مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

أصول الحرية نقد المباني الفلسفية الليبرالية
د. عبدالله نصري


إشارة
تهدف هذه المقالة إلى تقديم دراسة نقدية للأصول الفكرية والفلسفية للمذهب الليبرالي، ومن هنا سيجري البحث عن المباني المعرفية لليبرالية، كالمذهب الإنساني والحرية والتسامح، بوصفها أسسا مهمة لهذه المدرسة الفكرية. وفي هذا المجال، سيسلط الضوء، بصورة أكبر، على موضوع الحرية، وستطرح مجموعة من المباحث المرتبطة بها، كتعريفها وأنواعها وضرورتها وحدودها، ومن ثم يعمد إلى القيام بنقد لها.
وفي نهاية المطاف، سيختتم البحث بدراسة موضوعة التساهل والتسامح.
تمهيد
تعد الليبرالية واحدة من المدارس الأكثر نفوذا في الفكر الفلسفي الغربي، ويعرض هذا المذهب أصوله ومبانيه في مجالات ثلاثة هي: الفلسفة والسياسة والاقتصاد، إذ يناصر هذا المذهب الحريات الفردية والاجتماعية في الدائرة السياسية، كما يعتقد بضرورة تقليص نفوذ الدولة على الصعيد الاقتصادي. أما من الناحية الفكرية فهو يرى انه لو خلي العالم وسيره الطبيعي فإن المشكلات البشرية سوف تتجه تلقائيا نحو الحل، فما لم نمارس نوعا من خلط النظام الطبيعي للمجتمع، وتركنا الأفراد يعملون وفقا لاراداتهم الخاصة، فإن ذلك سوف يحقق المساواة في المجتمع وكذلك الأخوة. إن تدخل الأفراد، أو الدول، في مسار الأمور سوف يؤدي إلى تشظي النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع.
لقد تبلور هذا المذهب، في القرن السابع عشر، متزامنا وظهور الرأسمالية، وقد كان أنصاره من المؤيدين لحق تخزين الأموال الشخصية وكنزها. واعتقد المفكرون الليبراليون الأوائل بأن عامة الناس يمكنهم اختيار الطريق المفضي إلى سعادتهم وراحتهم، ومن ثم، فلا تحتاج المسألة إلى افتراض سلسلة رتب ومقامات من علماء الدين، أو غيرهم، للقيام بتعيين التكاليف على الناس انفسهم.
لقد ناهضت الليبرالية، طوال التاريخ، المعوقات والعقبات التي كانت توضع أمام الحريات الفردية، من قبيل نفي الفردية، العصبيات الدينية، السلطة المطلقة، حرمان الأفراد من ابداء الرأي الخ...، فمن وجهة نظر هذا المذهب، خلق البشر متساوين، كما اُودعت جملة من الحقوق الخاصة في وجودهم نفسه، من قبيل حق الحياة وحق الحرية وحق اختيار نمط العيش.
ويناصر الليبراليون المجتمع المدني، أي ذلك المجتمع الذي يتمكن الأفراد فيه من ممارسة فعالياتهم الاقتصادية والسياسية بشكل حر، ومن ثم فإن الدولة تمارس حدا أقل من التدخل في شؤونهم، كما أن كل إنسان حر في قضاياه الدينية، ويمكنه أن يتبع بكل حرية ما يمليه عليه وجدانه وضميره الخاص، ولا يحق لأي كان ممارسة أي نوع من أنواع الفرض على أي إنسان بغية الايمان بعقيدة معينة.
لقد مر المذهب الليبرالي بمراحل متعددة تم فيها الفصل والتمييز بين الليبرالية "الكلاسيكية" والليبرالية الجديدة، فعلى حد قول الليبراليين الجدد: وقعت الليبرالية القديمة في اشتباه عندما ذهبت إلى القول: إنه لو خلي الأفراد وأنفسهم في ما يتعلق بنشاطاتهم الاقتصادية، ولم تمارس الدولة أي تدخل في شؤونهم هذه، فإن التنافس الذي يحصل في المجتمع سوف يؤدي إلى خلق التوازن على هذا الصعيد، ذلك أن عدم المساواة الناشئ عن نمو الرأسمالية كشف عن معاداة سلطة رأس المال للحريات الفردية للمحرومين، فالرفاه الاقتصادي نفسه وفق تصور بعض الليبراليين المعاصرين هو نوع من الحرية، ولأجل اقامة العدالة يصبح لزاما القيام بتحديد للحريات عند الضرورة.
كما كان الليبراليون "الكلاسيكيون" يرون أن وجود الدولة المستبدة يمثل أكبر تهديد للحريات الفردية. أما الليبراليون الجدد فإنهم يرون أن الدولة التي تمارس تدخلات أقل في مجال الاقتصاد والاجتماع تمنع من تحقق الحرية والحقوق الاجتماعية للأفراد. إذن هناك اختلاف شديد في بعض المفاهيم والمقولات التي يطرحها هذا المذهب الفلسفي، وعلى حد تعبير "روبرت اكلشال" (Eccleshall Robert) هل لكلمة الليبرالي اليوم مدلول غير الاعتقاد بحرمة الحريات الفردية؟ إن الأمر الواضح هو أن الحرية من المفاهيم المبهمة التي وقع خلاف فيها، سواء على مستوى تعريفها أم على مستوى الشروط الاجتماعية المتكفلة بتأمينها. إذن فالادعاء القائل: إن الحرية إنما هي نواة الليبرالية وبذلك يمكن وضع خطوط تمييز للمذهب الفكري الليبرالي ليس كافيا، ومن ناحية تحليلية يمكن التأكيد على مسألة معرفية ذات أهمية أكبر، ألا وهي أن الليبرالية مع اذعانها بأولوية الحرية تمثل بشكل ملحوظ مذهبا داعيا إلى المساواة"[1].
ويمكن دراسة الليبرالية من جوانب متعددة، وقد ارتأينا، في هذه المقالة، القيام بدراسة أصولها ومبانيها الفكرية ونقدها.
النظرية المعرفية الليبرالية
من الضروري، لدى دراسة المذهب الليبرالي، التعرف إلى موقفه من قضية المعرفة، فأول مسألة من مسائل المعرفة هي وسائل المعرفة. إننا نطلع على واقعيات العالم من خلال الوسائل المعرفية التي نمتلكها، وكل مذهب يحدد النشاط المعرفي، في نظرته، من خلال تحديده لوسائل المعرفة نفسها، فبعض الفلاسفة الذين يمثلون البدايات الأولى لليبرالية، من أمثال جون لوك، كانوا يرون أن الحس هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة، أي أنهم كانوا من المعتقدين بأصالة الحس (Empirism).
لقد أثارت أصالة الحس القول: إن ما يمكننا معرفته إنما هو ما يقبل الادراك من خلال حواسنا، ومن ثم فما يخرج عن ادراكاتنا الحسية لن يكون قابلا للمعرفة أبدا، بل أن بعض الفلاسفة الحسّيين اتخذ ازاء موضوعة "ما وراء الطبيعة" موقفا لا أدريا، فيرى أننا لا نثبت ذلك كما أننا لا ننفيه، وذلك لأن وسائل اثبات ذلك أو نفيه ليست في متناول أيدينا، وعلى سبيل المثال: الروح المجردة، فإنه وفقا لأصالة الحس لا يمكن اثباتها كما لا يمكن نفيها.
فبعض آخر من الفلاسفة يؤيدون أصالة العقل (Rationalism)، فيرى أننا نقبل كل ما يدركه عقلنا، وكل ما لا يتقبله هذا العقل فإننا نقوم بنفيه، وهذا يعني أننا نخوض غمار اثبات حقائق العالم أو نفيها عندما تكون هذه الحقائق في دائرة نشاطاتنا العقلية، فأداتنا المعرفية هي العقل، وعلى كل إنسان البحث عن أهدافه وعن طرق الوصول إليها من خلال عقله، ومن ثم فلابد من أن يكون عمله قائما على أساس العقل نفسه، أي أن المعرفة العقلية هي التي تشكل ملاك الاعتراف بما ينبغي فعله وما ينبغي تركه. يعتقد "غيريمي بنتام" أحد المفكرين الليبراليين أن أمنيات الإنسان ورغباته تشكل دافعا من الدوافع والمحركات السلوكية له، وهذه الرغبات والأماني وفقا لنظرة بنتام للإنسان نابعة من حب الذات، فالإنسان، في الحقيقة، يملك من جهة العقل والفكر اللذين يجب عليه العمل وفقهما، فيما يملك من جهة أخرى مجموعة من التمنيات الذاتية، وبعض المفكرين الليبراليين يذهب إلى أن العقل إنما هو مجرى خادم للرغبات الإنسانية, "فدافيد هيوم" Humme) Daivid ) يعتقد بأن العقل عبد للرغبات والميول البشرية، أي هو عقل أداتي تستولي عليه الميول والرغبات، ومن ثم فهذا العقل يمكنه أن يبني علاقة بين رغباتنا وميولنا، ويرشد إلى سبل ارضائها جميعا.
يشبه العقل القنديل الذي يرشد الإنسان في الظلام، بيد أن هذا القنديل لا يمكنه ممارسة النشاط والفعالية في جميع الأحوال، فما ذكره المفكرون الليبراليون من أن العقل الإنساني أسير الهوى والرغبة النفسانيين أمر صحيح، أي أن هذا العقل يواجه مجموعة من الموانع التي لا تسمح له بممارسة وظيفته، فهل يكون أصحاب الجرائم مبتلين بمشكلات عقلانية؟! أي هل إن عقلهم ناقص، أو إنهم، بالرغم من سلامة عقولهم، قد وقعوا تحت تأثير عوامل أخرى، وأصبحوا مجرمين وجناة؟ فإذا كان المطلوب أن يقوم العقل بأداء وظيفته، فمن اللازم رفع كافة الموانع التي تحول دون قيامه بذلك، والميول النفسانية تعد مانعا من هذه الموانع.
لا تستطيع الليبرالية ازالة هذه المعوقات من طريق العقل، إذ إن الإنسان وفقا للرؤية الليبرالية ملزم باتباع ميوله ورغباته الذاتية، فالمذهب الذي لا يطرح الاستعدادات الإنسانية المتعالية والسامية فكيف بالعمل على تفعيلها وانجازها لا يمكنه أن يزيل الموانع التي تقف أمام العقل ودوره، إن المذهب الفكري الذي يريد الاستفادة من العقل البشري بشكل دقيق لابد له من القيام بتفسير الإنسان نفسه، ليرشده هذا التفسير إلى الطريق الذي عليه أن يتحرك في اطاره حتى ترتفع تلك الموانع من أمام العقل.
طبقا للمنطق الليبرالي، لابد من اخضاع أي شي ء للتجربة، وهذا معناه أنه لا يجوز الاعتراف بأي شيء اعترافا مسبقا، فكل شيء قابل للتجربة أو للتجزئة والتحليل العقلانيين، وكل نظرية يمكن الموافقة عليها من خلال التجربة، بل أن التجارب نفسها لا ترشدنا إلى الحقيقة المطلقة والدائمة، فما كان يثيره "كانت"، من أنه لابد من ممارسة النقد ازاء أي شيء، إنما كان يريد به نقد الدين نفسه، أيضا، كما فعل هو نفسه حين عمد إلى اقصاء الدين وبشكل مؤدب عن دائرة العقل النظري ليرفقه بمجال العقل العملي، وأقفل نتيجة ذلك باب الاستدلال والبرهنة في المسائل الدينية، وهو ما أدى في النهاية إلى تجريد الدين من البنية العقلانية.
إن هذا الاشكال يتوجه، أيضا، إلى الليبرالية على مستوى نظريتها المعرفية، غضت الليبرالية الطرف عن الوحي الذي يعد أهم وسيلة من وسائل المعرفة.
إننا نعتقد بوجود ثلاث أدوات معرفية، هي: 1ـ الحواس، 2ـ العقل، 3ـ الوحي، فالبشر لا يمكنهم ادراك مجموعة من الحقائق عن طريق العقل وحده، فهم أولا غير قادرين على تحديد هدف الخلق من خلال عقولهم، كما أنهم عاجزون ثانيا عن تحديد الطريق الذي يوصلهم إلى تحقيق هذا الهدف، فبالرغم من أن بعض الفلاسفة يمكنه ادراك هدف الخلق من خلال الجهود العقلية، بيد أن ذلك غير ممكن بالنسبة لعامة الناس، بل قد كان هناك خلاف بين الفلاسفة أنفسهم في تحديد ذلك، وبالتالي فإذا ما كان من المفترض بالناس الرجوع إلى الفلاسفة لتحديد ذلك يطرح التساؤل الآتي نفسه وهو: أي فكر من أفكار الفلاسفة يمكن جعله أنموذجا لهم؟ إن بعضا من هؤلاء الفلاسفة يرون الحياة غير هادفة، ويدعون العدمية الغائية في الوجود كله!.
يواجه البشر مشكلات كثيرة في ما يتعلق بالتساؤلات الآتية:
من أين؟ وإلى أين؟ وما الذي يجب فعله؟ ذلك أن العقل البشري عرضة للخطأ والاشتباه كما هو الحال في الاختلافات الكثيرة جدا التي وقعت بين الفلاسفة على أثر الخطأ العقلي على امتداد تاريخ الفكر البشري، فإذا سألنا افلاطون، على سبيل المثال: ما هي الوسائل التي طرحت وفقها نظرية المثل، فإنه سوف يجيبنا بأنها العقل، وهكذا إذا وجهنا السؤال نفسه لارسطو عن الوسائل التي استخدمها لنقد نظرية المثل الافلاطونية فإنه سوف يجيبنا بالجواب نفسه، أي العقل، والجواب نفسه سوف يقدمه الفارابي إذا سألناه عن الأدوات التي وظفها للجمع بين افلاطون وارسطو...
نعم، من الممكن أن يكتشف العقل هذا الخطأ الذي وقع فيه، بيد أن ذلك قد يحتاج إلى زمن طويل، بل أن المسألة، في ما يتعلق بالخلق الإنساني، سوف تصبح أكثر صعوبة إذ لا يمكن تجميد أعمال الناس جميعها بانتظار فراغ الفلاسفة وتوافقهم على جواب موحد حول هذا الموضوع ليقدموا لهم البرنامج العملي والتكاليف الميدانية التي ينالون بها سعادتهم. إن الإنسان الذي يعيش في هذه الدنيا زهاء سبعين أو ثمانين سنة، عليه، في هذه المدة، أن يسعى للوصول إلى قمة الكمال، فإذا لم يعرف طريق الكمال هذا فإنه من المسلم به عدم تمكنه من الوصل إليه، وهذا هو ما يدفعنا إلى القول: إن الله تعالى وانطلاقا من لطفه بالعباد يبين لهم طرق الوصول إلى الكمال من خلال الوحي حتى يتمكنوا طبقا للالتزام بذلك من الوصول إليه فعلا. إذن فالخطأ العقلي هو الذي دفعنا إلى اللجوء إلى الوحي والاعتقاد بوظيفته المعرفية، وليس الخطأ العقلي فقط، بل محدودية العقل توجب هي الأخرى، أيضا، افتراض وسيلة اضافية للمعرفة. فبعد اثباتنا استمرارالحياة الإنسانية بعد الموت، وأن هذا الإنسان يعيش بعد القيامة أيضا، وأن كل ما فعله الإنسان في هذا العالم سوف يرى نتيجته في العالم الآخر، بعد ذلك كله يلزم على كل إنسان العمل في هذه الدنيا بما يرد عليه نتائج ايجابية في تلك الآخرة. وهنا نسأل: مادام الإنسان غير متمكن بعقله من ادراك الحياة الآخرة، فكيف يتمكن من التوصل إلى ادراك الأعمال التي تدر عليه في ذاك العالم آثارا ايجابية؟ بالعقل الإنساني يتمكن البشر من اثبات أصل الحياة الآخرة فقط، بيد أنهم لا يستطيعون ادراك كيفية هذه الحياة، فكيف يتمكنون من الوصول إلى معرفة طبيعة الأعمال التي يجب عليهم فعلها لحياة أخرى سعيدة؟ وهذا ما جعلنا نقول: إن الله تعالى يضع ومن خلال الوحي مجموعة من القوانين والأنظمة للإنسان تنفعه فيما لو التزم بها في دنياه وأخراه معا.
وخلاصة القول: إن عدم اعتراف المذهب الليبرالي بالوحي والالتزام به يعد اشكالا من الاشكالات المهمة التي ترد عليه، هذا بالاضافة إلى أن المذهب الأنموذجي هو المذهب الذي يمكنه القيام باجراء يدفع البشر إلى العمل وفق الأمور التي يدركونها، فمن الممكن توصل البشر بعقولهم للكشف عن حقيقة ما، بيد أنهم لا يلتزمون بها، والمذهب الليبرالي متورط في هذه المشكلة، إذ إنه لا يحتوي على ضمانات اجرائية تسهم في اندفاع البشر لتحقيق الأمور التي أدركوها بعقولهم.
لقد واجهت الليبرالية الكثير من المشكلات نتيجة عدم اعترافها بالوحي وتنحيته جانبا، وتعد النزعة العلمية واحدة من هذه المشكلات. يرى "فرانسيس بيكون" العلم مساويا للقدرة، وكذلك "اوغست كونتط يعتقد بأن العلم هو دين الأجيال القادمة، فعندما يجري اقصاء الوحي جانبا يضطر البشر لوضع بديل منه، وهذا ما فعله الكثير من مناصري الاتجاه الليبرالي عندما وضعوا العلم مكان الوحي، ففي الغرب هناك أشخاص، من أمثال "فرويد"، ممن يرون ضرورة جعل العلم بديلا من الله والدين، أي أن العلم لابد من أن يخلف الوحي نفسه. ومن وجهة نظر "فرويد"، لا تمثل المعتقدات الدينية سوى مجموعة من الأوهام والخيالات غير القابلة للاثبات العلمي، ومن ثم، فلابد من تنحيتها جانبا، وبدلا من طرح فكرة عبادة الله علينا طرح مقولة عبادة العلم. إن تصور "فرويد" عن الله والدين إنما هو تصور خاطئ، وهو نفسه مجرد وهم من الأوهام.
ويعد "برتراند رسل" من المفكرين الليبراليين الذين طرحوا موضوع عبادة العلم في كتابه: الرؤية الكونية العلمية، وهو، حينما يتحدث عن المدينة الفاضلة، يعبر عنها بالمجتمع العلمي، ففي هذه المدينة الفاضلة يقوم كل شيء على أساس العلم نفسه، فالحكومة والتربية والتعليم والتناسل وتنظيم النسل والعلاقات الاجتماعية جميعها تنتظم وتتشكل على أساس العلم. ومن وجهة نظر "رسل"، يمكن ايجاد النباتات والحيوانات الجديدة بمعونة قوانين "مندل" وعلم الأجنة التجريبي، كما يمكن بمساعدة العلوم التكنيكية وعلوم أخرى من قبيل علم النفس والاقتصاد بلورة مجتمعات مختلقة ومصطنعة أيضا.
إننا بمعونة العلم قادرون على فهم الطبيعة ومعرفتها وعلى تسخيرها لنا، والعلم يمكنه مساعدة الإنسان على جبر الخسارات الواردة من قبله على الطبيعة، بل ويمكنه أيضا الارشاد إلى سبل المواجهة مع الكثير من المشكلات والمصائب التي يعاني منها البشر. أما سعي الإنسان إلى السير نحو الكمال فهو من الوظائف الخارجة عن مسؤولية العلم نفسه، فالعلم غير قادر على جعل البشر صامدين ومواجهين للميول الذاتية، ومن هذه النقطة بالذات انطلقت الفكرة التي أشرنا إليها من أن المذهب الليبرالي حيث يواجه مشكلة في نظريته المعرفية، أو في نظرته للإنسان غير قادر على حل المشكلات البشرية.
إن مقولة: "فلتكن عندك، أيها الإنسان، جرأة المعرفة" من الشعارات الليبرالية المعروفة على الصعيد الايبستمولوجي، فبالرغم من أن هذه العبارة تعود إلى عصر التنوير، بيد أن الليبراليين قد عملوا على الاستفادة منها على نطاق كبير، فمسألة أن البشرية مطالبة بالسعي لتحصيل العلم والمعرفة من المسائل التي لا اشكال فيها، لكن القضية بالنسبة لليبراليين تتجاوز هذا المقدار لتعبر عن حصر مرجعية المعرفة البشرية بالعقل، ومن ثم فلا يجوز للبشر قبول أية مرجعية أخرى والاعتراف بها.
من الطبيعي أن الليبرالية باثارتها هذا الأمر تحاول أن تجيب عن تلك الاشكاليات التي مر بها تاريخ الفكر الغربي، فمن المعروف لدينا جميعا أن التاريخ الغربي متمازج والديانة المسيحية، وهذا التمازج لم يكن مع المسيحية الواقعية التي تعبر عن الوحي غير المحرف، بل وطوال القرون المتمادية تسلطت المعرفة التي أنتجها القساوسة بوصفها معرفة حقيقية عن الوحي، فالمرجعية الوحيدة التي تتحدث عن الشريعة وفهمها هي معرفة أرباب الكنيسة، وإلى جانب القساوسة كان لأرسطو نوع من الحاكمية الفكرية على مدى قرون أيضا.
وبعبارة أخرى، عرف الكتاب المقدس المحرف وأفكار أرسطو بوصفهما أهم مرجعية للفكر والمعرفة، ولأجل المزيد من المعرفة عن المجريات الفكرية لتلك الحقبة الزمنية ننقل نصا عن "فرانسيس بيكون" يحدثنا فيه عن ذلك: "وقع بحث ونقاش، سنة 1432م، في مجمع من المجامع العلمية، حول عدد أسنان الحصان، لقد جرى التفتيش عن الاجابة على هذا الموضوع في آثار العلماء السابقين، بيد أن ذلك لم يقدم أي نتيجة، وبعد أربعة عشر يوما من التحقيق أبدى أحد الطلاب رأيه بالنظر إلى فم الحصان وعد أسنانه، لكن هذا الاقتراح تم التعاطي معه على أنه كفر، وأن قائله مستوجب للتأديب الشديد. وفي نهاية المطاف، وبعد عدة أيام من البحث والجدال، أعلن المركز العلمي عدم قابلية هذه المسألة للحل نظرا لعدم ورودها في كتب القدماء"[2].
وفي هذا الجو الفكري بالذات، طرح المفكرون الغربيون المرجعية الحصرية للعقل في مجال الفكر والمعرفة، فلولا وجود مجموعة من المفرطين في الغرب لم يكن ليطرح المفكرون الغربيون مسألة حصر المرجعية بعقل الإنسان وحكمه الخاصين، فلو لم يتصادم هؤلاء المفكرون مع الوحي المحرف لم تكن لتتبلور أرضيات لمثل هذا النوع من الأفكار.
وفي هذه الصورة فقط كان بامكان المفكرين فهم عدم التقابل والتعارض بين الوحي والعقل وأن كلا منهما مكمل للآخر، ولكل واحد منهما رسالته الخاصة لهداية البشرية.
المذهب الإنساني
تعد النزعة الإنسانية للمذهب الليبرالي، وقد فسرها بعضهم مخطئا بأصالة الإنسان، ألا أن الصحيح والأفضل تفسيرها بمدارية الإنسان أو محوريته أو مركزيته، فالإنسان هو محور كافة الأمور في المذهب الإنساني فيما الله تعالى هو محورها في الأديان الالهية، فمنشأ الوجود وغايته هو الله تعالى "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فكلنا منه كما أننا جميعنا سائر وصائر إليه، وعلى حد تعبير الشهيد مطهري يشتمل الإنسان والعالم على خصلة "الأنا له" كما يحتويان خصوصية الرجوع إليه، فالله في الأديان ليس فقط منشا الأمور والموجودات جميعها ومبدأها وغايتها فقط بل إنه مركزها ومحورها جميعا، فهو مبدأ كل ما يجب فعله وكل ما يجب تركه، وكل تكليف وأمر إنما هو من الله تعالى: {إن الحكم إلا الله}، فعلى الإنسان العمل وفق الأوامر الإلهية، وطاعة الله تعالى لابد من أن تكون محور كافة الأنشطة الإنسانية، كما أن الهداية الإلهية شاملة للناس جميعهم، والبرامج التكاملية قد وضعت بين أيديهم أيضا.
لا يدرج الإنسان، في الأديان الإلهية، في مصاف الأمور التي لا يعتنى بها، فلم تتجاهل هذه الأديان قيمته ومقامه، بل لا يمكن الاعتراف بقيمة الإنسان وأصالته إلا في ظل الرؤية الإلهية، ذلك أنه في المذاهب الإلهية فقط يفسر الإنسان تفسيرا صحيحا، كما تبين طرق وصوله إلى الكمال ونيله إياه. ومن حيث الأساس يمكن فقط للمذهب الذي يتحدث عن كمال الإنسان وتعاليه أن يتكلم على أصالته، فالمذهب الذي لا يستطيع تقديم تفسير صحيح للإنسان وعلاقاته بذاته وبالله تعالى وبالعالم أيضا لا يمكنه أن يتكلم على أصالة الإنسان.
إن ذاك التصور المحرف في المسيحية عن الإنسان أوجب تجاهل الليبراليين وتغاضيهم عن الأديان الإلهية، ومن ثم طرحهم المذهب الإنساني، فالإنسان في المسيحية المحرفة إنما هو من حيث الأصالة مذنب، والأنبياء الكبار، من أمثال عيسى (ع)، تحولوا إلى آلهة لرفع ذنوب البشر، كما أن المسيحية ترى آدم مخطئا، أي أنه ارتكب ذنبا انتقل إلى أولاده من بعده إلى أن صار صلب المسيح (ع) موجبا لرفع ذنوب العباد الذاتية، فمثل هذه التصورات عن الإنسان كانت من عوامل ظهور الاتجاه الإنساني، فالإنسانيون كانوا يلاحظون الكتاب السماوي المحرف للمسيحية فقط، لا كتابا سماويا غير محرف، ككتاب المسلمين، أي القرآن الكريم. إن اطلالة على القرآن الكريم تدلل على مدى النظرة العميقة التي يحوزها هذا الكتاب السماوي عن الإنسان، كما تبين مجموعة المسائل التي طرحها حوله مما لم يطرحه أي من المذاهب حتى الآن.
لقد فسر الفلاسفة المسيحيون، في القرون الوسطى، ظاهرة الإنسان فجعلوا الله تعالى هو المدار والمحور والمركز، بيد أن الأمر قد اختلف بعد عصر النهضة، إذ جعل الإنسان نفسه مركز الأمور جميعها ومبنى كافة التكاليف والنواهي، أي أنه قد جرى اعتبار الإنسان مقننا، فصار يضع القوانين والتكاليف لنفسه وللآخرين.
لقد تمت تنحية الوحي جانبا مع ظهور "الإنسانية"، وطبعا، فليس منظورنا، هنا، هو أن كافة الليبراليين ماديون ومنكرون لله تعالى، فإن الكثير منهم مؤمنون ومعتقدون بالله عز وجل، بيد أن ذاك الإله الذي يطرحونه لا يشكل مركز كافة الأمور في الحياة الإنسانية ومحورها، فليس مصدرا لما ينبغي فعله وما ينبغي تركه، كما أنه لا يعد مقننا، بل عقل الإنسان وحده هو الملاك، ومن ثم فكل ما يراه هذا العقل صحيح وصائب، بل بلغ الحد ببعض المفكرين الليبراليين إلى القول: إن العقل الجمعي هو الملاك والمعيار، فعقل الفرد جائز الخطا بخلاف العقل الجمعي، حيث لا يقبل الخطا والاشتباه، وفي الواقع فإن العقل الجمعي قائم مقام الوحي بمعنى اقصاء أصالة الوحي واستبدالها بأصالة الرأي، فرأي البشر هو الملاك لا الوحي. إذن القضية ليست قضية الاعتقاد بالله تعالى من طرف الليبراليين، وإنما هي: هل إن الايمان والطاعة لله عز وجل أمران ملحوظان أو لا؟ من وجهة نظر المفكرين الليبراليين، يعد الايمان مسألة شخصية وقلبية، فهو من مقولة العواطف الإنسانية، ومن ثم فكل إنسان يمكنه أن يمتلك في أعماقه اعتقادا بالله تعالى، وعليه فالايمان رابطة خاصة بين الإنسان وربه، وليس هناك أية ضرورة للحضور الاجتماعي لهذا الايمان. ومن هذا الفكر الإنساني بالذات انطلقت النزعة العلمانية، أي فصل الدين عن القضايا الاجتماعية، فبالنسبة للإنسان العلماني يمثل الدين جانبا فرديا وقلبيا، فهو لا ينفي الدين بل إنه يرى عدم ارتباطه بالاقتصاد والسياسة والثقافة والحكومة والعلاقات الدولية بل وحتى المسائل العائلية والأسرية، ومن ثم فالعقل الجمعي هو صاحب القرار في مثل هذه الأمور.
ربما من غير الممكن تسجيل الملاحظات على مثل هذا الادعاء فيما لو أطلق في الوسط المسيحي، ذلك لأننا لو لاحظنا الكتاب المقدس فلن نرى فيه مسائل من قبيل الاقتصاد والسياسة والثقافة والحكومة، لكن السؤال هو: هل يتمكن مسلم من المسلمين من ادعاء مثل ذلك؟ أي هل يتمكن من علمنة الدين، وهو معتقد بالقرآن الكريم والسنتين: النبوية والعلوية، بمعنى ادعاء أن مسائل البشر الاجتماعية للبشر لابد من حلها والفصل فيها من طريق العقل الجمعي؟! لقد رأى الليبراليون الله تعالى مجرد أمر شخصي وفردي نظرا لابتلائهم بوحي محرف، بيد أن الحديث عن الليبرالية ولوازمها غير ممكن في الإسلام، ومن ثم فهو غير ممكن، أيضا، عن العلمانية التي تعد من لوازم المذهب الليبرالي ومستتبعاته، ذلك أن الفكر الإسلامي المبني على وحي غير محرف يشتمل على الكثير من الأصول والأحكام المتعلقة بالحياة الفردية والاجتماعية التي لا يمكن اخراج الدين عن ساحة الحياة الاجتماعية للبشر بمجرد ملاحظتها، وحصره بالتالي في الجانب الفردي فقط.
وبعيدا عن ذلك ومع الأخذ بعين الاعتبار المباني الليبرالية لا يمكن الحديث عن أصالة الإنسان، فإن المذهب الذي يقصر نظره على الأبعاد الذاتية والنفعية للإنسان ولا يلاحظ غيرها من الأبعاد، فضلا عن ملاحظته الجوانب المتعالية له، لا يمكنه الحديث عن أصالة الإنسان وقيمه. ومن هذا المنطلق نذهب إلى أن الليبرالية تستبطن تناقضا داخليا، وهي غير قادرة على التصدي لأصالة الإنسان بمعزل عن الوحي.
القراءة الليبرالية للإنسان
لابد، لدى البحث عن قراءة المذهب الليبرالي لظاهرة الإنسان، من التأكيد على أمرين: أحدهما البحث في أصالة الفرد، وثانيهما في ماهية الإنسان نفسه، ففي المذهب الليبرالي هناك اعتقاد بمبدأ الفردانية.
لعل كلا منا مطلع على التساؤل الذي يطرح دائما، وهو: هل إن الأصالة للفرد أو للمجتمع؟ تؤكد الليبرالية على الفردية، أي أن للفرد تأثيرا جوهريا ومحوريا في كافة الأمور والمجريات، وهذا يعني أنه لابد، أولا، من الالتفات إلى حقوق الفرد نفسه، ومن ثم الشروع بدراسة حقوق المجتمع، وبعبارة أخرى: هناك تقدم للفرد على المجتمع.
أما المناصرون لأصالة المجتمع فإنهم يعتقدون بأن الأفراد، حينما يجتمعون مع بعضهم بعضا، فإنهم يشكلون هوية خاصة مغايرة لماهية الأفراد أنفسهم، والأصالة لا تتبع كل فرد فرد وإنما تلاحق الهوية الجمعية.
ترى الليبرالية أن الأصالة من نصيب كل فرد فرد لا من نصيب ذاك الجمع المسمى بالمجتمع والاجتماع، فإذا اجتمع الأفراد مشكلين كيانا اجتماعيا، فإنه لابد لهذا الكيان الجديد من العمل على تأمين المقاصد والأهداف التي يتوخاها الأفراد أنفسهم، وهكذا الدولة ملزمة هي الأخرى بتأمين حقوق الأفراد ومصالحهم أيضا، ففي الرؤية الليبرالية يتم لحاظ الإنسان بوصفه موجودا مقتطعا عن العالم والأفراد الآخرين، ومن ثم فالاجتماع والعالم إنما ينظر إليهما بوصفهما مجرد ظروف لتحقق الفرد الإنساني، كما يتم التركيز في الليبرالية على مميزات الفرد نفسه أولا، وبعد ذلك تلاحظ وجوه اشتراكه مع الآخرين، كان الإنسانية ذات تمظهرات خاصة في كل فرد، أي أنه تتم ملاحظة كل فرد بوصفه كيانا متميزا عن العالم الطبيعي، بل وحتى عن سائر الأفراد، فكل إنسان مالك لحياته الخاصة.
أما الأديان الإلهية فإنها في المقابل ترى أن حياة الإنسان ومماته هما بيد الله تعالى، وهو المالك للبشر جميعا، ومن ثم فليس لأي إنسان حق اختيار نفي حياته، لكن الليبرالية ترى أنه حيث كان الفرد غير مرتبط بالله عز وجل، لذا فإنه مختار في حياته، ويمكنه حيث أراد تخليص نفسه من شر هذه الحياة.
لقد بلغت الحال بهذه النزعة الفردية لليبرالية إلى القول بعدم وجود صلاحية لأي فرد آخر في تحديد منافع الفرد نفسه ورغباته، فلا يمكنه أن يقول للأفراد الآخرين ما هي ميولهم الواقعية ومن ثم تعيين التكليف لهم، ذلك أن كل إنسان قادر أكثر من غيره على معرفة طريقه الخاص وتشخيصه، فمن وجهة نظر جون "ستيوارت مل"، إذا وافق الناس على أن يعمل كل إنسان وفق رغباته وميوله فإن الحياة سوف تكون أكثر نفعا لهم مما لو جرى اجبار الأفراد على العيش طبقا لما يراه الآخرون صلاحا، وكذلك لا يجوز للمجتمع فرض أنموذج معين والزام الأفراد به.
أما على خط ماهية الإنسان فلليبرالية رؤية خاصة هنا، فبعض مفكريها، من أمثال بنتام، يرون أن الإنسان وجود فعال لا منفعل، فيما يغلب عليه الجانب الانفعالي في تصور بعض أنصار أصالة المجتمع، كما هو الحال عند "اميل دوركهايم"، حيث كان يرى أن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان، فمن وجهة نظره عندما يجتمع الأفراد مشكلين الحياة الاجتماعية فسوف يحكمهم نوع من الروح أو الوجدان على اثر العلاقات الحاصلة في ما بينهم، وهذا الوجدان الجمعي يضفي على أعمالهم وسلوكياتهم نمطا وشكلا مناسبين. لقد اعتقد "دوركهايم" أن الكثير من أبعاد الإنسان تعد جزءا من الكيفيات الاجتماعية، فعلى سبيل المثال تصنف أمور من قبيل الدقة، التعلم، الحكم والاستدلال، الأمور الاخلاقية، المشاعر الدينية والميول الجمالية الإنسانية، تصنف مثل هذه الأمور على أنها معلولة لظاهرة الاجتماع.
أما من وجهة نظر الليبرالية، فالإنسان موجود فعال لا منفعل، أي أنه موجود ذو تمنيات وميول خاصة، وهذه الميول والرغبات تشكل طاقته الطبيعية، كما أنها تعد من العوامل المحركة له.
"توماس هوبز"، أحد أنصار هذا الاتجاه، لا يرى الحياة الإنسانية شيئا غير الحركة، فالإنسان، من وجهة نظره، موجود ذو آمال وأمنيات، وإذا لم يكن له ذلك فإنه سوف يموت حينئذ.
"ديلهلم فون هومبولت" (1767 1835م)، المناصر لليبرالية، يتحدث عن رؤية المذهب الإنساني للإنسان نفسه فيقول: "إن العقل لا يريد أية وضعية أخرى للبشر غير هذه الوضعية التي يتنعم كل فرد فيها بالحرية المطلقة لبناء ذاته في كامل فرديته، تلك الوضعية التي لا تزال الطبيعة فيها بكرا، وفقط الأعمال التي يقوم فيها الفرد ليعبر عن ارادته الحرة، وتكون متناسبة مع مجال احتياجاته وغرائزه هي التي تقبل التأثير، تلك الوضعية التي يحد فيها الفرد في نطاق حدود اختياراته وحقوقه"[3].
إن مسألة امتلاك الإنسان ميولا ورغبات هي من المسائل التي كانت موردا لاهتمام كافة المذاهب التي عنيت بقراءة الإنسان، والأمر الذي كان موردا للاختلاف إنما هو تفسير هذه الميول، فمن وجهة نظر "بنتام" وبعض من المفكرين الليبراليين الآخرين تعد الميول الإنسانية ميولا ذاتية.
لكن ذلك، على اطلاقه، مرفوض من جانب بعض المدارس الفكرية الأخرى، بل للإنسان ميول للآخر أو ميول نوعية أيضا، ومن وجهة نظر المذاهب الإلهية: للإنسان ميول أخرى غير الميول الذاتية تمثل الارادات السامية نظير ميله للعبادة، والدافع الفطري للبحث عن الله تعالى، ودافع الكمال أيضا وغير ذلك. فالليبرالية لم تعر الدوافع غير الذاتية للإنسان أية اهمية، وإذا ما حصل ذلك فإنه يصار إلى عملية تأطيرها بالميول الذاتية.
ومن وجهة نظر "بنتام"، فإن علة عدم جواز تسبب الإنسان أثناء ارضائه لميوله بأذية أو مزاحمة الآخرين هي أن مزاحمته لهم سوف تفضي في النهاية إلى عدم نيله لرغباته الخاصة وميوله الشخصية، وفي الواقع فإذا ما اُثيرت مسألة "الآخر" أمام بعض المفكرين الليبراليين فإن هذا الآخر سيكون عنده في خط الفرد نفسه، فالتوجه للآخرين بالنسبة للإنسان الذي لا يرى غير ميوله الخاصة إنما هو اهتمام بهذه الميول نفسها لا بالآخرين والتزاما بحقوقهم، فهو يريد الآخر لميوله الخاصة، إذ إنه يتصور أن عدم نيل هذا الآخر لميوله الخاصة سيؤدي إلى عدم قدرة الفرد نفسه على نيل ميوله هو أيضا.
أما المناصرون لأصالة الجماعة، فإنهم يعتقدون بضرورة رفع الرغبات الخاصة في سبيل هذه الجماعة، أي أنه قد يلزم في بعض الأحيان التضحية بالرغبات الذاتية لصالح الرغبات العامة.
أما بالنسبة إلى المذهب الذي لا يرى إلا المصالح والرغبات الفردية والتي هي بالطبع رغبات ذاتية لا نوعية فإنه لا مكان للآخرين هنا عنده، بل لا يمثل الآخر سوى أداة للوصول إلى الميول الخاصة الفردية، وبالتالي فالمشكلة لا حل لها في الروابط الاجتماعية المرتكزة على عدم التزاحم، فمادمنا لا نحسن تفسير الظاهرة الإنسانية ولا نعير اهتماماتنا للأبعاد النوعية المطلوبة لها، والأهم للجوانب السامية والمتعالية التي تكمن في الإنسان، فلن نتمكن أبدا من بناء العلاقات البشرية على أساس التعاون والتعاضد لا التعارض والتزاحم.
لقد تركت الرؤية الليبرالية للإنسان آثارا عدة نلحظها اليوم في الغرب نفسه، فاهتمام الإنسان بالآخر ضعيف جدا، فهو لا يعيش همه، وإذا ما كان فإنه يكون انفعاليا، أي أنه على اثر التفاعل والتأثر بساحة وجو مقرحين للقلوب يحصل نوع من الانفعال وتظهر ردة فعل لذلك، أما بعد ذهاب آثار هذه الأفعال عقيب مرور مدة من الزمن، فإن الإنسان سيعود من جديد أسيرا للغفلة، فإذا لم يكن هناك نظرة عميقة ودقيقة للإنسان فإن الحالات الانفعالية سوف تكون مؤقتة وغير ثابتة، ومن ثم غير مرتكزة على أساس، أما لو كانت هناك رؤية صحيحة لهذا الإنسان فإنه سوف ينشغل لدى مواجهته حادثة ما بتحليلها ودراستها ويقوم بسؤال نفسه عن علة حدوث هذه الحادثة، فهل له دور أيضا في وقوعها أو لا؟ ما هي مسؤوليته كإنسان؟ وما هي وظائفه أمام أفراد البشر الآخرين؟ إذا لم تكن نظرة الإنسان لغيره نظرة أداتية ونفعية، أي عندما لا يرى غيره مجرد وسيلة لذاته، فإن الحياة على وجه الأرض سوف تأخذ مظهرا آخر، أي أنه لو حكمت النظرة غير الأداتية فلن يقوم الإنسان باستغلال أخيه الإنسان، ومع هذه النظرة لن يكون هناك ظلم للآخرين. إن تحليلنا لظاهرة الظلم سوف يفضي بنا الى القناعة بأن أهم العوامل المساعدة على تولده هي النظرة الأداتية للآخر، فالمذهب الذي يرى أن على الإنسان العمل وفق رغباته وميوله إنما يقوم بتأمين الأرضية للظلم والجور، حتى لو بذل جهده لوضع سلسلة من النظم الاجتماعية والقانونية التي تحول دون حدوث الظلم والعدوان.
من جهة أخرى، ليست هناك أية علاقة لعقيدة الإنسان في إنسانيته وفق النظرة الليبرالية، فلا يمكن اعتبار أي إنسان أعلى وأسمى من الإنسان الآخر، أي لا يمكن اعتبار الإنسان الذي يملك عقيدة معينة أعلى وأرفع من ذاك الذي لا يحوزها، ذلك أننا لا نملك شيئا اسمه العقيدة الحقة، أو الباطلة، حتى نحكم بأفضلية شخص يؤمن بهذه العقيدة على ذاك الذي لا يؤمن بها، وإنما يرى العقيدة الباطلة. وهذا المبدأ منبثق، في الواقع، من النظرية المعرفية لليبرالية، فعندما نبني على اقصاء الوحي عن موقعه وجعل العقل والحس أساسين وحيدين للمعرفة بل العقل نفسه غير قادر على الوصول إلى الحقائق، ومن ثم فنحن في معرفة الحقيقة نعيش في أجواء من النسبية فإنه لا مفر من اعلان العجز عن العثور على أية حقيقة مطلقة، وهذا معناه عدم امكانية لوم أي إنسان على أية عقيدة يعتنقها، وهكذا فلابد من الاعتراف بقيمة أي إنسان مهما كانت عقيدته، كما لابد من تكريمه واحترامه بقطع النظر عن هذه العقيدة.
لا تسعى الليبرالية خلف الإنسان المثالي، أيضا، أي أنه لا يمكن أخذ إنسان معين مشتمل على خصوصيات محددة على أنه الأنموذج والأمثولة، ومن ثم دفع الجميع لاتباعه والاقتداء به، بل لابد من الاعتراف بالإنسان بكافة نقاط قوته وضعفه.
أما على صعيد التربية الإنسانية، فلابد أيضا من السعي لبناء أفراد منسجمين والمجتمع بحيث لا يتسببون بايجاد أية مزاحمة أو أذية للآخرين، وحتى المجرمين لا يجوز التعاطي معهم على أنهم أفراد مذنبون، بل لابد من النظر إليهم على أنهم مرضى، فأي إنسان يمكن أن يخطى، بل أن بعض هؤلاء المخطئين إنما هم مرضى، وعليه فعلينا أن لا نتوقع صيرورة البشر أفرادا أنموذجيين، فالأخطاء التي يرتكبها الآخرون يجب غض الطرف عنها مادامت لا تؤدي إلى الاضرار بالآخرين، وبالتالي فليس لنا أية علاقة بالأفراد الذين يقعون في الخطأ غير الموجب لأذية الناس.
الحرية
تعد مسألة الحرية أصلا من أهم أصول المذهب الليبرالي، فهذا الأصل يمثل محور كافة الأفكار التي يحملها الليبراليون، وإذا كان لليبرالية مذهبا ومدرسة تأثير في القرون الأخيرة فإن مرجع ذلك إلى هذا الأصل، أي الحرية، فالانطباع الذي يحمله الليبراليون عن الحرية يحكي عن اعتبارها أهم قيمة في الحياة الفردية والاجتماعية للبشر.
يشدد الليبراليون، بشكل مكثف، على الحريات الفردية للإنسان، وإذا ما اندفعوا إلى البحث عن الحريات السياسية والاقتصادية فإن ذلك في أغلبه يؤول إلى الحرية الفردية. فعلى سبيل المثال، يرى الليبراليون على مستوى الحريات الاقتصادية عدم مشروعية تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية للناس.
ويشدد الكثيرون منهم على الحقوق الطبيعية والفطرية للبشر، ومن وجهة نظرهم لابد من البحث عن سلسلة من الحقوق في الفطرة والتركيبة البشريتين نفسيهما، فهناك في الذات الإنسانية ميول لمجموعة أمور من قبيل الحرية وطلب العدالة وحق الملكية والوفاء بالعهد. وعليه فمن الضروري التفكير بتدابير تحفظ حقوق البشر هذه في المجتمع، ففي الأديان الإلهية يعد الايمان بالله تعالى ضامنا لهذه الحقوق، فيما بعض المدارس كالمدرسة الرواقية التي تطرح السعادة في انسجام الإنسان وتناغمه مع الطبيعة لم تلحظ أية ضمانة اجرائية لهما، أما بالنسبة لليبرالية فتعد الحرية حقا طبيعيا مقدما على المجتمع، ومن ثم فلابد من احترامه. وحفظ حريات الناس إنما يتحقق في اطار الكيانات الاجتماعية، فالسلطة السياسية المنبثقة من الشعب نفسه هي الضامن لحقوق الأفراد، وبعبارة أخرى يتحول الأفراد، من خلال عقد أو توافق ضمني، إلى منشأ للسلطة في المجتمع السياسي مشكلين بذلك المجتمع المدني، فالمجتمع المدني يقع على هذا الأساس في قبال الحالة الطبيعية للبشر، وتعني هذه الحالة الطبيعية في نظر مفكرين من أمثال "هوبز" مرحلة الهرج والمرج وسحق الحقوق الفردية، ويلتفت الأفراد على مر الأيام إلى قدرتهم في الحصول على حقوقهم الطبيعية من خلال القيام بتعاقد اجتماعي وايجاد سلطة سياسية، فمن وجهة نظره لابد من أن تمتلك الدولة سلطة غير محدودة حتى تتمكن من القيام بالاجراءات المناسبة واللازمة بغية حفظ أرواح الناس وأموالهم وحرياتهم.
وفي مقابل نظرية "هوبز" هذه، تقف نظرية "جون لوك" و"جان جاك روسو"، حيث لا تعد المرحلة الطبيعية للبشر مرحلة فوضوية غير منتظمة يعمها الهرج والمرج، وهي لذلك غير قابلة للتحمل حتى يصبح البشر مضطرين وبسبب الفرار منها لتقديم حقوقهم وحرياتهم الطبيعية للمجتمع السياسي، فمن وجهة نظر "جون لوك" كان البشر في المرحلة الطبيعية منعمين بالحرية والمساواة الطبيعيتين، بحيث كان الناس يعيشون حياتهم بالانسجام مع القوانين الطبيعية، فالحالة الطبيعية للبشر، من وجهة نظر "لوك"، هي حالة الصلح والتعاون على خلاف نظرة "هوبز" التي كانت ترى فيها حالة من النزاع والتخاصم والحرب.
والاشكالية الحاصلة في الحالة الطبيعية هي فقدان الضمانات التنفيذية، فكل إنسان يسعى بنفسه لحفظ حقوقه الطبيعية الخاصة، أما في الحالة الاجتماعية فيتولى هذا الكيان الاجتماعي مسؤولية ضمان الاجراء لحقوق الأفراد، وبحسب رأيه، من الضروري القبول بعقد اجتماعي لأجل حفظ حقوق الناس، بيد أن ذلك لا يعني السلطة المطلقة للدولة، إذ لو كانت قدرة الدولة غير محدودة، فهذا يعني افناء لحريات الأفراد، فإن البشر عندما يمنحون المجتمع بعضا من حرياتهم لا يريدون بذلك الوصول إلى الحقوق والى الحريات الفردية وإنما يطلبون حفظ هذه الحقوق لأنفسهم.
"جان جاك روسو"، المفكر الليبرالي، بحث هو الآخر مسألة الحرية وبقية الحقوق الطبيعية، فقال في بداية رسالته "العقد الاجتماعي": "إن الإنسان الذي ولد حرا يعيش أسيرا في كافة أنحاء الدنيا"[4]. فـ"روسو" يرى أن "العقد الاجتماعي" يجب أن يصاغ بحيث يكفل، وبصورة دائمة، الحريات البشرية، وهذا أمر غير قابل للتحقق إلا عن طريق استقرار حكومة القانون المطلقة، فعندما يتبع الأفراد الارادة العامة للمجتمع فإن حرياتهم سوف تصبح مصونة حينئذ.
لقد اُثيرت مجموعة من القضايا لدى البحث في مسألة الحرية، من قبيل تعريف الحرية، أنواعها، ضرورتها ولزومها، حدودها، صلاحيات الدولة، الحرية والديمقراطية، الحرية والأخلاق الخ... مما سنشير إلى بعضه في هذه المقالة، فيما نحيل تفصيلاته إلى كتاب "الإنسان والحرية".
تعريف الحرية
ذكرت للحرية تعريفات كثيرة، وعلى حد تعبير ""آيزايا برلين"" فإن هناك حوالى مئتي تعريف لها حتى الآن، ووجه الاشتراك بين هذه التعريفات هو ازالة المعوقات من طريق اختيار الإنسان، يقول ""آيزايا برلين"" في تعريفه للحرية: "إنني أعد الحرية فقدان الموانع من طريق تحقق آمال الإنسان وتمنياته"[5].
ويرى، في موضع آخر، أن الحرية تعني عدم تدخل الآخرين في أنشطة الفرد وأعماله: "الحرية الشخصية عبارة عن السعي للحيلولة دون تدخل الآخرين الذين يسعون وراء أهدافهم الخاصة في دائرة الفرد واستغفالهم وتقييدهم إياه"[6]. إن عجز الإنسان ليس منافيا لحريته، فعدم قدرة شخص ما على القفز إلى الأعلى، أو عجزه بسبب العمى عن القراءة، وكذلك عدم استطاعة الجميع فهم فلسفة هيغل، ليس مؤشرا على عدم الحرية، فعندما نقول: إن إنسانا ليس حرا، فهذا معناه أن شخصا آخر قد حال بينه وبين رغباته وآماله.
يهدف الليبراليون، من الحرية، إلى تمكن الفرد من العيش وفق أية طريقة يختارها ويحبها، ولا يحق لأي شخص تهديد رغباته هذه، وعلى حد تعبير ""آيزايا برلين"": "إن الدفاع عن الحرية عبارة عن هذا الهدف السلبي، إلا وهو الحيلولة دون تدخلات الآخرين، وهذا التهديد الذي تمثله تدخلات الآخرين يهدف إلى تمكين الفرد من حياة لم يخترها عن رغبة قلبية، أي أنه قد اقفلت بوجهه كافة الطرق عدا طريق واحد، وهو أمر مرفوض حتى لو منحه ذلك مستقبلا مشرقا، بل حتى لو كانت لدى الأفراد الذين يمارسون هذا الأمر نية حسنة وقصد خير، والذنب الذي يقع قبال هذه الحقيقة هو في كونه إنسانا يحق له العيش وفق الطريقة التي يريدها، وهذه هي الحرية التي يقصدها الليبراليون في العصر الجديد منذ زمن "ايراسمس" (بل على حد قول بعضهم منذ اوكام) وحتى يومنا هذا"[7].
لا شك في صحة مبدأ ثبوت الحق للإنسان في اختيار نمط حياته وعيشه، لكن هناك فرق بين حق الإنسان، في الاختيار، في طريق كماله، وبين فعله كل ما يحب فعله، فمن وجهة نظر الليبراليين إذا سار الإنسان نحو هدف معين من طرف المصلحين الاجتماعيين فإنه سوف يصبح كالشيء معدوم الارادة، فبالنسبة لليبراليين لا فرق بين أن يسير الإنسان في طريق الكمال أو غيره، إذ لا طريق محددا للجميع، فعلى كل فرد اختيار طريقه الخاص، أما في الأديان الإلهية فإن البشر يمكنهم الوصول إلى الكمال عن طريق صراط مستقيم واحد، لكن لا يجوز اجبارهم على السير في هذا الصراط المستقيم، أي أن انتخاب الأمر الكمالي هو مسألة اختيارية بحتة، بيد أنه لابد من تأمين الأرضيات التي تجعل البشر يقدمون على اختيار هذا الطريق الذي فيه كمالهم.
أنواع الحرية
ذكرت للحرية أنواع مختلفة، أهمها:
1 ـ الحرية الفلسفية: والمراد من هذا النوع من الحرية هو حرية الارادة والاختيار، أي أن الإنسان غير مجبور على القيام بعمله الخاص. وبعبارة أخرى فإن اتيانه بالفعل كتركه له هو أمر ارادي، وكون الإنسان فاعلا اختياريا يمثل أساس الاعتراف بالأنواع الأخرى للحرية.
2 ـ الحرية الاجتماعية: وهذا النوع من الحرية يعني امكانية استفادة الإنسان من حقوقه الطبيعية والفطرية بلا أي تدخل من جانب الآخرين.
3 ـ الحرية الأخلاقية: إن التحرر من الهوى والميل النفساني يعبر عن حرية أخلاقية، والغاية من هذه الحرية هي تعلق ارادة الإنسان بأمور الخير، أي أنه لو تسنى له الوصول إلى مرتبة لا يقوم فيها إلا بالأعمال الخيرة وبدافع إلهي، فإنه يكون بذلك قد حاز أعلى مراتب الحرية الأخلاقية.
ويمكن تقسيم الحريات الفردية والاجتماعية إلى الأقسام الآتية:
ا ـ الحريات الفكرية الشاملة لحرية الاعتقاد، وحرية نشر هذا الاعتقاد، حرية القلم والمطبوعات وحرية التربية والتعليم.
ب ـ الحريات الفردية والشخصية الشاملة لحق الحياة، حق الدفاع، حق الأمن الشخصي، الحرية في اختيار المسكن، حرية المرور والتنقل وحرية المراسلات والمكالمات.
ج ـ الحريات الاقتصادية الشاملة لحرية اختيار العمل، حق الملكية الشخصية والفردية وحرية العمل والاكتساب.
د ـ الحريات السياسية، وحق المشاركة في الأمور الاجتماعية والسياسية وحرية التجمعات واللقاءات.
بيد أن بعضا من المفكرين الليبراليين يرون للحرية تقسيما آخر، ومن هؤلاء ""آيزايا برلين""، فهو يرى أن هناك نوعين من الحريات: أحدهما الحرية الايجابية، والآخر الحرية السلبية.
والمقصود من الحرية الايجابية كون قرارات الإنسان بيده من دون الارتهان والارتباط بأي عامل خارجي، أي أن لا يكون الإنسان آلة لفعل الآخرين، أو فلنقل بعبارة أخرى: أن يكون فاعلا لا مفعولا.
نواجه، في هذه الحرية الايجابية، التساؤل الآتي: ما هو منشأ الرقابة أو ضبط الأفراد؟ وبيد من؟ أي من هو الشخص الذي يمكنه اجبار الأفراد على السير وفق طراز معين في عملهم؟ وبعبارة أخرى: من هو ذاك الشخص الذي يملك الحاكمية علي؟ وعلى حد تعبير ""آيزايا برلين""، في تفسير هذا النوع من الحرية: "من هو الذي يجري أوامره علي؟ من هو ذاك الذي يصمم ويكون قراره معينا لي كيف أكون أو كيف اعمل؟"[8]. أما في الحرية السلبية، فإن التركيز بالدرجة الأولى يقع على اختيار الفرد نفسه، وهنا يطرح السؤال الآتي: ما هي المساحة التي يملك فيها الأفراد مجالا حرا؟ وبعبارة أخرى: تقع الحرية السلبية في اطار الجواب عن التساؤل الآتي: إلى أي حد يمكنهم التسلط علي؟ "لأجل تعيين دائرة الحرية السلبية لشخص ما لابد، في البداية، من تحديد الأبواب المفتوحة في وجهه؟ وإلى أية حدود؟ وإلى أين تفضي هذه الأبواب؟"[9].
ضرورة الحرية
لقد ذكر الليبراليون مجموعة من الأدلة على ضرورة الحرية ولزومها، وهي أدلة كانت محطا للأنظار وموردا للاهتمام منذ زمن "جون سيتورات مل" وحتى ""آيزايا برلين""، وهي عبارة عن:
1 ـ الحرية جزء من الذات البشرية، أي أن طبيعة الإنسان تنزع نحو الحرية، وعلى حد تعبير ""آيزايا برلين"": الحرية جوهر الإنسان، وهو أي الإنسان موجود ساع نحوها، وهذا معناه أنها من لوازم إنسانيته.
يقول "آيزايا برلين": "أما بالنسبة للإنسان، وفقط في مورده هو، ندعي أن طبيعته تطلب الحرية، وذلك بالرغم من أننا نعلم أنه، وعلى امتداد الحياة البشرية، كانت هناك قلة قليلة من الذين ثاروا من أجل الحرية فيما الأغلبية الساحقة لم تبد أية اندفاعة نحو ذلك"[10].
2 ـ الارتباط ما بين الحرية وكشف الحقيقة، يعتقد "جون استيوارت مل" أن الحقيقة تتبلور عن طريق البحث الحر، فإذا ما كانت هناك وجهات نظر مختلفة، وكان في ما بينها نوع من التعارض والتصادم، فإن الوصول إلى الحقيقة يكون بشكل أفضل، فالحقيقة قابلة للكشف في الأجواء التي تتواجه فيها الأفكار والنظريات، ويمكن للأفراد البحث والتباحث في ما بينهم في فضاء حر، أما في المحيط الاستبدادي فإن التعرف على كثير من الحقائق سوف يواجه الكثير من المشكلات والعقبات.
3 ـ أن الابداع والابتكار البشري يتبلوران في ظل الحرية، وبعبارة أخرى، فإذا لم تكن هناك حرية فإن الشخصية المبدعة لن يكون لها ظهور، فالعلم والمعرفة ينموان في ظل المحيط الحر. نعم إن بعض الباحثين الغربيين لا يرون علاقة مباشرة بين الحرية والابداع، فهم يذكرون عصر روسيا القيصرية كمثال معزز لمقولتهم، حيث تطور الادب ونمت الموسيقى في هذا الجو بشكل ملفت، وبرزت في الساحة شخصيات كبيرة ومرموقة، وطبعا ليس مراد هؤلاء المحققين نفي الحرية، وإنما الاشارة إلى أن الابداع مرتهن بمجموعة من العوامل تعد الحرية واحدا منها، فإن الكثير من القابليات والطاقات تبقى محتبسة من دون نمو أو بروز في المحيط المختنق، فيما تنمو الأفكار والابتكارات وتتنامى في أجواء الحرية والمحيط الحر.
4 ـ يتحقق في ظل الحرية شرف الإنسان وكرامته، ففي المحيط الذي يتمكن فيه الأفراد من العمل والنشاط بحرية من دون أن يمنعهم أحد تظهر كرامة الإنسان وشرفه، أما في الجو المختنق الذي تسلب فيه حرية الإنسان فإن الأفراد يشعرون بالحقارة والخسة، فالشرف الإنساني يصبح عرضة للضرر في مجتمع لا وجود فيه للحريات السياسية والاجتماعية، وبالضبط في المحيط الاستبدادي الذي يرى فيه الأفراد أن القوة بيد جهاز السلطة الحاكمة وجميع العوامل الأخرى وأنشطتها تقع تحت الرقابة والضبط، تنعدم هويتهم ويصبحون أذلاء، إذ إن الأفراد في المجتمع الحر يشعرون بالأمن والكيان الذاتي، حيث لا يعدون مجرد آلات لتحقيق أهداف الدولة، كما يشاركون في الكثير من الأنشطة والفعاليات الاجتماعية. ومن وجهة نظر ""جون ستيورات مل"" هناك نوع من المنافاة بين أي شكل من أشكال السلطوية وبين الشرف والكرامة الإنسانيين.
حدود الحرية
الحرية الفردية ليست مطلقة، أي أنه لا يمكن القول بوجود حرية غير محدودة لأي فرد من الأفراد، إذ تتعارض حريات الأفراد حينئذ لتصبح جميعها أو بعضها مهددة بالخطر، فحيث هناك ترابط بين البشر يصبح التفكيك بين الحريات الفردية ومصالح الآخرين غير سهل أبدا، ففي بعض الموارد تتساوى الحرية الفئوية ونفي الحرية بل حتى نفي حياة الآخرين.
في بعض الأحيان، تفرض حرية بعض الأشخاص تحجيم حرية أشخاص آخرين، ومن وجهة نظر الليبراليين فإن حد الحرية يكمن في عدم مزاحمة الآخرين، وطبقا لرؤية "جون ستيورات مل" فإن العدالة تتطلب تنعم الأفراد بالحد الأقل من الحرية. ومن هنا يجب في بعض الاحيان ولو عن طريق الاجبار منع صيرورة حرية بعض الأفراد مخلة بالحريات الأخرى للآخرين.
حد الحرية ليس مانعا لها، وببيان أكثر دقة: لا يجوز النظر إلى أي حد للحرية على أنه مانع لها، فحيث لا يمكن القبول بالحرية المطلقة، ولابد من القول بوجود حد وحدود لحرية أي شخص، لا يمكننا اعتبار حد هذه الحرية مانعا لها، فإذا لم نعترف بوجود حد للحرية فإن هذا سوف يفسح في المجال ويهيىء الأرضية لسوء الاستفادة منها، بل إن عدم القول بوجود حد ونهاية للحرية يفضي بنفسه إلى الحد من حرية الآخرين، ومن هنا يكون ايجاد المحدودية للحرية أمرا محكوما بحكم العقل نفسه كما هو الحال في رفع الموانع من طريق حرية الأفراد.
"آيزايا برلين" يتحدث عن ضرورة تحديد الحرية فيقول: "تنقلب الحرية السلبية أحيانا إلى القول بتساوي حرية الشاة والذئب، فإذا لم تتدخل القوة القاهرة فإن الذئاب سوف تقوم بافتراس الأغنام، ومع ذلك لا يجوز أن يصنف هذا مانعا للحرية. نعم إن الحرية اللامحدودة للرأسماليين تفضي إلى افناء حرية العمال، والحرية اللامحدودة لأصحاب المصانع، أو الآباء والأمهات، تؤدي إلى استخدام الأولاد في العمل في مناجم الفحم الحجري، لا شك في أنه لابد من حماية الضعفاء أمام الاقوياء والحد من حرية هؤلاء الأقوياء على هذا الشكل، ففي كل حالة يتحقق فيها القدر الكافي من الحرية الايجابية لابد من الانقاص من الحرية السلبية، أي أنه لابد من أن يكون هناك نوع من التعادل بين هذين الأمرين حتى لا يجري أي تحريف للأصول المبرهنة"[11].
والاشكال الأساسي على "آيزايا برلين" هو ذهابه، من جهة، إلى عدم جواز منع الحرية فيما يقول، من جهة أخرى، بلزوم حماية الضعفاء أمام الأقوياء، ومن ثم، التقليص من حرية هؤلاء الأقوياء.
تتحدد الحرية بارتباطها بالأصول والقيم الأخرى، فالعدالة الاجتماعية والأمن والنظام العام من الأصول التي لا تبتعد أو تتباعد عن الحرية نفسها، ولابد من تحديد الحرية عندما تتعارض وهذه الأمور، كما لابد من السعي في جو نظام اجتماعي سليم إلى ايقاع التناغم والانسجام بين هذه الأصول وبين الحرية لا تنحية أحدها لصالح الآخر، وعلى حد قول "برلين": "لابد من تحديد بعض صور الحرية حتى يفسح المجال لبعضها الآخر من الأهداف الإنسانية"[12].
إن خلافنا مع الليبراليين إنما يدور حول هذه الأهداف النهائية، فهم يرون أن الهدف يتمثل في الرغبات والميول الإنسانية، وعلى أبعد حد النظم والأمن الاجتماعي، فيما نرى نحن أن الهدف النهائي للحياة هو الملاك، ونعتقد أن على الحرية أن تتخذ معناها ومفهومها في اطار ذلك.
سعى بعض الليبراليين لدراسة الدوافع التي تعمل على منع حرية الآخرين، فـ"جون ستيورات مل" يرى أن هناك عوامل ثلاثة توجب تحديد الأفراد لحريات الآخرين، هي:
1 ـ فرض الارادة الخاصة على الآخرين.
2 ـ ايجاد نوع من الاتحاد والتوافق إلى حد صيرورة المجتمع لونا واحدا ويدا واحدة.
3 ـ التصور بأن على الجميع أن يعيشوا حياة متماثلة ومتشابهة، أي حياة واحدة.
ويرى "مل" أن العامل الثالث هو الوحيد الذي تجب معارضته بدرجة من الدرجات، فمن وجهة نظره، حيث إنه لا يمكن العثور على الغاية الحقيقية للحياة، لا يجوز أن نطالب الأفراد بالعيش ضمن صيغة واحدة وشكل واحد، إذ حيث إن الإنسان خطاء ولا يمكنه معرفة الحقيقة، لا يصح توقع اتباع الأفراد كافة قانونا واحدا.
الحرية الليبرالية.. نقد ودراسة
1ـ إننا لا نعد الحرية هدفا، وإنما هي وسيلة لتهيئة الأرضية لنمو الأفراد وتفتح طاقاتهم، فالحرية إنما تحكي عن قيمة من القيم إلى جانب القيم الأخرى الموجودة، فنحن نعتقد بأنه لو جرى تأمين الحريات السياسية والاجتماعية فإن البشر سوف يظهرون رشدا ونموا أكبر حينئذ.
وفي الواقع، فنحن نريد الحرية بهدف تنمية الابداعات العلمية من جهة، كما نطلبها لنيل البشر الكمالات السامية الإنسانية.
أما المفكرون الليبراليون فإنهم يطرحون مسألة الحرية على أساس تأمينها للمنافع الذاتية الخاصة للأفراد، أي أنه وحتى يحصل الأفراد على منافعهم الخاصة لابد من أن يكونوا أحرارا، أما نحن فلا نرى الحرية تأمينا للمصالح الشخصية للأفراد فقط، بل إننا نرى أنه لو جرى ضبط المصالح الشخصية الذاتية للأفراد والتحكم فيها، فإن البشر سوف يصلون بذلك إلى الرشد والكمال، وهذا معناه أنه كما نرى الحرية قيمة من القيم كذلك نرى الكمال الإنساني قيمة من هذه القيم التي تشكل الحرية ارضية تأمينها أيضا، وعليه فما تقوله الليبرالية عن ضرورة الحرية لكي يتمكن الإنسان من الوصول إلى منافعه الخاصة الذاتية يعبر عن تقزيم قيمة الإنسان نفسه ومقامه، ففي المذهب الليبرالي تربط الحرية بقضية الشرف والكرامة الإنسانية فيما يفسر الإنسان نفسه على أساس يفقده الكرامة الذاتية... ماهي تلك الكرامة التي ستبقى للإنسان حينما نحصره في اطار ارضاء ميوله ورغباته الذاتية الخاصة؟! إذا كانت الحرية أساسا وصانعا للكمال الإنساني فلابد لها من أن ترتبط بالكرامة الإنسانية، فإذا لم نقدم تفسيرا سليما للإنسان وحريته فإن كرامته حينئذ سوف تصبح بلا معنى.
2 ـ إن اثارة مسألة كرامة الإنسان وكماله هنا تضطرنا إلى طرح السؤال الآتي: هل تعني الحرية وفق الرؤية الليبرالية لها التفلت والاطلاق؟ أي أن نرى الحرية في الخلاص من أي قيد من القيود، ما يعني الاعتقاد بقابلية أي شيء لأن يكون قيدا ورباطا للإنسان؟ هل يمكن للإنسان الحصول على حرية مطلقة؟ عندما يطرح الليبراليون تفسير الحرية على أنها التحرر من القيود، ماذا يقصدون بالقيود هنا؟ فهل الموانع السياسية والاجتماعية التي تقفل باب الحياة الإنسانية هي وحدها التي تعبر عن قيد أو لا؟ لا يحصر الليبراليون القيود بالموانع الاجتماعية بل إنهم أحيانا يأتون على ذكر الدين، أيضا، بوصفه قيدا من القيود، فمن وجهة نظرهم تمثل الاعتقادات الدينية للإنسان قيدا من تلك القيود.
هنا نقف أمام مجموعة من القضايا: هل يمكن أن ينعم الإنسان بالحرية المطلقة؟ وهل من صلاحه عدم وجود أي قيد أمامه أو أية محدودية؟ لقد انتبهت الليبرالية في أثناء طرحها مسألة التحرر الإنساني من كافة القيود والتحديدات إلى أنه إذا أردنا رفع كافة القيود فمن الممكن أن يقع نوع من التعارض بين الميول والرغبات البشرية، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى وقوع التزاحم والتنافي بين الأفراد أنفسهم، ومن هنا قالت: إننا أحرار إلى الحد الذي لا تتسبب فيه حريتنا بالضرر لمصالح الآخرين، أي أنه لو كان من المقرر أن نملك حرية غير محدودة فإن هذا سوف يفضي إلى التزاحم والمعارضة.
وعلى هذا فالليبراليون يوافقون على مبدأ لزوم الحرية وتحديدها عند نقطة معينة، بيد أن القضية تكمن في ملاك التحديد هذا، فما هو هذا الملاك؟ ويجيب الليبراليون بأنه التزاحم بين الأفراد، فأولئك الذين يثيرون مسألة عدم التزاحم ليسوا في صدد الحديث عن ضبط الرغبات الإنسانية الذاتية وتنظيمها، والحال أنه ما لم ترتفع هذه الرغبات فإن التعارض بين الأفراد لن يزول حتما.
3 ـ لا توجب الحرية والتحرر من أي شيء الرشد والكمال، فالتحرر من القيم ليس في صالح الإنسان، كما أن التحرر من الاعتقادات الصحيحة سوف يسد طريق التعالي والتسامي أمامه أيضا، فإذا كانت الحرية وسيلة لنيل الرشد والكمال الإنسانيين، فلابد من أن يتركز البحث في الأمور التي تسهم في ايصال الإنسان إلى ذلك، فإذا ما اقتنع الإنسان بأن أمورا معينة توصله إلى رشده وكماله فلن يحق له بعد ذلك التحرر منها، وذلك للأسباب التي يطالب بالحرية من أجلها.
قلنا: إن الليبراليين يرون الحرية ممتدة إلى حيث لا تزاحم بين الأفراد، فإذا ما أوجب شيء ما التزاحم المذكور، فلابد من تنحيته جانبا، وهذا معناه أن حد الحرية مختزن في عدم التزاحم والتعارض، أما بالنسبة لنا فإننا نطرح الحرية على مستوى أعمق وأرفع، فلا نقيدها بالتزاحم فحسب، إذ المجتمع المثالي من وجهة نظرنا، ليس خصوص ذاك المجتمع الذي لا تعارض ولا تزاحم فيه، فعدم التزاحم شرط لازم، بيد أن الحياة الإنسانية تنطوي على قيمة أكبر من ذلك.
إننا نرى الملاك مرتبطا بمسألة تعالي الإنسان، بمعنى أن أي شيء يسد طريق الكمال الإنساني فإننا ننظر إليه بوصفه معوقا، ومن ثم فعلى الإنسان تجنبه، وذلك على العكس من الأمور التي تساعد الإنسان للوصول إلى كماله، فلا يجوز اعتبارها قيدا من القيود ومن ثم تنحيتها جانبا.
وعلى سبيل المثال، لو رأى الإنسان أن ما عنده من اعتقادات صحيح فلا يحق له التخلي عنه، نعم من وجهة نظر الليبراليين لا ضرورة تلزم بالاعتقاد بمعتقدات خاصة حتى يصل الإنسان إلى مرحلة الحرية، ومن هنا ستبقى مسألة الحرية في الفكر الليبرالي قائمة على مفهوم التحرر والاطلاق ما لم تجر عملية تفسير صحيح للإنسان من جهة، وما لم يخترق الصمت الذي يلف مسألة هدف الخلق وطريق الوصول إليه من جهة أخرى، وما لم يتم كسر الحصار القائم على الإنسان بوساطة رغباته الذاتية الخاصة.
قلنا: إن السقف الأعلى للقيود التي تراها الليبرالية للحرية الإنسانية هو مزاحمة الآخرين، وهو أمر منظور إليه في النطاق الداخلي لمجتمع من المجتمعات، فعندما يجري الحديث عن تقييد الحرية في مجتمع خاص فإن أفراد هذا المجتمع لن يفكروا إلا في منافعهم الخاصة. لقد شاهدنا على امتداد التاريخ عدم مبالاة الشعوب التي يقوم زعماؤها بظلم الشعوب الأخرى، فلنأخذ مثالا الثورة الفرنسية، ألم يطلق المفكرون الليبراليون صرخة الحرية هناك فيما أطاح زعماء هذه الأمة الثورية بحريات أمة مسلمة وقاموا باستغلال الملايين من أبناء الشعب الجزائري من دون أن تتحرك من الأمة الفرنسية؟ في الحقيقة عندما تطرح مسألة المصالح الشخصية والذاتية فلن يكون لمصالح الآخرين أي حضور في الفكر حينئذ، بل يمكن في بعض الأحيان القيام بأذية للطرف الآخر من دون أن يشعر بها، ففقط عندما تكون الأذية بارزة وظاهرة وتكون لدى الطرف الآخر قدرة وسلطة تبرز للوجود المقاومة والرفض والمناهضة.
إذن، فأصالة عدم التزاحم ليست بذاك الأصل المحكم، وهو ما يدفعنا إلى ادراج هذا الأصل في ذيل مسألة الكمال، ففي هذه الصورة فقط يدرك الإنسان حقوق الآخرين ويتوجه إليها، ويمتنع من ثم عن ايقاع الظلم والجور عليهم، فالإنسان الذي يرى طلب الكمال بالنسبة إليه أصلا وأساسا سوف يلحظ بشكل مستمر مسألة ما ينبغي عليه فعله وما ينبغي عليه تجنبه من أمور تعد مسألة عدم أذية الآخرين ومزاحمتهم واحدا منها. إذن لا يهدف عليه من مبدأ عدم مزاحمة الآخرين تحصيل المصالح الخاصة الذاتية بل ينظر إليه بوصفه حلقة من حلقات المسير التكاملي البشري.
عندما تطرح الليبرالية قضية مزاحمة الآخرين، فإنها تحاول ايجاد نوع من النظام الميكانيكي في المجتمع، وهذا ما تختلف فيه عن الأديان الإلهية، حيث تسعى هذه دائما إلى تحقيق نظام حيوي وإنساني في المجتمع، إذ لا ترى هذه الأديان العالم الإنساني كالعالم الحيواني منحصرا في دائرة السعي إلى استمرارية حياته الطبيعية.
إن قيمة الحياة الإنسانية ليست حقيرة وذليلة إلى هذا الحد، ولذلك فالقضية تتمركز حول الكمال الإنساني بالدرجة الأولى، فالإنسان الذي يسعى إلى تحصيل كمالاته قد يفرض الأمر عليه في بعض الأحيان طرح مصالحه الشخصية تحت قدميه.
ووفقا للقراءة الليبرالية للإنسان قد يكون من المشكل تفسير ظاهرة الايثار بصورة عقلانية، إذ في هذا المذهب الفلسفي ينحصر الإنسان في حدود تمنياته ورغباته الذاتية فقط.
4 ـ للحرية فرعان:
أ ـ الحرية من الموانع الخارجية.
ب ـ الحرية من الموانع الداخلية.
لقد ركزت الليبرالية نظرها على الحريات السياسية والاجتماعية الخارجية، وذلك على العكس من المذاهب العرفانية، كالبوذية واليوغا، حيث جرى التركيز على الموانع الداخلية للحرية، وهو ما حصل على صعيد العرفان الإسلامي، حيث تم تسليط الضوء على الأصنام الداخلية بصورة دائمة.
كن حرا أيها الصبي فإلى متى تبقى عبدا للذهب والفضة؟ لم يكن لدى المذاهب والاتجاهات العرفانية اعتناء معتد به بالحريات الخارجية، كما هو الحال بالنسبة لليبرالية فيما يتعلق بالحريات الداخلية، فليست الحرية وفق هذا المذهب غير التفلت والتحرر من القيود الاجتماعية.
إذا أردنا وضع اليد على المعنى الواقعي للحرية فلابد من طرحها على الصعيدين الداخلي والخارجي، فالوقائع الخارجية تؤكد أنه إذا لم يجر الاعتناء إلا بالحريات الخارجية وتم تجاهل الحريات الداخلية فإن هذا من شأنه أن يفضي إلى عدم تحقق الحريات الخارجية نفسها أيضا.
لقد سجل الكثير من المفكرين والباحثين هذه الملاحظة على المذهب الليبرالي، فبينوا أنه قد أخفق في الوصول إلى أهدافه، بل لقد وفق الكثير منهم لتحليل هذه الحقيقة، فإذا لم تتحقق أفكار "جون ستيورات مل" و"لوك" و"بنتام" و"روسو" و"ولتر" الخ... فإن مرجع ذلك إلى عدم أخذ الحريات الداخلية بعين الاعتبار، بل إن الكثير من مفكري هذه المدرسة لم يتمكنوا أصلا من طرح الحرية الداخلية، ذلك أن مبانيهم، في ما يتعلق بقراءة الظاهرة الإنسانية، لا تنسجم مع هذا النوع من الحرية، فنظرا لاقتصار الطرح الليبرالي على التمنيات الذاتية للإنسان واعتماده، في فلسفته الأخلاقية، على النفعية والربح غدا ملاك الحسن والقبح في الأفعال الأخلاقية عنده هو المصلحة والربح لدى الأفراد، من حيث ذلك كله، لن يبقى في هذا المذهب مجال للتحرر من الأصنام الباطنية.
لابد من الانتباه إلى أن مقصدونا من الحرية الداخلية هو ضبط النفس والتحكم فيها لا انكارها، فالاشكالية الأساسية التي تعاني منها الاتجاهات العرفانية تكمن في قتل النفس وسحقها لا في ضبطها والتحكم فيها، فعدم اطلاق العنان للفرد يمثل المسألة الأكثر أهمية في الحرية الباطنية.
تكمل الحرية الداخلية الحريات الاجتماعية، ومع الأسف الشديد فإن المذاهب العرفانية طرحت الحرية الباطنية بصورة قابلة للجمع حتى مع أكثر أنواع الاستبداد السياسي بشاعة وقبحا. وكذلك الحال في المذهب النفساني، فبالرغم من أنه عرفاني يتكلم على الحريات الباطنية، لكنه يطرحها بحيث لا يتم تعارض بينها وبين الحريات الخارجية.
5 ـ قلنا: إن الليبرالية لم تقتصر في طرحها على العقبات الاجتماعية، بل أنها تعدت ذلك إلى الحديث عن الحرية في مقابل أي شيء، بحيث يمكن على ضوء ذلك تحصيل انطباع عن تقييد أي شيء للإنسان، فالاعتقاد بالدين يمكن أن يكون كذلك، ومن هنا لزم تحرير الذات حتى من المعتقدات الدينية.
ومن وجهة نظر هؤلاء، يمكن القبول بضرورة الدين في نطاق الحدود الفردية والشخصية للإنسان، فبالنسبة لهم هناك الحرية من الوحي نفسه، وهم عندما يبحثون في مسألة الحقوق يسلطون كامل نظرهم على الحقوق الطبيعية وليس على الحقوق الإلهية، فعلى الإنسان نفسه أخذ التكاليف وتشخيصها ولا ضرورة للالتزام بشيء اسمه الوحي، فتلك الحقوق الطبيعية التي ينعم بها الإنسان هي منشأ الواجبات والتكاليف عنده، وعندما يثار تساؤل عن كيفية معرفة هذه الحقوق فإنهم يجيبون بأن العقل الجمعي هو الذي يقوم بذلك، فبامكان البشر ومن خلال عقولهم التعرف إلى مجموعة الحقوق التي تتعلق بالحياة الإنسانية، ومن ثم العمل وفقا لها. وعليه فالعقل الجمعي لا يقع في مجال الاعتقاد بالوحي عند هؤلاء وإنما بديلا منه، بل لم يقصر الليبراليون مخالفتهم على الوحي فقط وإنما تعدوه إلى معارضة كل أمر مقدس، فعبارة: "فليكن عندك جرأة المعرفة" تحمل معنى نفي القداسة واقصائها عن أي شيء واقعي، بمعنى عدم تلقي البشر أي شيء على أنه أمر مقدس، وبالتالي عدم منحهم الاعتبار لما هو فوق عقولهم وتفكيرهم، فنفي القداسة ليس منحصرا بأفكار أرسطو وزعماء الكنيسة بل أنه يعم أيضا كل نوع من أنواع المعتقدات الدينية.
أما من وجهة نظرنا، فلابد من حمل منظار القداسة لقراءة أية حقيقة تأخذ بالإنسان نحو الكمال، فأي شيء يوصل الإنسان إلى كماله الواقعي لابد من منحه القيمة في المنظار البشري، ومن ثم السعي إلى الدفاع عنه. إننا نسأل: ألا ترى الليبرالية الحرية بالصورة التي تحملها عنها قيمة من القيم؟ أليست لها قداسة في نظر أنصار هذا المذهب الفلسفي والفكري؟ أليست مقولة "ولتر": "إنني حاضر لتقديم نفسي لكي يتمكن الآخر من الكلام والتعبير بحرية" دليلا واضحا على تلقيه الحرية بوصفها أمرا مقدسا؟ إنه بالتأكيد كذلك! إذن فلماذا ننظر إلى الحرية على انها أمر مقدس فيما نزدري قداسة الحقوق الأخرى؟! وهو ما يحصل في المذهب الليبرالي، حيث القداسة للحرية من جهة والمناهضة والمحاربة لقداسة سلسلة من الحقائق الإلهية من جهة أخرى.
يرى كارل "بوبر" أحد المفكرين الليبراليين أن على الإنسان القبول بمعتقداته وقناعاته بعيدا عن النزعة الجزمية والدوغمائية في الفكر وبصورة قابلة للاختبار، أي أن عليه القبول بهذه المعتقدات من طريق الاستدلال والبرهان، بيد أننا نسال: ما هي المشكلة في نظرته إلى هذه المعتقدات نظرة تقديس بعد قبوله إياها، ومن ثم الالتزام بها؟ من وجهة نظر "بوبر"، يمكن أن يأتي يوم تبطل فيه معتقدات الإنسان كما هو الحال في النظريات العلمية التي يثبت بطلانها على اثر شواهد جديدة، ما يؤدي إلى عدم تلقي أي نظرية بشكل قاطع، فإذا بنينا على أن الإنسان ملزم بالتعامل مع قناعاته على هذا الشكل، فإن نتائج سيئة سوف تبرز على هذا الصعيد، ذلك أن الشك سوف يسري إلى الاعتقادات البشرية، وحيث إن هناك فارقا بين المعتقدات الإنسانية والنظريات العلمية إذ يعيش الأفراد بوساطة هذه المعتقدات فلن يوافق الإنسان على معتقدات قابلة للبطلان، إن الإنسان نازع لمعرفة من أين جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وماذا عليه أن يفعل؟ وهل لعالم الوجود معنى أو لا؟ والجواب عن هذه التساؤلات لابد من أن يكون قطعيا غير قابل للبطلان بالنسبة إليه، وإذا ما وافق عن دليل وبرهان على أجوبة هذه الأسئلة وكل ما هو مرتبط برؤيته الكونية فإنه لا محالة سوف يمنحها القداسة حينئذ.
6 ـ يعتقد عامة الليبراليين بضرورة ضبط السلوك الفردي في اطار الصالح الاجتماعي العام، أي أن الفرد يبقى حرا إلى حد عدم اضراره بالآخرين أو بالمصالح العامة للمجتمع، وهذا معناه، بعبارة أخرى، القول بوجود تمايز بين السلوك الخاص للفرد وبين السلوك المرتبط بالآخرين. والسؤال المهم هنا يتمحور حول الحد الفاصل بين هذين النوعين في حياة الفرد؟ وهنا يرى المفكرون الليبراليون أنه من غير السهل وضع الحدود الفاصلة بين السلوكين: الخاص والعام للأفراد. ويطرح "جون ستيورات مل" أثناء بحثه عن الحرية وجهة نظر جماعة تقول: إن كافة أعمال الإنسان وتصرفاته وسلوكه يمكنها بشكل أو بآخر أن تترك تأثيرا على الآخرين، ويذكر هؤلاء مجموعة من الأدلة على ذلك:
أ ـ بالرغم من أن أموال الفرد وممتلكاته متعلقة به وحده إلا أن أي تلف أو ضرر يرد عليها من قبله يعد إضرارا بكافة الأفراد الذين يمكنهم الاستفادة منها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وكذلك الحال لو أضر شخص ما بقواه الجسمانية أو العقلانية فإن هذا يعد إضرارا بأولئك الذين كان بامكانهم الانتفاع بهذه الطاقات منه في سبيل سعادتهم، كما هو الحال بالنسبة إليه، حيث يؤدي عمله هذا إلى حرمان نفسه من أدوات خدمة أبناء نوعه، وكذلك يتسبب باشغال الآخرين به وتحميلهم مسؤولية مساعدته، إذ يضطرون إلى ذلك.
ب ـ ينمذج الأفراد أنفسهم للآخرين من خلال المخالفات التي يقومون بها، ومن ثم يوجهون اضرارا إلى المجتمع نفسه، وهو ما يدفع في نهاية المطاف إلى ضرورة اصلاح هؤلاء الأفراد الخاطئين نظرا لما يتسببه فعلهم هذا من افساد واضلال للآخرين حين مشاهدته.
ج ـ ليس من الجدير بالمجتمع ترك الأفراد الذين لا يليقون بالاستقلال الفردي وتجاهلهم، فإذا قبلنا بمبدأ رعاية الأطفال الصغار نظرا لعدم رشدهم فلماذا لا نوافق على ثبوت هذا المبدأ الاجتماعي في حق أولئك الذين لا يقدرون على إدارة أمور حياتهم بصورة صحيحة؟! ويقتنع "جون ستيورات مل"، وفقا لهذه الأدلة المتقدمة، بأن الكثير من أعمال الأفراد الشخصية تترك أثرا لا في مشاعر أقربائهم والمقربين منهم ومنافعهم فحسب بل في المجتمع كله ومصالحه العامة، ومثالا على ذلك، المدمن على تناول الكحول وهذا أمر شخصي إذ من الممكن أن لا يكون قادرا على قضاء ديونه أو تأمين مصاريف حياة أفراد أسرته أو وسائل التربية والتعليم لأبنائه، فمن وجهة نظر "مل" لابد من اجراء العقوبات العادلة بحق هذا الفرد، وهذه العقوبات منبعثة لا محالة من نقضه لتعهداته أمام الغرماء أو أفراد عائلته لا من حيث التبذير والاسراف.
"وبشكل عام، فكلما حصل هناك قصور من ذاك الشخص في أداء وظيفته أمام مشاعر الآخرين ومنافعهم من دون أن يكون الباعث على ذلك تقدم وظيفة مهمة على هذه الوظيفة، فلابد من القيام بتأديب أخلاقي له لا مقابل السبب الذي دفعه إلى هذا التقصير وإنما مقابل هذا التقصير نفسه وعدم أداء الوظيفة...
ليس لنا الحق في معاقبة ذاك الشخص على مجرد الادمان، لكننا نعاقبه، إذا ما كان شرطيا يتناول الكحول، من حيث تقصيره في أداء وظيفته، ولابد من ذلك. وبعبارة مختصرة: في كل حالة يكون فيها الفرد، أو المجتمع، في معرض الضرر الواضح الظاهر، أو في معرض خطر احتمالي لهذا الضرر، فإن المسألة حينئذ تخرج عن دائرة الحرية الفردية وتندرج في دائرة سلطة القانون أو الأصول الأخلاقية"[13].
إن المبنى الفكري لـ "جون سيتورات مل" هو وفق رأي "كارل بوبر" ذاك الأصل الكانتي القائل: إن الفرد يعمل وفق منهجه وطريقته الخاصين، سواء كانا موجبين لسعادته أم لا، بمعنى أنه لا يحق لأحد التدخل في الأمور الشخصية للأفراد ما لم تعرض مصالح الآخرين للخطر.
ومن وجهة نظر "بوبر" لا يحق لأحد ممارسة اجبار الأفراد بحجة ارادة الخير لهم، ومثالا على ذلك الحكومة، فهل يحق لها وبهدف حفظ أرواح السائقين الزام المواطنين باستخدام حزام الأمان؟ وهل يمكن الحديث عن منع تناول السجائر؟ وهل يمكن منع أولئك الذين يتناولون المخدرات؟ إن الجواب عن هذه التساؤلات، وفق المباني الليبرالية، هو جواب سلبي، فالدولة يمكنها فقط التدخل لمنع هذه الأمور بهدف توفير الحماية لشخص ثالث لا بغية تأمين الخير للأفراد أنفسهم، وحتى المطالبة بالضرائب المالية المتعلقة بالضمان الاجتماعي، لابد من أن يوافق عليها في اطار تأمين الحماية لشخص ثالث لا على أساس ضمان الفرد نفسه.
يطرح "بوبر" رؤيته على الشكل الآتي: "إنني أوافق على مبدأ "مل" ضمن الصيغة الآتية، وهي: أن كل إنسان حر في أن يعيش وفق الطريقة التي يراها، سواء كان ذلك موجبا لسروره وسعادته أم لا، وذلك إلى الحد الذي لا يفضي إلى وقوع الضرر على شخص ثالث، بيد أن وظيفة الدولة تتمثل في ايجاد حالة من الاطمئنان على هذا الصعيد، بحيث لا يتعرض المواطنون غير المطلعين لأي خطر لا يستطيعون تقييمه والحكم عليه"[14].
لقد اكتسبت أصالة الفرد قداسة خاصة في المذهب الليبرالي إلى حد عدم قبول الليبراليين مطلقا بأي تدخل من جانب الآخرين في شؤون الفرد حتى لو كان ذلك متصلا بمصلحته.
وهنا كما في الموارد المتقدمة يواجه الليبراليون مشكلات جدية يسعون للتفلت من قبضتها والفرار منها.
لا يمكن تشخيص الحد المميز بين السلوك الخاص للفرد والسلوك الذي يترك أثرا على الآخرين من خلال القانون فقط. إن الالتزام بالأوامر الإلهية والأخلاق الإنسانية السامية يملك تأثيرا بالغا أكثر من القوانين البشرية، فالإنسان الملتزم بالوحي لا يتناول الكحول والمسكرات، ولا يلعب القمار، ويتجنب الدعة المفرطة وخيانة الأمانات، ولا يتعرض لحرمة الحياة الخاصة للأفراد الآخرين...، وهو لا يقوم بهذه الأعمال من منطلق التزامه وبغية الوصول إلى كماله من خلال ذلك. وفي هذه الحالة سيكون عدم ايقاع الضرر على الآخرين من نتائج أعماله هذه وآثارها، وهنا تكمن أيضا اشكالية أساسية في نظريات الليبراليين في مجال معرفة الإنسان.
7ـ إن العقل والوعي يمثلان أرضية الحرية، فالإنسان الأكثر علما ووعيا هو بالطبع أكثر قدرة على الاختيار، كما أن الإنسان الذي يملك معرفة أكثر يكون أقدر على الانتخاب الصحيح، ذلك أن اختيار العمل ليس أمرا سهلا، وعلى حد تعبير "آيزايا برلين": "كلما ازدادت معرفتنا أكثر تمكنا من الخلاص من عبء الاختيار الأفضل، كما إننا سنعذر الآخرين نظرا لعدم قدرتهم على أن يكونوا غير ذلك، بل إننا بذلك سوف نمنح أنفسنا العذر أيضا، ففي العصور التي كانت الاختيارات فيها مؤسفة وغريبة لم يكن الالتزام بالعقيدة ليبقي مجالا للسلم والتصالح، ما جعل التصادم أمرا غير قابل للاحتراز، وتعاليم من هذا القبيل كانت تمنح الإنسان الراحة بشكل كبير جدا"[15].
لقد أطلق "ابيقور" مقولة: العلم موجب للحرية، ومراده منها أن الحرية تؤدي إلى رفع المخاوف والآمال الفارغة للإنسان، وقد ذهب بعض المفكرين الليبراليين إلى أنه لو تمت ادارة المجتمع بطريقة عقلانية، فإن الأفراد ذوي الميول والمصالح لن يتمكنوا من ممارسة التسلط والسيطرة على الآخرين، وإذا ما تمت للعقل الحاكمية والسلطة على العالم فإنه لن تكون هناك حاجة للممارسات القاهرة الظالمة، ومن ثم لن يقوم الأفراد بتجاوز حريات بعضهم بعضا، والمشكلة التي وقعت فيها الليبرالية هي في اتكائها على العقل وحده. لقد بينا في ما سبق أنه بالرغم من كون العقل مرشدا وهاديا، لكن البشر لا يقومون دائما بتوظيفات صحيحة له. وبعبارة أخرى: ليس العقل وحده هو الذي يقوم بدور تعيين نوع الاختيارات الإنسانية، فالاختيار مرتبط بالذات، فمن يملك ذاتا عادية فسوف يستفيد من الحرية بدرجة معينة، بيد أن من يملك ذاتا أرقى سوف يقوم بتوظيفها بشكل آخر، وفي الحالة التي يحرز فيها الماهية الحقيقية فقط، سوف يلتزم بذلك من خلال تشخيص الخير والشر، وزمام الاختيارات الإنسانية هو بيد النفس البشرية أكثر منه بيد العقل نفسه، فكلما أبدت هذه النفس رشدا ونموا أكبر نجحت في التوصل إلى الاختيار الأنجع.
التسامح والتساهل
الأصل والمبنى الثاني من أصول الليبرالية ومبانيها هو التسامح والتساهل، فمن وجهة نظر الفلاسفة الليبراليين لابد للإنسان من أن يبدي تسامحا وتساهلا ازاء آراء الآخرين ومعتقداتهم.
يعني التسامح تحمل العقيدة أو الفكر أو السلوك الغلط والخاطئ وغير المستساغ، فإذا ما حمل الإنسان انطباعا سلبيا عن عقيدة ما أو عن سلوك فردي ما، وكان يملك اتجاهه نوعا من النفور والاشمئزاز، لكنه في الوقت نفسه يبدي ازاءه تحملا وصبرا، فإن فعله هذا تعبير عن تساهل وتسامح من قبله، ولا يعني التسامح أمام عقيدة معينة أو سلوك ما نوعا من اللامبالاة ازاءه، وإنما يقوم بتحمله مضطرا بالرغم من اعتراضه عليه، فمن الممكن أن تكون لدى الإنسان المتساهل والمتسامح قدرة قمع العقائد والتصرفات المخالفة له وسحقها، لكنه مع ذلك يمارس نوعا من المداراة معها.
يعني التسامح، في بعض الأحيان، تحمل سماع عقائد الآخرين ودراستها، فيما يعني في بعض الأحيان الأخرى اللامبالاة ازاء النشر والتعبير عن العقائد المتنوعة، وبالتالي اعطاء الحق لأي شخص للعمل وفق ما يراه ويعتقده وعدم مزاحمة أحد له.
أدلة التسامح والتساهل
لقد بين المناصرون للتساهل والتسامح ومن منطلقات متنوعة ضرورة هذا المبدأ، ففيما طرحه بعضهم من منظار فلسفي، أثاره آخرون من منطلق ديني، وأطل عليه فريق ثالث من زاوية سياسية.
1 ـ يدعي أولئك الذين قرروا مبدأ التسامح والتساهل، من منظار فلسفي وابستمولوجي معرفي، أن الحقيقة غير قابلة للعثور عليها، ذلك أن العقل البشري يقع في الخطأ، ومن ثم لا يقين مطلقا أبدا، ومن هنا لابد من ابداء نوع من التسامح مع أفكار الآخرين ومعتقداتهم، وهذا ما يجعل من الصالح منح الأفكار المختلفة حق البيان والتعبير وابداء الرأي، إذ إن البحث والحوار اللذين يسبقان ممارسات الاجبار والقهر والفرض يؤديان إلى كشف الحقيقة.
2 ـ من ناحية دينية، يؤدي فرض العقيدة إلى بروز ظاهرة النفاق بين الأفراد، وهذا ما يخالف الأهداف السامية للدين، ففي الدين تقوم الأمور على عدم الرياء والنفاق لا على التظاهر والخداع للناس، فالايمان ذو جذور قلبية فيما التظاهر بعقيدة معينة يفضي إلى شيوع الرياء وظاهرة النفاق، والهدف الديني وهو عبارة عن الايمان الحقيقي الواقعي إنما يحصل عن طريق رفع العنف وابداء التسامح.
3 ـ من المنظار السياسي يعد فرض عقيدة واحدة على المجتمع ذا تكلفة أكبر، فإذا ما قررنا اجبار الأفراد على الأخذ بعقيدة معينة، فإن هذا سوف يضع المجتمع أمام مشكلات كثيرة جدا، فأفراد المجتمع ذوو مصالح متنوعة ينبغي أن تتقاطع على أساس نوع من الانسجام لا على أساس غلبة طرف على آخر، فأساس التسامح مبني على مبدأ مشروعية كافة مصالح عموم الأفراد.
هناك بعض المفكرين الغربيين يمكن اعتبار آرائهم، في مجال التسامح والتساهل، جديرة بالبحث والمطالعة[16].
فـ "اسبينوزا"، مثلا، يرى أن القانون الطبيعي يقضي بثبوت الحق لكل إنسان في القيام بما يراه على أساس عقله صلاحا، فللعقل قدرة على تشخيص مصالح الأفراد، ولا يمكن ضبط تفكير أي فرد منهم، فلكل إنسان الحق في التفكير والتعقل، وعلى الآخرين الاعتراف بهذا الحق له، إذ إن فرض العقيدة أمر غير معقول ومن هنا يكون عدم التساهل مخالفا للعقل.
ويدافع "جان بدن" عن التسامح والتساهل في دائرة الاعتقادات الدينية، فمن وجهة نظره يمثل الدين الوسيلة لحفظ النظام السياسي، وعلى مناصري المذاهب المختلفة اتباع منهج المداراة في علاقاتهم في ما بينهم، وإذا ما اراد شخص ما جذب الآخرين إلى مذهبه فإن عليه اتباع منهج عرض النماذج الأخلاقية عمليا والقيام بالأعمال المنسجمة والحسنة.
أما "جون لوك" فيذهب إلى أن الايمان القلبي بالله تعالى هو أساس الدين، وهو يؤكد أن مثل هذا الايمان غير قابل للفرض على الآخرين، فهدف الدين هو استقامة أرواح البشر، وهو هدف لابد من أن يقوم على أساس من الاقناع لا على أساس الالزام، لأن فرض عقيدة على شخص ما سوف يسهم في نشر ظاهرة الرياء والنفاق في المجتمع.
ومن وجهة نظر "لوك"، أيضا، لا يجوز للدولة التدخل في أي أمر يتعلق بايمان الناس وعقيدتهم، فلا يحق لأي شخص بادعاء معرفة الحقيقة فرض العقائد على الآخرين، بيد أن "لوك" لا يعترف بالتسامح والتساهل ازاء نشر الالحاد والترويج للأمور غير الأخلاقية أو الاسهام في نشر العقائد المهددة للأمن وبقاء المجتمع، ويرى بعض المحققين أن تساهل لوك الديني نابع من عدم يقينيته في ما يخص الحقيقة المطلقة.
يعتقد "بير بيل" أحد الكتاب البروتستانتيي المذهب، والذي دون سنة 1686م رسالة تحت عنوان: "حول التساهل العام"، أنه لا يمكن اجبار الأفراد على اعتناق عقيدة معينة، ذلك أن هذا الفعل مضاد لحكم العقل، كما يؤدي إلى دفع الأفراد أنفسهم لممارسة الرياء والنفاق.
لكن العقل عند "بيل" غير قادر على التوصل إلى اليقين بالرغم من كونه في مجال معرفة الحقيقة أسمى وأفضل من الايمان، ومن هنا لابد من ابداء التساهل في ما يرتبط بآراء الآخرين ومعتقداتهم. وفي الواقع، فالنقص الذاتي للعقل البشري وعدم قدرته على التوصل إلى القطع واليقين يفرضان الأخذ بمبدأ التساهل والتسامح، ووفق نظرته لا يحق لأية فرقة من الفرق المسيحية ادعاء اليقين المطلق المتعلق بحقانية معتقداتها، بل لابد لها من احترام الاعتقادات الدينية لأي شخص من الأشخاص واعتباره باحثا وسائرا نحو الحقيقة المطلقة، لكن "بيل" لا يبدي تساهلا أو تسامحا في ما يرتبط بظاهرة الالحاد.
وهكذا الحال لدى "جون ستيورات مل"، حيث كان يعتقد هو الآخر بمبدأ التساهل والتسامح، فمن وجهة نظره تفرض الأدلة التي عرضها لاثبات مبدأ الحرية من قبيل الكرامة الإنسانية والابداع الفكري والأساليب المختلفة للحياة والعيش القبول بمبدأ التساهل أيضا، لكن "مل" يرفض التساهل أمام الأعمال الموجبة لأذية الآخرين، وهو يرى أن بامكان الدين والدولة القيام بتحديد نطاق التساهل والتسامح. إما في ما يتعلق بالتصرفات غير الأخلاقية التي تلحق الضرر بفاعلها فقط لا بالآخرين، فإن "مل" يرى ضرورة استخدام أسلوب ترغيب الفاعل في تركها لا ممارسة منع له من الاقدام عليها من طريق الاجبار، وهو على قناعة بعدم جواز بناء الأفراد على أساس مفهوم الجبر لكي ينتخبوا في حياتهم نمطا واحدا للعيش.
عدم التساهل
وقدم المعارضون لمبدأ التسامح أدلة على وجهة نظرهم يمكن عرضها على الشكل الآتي:
أ ـ من الناحية السياسية يؤدي عدم التساهل إلى وحدة المعتقدات التي يحملها الأفراد وتساويها، وهو ما يدفع إلى حفظ الأمن في المجتمع.
ب ـ أما من الناحية الدينية فإن محق العقائد السيئة والمضرة وقمعها يفضي إلى الحيلولة دون نموها وانتشارها، وما لم يتم تنحية العقائد السيئة هذه فإن السطحيين من المتدينين سوف يقعون فريسة الخداع وعدم الايمان. وبعبارة أخرى: لا تصح لنا ممارسة التساهل إذا ما أردنا حفظ عقائد الأفراد.
ج ـ لا يملك الأفراد جميعهم قدرة التعرف على الحقيقة من وجهة نظر معرفية، ومن هنا لابد لجبر ضعفهم الاستدلالي هذا من أعمال القوة والاجبار، وترك المخالفين المتورطين بالذنوب إنما هو ظلم لهم أنفسهم.
"فيتز جيمز استفان" المعارض لـ "جون استيورات مل" يرى في عدم التساهل عاملا ضروريا لحفظ الفرد والجماعة، فمن وجهة نظره تترك كافة الأعمال الفردية تأثيرا على حياة الأفراد في المجتمع بشكل من الاشكال، ومن هنا لا يمكن التساهل ازاء أي عمل يقوم به أي فرد من الأفراد، ولذا فهو يرى أن الأفراد غير مؤهلين لتحكيم الأصول الأخلاقية في سلوكهم، لذلك كان لزاما فرض هذه الأصول عليهم، بل أن التنوع في أنماط الحياة المختلفة ليس شيئا مناسبا دائما، بل لابد في بعض الأحيان من الغاء بعض أنماط العيش كطريقة العصاة والمذنبين، وعلى حد زعم "استفان" فإن احترام المعتقدات المختلفة يفضي دائما إلى اضعاف المجتمع، ومن هنا كان عدم التساهل أمام سلوك الأفراد أمرا مساعدا على رشدهم وهدايتهم.
هل التساهل مطلق؟ يرى أكثر المفكرين أن التساهل نسبي لا مطلق، فهم لا يقبلون من ناحية معرفية وقيمية بالتساهل المطلق، فإذا ما صدقت نظرية ما فإنها لا تبدي تسامحا أمام نقيضها. وعلى سبيل المثال، لا نرى شخصا يتساهل ويتسامح اليوم بالنسبة لنظريات بطليموس ونيوتن في ما يتعلق بعالم الخلق، وهكذا الحال على صعيد القيم والمثل لا نجد من يتساهل مع الجهل والظلم وعدم الرحمة، بل حتى المناصرين للتساهل والتسامح يعتقدون أنه إذا ما أراد أشخاص أن يقوموا بعمل ما أو يظهروا عقيدة ما تؤدي إلى أذية الآخرين فلا يجوز التساهل والتسامح معهم.
جون لوك المؤيد لمبدأ التسامح يدافع عن عدم التسامح في مجموعة حالات، هي:
أ ـ الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بنسف المجتمع نفسه.
ب ـ الترويج للالحاد.
ج ـ التصرفات التي تهدف إلى تدمير الدولة أو التصرف في أموال الآخرين.
د ـ اطاعة أفراد من أمة ما للحكام الخارجيين[17].
"بير ميل" يرى أنه لا تسامح مع الالحاد، وهكذا الحال لدى "جون ستيورات مل"، فقد كان يذهب إلى رفض التسامح والتساهل مع الأشخاص الذين يهددون حريات الآخرين، كما آمن بقدرة الدين والدولة على ايجاد نوع من ضوابط التساهل.
هل التساهل هدف؟
هنا يطرح السؤال الآتي نفسه: هل التساهل هدف أو وسيلة؟ إذا كان المفكرون يرون في التسامح والتساهل وسيلة لنيل الحقيقة والحرية والمساواة والعدالة فإن الشخص الوحيد الذي كان يراه هدفا هو "هيربرت ماركوزه"، فقد كان يرى أن التسامح هدف تماما كما هي الحال مع القيم الأخرى، أي أنه نظير الحرية والعدالة، وهو ما يعني صيرورته مطلقا لا نسبيا، أي أنه لابد من ابداء التساهل والتسامح قبال أي شيء من الأشياء، فيجب مثلا أن يكون تعاملنا مع نظرية علمية خاطئة تعاملا قائما على التساهل وعدم نفيها بشكل مطلق، وهذا أمر لا يمكن القبول به عندما نهدف إلى السير في طريق كشف الحقيقة، وهكذا الحال على هذا الأساس بالنسبة للقيم وما يناقضها، حيث يجب أن يكون موقفنا من الاثنين واحدا، ومن ثم فلا يجوز أن تكون لدينا أية حساسية مما يناقض القيم ويعارضها.
مباني التساهل والتسامح
تكمن أسس التساهل ومبانيه في الليبرالية المعرفية ونظرياتها عن الإنسان أيضا، فمن ناحية معرفية تعد محدودية العقل وقابليته للخطأ أساس التسامح والتساهل، فحيث لا يمكن للعقل الوصول إلى الحقيقة، أي لا يستطيع تحديد صحة أفكاره وعقائده وصوابها، فلن يمكن له إظهار أية حساسية تجاهها، وإنما يطالب بسلوك منهج التساهل ازاء عقائد الآخرين وأفكارهم.
تقضي الحالة الطبيعية أن يرى الإنسان بطلان معتقدات الآخرين، ومن ثم نفيها، إذا ما حاز اليقين بحقانية معتقداته، لكن الليبرالي حيث لا يؤمن بصحة معتقداته على نحو اليقين والجزم ويرى عقائد الآخرين، كعقائده، نسبية ملزم بابداء التساهل ازاء كافة العقائد والأفكار المتنوعة الأخرى.
وفي الواقع، فإن هذا الأصل يعد واحدا من مباني التساهل والتسامح في الغرب، أي أنه لا مجال لاصدار الحكم في الأمور العقلانية وكذلك الأخلاقية، بمعنى عدم امكانية الحديث عن يقين لا في عالم الحقيقة ولا في عالم القيم، فنحن لا نملك لمعرفة الحق والباطل أي ملاك ومعيار لا في دائرة الواقعيات ولا في مجال القيم والأخلاقيات، وهذا معناه عدم امكانية العمل في نطاق محاكمة الأمور المختلفة لا سيما ما يتعلق منها بالقيم، حيث لا يمكن تحديد ما هي القيمة وما هي الأمور المناقضة لها، وهكذا الحال في دائرة المعتقدات، حيث لا يوجد أي معيار كلي ومطلق يمكن الاعتماد عليه، ومن هنا اتصفت الاعتقادات بصفة الفردية والشخصية. ولذلك كان لابد من النظر إلى معتقدات الأفراد على أساس نفسي سيكولوجي لا على أساس معرفي ايبستمولوجي، فهذه الاعتقادات مجرد أمور فردية باطنية لا ضرورة لوجود دعامة عقلانية لها. وعلى أساس المباني الفكرية الليبرالية لابد من الحديث عن التعدد والتنوع الحر في عالم النظريات لا عن صحيح هذه النظريات وباطلها.
وحيث لا يعترف الليبراليون بالوحي، تتساوى عندهم قضية التساهل والتسامح بين دائرة العقل والوحي، ولا يرون بينهما فرقا، فالتساهل نظرية مرتبطة بدائرة المسائل العلمية والفلسفية، فالأشخاص الذين يطرحون التساهل في ما يتعلق بالنظريات المختلفة بغية الوصول إلى الحقيقة إنما يتكلمون على أمر حق، بيد أن الحديث عن التسامح في ما يرتبط بالأمور الآتية من قبل الوحي لا معنى له، لنفرض أننا نملك مقدارا ضئيلا من المسائل اليقينية في العلوم والفلسفة، لكن هذا لا ربط له بيقينيات الوحي. لقد دفع تحريف الكتاب المقدس والاختلافات العديدة المتصلة بالديانة المسيحية العلماء الغربيين إلى القول بعدم وجود أمور يقينية، كما أن المواجهات التي نشأت نتيجة التفتيش عن المعتقدات لم تكن بعيدة عن التأثير في مبدأ التساهل والتسامح أيضا.
عندما نقول: إنه لا مجال للتساهل والتسامح في ما يرتبط بالحقائق المستمدة من الوحي، فإننا لا نعني فرض الحقيقة على الآخرين بالقوة، فليس ثمة تعارض بين الحقانية والقبول الاختياري بالحقيقة، ومن هنا كان لابد من تهيئة الأرضية المناسبة لاعتراف الآخر بالحقيقة من طريق الأدلة العقلية والوسائل المقنعة، وذلك نظرا لاتصال العقيدة بالعقل والقلب.
المبنى الآخر لمبدأ المداراة والتسامح عند الليبرالية هو منظومتها النظرية الانتروبولوجية، فالرؤية الليبرالية إلى الإنسان تستبعد مسألة الكمال الإنساني، بحيث إن لكل إنسان الحق في العمل وفق ما يرغب فيه، ومن ثم فمسألة العقيدة ليست من لوازم إنسانيته، وهذا ما يؤدي إلى القول: إنه لا ينبغي أن يكون هناك نوع من الحساسية ازاء أي معتقد خاص أو فكرة معينة. لقد آمنت الليبرالية بأن الهوية الإنسانية تكمن في الحرية والميول الفردية لا في الفكر والعقيدة.
إذا عنى التساهل مجرد تحمل آراء الآخرين، أو القيام بحوار معها، فإنه سيصبح ممكن القبول حينئذ، أما إذا عددناه الحرية في ابراز أية عقيدة واللامبالاة ازاء عقيدة معينة، فلا يمكننا الموافقة عليه حينئذ، كما هي الحال لدى بعض المفكرين الغربيين الذين يؤكدون أن التساهل والمداراة ليسا مطلقين، ولا يمكن القبول بهما كذلك، فعندما تتعارض الأصول سوف تصبح المداراة ليس صعبة فقط بل غير مطلوبة أيضا، وإذا أراد فريق ابادة اليهود فيما عارض الآخر المناهضة لهم فإن هذين الفريقين لا يمكنهما أبدا التوافق في ما بينهما. يكتب "بلاشر" فيقول: "هل إن تحمل العقيدة وابرازها جائز في كافة الحالات؟ إن الكثير من الخطابات يعقبها نوع من الهجوم على رجال الحرس ومنازلهم، فهل يجب على الدولة أو المجتمع ممارسة المداراة ازاء الأعمال (والمقولات) التي تنجر إلى حركات غير قابلة للتحمل أو أسوأ؟"[18]. من الناحية العملية أكثر المجتمعات مداراة أكثرها فقدا للهدف، وأكثر الأفراد مداراة هو ذاك الذي لا يملك اعتقادا بشيء أصلا، ولديه نوع من النزعة التشكيكية"[19].
وخلاصة القول: ليس من الجائز عد تحمل العقائد، أو ابرازها، مداراة وتساهلا، كما أن معرفة الحد الفاصل بين ابراز عقيدة ما والعمل وفقها ليس أمرا سهلا دائما، "إن محاضرة أو خطابا عرقيا ليس مجرد بيان للعقيدة بل هو مبادرة سياسية قوية"[20].
يرى طجون سيتورات مل" أن الأعمال لا يصح أن تكون حرة بدرجة المعتقدات، وابراز المعتقدات قد يؤدي ضمن ظروف معينة إلى ايجاد سلسلة من الأعمال الموجبة للتحريك والهيجان، أي أن ابراز عقيدة ما قد يفضي إلى عمل معين.
أنواع التساهل
يرى بعض المفكرين أن التساهل أربعة أنواع، هي:
أ ـ التساهل العقدي، أي التساهل في ما يتعلق بالاعتقاد بعقيدة ما، أو ابلاغها ونشرها.
ب ـ التساهل بالتجمعات التي يقوم بها أصحاب العقائد المخالفة.
ج ـ التساهل في الهوية، أي التسامح في ما يرتبط بالخصوصيات غير الأخلاقية للبشر، كالوطنية والجنسية والعرقية والطبقية.
د ـ التساهل السلوكي في العلاقات الاجتماعية[21].
إذا أردنا طرح مسألة التساهل والتسامح، بشكل أكثر دقة، لابد من تحليل علاقاتها بمسألة الحرية وأنواعها:
1 ـ التسامح المطلق في الفكر والمعرفة: إن الأفراد أحرار في ما يتعلق بالمسائل الفكرية، ولا يمكن لأي شخص سد طريق الفكر والتفكير على الإنسان. وبعبارة أخرى: لا يمكن على الصعيد الفكري الحيلولة دون ممارسة الآخر للتفكير، ذلك أن التفكير أمر شخصي، ولا يمكن النفوذ إلى الحرم الشخصي للأفراد.
إن حرية الفكر لازمة للرشد والكمال الإنسانيين، وهذا النوع من الحرية ليس خاصا بالمفكرين بل يحتاجه أي إنسان بغية تحقيق الرشد والنمو لطاقاته وامكاناته. إن ما قيل وحده من ضرورة تأمين التفكير الحر للأفراد ليس كافيا، فعلاوة على ازالة المعوقات الاجتماعية لابد من تأمين الظروف التربوية والتعليمية التي تدفع الأفراد، أولا، للعناية بضرورة التفكير، أي أن ينظروا إلى التفكير على أنه أمر حياتي بالنسبة إليهم، وثانيا، لازالة كافة العقبات التي تحول دون سلوكهم طريق الرشد والنمو الفكري من قبيل الميول والأهواء النفسانية للفرد، وثالثا، للسعي للاستفادة من العوامل المهيئة لتسامي التفكير في مسير تكامله.
من الطبيعي وجود حدود وأطر للحرية الفكرية، وهي حدود تفرض من قبل العقل والقواعد الفكرية نفسها، لا من طرف الآخرين واجبارهم. وعلى سبيل المثال نذكر عدم تمكن الإنسان من البحث عن حقيقة وجود الذات الإلهية، أو حقيقة الروح، ذلك أنه لا احاطة للعقل والذهن البشريين بمثل هذه الأمور، بل قد يجر التفكير فيها إلى الانحراف وليس إلى عدم النتيجة فقط.
2 ـ التسامح المطلق على صعيد قبول الاعتقادات: إن قبول الاعتقادات ذو جانب فردي أيضا، ولا يمكن لأي شخص اجبار الآخرين على الاعتراف بعقيدة معينة، فالاعتراف بالعقيدة مرتبط، من جهة، بالعقل والتفكير الفردي، كما يتصل، من جهة أخرى، بالمشاعر والأحاسيس التي عنده، فما لم يستجب العقل والقلب فلن يستجيب صاحبهما لأية عقيدة. إن أكثر العلماء الذين عرضنا مواقفهم من مسألة التسامح والتساهل كانوا يرون هذا المبدأ جاريا في هاتين الدائرتين، كما إننا بدورنا نعتقد أن للأفراد حق التفكير والتأمل، ولا يمكن لأي إنسان فرض عقيدة ما عليهم.
إن الشخص الذي يمارس فرض المعتقدات على الآخرين يمنح نفسه من وجهة نظر "مل" حق اتخاذ القرارات والتدابير بالنيابة عنهم من دون أن يسمح لهم بالبحث عن الأدلة المخالفة لهذه المعتقدات، وهو يكتب في هذا المجال فيقول:
"عندما أقول: إن أصحاب العقيدة الفلانية يرون أنفسهم غير قابلين للخطأ، فليس مقصودي أن اطمئنانهم متعلق بصحة العقيدة التي آمنوا بها كائنة ما كانت، بل إنهم يمنحون أنفسهم الحق بفرض هذه العقيدة على الآخرين من دون أن يسمحوا لهم حتى بالاستماع إلى الأدلة والوجوه التي تخالف هذه العقيدة. إنني أخطئ هذا العمل حتى لو كان لمصلحة أقدس المعتقدات التي أراها"[22].
3 ـ التسامح المطلق على صعيد البحث والحوار: لابد من وجود الحرية على مستوى البحث والمحاورة والمناظرة، ذلك أنه من دون ذلك سوف يتضرر المستوى والنمو الفكريين لأفراد المجتمع، كما يمكن بغية اصلاح أفكار الآخرين الدخول في حوار معهم، ومن هنا لابد من التساهل والتسامح في هذه الدائرة أيضا.
من الطبيعي أنه تلزم مراعاة قواعد البحث والمحاورة مع الآخرين، فعلى سبيل المثال لابد من الأخذ بعين الاعتبار المستوى الفكري للأشخاص الذين يجري الحوار معهم، وفي الحقيقة ليس كل ذهن بقادر على أخذ أية حقيقة من الحقائق، فهناك الكثير من المسائل غير المتناسبة والمستوى الفكري للمخاطب واستعداداته يمكنها أن تحرف مسير تفكيره عن الطريق القويم، فلكل حديث موضع ولكل فكرة مقام.
وهكذا يستدعي العقل السليم والفطرة الصافية الدخول في حوار مع الآخر، بغية انضاجه وتساميه لا الايقاع به في الشبهات، فما أكثر أولئك الذين يقومون بالقاء الشبهات بهدف ابراز أنفسهم وكسب الشهرة، ويسمون ذلك حرية للفكر والبحث والحوار في طريق الوصول إلى الحقيقة.
إنك ترغب أن يقال عنك أيها المضحي بنفسه، لكن هدفك تضليل الخلق لأنك في الحقيقة طامع بالألوهية. ما أكثر البسطاء الذين جروا إلى الانحراف نتيجة طلب الشهرة من جانب بعض محبي البروز والتفاخر! وهو ما لا تملك الليبرالية علاجا له، وهنا بالضبط تبرز أهمية الحرية الداخلية، وهو ما يؤكد أن عدم الالتزام بالأصول الثابتة للحياة الإنسانية والحرية الباطنية يجعل مما يسمى بالحرية عدوا لها.
4 ـ التسامح النسبي في ابراز العقيدة ونشرها: وهنا لابد من الاعتراف بمحدودية حرية الأفراد، أي أنه لا يمكن القبول بالتسامح المطلق في ابراز العقيدة التي يعتقد بها الأفراد ونشرها وتبليغها، بل إن المفكرين الغربيين أنفسهم لم يمارسوا الدفاع المطلق هنا، والاختلاف ينحصر على صعيد المصاديق فقط، أي أنه ما هي الموارد التي يجري فيها التسامح؟ وما هي تلك التي لا يمكن الدفاع عن هذا المبدأ فيها؟ يرى "جون ستيوارت مل" أنه لا يحق اخماد عقيدة أي شخص عن طريق القوة والقهر، بل لا يجوز اعطاء الحرية للرأي العام لكي يخالف ظاهرة ابراز العقيدة، فإذا ما عمد إلى اخماد عقيدة من العقائد فإن ضرر ذلك سوف يشمل كافة أفراد الإنسانية بما في ذلك الأجيال اللاحقة، ذلك أن العقيدة التي يعمد إلى اخمادها لا تخرج عن حالة من ثلاث:
ا ـ أن تكون صحيحة، وهذا يعني حرمان الأفراد من كشف الحقيقة حينئذ، فما هو المسوغ الذي يقدمه أولئك الذين يحولون دون اظهار الآخرين لمعتقداتهم على اتخاذهم قرارا من هذا القبيل بالنيابة عن كافة أفراد البشر؟! إن العقيدة الصحيحة ما لم تخضع للتساؤل والاستجواب فلن يكون القبول بها حياديا حينئذ.
ب ـ أن تكون هذه العقيدة خاطئة، وهنا يكون مجرد خنق معتقد ما أمرا قبيحا، إذ بالتصادم الذي يقع بين العقائد المختلفة في المجتمع ستصبح الحقيقة أكثر حياة ووضوحا.
ج ـ أن تكون هذه العقيدة خليطا من الصحة والبطلان، وهنا أيضا تكون معارضة اظهارها خطيرة ومضرة، ويركز "ستيورات مل" بصورة أكبر هنا على الأفكار والعقائد التي كانت شائعة في زمانه وعلى أن الحقيقة لا تأتي إلى الأفراد كاملة مكتملة.
ما لم تقع عقيدة ما في دائرة النقد والدراسة فانها ستكون من وجهة نظر "مل" عرضة للاضمحلال، وبالتالي سيزول أثرها في الحياة الإنسانية على سلوك البشر وصفاتهم، ولا يميز "مل" أحيانا بين اظهار العقيدة ونشرها في المجتمع وبين الحوار والجدال معها، فضرورة الدخول في حوار مع العقيدة أي عقيدة لا مجال للنقاش فيه، وحتى المرتد يمكنه أن يخوض جدالا مع أصحاب النظر والتخصص. والأمر الذي لا نراه صحيحا إنما هو نشر الكفر في المجتمع، وهو ما يؤكد عليه "جون ستيورات مل" نفسه بالرغم من جميع دفاعاته عن حرية البيان والتعبير وابداء الرأي، فهو يرى أن اظهار العقيدة ضمن ظروف وأوضاع اجتماعية معينة يمكنه أن يستدعي نوعا من التحريك الذي يدفع إلى القيام بمجموعة أنشطة تخل بالمصالح المشروعة للآخرين، وفي هذه الحالة تصبح حرية ابراز العقيدة محدودة ومقيدة، "إذا اقتصرت هذه المعتقدات على الانتشار في أعمدة الصحف فإن منعها ليس سليما، أما لو خرجت هذه العقيدة من متكلم يستدعي كلامه نوعا من التحريك، أو كان نشرها عن طريق توزيع المنشورات في المجتمع، فإنه لابد من تنبيه ناشر هذه العقيدة إلى حفظ أصول العدالة"[23].
إن خلافنا مع "جون ستيورات مل" وبقية الليبراليين إنما يتمثل في المباني المعرفية والإنسانية، فانطلاقا من اعتقادنا على مستوى النظرية المعرفية بالوحي إلى جانب كل من العقل والحس واعتبارنا إياه أوامر إلهية، نؤكد على هذه المسألة، وهي أنه لا يجوز للبشر رد الوحي أو تضعيفه إذا ما كان عاريا عن التحريف، لكن البحث والحوار في ما يرتبط بالأوامر الإلهية النازلة وحيا على الأنبياء ليس أمرا محظورا، ويمكن لأولئك الذين يعتقدون بالوحي الجلوس للتحاور مع الآخرين بغية اقناعهم به عن طريق الفكر والتأمل لا القهر والاجبار، وإذا لم يوافق شخص ما، ولم يقتنع بهذه الأوامر الإلهية، فلا يحق في أي حال من الأحوال اجباره على الاعتقاد بها، لكن القضية تكمن في عدم حق الطرف المخالف للعقيدة الصحيحة في نشر معتقداته في المجتمع الديني بحيث يفضي ذلك إلى رد المعتقدات السليمة أو اضعافها.
ونختلف أيضا مع الليبراليين في الرؤية الإنسانية، فلا تركيز من الجانب الليبرالي على رشد الإنسان وكماله، ويا ليت الليبراليين يقلقون على الكمال الإنساني والتسامي البشري كما يقلقون على الحرية الإنسانية. إذا وافقنا على أن الإنسان موجود ذو مبدأ ومقصد وأن ربه الذي خلقه قد قدم له طرق الوصول إلى كماله فليس من المنطقي عندئذ اتخاذ موقف ما قبال الصراط المستقيم والعمل على الدعاية ضده.
نعم إن حرية التعبير وابداء الرأي في المسائل الاجتماعية أمر آخر، فليس ثمة تحديد معين كما هو الحال على صعيد الأوامر الإلهية، فالقانون هو الذي يضع المحددات اللازمة هنا ويعينها.
5 ـ التسامح النسبي في ممارسة العقيدة والسلوك: يرى الليبراليون أنه لا يمكن منح الأفراد الرخصة في ممارسة أي نوع من الاعتقادات واجرائه، ذلك أنه لو قبلنا بإجراء الفرد أي فرد عقيدته الخاصة في المجتمع فإن هذا سيفضي إلى الحاق الضرر بحريات الآخرين، والأمثلة التي نقلناها عن "بلاشر" تشير إلى عدم امكانية التسامح المطلق في دائرة الحرية في ممارسة المعتقد والسلوك، بل إن زعماء الليبرالية أنفسهم لا يتسامحون في ما يرتبط بالمصالح التي ترجع إلى مجتمعاتهم، فهم يدعون التساهل في نطاق المسائل الفكرية والنظرية فحسب. وفي الواقع، فالليبراليون يقولون بالتمايز بين السلوك الشخصي والاجتماعي، فهم يبدون التسامح ازاء السلوك الشخصي للأفراد بما لا يفضي إلى أية آثار اجتماعية محسوسة، لكنهم لا يرون التسامح ازاء سلسلة التصرفات الاجتماعية التي تخالف القانون.
من وجهة نظر "جون ستيورات مل" يبنى سلوك الفرد في المجتمع على ركنين هما:
أ ـ أن لا يصيب الأفراد بعضهم بعضا بأي ضرر في مصالحهم، ومصالح الأفراد إما أن يعينها القانون أو أن يتم تحديدها من طريق التفاهم الضمني بينهم.
ب ـ يلزم على كل فرد الالتزام بتعهداته أمام المجتمع وعدم التأسف على أي تصرف يعنى بحماية حقوق الآخرين.
"يحق للمجتمع فرض هذه الشروط جبرا بأي ثمن على أولئك الذين يريدون رفعها عن كاهلهم"[24].
كما أنه في الموارد التي لا تضيع الحقوق المسلمة للأفراد فيها، لكن بعض الأشخاص يقومون بعدم مراعاة الشروط اللازمة للعيش المشترك، ما يؤدي إلى الحاق الأذية برفاه الآخرين وسعادتهم. في هذه الموارد لابد من تأديب هذا الشخص المخطئ وتنبيهه، لكن من خلال الرأي العام لا بحراب القانون.
ويرى "مل" أن العقوبات لا تنحصر في مرحلة ما بعد ارتكاب الجريمة، بل "ليس المسؤول الحكومي أو الشخصي مجبرا على السكوت ووضع كفه على الأخرى إذا ما رأى، وبوضوح، أن بعض الأشخاص يهمون بارتكاب الجريمة، ومن ثم فليس عليهم الصبر حتى تتحقق الخيانة في الخارج بل يحق لهم التدخل للحيلولة دون وقوع الجريمة نفسها"[25].
وفي الواقع، ينبغي على المجتمع اتخاذ التدابير الاحتياطية بغية الحيلولة دون ظهور الجريمة والجناية والمخالفة في المجتمع.
نحن نعرف أن الليبراليين لا يؤمنون بالرقابة والضبط العقدي، بيد أن بعضهم، من أمثال "كارل بوبر"، يؤكد على ضرورة أعمال الرقابة والضبط في حالات الضرورة، كما يصرح بذلك في ما يرتبط بوسيلة اتصال كالتلفزيون: "لقد شرعنا بتعليم أطفالنا العنف من خلال التلفزيون والأدوات الشبيهة به، لكننا بحاجة مع الأسف إلى القيام بعملية رقابة وضبط في هذا المجال"[26].
6 ـ التسامح النسبي في هداية الآخرين: ثمة اختلاف في وجهات النظر بين الليبرالية والأديان الإلهية على هذا الصعيد أيضا، فلا يمكن، من وجهة النظر الدينية، ابداء عدم المبالاة ازاء هداية الآخرين واضلالهم، لكن القضية عند الليبرالية مختلفة، فبامكان أي شخص اختيار أي مسير يرغب فيه ولا علاقة للآخرين بالأمر فيما لو اختار طريقا يؤدي به إلى الرشد والكمال أو لا، أما في الفكر الالهي وانطلاقا من أن كون بني آدم يرتبطون، في ما بينهم، بعلاقة عضوية بحيث لو اعتل عضو فلا يجوز لبقية الأعضاء السكون وعدم الحراك ازاء ذلك، فالأفراد ملزمون بتأمين الأرضيات المساعدة لكمال بعضهم بعضا.
فالاختلافات بين الليبرالية والأديان الإلهية تنبع في الواقع من المنظومة المعرفية والإنسانية التي يملكها كل منهما، فلا يحق لأي شخص في المذهب الليبرالي أن يشخص الرغبات والارادات الواقعية للآخرين، فكل إنسان هو الذي يقوم بتحديد مصالحه ومنافعه بنفسه، وكل فرد بحد ذاته هو أفضل حاكم يمكنه الحكم والقضاء في مجال معرفة حقوقه وتكاليفه. أما على مستوى الأديان الإلهية فلا يمكن للأفراد، من دون الاستعانة بالوحي، معرفة مصالحهم الواقعية، ومن هنا لا يحق لهم الاعتماد على عقولهم الخاصة لاختيار طريقهم، وتعتقد الأديان أن للعقيدة علاقة في إنسانية الإنسان نفسه، كما أنها تميز بين الحق والباطل، وتحذر الأفراد من عدم المبالاة بهداية أفراد البشر الآخرين واضلالهم، فعندما نقول: إن التسامح نسبي كما أن عدم التساهل ليس مطلقا، فهذا يعني أن هداية الآخرين ليست أمرا فرضيا اجباريا، فلابد من تأمين الأرضيات المساعدة على تحقيق رشد الأفراد وتكاملهم، كما يلزم التسلح بالصبر والتحمل في مسير هداية الآخرين وارشادهم.
يعتقد "جون ستيورات مل"، أيضا، أنه لا يجوز أن يكون الأفراد لا مبالين ازاء سعادة بعضهم بعضا، بل لابد من السعي لكي يصبح اهتمام الناس بسعادة بعضهم بعضا اهتماما غير مغرض أكبر وأكثر، فالشخص الذي يملك ارادة الخير للآخرين، ويريد أن يجبرهم على تأمين الخير والمصلحة لهم، عليه أن يستعين بالتشجيع والحث لا بالسوط والزنجير: "إن البشر مدينون لبعضهم بعضا إلى الحد الذي يجب على كل منهم مساعدة الآخر في تمييز الأمر الحسن من السيئ، كما أن هؤلاء البشر محتاجون إلى الحث والتشجيع حتى يتمكنوا من اختيار الأحسن والابتعاد عن السيئ، فعلى كل منهم حث الآخر على توظيف القوى الإنسانية السامية أكثر فأكثر، وسوقه نحو الأهداف العقلانية والنظم الراقية لا تضييعه في متاهات المقاصد الفارغة وغير الهادفة"[27].
الأخلاق
ينظر المفكرون الليبراليون إلى الأخلاق من زاوية خاصة، فمع الأخذ بعين الاعتبار أصالة الفرد، في هذا المذهب، ولحاظه منفصلا عن بقية الأفراد الآخرين وعن المجتمع، بل التأكيد على انفصاله عن العالم أيضا، لابد وفقا لذلك من أن يكون النظام الأخلاقي مرتكزا هو الآخر على الفرد أيضا. فهناك فاصل بين الواقعية والقيمة في المذهب الليبرالي، بمعنى عدم انبثاق الواجبات عن الواقعيات وعدم امكان تكوين شبكة اتصال منطقي بين عالمي التكوين والتشريع، فالعلوم مرتبطة بمجال معين فيما القيم متصلة بمجال آخر. ومن هنا فالعلم شيء، أما الأخلاق فهي شيء آخر، أي أن القيم لا ترتبط أبدا بالواقعيات، كما أنه ليس ثمة عالم أرفع من هذا العالم حتى تستمد القيم منه وتصدر عنه. وبعبارة أخرى، لا مكان في الليبرالية للإله الذي يضع القيم، كما أن الحسن والسيىء ليسا مطلقين وكليين، فالخير والشر والحسن والقبيح تملك معنى خاصا لدى كل فرد من الأفراد. ومن هنا كانت الأخلاق ذات جوانب فردية وشخصية لا عامة وكلية، فالفرد نفسه هو السانّ للقيم والمعين للتكاليف والواجبات، ولا يحق لأي كيان أو دين أن يضع نفسه في موقع المعين للتكاليف والقيم، بل حتى لو كان الفرد متدينا لابد له من الرجوع إلى وجدانه الخاص واعتباره مصدرا لقيمه. وهذه التبعية لأوامر الوجدان تبقى سارية ما لم يكن حكمه معارضا للاجتماع، أي مانعا من حرية الآخرين ومتعارضا واراداتهم، ولا تحكي الواقعيات عن الأشياء التي لابد للإنسان من فعلها أو تركها، وإذا ما اعتقد شخص ما بأن الواقعيات هي التي ترشد الإنسان إلى الطريق فإنه يكون قد تورط في عملية خلط بين الواقع والقيمة.
انطلاقا من اعتقاد الليبرالية بتمظهر السلوك الإنساني من خلال الرغبات والميول البشرية يصبح الأمر الحسن هو ذاك الشيء الذي يحبه ويرغب فيه الفرد نفسه، والعكس هو الصحيح، فما يتعارض مع الرغبات الإنسانية يصنف في عداد المخالفات والقبائح. وهذا معناه أن ميول الفرد ورغباته تمثل المعيار للحسن والقبح بالنسبة إليه، وما ذكره بعض الفلاسفة من أمثال "بنتام" من أن ملاك الفعل الأخلاقي هو في كونه يجر أكبر مقدار من النفع على أكبر عدد من الأفراد لا يحل المشكلة، ذلك أن الفرد هنا هو الذي يتخذ القرار في تحديد ما هو الأمر الجميل أو لا. ومن هم الأكثرية! إذ لا يمكن، لا بالقراءة النظرية ولا بالطرق العملية، تعيين مقدارالسعادة والحسن وحجمهما، فالفرد الذي يقع أسيرا لرغباته الذاتية لن يرى غير لذته ومنافعه الشخصية، بل أنه في الحقيقة يطلب الآخرين من أجل نفسه إذ تشكل ذاته بالنسبة إليه الهدف فيما الآخرون الوسيلة والأداة، كما أن الآخرين يطلبون اللذات التي يطلبها هو، والحال أنه لا يسمح بتعارض سعادتهم مع منافعه ولذاته الخاصة، هذا النظام الأخلاقي يفصل الإنسان عن بقية أبناء نوعه عندما يؤكد على الفرد ورغباته الشخصية، وهو ما يفضي في نهاية المطاف إلى نوع من احساس الوحدة عند الفرد نفسه.
لكن المنطلق الآخر هو كون الإنسان مسؤولا عن سلوكه وتصرفاته، وهو ما لا يلزمه بالاعتراف بالواجبات والمحرمات الدينية فقط، بل يفرض عليه عدم رمي المسؤولية عن كتفه واحالتها إلى ذمة الطبيعة أو التاريخ أو الآخرين.
إن كل إنسان مسؤول عن أعماله ولا يحق له، بهدف الفرار من تحمل هذه المسؤولية، القاءها على الطبيعة أو المجتمع أو التاريخ أو المشيئة الإلهية، هذا كله صحيح، لكن المسألة هنا هي أنه لو لم يكن منشأ القيم عاملا أرفع من البشر أنفسهم أو لو لم تكن هناك علاقة تكوينية بين القيم وإنسانية الإنسان المشتركة بين كافة الأفراد، ومن ثم ليس هناك تفسير سليم لحقيقة الإنسان، فكيف يمكن تحصيل الاطمئنان بأن كل فرد يعمل بشكل صحيح، هذا أولا، وثانيا كيف يمكن أن يعد نفسه مسؤولا عن أعماله؟ هل يمكن أن يكون هناك معنى لاثارة مسألة الالتزام وتحمل المسؤولية بالنسبة إلى شخص لا يعرف غير اللذة والميول التي تجر له الربح والمنافع؟ أما في النظام الأخلاقي الإلهي، فإن الإنسان له مبدأ ومقصد شخصيان عليه السعي، طوال حياته، للوصول إلى تحقيقهما، بوصفهما الغاية القصوى. وبعبارة أخرى خلق الإنسان وفق المنظور الديني بهدف نيله الكمال، وعليه طي مسير خاص طبقا للأوامر الإلهية حتى يمكنه الوصول إلى كماله الوجودي.
وسعادة الإنسان ليست سوى ايصال طاقاته الوجودية إلى مرحلة الفعلية، وهذا الأمر على خلاف التصور الليبرالي الذي لا يرى غاية محددة للإنسان ليصل إلى السعادة عندما يحصل عليها، وهذا معناه أنه ليس ثمة معنى واضح ومحدد للسعادة في المذهب الليبرالي، وإنما ترتبط سعادة كل فرد بما يريده هو نفسه، فكل فرد يمكنه أن يكون وفق ما يريد هو، كما أن كل ما يريده يمكن اعتباره سعادة له، بل يمكن لكل فرد أن يعين حده الوجودي بارادته الحرة، ذلك أن الإنسان وفق التصور الليبرالي يمثل مركز العالم من دون أن يكون هناك حد معين له مسبقا.
_____________________
[1] يان مكنزي وديگران، مقدمه بر ايدئولوجيهاي سياسي، ترجمة م، قائد، ص59.
[2] أصول روان شناسى مان، نرمان، أصول روان شناسي، ترجمة الدكتور محمد ضاعي، ص4.
[3] نوربرتو بوبيو، ليبراليسم ودموكراسي، ترجمة بابك كلستان، ص33.
[4]ئوسو، جان جاك، قرار داد اجتماعي، ترجمة زيرك زاده، ص36.
[5]برلين، آيزايا، جهار مقاله درباره آزادي، ترجمة الدكتور محمد علي موحد، ص.
[6]المصدر نفسه، ص71 و239.
[7]المصدر نفسه، ص5 و244.
[8]المصدر نفسه، ص249.
[9]المصدر نفسه، ص61، در جستجوى آزادي، ص181.
[10]المصدر نفسه، ص36.
[11]جهانبكلو، رامين، در جستجوى آزادي، ترجمة خجسته كيا، ص62.
[12]المصدر نفسه، ص182.
[13]رسالة درباره آزادي، ترجمة الدكتور جواد شيخ الاسلامي، ص8 ـ 207.
[14]كارل بوبر درس اين قرن، ترجمة الدكتور علي بابا، ص130.
[15]جهار مقاله درباره آزادي، ص184.
[16] يراجع تفصيل هذه الآراء في كتاب دولت عقل، الدكتور حسين بشيريه، ص74ـ85.
[17] المصدر نفسه، ص79.
[18] ظهور وسقوط ليبراليسم، ص101.
[19] المصدر نفسه، ص102.
[20] المصدر نفسه، ص101.
[21] دولت عقل، ص67 نقلا عن 574King poloration P.P.
[22] رسالة درباره آزادي، ص75.
[23] المصدر نفسه، ص147.
[24] المصدر نفسه، ص75.
[25] المصدر نفسه، ص4ـ243.
[26] كارل بوبر، درس اين قرن، ترجمة الدكتور علي بايا، ص74.
[27] رسالة درباره آزادي، ص173ـ194.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية