مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

قراءة في كتاب "الحكومة الإسلامية"
عرض عبد الكريم سلمان


تأليف: الامام الخميني (رض)، 154 صفحة من القطع المتوسط، في ثلاثة فصول ومقدمة، طبعة المكتبة الاسلامية الكبرى في طهران.
لم يعد اسم الامام الخميني "قدس سره" عنواناً لشخص، بل عاد طابعاً لعصر، وعنواناً لنهضة، ورمزاً لفكر جديد. لقد أصبح اتهاماً للغرب وفضحاً للشرق وانطلاقة جديدة نحو حياة جديرة بالانسان المعاصر. ولذلك فهو وان كان قد رحل الى الرفيق الأعلى، فان محنة أعدائه به بقيت وستبقى ما بقي على وجه الأرض انسان واحد من ملايين عشاقه والسائرين على نهجه.
وليس من شك في ان الانتصار العظيم الذي حققه كان مديناً للخط السياسي والفكري الاسلامي الذي انتجه، والذي يمكن
أن يدعى الآن وبضرس قاطع، ان صوابيته كانت لتصل حدود الاطلاق. وتعتبر نظرية ولاية الفقيه حجر الزاوية في ذلك الخط، فقد أثبتت التجربة الاسلامية في ايران ان هذه النظرية هي المشروع السياسي المؤهل لإنجاز مهام التطبيق الاسلامي على أرض الواقع، وان ما عداه يبقى مشروعاً عائماً على بحر من الصعوبات والمعوقات، وهذا ما يقوم دعماً اضافياً لمشروعية هذه النظرية، ويطرحها كمذهب سياسي جديد للحياة الانسانية المعاصرة.
طرق الامام الخميني البحث في ولاية الفقيه، في النجف الأشرف، ضمن الدروس الفقهية التي كان يلقيها على طلابه هناك، ولم يكن أصل البحث جديداً على الذهنية الفقهية، ولكن الحس التغييري الثوري الذي رافق البحث، والذي طرح ولاية الفقيه كمشروع لنظام سياسي اسلامي صمم الامام "قدس سره" على اقامته، فتح أمام الذهنية الفقهية آفاقاً من الفكر والعمل.
من هنا فان كتاب "الحكومة الاسلامية" الذي تضمن محاضرات الامام "قدس سره" حول ولاية الفقيه، كان انطلاقة لنوع جديد من الفكر السياسي الاسلامي، وقد كان لهذه الانطلاقة من الزخم الشديد بحيث لم تستنفد طاقتها حتى الآن على الرغم من كثرة ما كتب حول هذا الموضوع فقهياً وفكرياً، وها نحن نقدم على محاولة لاستعراض أبحاث ذلك الكتاب الذي كان ولازال زبور الثورة الاسلامية.
يتألف الكتاب من مقدمة وثلاثة أبحاث رئيسة، وفي المقدمة يعتبر الامام "قدس سره" فكرة ولاية الفقيه بديهية، ويرى ان السبب فيما يلفها من الغموض يعود الى الوضع الخاص الذي يمر به المجتمع الاسلامي والحوزات العلمية؛ فلقد شوهت صورة الاسلام في أذهان المسلمين، وسرت هذه الصورة الى عمق الحوزات العلمية بحيث أصبحت جزءاً فكرياً فيها، وهذا ما يثير حفيظة الامام أكثر من غيره. ثم ينتقل الامام في تلك المقدمة الى المقارنة بين التشريعات الاسلامية والتشريعات الوضعية موضحاً رجحان التشريعات الاسلامية وكونها الأحق بالتطبيق كمثال على حقانية الاسلام في قيادة المجتمع وتوجيهه. ثم يعود الى حيث بدأ؛ فالدعايات المضلة هي التي "أحوجتنا الى بذل جهود كبيرة كي نثبت ان في الاسلام مبادئ وقواعد لتشكيل الحكومة"[1]. وإلاّ فالاسلام ليس شريعة فحسب، بل هو تطبيق أيضاً، ولم يكن النبي(ص) مبلغاً فحسب، بل كان منفذاً أيضاً. وتعيين الخليفة والامام من بعده كان يعني تعيين امامة التطبيق والتنفيذ. فقد قال الامام الصادق (ع): "ما نودي بشيء أفضل من الولاية".
والولاية بمفهومها الواسع تعني التطبيق الاسلامي. ومن هنا يقرر الامام "رحمه الله" ان: "النضال من أجل تشكيل الحكومة توأم الايمان بالولاية"[2]، وان هذا النضال يعد مظهراً من مظاهر الايمان بالولاية، كرد واضح على شبهة التفكيك بين الايمان بالولاية لأهل البيت واقامة الحكومة الاسلامية.
أدلة ضرورة تشكيل الحكومة
وبعد تلك المقدمة التي مزج فيها الامام وعيه السياسي العميق للأحداث بثقافته الاسلامية الأصيلة والتحريرية، تحول الى دراسة الأدلة التي تفيد ضرورة تشكيل الحكومة الاسلامية، كمرحلة اولى للدخول فيما بعد في الاستدلال على ولاية الفقيه، وذلك اتساقاً مع منهج البحث الفقهي الذي يبدأ من أعم القواعد وينتهي بالأخص فالأخص. إذ ان البحث حول مشروعية ولاية الفقيه فرع للبحث عن أصل مشروعية الحكومة الاسلامية. ومن الضروري الفراغ أولاً من ذلك الأصل قبل الدخول فيما يتفرع عليه.
والحقيقة، ان فكرة تشكيل الحكومة الاسلامية من أكثر الأفكار الاسلامية بداهة، غير ان غبار التأريخ الكثيف الذي مضت منه قرون متطاولة والمسلمون غرباء عن رسالتهم، أوحى لهم بعدم سلامة هذه الفكرة، واحتياجها الى دليل يثبتها. وهذا ما فرض على الامام "قدس سره" أن يثبت ذلك بعدة وجوه، هي:
أولاً: ضرورة المؤسسات التفيذية:
فالقوانين بحد ذاتها لا تحقق الهدف المطلوب منها، والشرائع السماوية من حيث هي شرائع لا قيمة لها إلا بالتطبيق. ولذلك كان النبي مشرعاً ومنفذاً في آن واحد، وليس في تعيين النبي لاثني عشر إماماً من بعده دلالة أكبر من دلالة الأهمية الكبيرة التي يعلقها الاسلام على تنفيذ الأحكام؛ فاذا كان التشريع بحاجة الى نبي واحد فان التنفيذ كان بحاجة الى نبي واثني عشر إماماً من بعده.
ثانياً: طريقة الرسول الأعظم:
وإذا كان المسلمون قد أطبقوا على حجية سيرة النبي الأعظم (ص)، فانهم قد أطبقوا من الجهة الثانية على انه (ص) قد أقام حكومة اسلامية في المدينة، وطبق الأحكام الاسلامية فيها، وعين اثني عشر اماماً من بعده. وهذا منتهى العناية بقضية التطبيق الاسلامي.
وتتميماً للبحث في هذا الدليل، ينوّه الامام "قدس سره" بأن التطبيق الاسلامي عملية مستمرة، ولا يمكنها أن تتوقف عند انتهاء عصر النبوة الى عصر الامامة، لأن ذلك ملازم لخلود الرسالة وعالميتها: "وقد ثبت بضرورة الشرع والعقل ان ما كان ضرورياً أيام الرسول (ص)، وفي عهد الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) من وجود الحكومة لا يزال ضرورياً الى يومنا هذا"[3]. وفي ضوء ذلك يقرر ان مخالفة هذه الضرورة "أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الاسلام منسوخ"[4]! وبالتالي فمن يذهب الى عدم "ضرورة تشكيل الحكومة الاسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الاسلام، ويدعو الى تعطيلها وتجميدها وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الاسلامي الحنيف"[5].
ثالثاً: حقيقة قوانين الاسلام
تتبع الأحكام والقوانين طابع الوقائع التي شرعت من أجلها؛ فالوقائع الفردية تعكس طابعها على الأحكام التي تشرع لأجلها، وهكذا الوقائع الاجتماعية. ولذا يرى المتفحص في الأحكام الاسلامية ان سنخاً منها لا يمكن تصنيفه ضمن الأحكام الفردية، بل هو نوع يحكي طابعاً خاصاً هو طابع الدولة والحكومة؛ فالضرائب الاسلامية كالخمس والزكاة والجزية والخراج لا يمكن تنظيم جبايتها وصرفها بلا تشكيلات حكومية. وهذا يعني انها، كأحكام، موجهة للجهاز السياسي الحاكم قبل أن تكون موجهة للفرد المكلف، بل يستوحي الامام "قدس سره" من ضخامة موارد الخمس انها موارد مخصصة لتسيير امور دولة لا لرفع احتياجات الهاشميين أو طلبة العلوم الدينية، إذ إن "خمس سوق بغداد يكفي لاحتياجات جميع السادة ولجميع نفقات المجامع العلمية الدينية ولجميع فقراء المسلمين، فضلاً عن أسواق طهران واسلامبول والقاهرة"![6] وهنا يورد الامام إشكالاً على غير القائلين بولاية الفقيه، وهو كيف يحق التصرف بأموال الخمس إذا لم يكن الفقيه منصوباً من قبل الامام ونائباً عنه في الولاية العامة؟ فان الصرف في هذه الموارد أو تلك لا يمكن تحصيل القطع برضا الامام "ع" فيه، ومع عدم القطع يشكل التصرف بأمواله[7].
وهكذا يأتي الكلام في أحكام الدفاع، والقصاص والديات، فانها موجهة في الأصل لدولة وحكومة قائمة، لا الى أفراد عاديين، وان كان الواجب لا يسقط إذا لم تكن هناك دولة تتكلف تلك الأعباء. وهذه مشكلة وقعت فيها مناهج للبحث الفقهي؛ فان غياب التطبيق الاسلامي منذ زمن سحيق، وظهور الدول والحكومات المنحرفة أدى الى سيطرة النزعة الفردية على البحث الفقهي حتى وجد الفقيه نفسه معنياً بأمر الفرد المكلف دون أمر الامة ككل. فتكونت لديه نزعة فردية اشتدت يوماً بعد آخر حتى تطاولت على المحاور التشريعية ذات الطابع الاجتماعي العام، وأودت بالتوازن التشريعي الذي أقامه المشرع الاسلامي بين الفرد والمجتمع. وليس أدل على وجود هذه الظاهرة وخطورتها على البحث الفقهي من جري الفقهاء على بحث مسألة ولاية الفقيه ضمن الفروع الجزئية لأبحاث البيع أو التقليد والاجتهاد. وهي أبحاث غارقة في الصفة الفردية، وليس بينهما تناسب موضوعي. وقد كان من سطوة النزعة الفردية على البحث الفقهي ما دفع الامام الى مجاراة السيرة القائمة على طرح بحث ولاية الفقيه ضمن أبحاث البيع. وتتجه الوظيفة الآن الى تحرير مناهج البحث الفقهي من هذه النزعة واعادة التوازن التشريعي بين الفرد والمجتمع.
رابعاً: ضرورة الثورة السياسية:
والدليل الرابع الذي يقيمه الامام على ضرورة تشكيل الحكومة الاسلامية هو ما يعبر عنه بضرورة الثورة السياسية. فان "الشرع والعقل يفرضان علينا ألاّ نترك الحكومات وشأنها… فان تمادي الحكومات في غيها يعني تعطيل نظام الاسلام وأحكامه في حين توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير اسلامي بأنه شرك والحاكم أو السلطة فيه طاغوت، ونحن مسؤولون عن ازالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم ونبعدها تماماً عن حياتنا. ونحن في الوقت نفسه مسؤولون عن تهيئة الجو المناسب لتربية وتنشئة جيل مؤمن فاضل يحطم عروش الطواغيت"[8]. وليس هذا القول إلا تلخيصاً لمنطلقات الامام في التحرك السياسي الذي ناضل من خلاله في جبهتين: الجبهة الداخلية الشديدة التحفظ تجاه السياسة، والجبهة الخارجية الشديدة العداء للاسلام.
خامساً: ضرورة الوحدة الاسلامية:
كيف يمكن تحقيق هذا الهدف الكبير قبل قيام حكومة اسلامية راشدة "ونحن لا نملك الوسيلة الى توحيد الامة الاسلامية وتحرير أراضيها من يد المستعمرين واسقاط الحكومات العميلة لهم، إلا أن نسعى الى اقامة حكومتنا الاسلامية"[9].
سادساً: ضرورة انقاذ المظلومين:
فاذا كانت حماية المظلوم وارجاع الحقوق الى أهلها ضرورة اسلامية واضحة، فان من الواضح أيضاً ان ذلك لا يتم إلا بقيام حكومة اسلامية عادلة.
سابعاً: الروايات:
وهنا يستدل الامام على ضرورة تشكيل الحكومة برواية ينقلها عن "علل الشرائع"، يذكر فيها الامام "ع" وجه نصب الولي الأمر. والرواية طويلة جاء في آخرها قوله "ع": "فلو لم يجعل قيماً حافظاً لما جاء به الرسول الأول لفسدوا، على نحو ما بيناه، وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والايمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين"[10]. ويعلق الامام "قدس سره" على الرواية بأن العلل التي ذكرها الامام الرضا موجودة في كل زمان، ويترتب على ذلك ضرورة تشكيل الحكومة الاسلامية في كل وقت.
ومع كل هذه الأدلة التي سردها الامام، فانه لم يكن، على ما يبدو، في محل التفصيل الواسع، فان بحث الحكومة الاسلامية بحث عقائدي ـ فقهي، يرتبط من الجهة العقائدية بما يسمى عند علماء الكلام ببحث الامامة العظمى، ومن الجهة الفقهية بما يسمى عند الفقهاء بالأحكام السلطانية. والى الآن لم يطرح الامام المسألة إلا من الزاوية الفقهية، أما الزاوية العقائدية فقد اكتفى بإشارة عابرة إليها وهي قوله: "ها هو دليل الامامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف"[11].
وتوضيحاً لذلك لابُدَّ من بيان أحد الوجوه المذكورة عند علماء الكلام لإثبات لزوم نصب الامام من قبل المولى سبحانه وتعالى، وهو ان "الامام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلاً للغرض" كما في "تجريد الاعتقاد" للعلامة الحلي. وفسروا اللطف بأنه ما يقرب العبد من الطاعة ويبعده عن المعصية.
ومن الواضح ان لزوم اللطف غدا في زماننا هذا أوضح مما كان عليه الحال في عصر صدر الاسلام؛ فان الحضارة الحديثة تقدم رفداً هائلاً للمعاصي والمفاسد وتجعل المجتمع الانساني في قبضة الذنوب والآثام لا يفلت منها إلا ذو حظ عظيم، فاذا كان تقريب الانسان من الطاعة، وإبعاده عن المعصية في عصر صدر الاسلام واجباً على الله سبحانه وتعالى، فالضرورة تقضي بلزوم استمرار اللطف وعدم الوجه في انقطاعه. وقيام الحكومة الاسلامية في عصر الغيبة يمثل الصورة الطبيعية لتحقق اللطف الإلهي، فاللطف الحقيقي يكون ببقاء الامام المهدي (ع) حياً، والتجسد العقلي لهذا اللطف يتحقق بقيام الحكومة الثابتة عنه في التطبيق الاسلامي.
ان اصطلاح اللطف عند علماء الكلام يتعامل مع اصطلاح البيئة عند علماء النفس والتربية والاجتماع، الذين يؤكدون خطورة عامل البيئة على شخصية الانسان، حتى يصل بعضهم الى القول بقدرة البيئة على سلب اختيار الانسان!
ومن الواضح، ان الاسلام لا ينكر دور البيئة في شخصية الانسان، وان كان يرفض القول بقدرتها على سلب اختيار الانسان. وفي ضوء ذلك نتساءل: ما هو الاجراء المتخذ لحماية الشخصية الانسانية من خطر البيئة عليها؟ والجواب لا يمكن تحصيله إلا بعد الايمان بضرورة تشكيل حكومة اسلامية تقوم بمهمة "تلطيف" عامل البيئة وتحويله من عامل سلبي يدفع نحو المعصية الى عامل ايجابي يقرب من الطاعة.
نظام الحكم الاسلامي
وهنا نصل الى البحث الثاني من أبحاث الكتاب وهو البحث في خصائص الحكم الاسلامي. يرى الامام "قدس سره" ان "الحكومة الاسلامية" تمتاز عن غيرها بكونها حكومة القانون الإلهي، وهذا ما يوفر للمجتمع معطيات تعجز الحكومات الوضعية عن تحصيلها. فاتصافها بالقانون يحول دون تحولها نحو الاستبداد، إذ لا يكون الفرد الحاكم إلا شبحاً يحكي حقيقة القانون المهيمن على حياة الامة. واتصاف قانونها بالإلهية يمنحها قدرة تنفيذية عالية، إذ يحل الخالق العظيم محل السلطة التشريعية وتكون الدولة سلطة تنفيذية له، "ولذلك لا يوجد في حكومة الاسلام نظير ما يكثر وجوده عند السلاطين والأباطرة من قصور ضخمة، وخدم وحشم، وبلاط ملكي، وديوان لولي العهد وأمثال ذلك من المستلزمات التافهة التي تلتهم نصف أو غالبية ثروة البلاد"[12]. ويستشهد الامام بنماذج من حياة الرسول والامام أمير المؤمنين "ع".
وفي ضوء هذه الطبيعة الخاصة للحكومة الاسلامية، تتحدد شروط الحاكم في الدولة الاسلامية؛ فبغض النظر عن الشروط العامة اللازم توافرها في أغلبية المعاملات والعقود، كالعقل والبلوغ وحسن التدبير، هناك شرطان مهمان: الأول: العلم بالقانون الاسلامي، وهو نابع من الطبيعة القانونية للحكومة الاسلامية، إذ لا يتسق معها حاكم جاهل بالقانون. والثاني: هو العدالة، وهو نابع من الصفة الالهية لهذه الحكومة، إذ لا ينسجم معها حاكم لا ينسجم في سلوكه مع أحكام الخالق والأوحد جل شأنه. ويلتئم هذان الشرطان مع نظرية الامامية في اشتراط العصمة والأفضلية فيمن يلي امور المسلمين من بعد الرسول (ص). وبعد انقضاء عهد العصمة واطلالة عهد الغيبة يخفف شرط العصمة الى العدالة والأفضلية الى العلم لتعذرهما عند غير الأئمة الاثني عشر. ويلتئمان أيضاً مع فكرة ولاية الفقيه التي يعبر عنها الامام بأنها استمرار لحركة الأنبياء والأئمة. وهنا يصل الامام "قدس سره" الى بيت القصيد ليقرر بوضوح "إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فانه يلي من امور المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا"[13].
ثم يشرع الامام بالتمييز بين نوعين من الولاية: الولاية التكوينية الخاصة بالامام المعصوم، والولاية الاعتبارية المعطاة للفقيه، لينتهي الى ان اعطاء الولاية للفقيه لا يجعله في مصاف النبي والامام، لأن الكلام لا يدور حول المنزلة وإنما حول الوظيفة، "لأن الحاكم، نبياً كان أم إماماً أم فقيهاً عادلاً، ليس إلا منفذاً لأمر الله وحكمه"[14].
وبعد هذا البيان يدخل الامام في بحث فقهي استدلالي لإثبات الولاية المطلقة للفقيه في ضوء جملة من الأحاديث المروية عن النبي وأهل بيته الأطهار، وفي ختامه يوضح انه لم يأتِ بأمر جديد في الميدان الفقهي، فقد طرق هذا البحث المولى النراقي في كتابه "عوائد الأيام"، كما ان الشيخ محمد حسن صاحب "الجواهر" عبر عن استغرابه ممن يأبى القول بولاية الفقيه واعتبرها "حكم أساطين المذاهب"[15]. ثم يختتم الامام بحثه قائلاً بثقة وعزم: "وقد طرحنا الموضوع على بساط البحث، فعلى أجيال الغد أن تتعمق بعزم وثبات وروح مثابرة لا سبيل لليأس والقنوط إليها، وسيوفقون بإذن الله الى التوصل الى تشكيل الحكومة… وتتسلم بإذن الله الحكومة الاسلامية أيدٍ أمينة…"[16]. وكأنه ينظر الى يوم قد حل فعلاً، فغدا يفصل القول في وصفه. انها نبوءة العارف الذي ينظر بنور الله، والقائد السياسي المحنك الذي خبر الحياة واستكنه المستقبل.
سبيل النضال من أجل تشكيل حكومة اسلامية:
في البحث الأخير من كتابه يجرد الامام قلمه لبيان تحقيق الحكومة الاسلامية العادلة، وهو ما يمكن اعتباره خلاصة لمناهج التحرك السياسي السلبي عند الامام. ويمكن تحديد هذا المنهاج في عدة نقاط:
أولاً: التصميم على العمل، فالأفكار "تبدأ صغيرة ثم تكبر، ثم يتجمع من حولها الناس، ثم تكتسب القوة، ثم تأخذ بيدها زمام الامور؛ ولم تكن القوة كما ترون حليفة الأفكار من أول يوم"[17].
ثانياً: تأكيد التوعية الجماهيرية. فعلينا أن "نبدأ عملنا بالنشاط الدعائي ونتقدم فيه" و "أنتم اليوم لا تملكون دولة ولا جيشاً، ولكن تملكون أن تدعوا فلم يسلبكم عدوكم هذه القدرة على الدعوة والتوجيه والتبليغ… فندعو ونبث الأفكار… ونوجد أمواجاً من التوجيه الواعي والارشاد المنسق للجماهير…"[18].
ثالثاً: فضح خطط الأعداء وجرائمهم، فمن اللازم "فضح خط الاجرام وكشف الانحراف الموجود لدى السلطات الوقتية"[19].
رابعاً: تأكيد دور الفقهاء والحوزات العلمية؛ فعلى "الفقهاء بيان المسائل والأحكام والأنظمة الاسلامية وتقريبها الى الناس من أجل ايجاد تربة صالحة تعيش على سطحها النظم والقوانين الاسلامية"[20]، و"أنتم شباب المراكز الدينية كونوا أحياء واعملوا على أحياء أمر ربكم والمحافظة على أنظمته"[21].
خامساً: الاهتمام بالطلبة الجامعيين: "فعليكم ـ طلاب الحوزات ـ أن تعرفوا العالم بذلك كله وثبتوا ذلك في صفوف الجامعيين بصورة خاصة، لأن اولئك أكثر تفتحاً من غيرهم، وثقوا بأن وراء ذلك نتائج حسنة وترحيباً شديداً سيستقبل به الاسلام في رحاب الجامعيين، فالجامعيون أشد الناس عداوة للتسلط والعمالة والخيانة"[22].
سادساً: التبشير بإيجابيات الدولة الاسلامية وامتيازاتها: "علينا أن نذكر الناس بما كانت عليه الحكومة الاسلامية في صدر الاسلام"[23].
سابعاً: الاهتمام بالحج وصلاة الجمعة والجماعة: "علينا أن نسعى لإعادة إحياء مثل هذه الاجتماعات ونستغلها في التوجيه والارشاد والتوعية والقيادة"[24].
ثامناً: الثقة بالجماهير: "الله يعلم ان محبي الاسلام كثير، ولكنهم لأكثر أحكامه جاهلون، وقد جربت ذلك بنفسي، فحين ألقي كلمة ألمس تغيراً وتأثراً… يا أبناء الاسلام، بينوا الحقائق للجماهير واستنهضوهم، وانفخوا في أهل السوق والشارع، وفي العامل، والفلاح، والجامعي روح الجهاد؛ الجميع سيهبّون للجهاد"[25].
تاسعاً: قيادة العلماء المخلصين: "على الفقهاء أن يبينوا للناس العقائد الحقة، والأنظمة الاسلامية، وطرق الجهاد والنضال… وعندها سيكون في فقد أمثال هؤلاء العلماء القادة مصيبة عظمى… ولا ثلم يحدث في الاسلام عند موت ألف منّا، لأن حياتنا على ذلك النحو قد تكون هي ثلماً في الاسلام ينبغي سده بغيرنا"[26]!
عاشراً: بعد النظر والانطلاق من موقع التكليف، لا موقع جني الثمار: "لأن تقديم الخدمات للانسان لا ينبغي أن يتم على أساس المصلحة الفردية، بل على أساس المصلحة العامة للمسلمين"[27].
حادي عشر: التحلي بالعزم ومحاربة اليأس: "كل الأديان قد بدأت على شكل تعاليم، وبسبب ما اتسم به القادة والأنبياء من عزم وثبات كانت العقيدة تتقدم بخطى ثابتة"[28].
ثاني عشر: اصلاح الحوزات العلمية: "قيادة الامة الى الصلاح… تستلزم صلاح أهل العلم وحملة الشريعة… وتهذيب الأفكار المتحجرة المنفرة… وطرد فقهاء القصور"[29].
ثالث عشر: محاربة الدعوة الى الفصل بين رجال الدين والسياسة بدعوى عدم قدرتهم على خوض غمارها: "أنتم ستزيد خبرتكم وتجاربكم في طريق نضالكم الذي يرعب الاستعمار وبرهبه، وأنا على يقين انكم قادرون على ادارة دفة الحكم عند تقويض اسس الجور والظلم والعدوان"[30].
رابع عشر: محاربة الطاغوت، "لأن الله تعالى قد أمر بذلك… وعلى السلطات غير العادلة أن تخلي مكانها لمؤسسات الخدمات العامة الاسلامية لتقوم تدريجياً حكومة اسلامية شرعية مستقرة"[31].
________________
[1] الحكومة الاسلامية/ ص 17.
[2] المصدر نفسه/ ص 20.
[3] المصدر نفسه/ ص 26.
[4] المصدر نفسه/ ص 26.
[5] المصدر نفسه/ ص 27.
[6] المصدر نفسه/ ص 30.
[7] كتاب البيع/ ج 2/ ص 489.
[8] الحكومة الاسلامية/ 33 ـ 34.
[9] المصدر نفسه/ ص35.
[10] المصدر نفسه/ ص38.
[11] كتاب البيع/ ج2/ ص 461.
[12] الحكومة الاسلامية/ ص 43.
[13] المصدر نفسه/ ص49.
[14] المصدر نفسه/ ص51.
[15] جواهر الكلام/ ج 21/ ص 397.
[16] الحكومة الاسلامية/ ص 117.
[17] المصدر نفسه/ ص 119.
[18] المصدر نفسه/ ص 120.
[19] المصدر نفسه/ ص 120.
[20] المصدر نفسه/ ص 120.
[21] المصدر نفسه/ ص 122.
[22] المصدر نفسه/ ص 123.
[23] المصدر نفسه/ ص 123.
[24] المصدر نفسه/ ص 126.
[25] المصدر نفسه/ ص 127.
[26] المصدر نفسه/ ص 128.
[27] المصدر نفسه/ ص 129.
[28] المصدر نفسه/ ص 130.
[29] المصدر نفسه/ ص 132.
[30] المصدر نفسه/ ص 134.
[31] المصدر نفسه/ ص 146.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية