مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

فقه الحكومة عند الإمام الخميني‏ (قدس سره)
علي الموسوي‏


فقه الحكومة «أو النظام السياسي الإسلامي» يعتبر من المحاور المهمة التي تطرح على طاولة البحث لدى المثقف لارتباط ذلك بدور الإنسان الداعي في مجتمعه الذى يعيش فيه فالإيمان بفكر سياسي معين لدى الفرد ولدى الجماعة يعتبر محور تحرك هذا الفرد وهذه الجماعة، والإمام الخميني ـ كمصلح اجتماعي قام بثورة أطاحت بنظام جائر ـ بنى أطروحة الحكم لديه على أساس فكر سياسي ونظام حكومتي تبناه واستمده من حكم إسلامي إلهي واصطلح عليه بولاية الفقيه.
لقد فتح الإمام الخميني عبر نظرية ولاية الفقيه ـ التي اخرجها من دائرة النظرية إلى واقع التطبيق ـ الباب واسعا لفقه الحكومة، ولعل في خروج نظرية ولاية الفقيه من اطار الفكر لتصطدم بالواقع الخارجي العامل المهم في صقلها وتحديد اطارها الإسلامي وأساسها الديني.
ونحن لاستجلاء حقيقة نظر الإمام الخميني‏ في ذلك يمكن لنا ذلك بمراجعة نصوص كلماته، ويهمني قبل أن ادخل في ذلك أن أعرج على قراءة سريعة لحركة مجموعة من الفقهاء لا تبعد كثيرا عن زمن الإمام الخميني‏ وثورته، وهم فقهاء المشروطة الذين دخلوا في معترك الصراع السياسي في زمانهم وان كان ذلك بحدود معينة ولكنهم اختلفوا عن سائر الفقهاء في ذلك؛ فنجد مثلا في الميرزا النائيني شخصا دخل في حركة الصراع السياسي آنذاك، ويعتبر كتابه «تنبيه الامة وتنزيه الملة» تنظيرا لفكره السياسي. نجده لا يدخل الفقيه في قلب الحكم ولا يجعل منه محور الحكومة بقدر ما يطلب من الحكومة تطبيق الإسلام بل ميله إلى تبني النظام الديمقراطي ومحاولته جعل النظام الديمقراطي إسلاميا في أساسه أبعد الفقيه عن الحكومة والحاكمية. ولعل الميرزا النائيني انطلق في ذلك من خلال إيمانه بعجز الفقهاء عن القيام بمهام الحكم والحكومة. ولنلاحظ هذا النص من كلامه: يقول: «إن تحديد السلطة واقامة تلك الوظائف اللازمة، منحصر بهذه الوسيلة التي تعارفت عليها جميع أمم العالم وهي وجود هيئة ممثلة للشعب فوق السلطة التنفيذية واشتراك مجموع الشعب في انتخابها، بالنظر إلى عمومية هذا الحق وكون جميع أفراد الشعب مشتركين فيه، وبغير هذا الطريق ومع بقاء الوضع الحالي فانه لا الفقهاء قادرون على تعيين ناظرين ومراقبين، وحتى لو قاموا بذلك، فإن ممثليهم لن يستطيعوا القيام بمهمتهم، بل لن ينالوا سوى سياط الاهانة والزجر وربما النفي عن مواطنهم».
وهكذا حاول النائيني أن يجعل النظام يرتبط بالإسلام ولا يشذ عن قوانين الإسلام من دون أن يجعل للفقيه حاكمية خاصة مع وضوح إيمانه بوجود مثل هذه الحاكمية كنائب للإمام المعصوم الغائب (عج).
وبعد هذه الالمامة القصيرة نرجع إلى دراسة فقه الحكومة عند الإمام الخميني. ويمكن لنا تقسيم موضوع هذه المقالة إلى نقاط ثلاث:
1ـ تنظير الإمام لضرورة إقامة الحكومة
2ـ تنظير الإمام لمشروعية حكومة الفقيه‏
3ـ وظيفة الفقيه الحاكم‏
النقطة الاولى:
لاشك في أن كل الناس تؤمن بضرورة وجود الحكومة لما في ذلك من حفظ النظام الاجتماعي، ولكن اشتراط كون الحكومة إسلامية أمر طرحه الإمام الخميني وبقوة، فقال:«قد ثبت بضرورة الشرع والعقل: أن ما كان ضروريا أيام الرسول وفي عهد الإمام أمير المؤمنين من وجود الحكومة لايزال ضروريا إلى يومنا هذا، وهذا يفرض واجب تشكيل الحكومة على الناس[1]».
وفي محاولة تحريك وجدان من يعتقد بحرمة إقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة والفات نظر سائر الناس إلى أن ضرورة إقامة الحكومة من البداهة بنحو يكفي مجرد الالتفات إلى بعض الأحكام الشرعية الإلهية للإيمان بذلك، يقول:
«لتوضيح ذلك اتوجه اليكم بالسؤال التالي: قد مرّ على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي اكثر من الف عام، وقد تمر الوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر، وفي طول هذه المدة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطلة؟ يعمل الناس خلالها ما يشاؤون؟ الا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ وهل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام؟ هل ينبغي أن يخسر الإسلام بعد الغيبة الصغرى كل شي‏ء؟... لا تقولوا ندع اقامة الحدود والدفاع عن الثغور وجمع حقوق الفقراء حتى ظهور الحجة، فهلا تركتم الصلاة بانتظار الحجة؟».
وبهذا يمكن لنا أن نستجلي من الإمام فهما للإسلام ومن خلال هذا الفهم انطلق لتوضيح ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية فالإمام خرج عن محاولة تصوير الإسلام كدين يهتم بالعبادات وبعض المعاملات وتربية روحية الفرد فقط إلى تصوير الإسلام كيف يلعب دوره في كل تحركات الأفراد والمجتمعات وبعبارة أخرى يصور الإمام الإسلام كيف يعمل على إقامة الحكومة بكل ما تمثله من علاقات الأفراد مع بعضها والمجتمعات مع بعضها، يقول الإمام:
«الإسلام دين، خلافا للمذاهب والأديان غير التوحيدية، يتدخل في جميع الشؤون الفردية، والاجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ويشرف عليها، ولم يهمل أية ملاحظة ولو كانت بسيطة لها دور في تربية الإنسان والمجتمع وتقدمهما المادي والمعنوي[2]؟
ويقول: «تدل ماهية قوانين الإسلام وطبيعتها على أنها شرعت لتأسيس الدولة وإدارة المجتمع سياسيا وإقتصاديا وثقافيا».
ففهم الإمام الخميني لروح الإسلام جعله ينطلق في الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية، حيث رأى من تعطيل الحكومة الإسلامية تعطيلا لمجموعة من الأحكام الإلهية التي شرعها الله عز وجل، بل وكانت مدار البحث الفقهي على مر الأجيال وبها وردت الأحكام جملة وتفصيلا.
وكون الإسلام قد جاء كشريعة مهمتها تنظيم حياة البشر يؤكد على العمل على إقامة الدولة، ومجرد غيبة الإمام المعصوم المفترض الطاعة لا يعذر أحدا في تعطيله لهذه الأحكام الإلهية بل إن إنقاذها فيه إحياء لروح الإسلام ولمجموعة من أحكامه وتشريعاته، ولعل ممن تنبّه إلى دور الإسلام في الحكومة والنظام السيد جمال الدين الأفغاني حيث عمل جاهدا على ايقاظ المسلمين وتنبيههم إلى الغرض الذي يرمي إليه الغرب من الترويج لفكرة كون الإسلام دينا لا يتدخل في شؤون السياسة ولا يرتبط الفقيه بعمل السلطان إلا بحدود معينة.
النقطة الثانية:
وتربط بنظرة الإمام إلى دور الفقيه في السلطة والحكومة، ولاشك في أن الإمام استمد سلطنة الفقيه من جهة كون الفقيه نائبا للإمام المعصوم المفترض الطاعة، وهذه النيابة عن الإمام تجعل للفقيه ما للإمام مما يرتبط بشأن الحكومة والسلطة، ولو أردنا أن ننظر إلى غير هذا الفهم لاستطعنا أن نجد لدى الإمام الخميني استجلاء لهذه الدور للفقيه من جهات أخرى؛ فهو يرى من وظيفة الفقيه ذلك بحسب ما ورد من الروايات في شأن الفقهاء، يقول الإمام «فكون الفقيه حصنا للإسلام كحصن سور المدينة لا معنى له إلا كونه واليا له ما لرسول الله وللأئمة من الولاية على جميع الأمور السلطانية... فكما لا تقوم الرعية إلا بالجنود كذلك لا يقوم الإسلام ‘لا بالفقهاء الذين هم حصون الإسلام، وقيام الإسلام هو اجراء جميع أحكامه ولا يمكن إلا بالوالي الذى هو حصن، فالفقهاء أمناء الرسل وحصون الإسلام لهذه الخصوصية وغيرها وهو عبارة عن الولاية المطلقة»[3].
وبهذا يعلم أن الإمام هدف إلى توضيح ارتباط الفقيه بالسلطة وكون السلطة شأنا من شؤونات الفقيه الجامع الشرائط مع قطع النظر عن الأدلة العلمية لولاية الفقيه بل بارتباط ذلك بعمل الفقيه ووظيفة الفقيه سواء تمت الأدلة على ولاية الفقيه أو لم تتم، ولذا نجد الإمام الخميني يحاول في نص آخر أن يستفيد من فتوى التنباك الشهيرة للميرزا الشيرازي ليطبق هذا المفهوم، فالميرزا الشيرازي وإن كان لا يعتقد بولاية الفقيه ولكنه وجد من وظيفته أن يصدر هذه الفتوى، بل يستظهر الإمام منها أمرا جديدا وهو دلالة فتوى التنباك هذه على أن الفقهاء كانوا يرون من وظيفتهم ذلك، يقول:«إن موضوع ولاية الفقيه ليس موضوعا جديدا جئنا به نحن بل إن هذه المسألة وقعت محلا للبحث منذ البداية، فحكم المرحوم الشيرازي في حرمة التنباك كان واجبا اتباعه حتى من الفقهاء الآخرين أيضا، وقد اتبع ذلك الحكم جميع علماء ايران ما عدا بضعة أشخاص، وهو لم يكن حكما قضائيا في خلاف بين بعض الأشخاص بل كان حكا ولائيا، حكوميا، أصدره رحمه الله بالعنوان الثانوي مراعاة لمصالح المسلمين، وكان الحكم مستمرا مادام العنوان موجودا، وبزوال العنوان ارتفع الحكم، والمرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي الذي حكم بالجهاد ـ في ثورة العشرين بالعراق ـ وكان ذلك بصفة دفاع بالطبع، فقد اتبعه بقية العلماء لأنه كان حكما ولائيا حكوميا[4].
وعليه فوظيفة الفقيه ترتبط بشؤونات الحكومة، وهذا أمر أقرّه الفقهاء السابقون وإن كانوا لم يروا التدخل في جميع شؤونات الحكم والحكومة.
النقطة الثالثة:
وترتبط هذه النقطة بدائرة عمل الولي الفقيه مع الدولة، وهذه النقطة يكتنفها الغموض بل قد يجد البعض فيها نوعا من التناقض، بل حاول بعضهم أن يظهر نوعا من التناقض في الدستور بين ولاية الفقيه وبين النظام الجمهوري، ويرى أن انتخاب رئيس الجمهوررية ليس من حق الشعب بل هو من حق الولي الفقيه[5]، ولعل العامل الذي أدى إلى هذا الغموض هو حذر الإمام من طرح هذه المسألة في ظل الاعلام الغربي الذي حاول ولا يزال يحاول تصوير الفقيه كالحاكم المستبد الذي لا يعترضه أحد، فالناس تعيش حالة الاعلام الموجه الذي جعلهم يحذرون من حكومة رجال الدين، وهذا يظهر من كلمات الإمام يقول: «قضية ولاية الفقيه ليست بالأمر الذي يوجده مجلس الخبراء، ولاية الفقيه أمر سنّه الله تبارك وتعالى، لا تخشوا ولاية الفقيه، الفقيه لا يستطيع أن يتعامل مع الناس بمنطق القوة، فإذا ما أراد فقيه ما أن يتعامل بهذا المنطق فسوف تنتزع منه الولاية.
ولكنه في الوقت الذي يطمئن الإمام الناس من جهة عدم استبداد الفقيه، يرى الإمام للفقيه من السلطة بما هو أوسع مما يمكن تصويره، ولذا تدخل الإمام بعد مجزرة مكة ليعطل حكما إلهيا في وجوب الحج لما رأى من مصلحة الإسلام تعطيل مثل هذا الحكم، وكان في قيام الإمام بهذا شرحا وايضاحا لدائرة عمل الفقيه بنحو يمكنه ملاحظة بعض المصالح في تعطيل بعض الأحكام، ولذا يصرح الإمام في رسالة منه إلى السيد القائد الخامنئي (حفظه الله) بهذا حيث يقول:
«لو كانت صلاحيات الحكومة محصورة في ‏اطار الأحكام الفرعية الإلهية لوجب أن تلغى أطروحة الحكومة الإلهية والولاية المطلقة إلى نبي الإسلام‏ وأن تصبح دون معنى، وأشير إلى نتائج ذلك التي لا يستطيع أي أحد أن يلتزم بهان مثلا شق الشوارع الذي يستلزم مصادرة منزل أو حريمه ليس موجودا في ‏اطار الأحكام الفرعية، وإن نظام الخدمة العسكرية الالزامية وارسال الجيوش إلى الجبهات والحيلولة دون دخول أو خروج العملة الصعبة والضرائب ومنع الغلاء الفاحش وتحديد الأسعار وتحريم ادمان المخدرات بأي شكل ما عدا شرب المسكرات، وحمل الأسلحة بأي صورة ومئات الأمثلة تخرج من صلاحيات الدولة بناء على تفسيركم وكذلك مئات الأمثلة الأخرى، لابد أن أوضح: أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله‏ المطلقة وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج، وإن باستطاعة الحاكم أن يخرب أي مسجد أو بيت يقع في طريق الشارع.. و تستطيع ـ الحكومة ـ أن تقف امام أي أمر عبادي أو غير عبادي إذا كان مضرا بمصالح الإسلام، مادام كذلك.
إن الحكومة تستطيع أن تمنع مؤقتا وفي ظروف التناقض مع مصالح البلد الإسلامي إذا رأت ذلك أن تمنع من الحج الذي يعتبر من الفرائض المهمة الإلهية[6].
فكلام الإمام في رسالته هذه واضح في توسعنه لدائرة عمل الفقيه بما لم يلتزم به من سبقه من الفقهاء وليس هذا إلا من امتيازات فكر الإمام، مضافا إلى خروج هذا من دائرة الحكم الفقهي إلى دائرة الواقع وتطبيقه عملا.
_________________
[1] الحكومة الإسلامية، الإمام الخميني، ص25.
[2] كتاب البيع، ج2، ص472.
[3] كتاب البيع، ج2، ص473.
[4] الحكومة الإسلامية، ص‏179.
[5] الولاية، آية الله صانعي، دار الروضة بيروت‏.
[6] من رسالة الإمام الخميني إلى السيد القائد بتاريخ 10 جمادى 1409.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية