوجوه النقدية لنكشف عن العمق الاستدلالي العلمي والبحثي الذي أوصل المؤلف إلى القول بأن بعض أوجه الاستدلال على ولاية الأمة على نفسها تصلح لأن تكون أدلة معتبرة على ولاية الفقيه، وبالتالي لا يمكن اعتبارها نظرية سياسية متكاملة في مقابل النظرية الأولى، أي ولاية الفقيه العامة.
اشكالات ترد على ولاية الفقيه العامة ناقش المؤلف عددا من الاشكالات التي ترد القول بالولاية المطلقة للفقيه وصلاحياته الواسعة، مثلا ما يروج له بعضهم من أن هذه الصلاحيات الكبيرة قد ينجم عنها استبداد وديكتاتورية، والجواب على هذه الشبهة يحتاج إلى استحضار بعض المقدمات، فالولي الفقيه هو أول من يخضع للشريعة وأحكامها وقيمها، ومهمته هي الاشراف على تطبيقها، والدعوة إلى الالتزام بها وتطبيقها على نطاق اجتماعي واسع، والولي الفقيه لا يحكم بهواه وإنما وفقا للشريعة، وفي الموارد التي تتطلب الاجتهاد، فهو يبذل جهده الكافي لتشخيص الواقع بدقة، ثم يستنبط له الحكم المناسب.
إذن فالعلم بالشريعة والاجتهاد المعتبر، علاوة على الكفاءة والعدالة والورع واستشارة ذوي الخبرة والاختصاص، كل ذلك يجعل السقوط في الدكتاتورية مستبعدا، بل مستحيل. «نعم ــ كما يقول المؤلف ــ نحن نعترف بأن العدل في ظل ولاية الفقيه نسبي ولا يمكن تحقيق العدل الكامل في عصر الغيبة، لكن هذا شيء لا يتنافى مع كون هذا المبدأ أفضل طريق يمكن اعتماده في عصر الغيبة كضمان لحقوق الأمة إلى أن يظهر ولي الامر (ع)...».
هناك قضايا أخرى ناقشها المؤلف، وهي في الحقيقة مباحث علمية مهمة لابد منها لتكامل النظرية والإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي يطرحها الوسط العلمي الحوزوي قبل غيره، لأنها اشكالات مدرسية حوزوية، مثل بعض أوجه الخلاف بين علماء الإمامية حول ولاية الفقيه العامة، وطاعته مع اعتقاد خطئه، ووجوب الاستشارة عليه، ومسألة الخمس، ووحدة الولاية وتعددها، وعلاقة الولاية بالمرجعية، ومركزية السلطات.
وما توصل إليه المؤلف من استنتاجات وخلاصات، لا يعد نهائيا، لأن البحث في هذه المطالب يعد جديدا، أو يحتاج إلى المزيد من البحث والمعالجة. والمؤلف يعترف بأهمية استمرار البحث في هذه المطالب، فالانصاف كما يقول «إن الاشتغال بهذه المطالب يشكل تأسيسا لنظرية ربما تحتاج إلى سنين حتى تستقر بحيث تكون واضحة المعالم من جميع الجوانب والتفاصيل من جميع الجهات..».
الانتظار الايجابي
لم يكن باستطاعتنا أن نتحدث عن جميع المباحث والمواضيع التي عالجها هذا الكتاب، لأنها كثيرة ومتفرعة، وقد أشرنا في البداية إلى عدد الأبواب والفصول التي احتضنها هذا البحث التأصيلي في المجال السياسي، لكننا حاولنا أن نقدم مستخلصات لبعض المباحث المهمة، ليتسنى للقارئ الاطلاع على مضمون هذه المباحث ومنهج الاستدلال المتبع لدى المؤلف، وهو من علماء الإمامية المعاصرين ومدرس في الحوزة العلمية، ولذلك أهميته الكبرى، لأن المباحث جاءت على غرار مثيلاتها في أبواب الفقه الأخرى، هذا ايذان بعودة الروح والفاعلية لهذه الأبواب التي أهملت طويلا داخل الأوساط والمدارس العلمية الإسلامية بشكل عام.
طبعا هناك كتابات كثيرة ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة تتحدث عن النظام السياسي الإسلامي، لكن يغلب عليها الطابع الثقافي العام، وايراد الأدلة الاجمالية والعامة على ضرورة الحكم الإسلامي، ومواصفات الحاكم الإسلامي. لكن البحوث التأصيلية الجادة والعميقة والتي تحاول فعلا أن تكشف عن نظرية سياسية متكاملة يمكن تقديمها للمجتمع الإسلامي، تظل قليلة وفي حكم النادرة وخصوصا في الدائرة السنية. من هنا تنبع أهمية هذا الكتاب باعتباره بحثا تأصيليا مفصلا في هذا المجال. لكن هناك ملاحظات يمكن أخذها بعين الاعتبار أثناء البحث في مجال التأصيل للنظرية السياسية الإسلامية، ومنها:
هاجس الخوف، الذي يتحكم بلا شعور الإنسان المسلم ويوجهه، من أي نظام سياسي، بسبب قرون من الاستبداد والطغيان، وامتداد ذلك إلى الأزمنة المعاصرة وما نجم عنه من وجود ما سماه الشيخ النائيني بالقوى الملعونة، أي تلبس قلوب الأكابر وأشراف المجتمع، ومن بينهم علماء وفقهاء، برذيلة الاستبداد وقبولهم به ودفاعهم عنه وايجاد المسوغات الشرعية له، ما كوّن حالة من اليأس تسود وتعم، لذلك فلابد من اعتبار هذه الحالة التي أصابت حتى الفئة الواعية والمثقفة، والاهتمام بالأسئلة والاشكالات التي يمكن أن تطرح نتيجة لذلك، وعدم اهمالها بحجة ما، خصوصا ونحن نتحدث عن التأصيل والشرعنة للنظريات، ولا يخفى على أحد أن جميع الأنظمة الاستبدادية ادعت وادعي لها الشرعية، لكن بقيت الفئات العريضة من المجتمع، ومعها الطبقة المحترمة من العلماء والفقهاء والمفكرين، لا تؤمن بأي شرعية مختلقة ومزيفة. لذلك حتى لا يتم الخلط، لابد من الاهتمام بالتأصيل بعيدا عن المساجلات السياسية والاختيارات الشخصية، لأن تداعيات البحث والتأصيل لها علاقة مباشرة بالحقيقة أولا وأخيرا. ولا يؤثر فيها نجاح أنموذج واقعي معاصر أو فشله، لأن النجاح أو الفشل، لهما معطيات خاصة، اضافة إلى قوة النظرية وقربها من الحقيقة. فقوة نظرية الإمامة المنصوص عليها مثلا ليست مكتسبة من خلال التطبيق الواقعي كما هو معروف، وإنما من الأدلة النقلية والعقلية. لذلك فالموضوعية العلمية تقتضي مراعاة هذه الهواجس والمخاوف ومعالجتها بمنهج علمي رصين. بالطبع يستثنى من ذلك الانتقادات التي تنطلق من ايديولوجية مناهضة للنظرية جملة وتفصيلا، لكن يمكن الاستفادة كذلك من هذه الانتقادات لمعالجة جميع الشعارات المحتملة في النظرية. والأفكار النقدية يمكنها أن تكون عوامل منعشة ومنبهة لأية نظرية أو فكرة وتدفع بها نحو التكامل.
لذلك لا خوف على نظرية ولاية الفقيه من النقد، أما استنجاد الخصوم بأي اخفاق على المستوى الواقعي فهذا كذلك لا يمكن أن يشكل خطرا على النظرية ما دامت متماسكة فكريا وقوية على المستوى النظري والعلمي، وكما قلنا سابقا فللاخفاق معطياته الخاصة. وأي ازمة اقتصادية مثلا يمر بها الاقتصاد الايراني لن تكون بسبب نظرية ولاية الفقيه وإنما بسبب الحصار الدولي والحرب الاقتصادية الموجهة ضد جمهورية شعارها «لا غربية ولا شرقية»، ونحن نعلم أن معظم الدول الإسلامية تعيش أزمات اقتصادية خانقة، وهذه الدول تتبنى أنظمة سياسية مختلفة لا علاقة لها بنظرية ولاية الفقيه من قريب أو بعيد، هذا مثال نضربه ونحن نشاهد الاعلام الغربي يتصيد الاخفاقات والعثرات ليدعي بأن الإسلام ونظرياته في جميع الميادين لا تصلح للحياة المعاصرة ولا تمكن المجتمعات الإسلامية من التقدم الذي تنشده.
إذن، لابد، أثناء أي محاولة للتأصيل العلمي الحقيقي، من أن يتم الاهتمام بجميع الأسئلة والاعتراضات والإجابة عليها ومناقشتها لاثبات جديتها أو تهافتها وللكشف كذلك عن خلفياتها الايديولوجية إن وجدت.
يبقى الرد العلمي المعزز بالأدلة والبراهين هو السبيل الوحيد للدفاع عن أية حقيقة نسبية أو مطلقة.
وأخيرا، نرى أن الكل مطالب بالبحث والتأصيل في زمن الغيبة، ليس فقط التأصيل في المجال السياسي، ولكن في عدد من المجالات الغامضة والتي تحتاج إلى المزيد من التفصيل والمعالجة مثل نظريات الإسلام في مجال الاقتصاد والاجتماع والتربية والثقافة والفنون. ويجب أن يقوم بذلك الفقهاء وذوو الاختصاص، لأنهم أقدر الناس على ذلك. ولأن كتابات المثقفين والمفكرين كما نعلم غارقة العموميات والعناوين الكبرى، فالإسلام هو الحل، لكن كيف؟ وهذا الكيف يجب أن يستنبط من مصادر الإسلام المعتبرة، حتى يمكن تقديمه للناس باعتباره انتاجا إسلاميا يمكن الاطمئنان إلى شرعيته والأخذ به.
إن الزمن هو فعلا زمن الغيبة، فلا وجود للرسول (ص)، ولا للإمام المعصوم (ع)، والبحث مستمر في غير بلد عن الولي والحاكم الكفؤ والعادل، والاستبداد ينشر ظلاله السوداء القاتمة في مجمل مناطق العالم الإسلامي، ولا أحد يعرف طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة الآن، فمنها ما يدعي الديمقراطية، ومنها ما يدعي أنه يحكم بالقرآن والسنة، ومنها ما يدعي الجمع بين نظريات متناقضة، لكن جميع هذه الدول تحتل رأس القائمة في جميع تقارير المنظمات الحقوقية العالمية حول انتهاك حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخ... والمجتمعات الإسلامية تنتظر المخلص، لأن الايمان بالإمام المهدي المنتظر(عج) عقيدة إسلامية عامة لا تخص الشيعة الإمامية وحدهم. لكن الانتصار قد يطول سنوات أو عقودا من الزمن، لذلك فالعقل والشريعة والواقع كذلك، كل هذه المعطيات دفعت بالمجتمع الشيعي الإمامي، وعلى رأسه فقهاؤه، لجعل هذا الانتصار ايجابيا عن طريق التفكير في إقامة الدولة الإسلامية والعمل من أجل التمهيد لهذا الظهور المرتقب، وهذا ما تنشده وتحاول القيام به نظرية ولاية الفقيه على المستوى الواقعي الآن.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية