مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

حوار عقلائي حول الحكومة الإسلامية
الدكتور الشيخ مهدي حائري


إلحاقاً بالحوار الذي جرى بين الكاتب وسماحة جوادي آملي والمنشور في العدد السابق من مجلة (الحكومة الإسلامية) أصر بعض الأصدقاء أن أجيب مرة أخرى على ما كتبه سماحته، إلا أنني رغم هذا الاقتراح أعتقد أن ما هو شرط الصلاح وما يقره العقل النظري والعملي هو أن أجيب ضمن كلمات وجمل قصيرة، إلا انها شاملة ومبرهنة. ثم إنه لم يضف إلى رصيدنا المعرفي عدا الألفاظ وتكرار الموضوعات القديمة التقليدية.
وواضح أن المخاطب في سلسلة الحوارات طبقة خاصة من الباحثين المتمكنين من الفهم الجيد لامتلاكهم حظاً كبيراً من الفطنة الوقادة، والسبل والأصول العقلائية الفكرية. ومن هنا فليس المنهج الصحيح، الذي هو الخطوة الأولى في التعليم العالي، إعادة وتكرار المواضيع التي طُرحت بشكل معمق ومحقق، وقُدمت إلى الباحثين الكبار بشكل شامل ومختصر، لأن ذلك سيؤدي إلى إطالة الحديث والمجادلة بغير الأحسن، وباصطلاح المنطق، إلى (التبكيت والتشغيب) المثير للشر.
والشيء الوحيد الذي يجب التنبيه عليه في هذا الوقت هو: أن الملاحظ أن أغلب الباحثين والعلماء الموجودين تغلبهم المشاعر والرغبات الخاصة، فيفتقدون أمام القوى الجاذبة واستقطاب البحث الموازين القضائية والتحكيم العادل بشكل لا إرادي فيبتعدون عن الحقيقة، وليس لدينا أمام هذه الظاهرة طريق سوى الفرار من هذه الضائقة غير المقصودة، ونكتفي بطرح مفاتيح بعض المطالب تاركين المعضلات لكي نبتعد بها عن الأشخاص الذي لا يفقهونها ويقلبون الحقيقة.
وعلى كل، فقد اتضح من خلال الحوارات الجانبية حول بعض نقاط ضعف الفلسفة الوجودية للحكومة الإسلامية، والتي تصدت مجلة (الحكومة الإسلامية) إلى طباعتها ونشرها، اتضح للأسف أن بعض النقاط التي نتصور أنها إما بيّنة الثبوت أو مفروغ عنها ولا تحتاج إلى بيان وإطالة كلام، ظلت طريقة معرفتها لدى بعض الأفاضل والباحثين مجهولة.
لهذه الملاحظة يكون من المناسب والواجب أن نكتب حول هذه الأبحاث الأساسية أكثر من الأول بقليل حتى تستطيع لغتنا وثقافتنا العامة أن تسترشد وتستفيد من طبيعة البحث.
إن أحد المفاسد المتجددة التي تشخصها الحكومة، وفي ضوء هذا التشخيص يُشرّع حكم ويعطى صفة قانونية دون مراعاة الأحكام الشرعية، حتى مع مخالفتها لهذه الأحكام. وعلى أساس هذا الفرض هناك توضيحات، هي:
1 ـ حينما توضع الأحكام الحكومية والولائية من قِبل الحكام، مع مراعاة تشخيص مصالح ومفاسد الشعب المتجددة، توضع وتكتسب مشروعيتها من دون استناد إلى أي واحد من مصادر الشريعة، وعدم فصل الدين عن السياسة مثل القضايا الجزئية التي تتناقض مع قضية السالبة الكلية. من هنا فإن النظام الديني بطبيعته يفصل الدين عن السياسة.
وقيل في جواب هذا السؤال المنطقي أن "العقل الخالص"، الذي هو أحد مصادر الحكم الشرعي، هو المرجع النهائي لهذه الأحكام الحكومية، لذا مع ملاحظة ذلك تعد الأحكام الحكومية أحكاماً شرعية.
نحن نقول: إذا كان صحيحاً أن "العقل الخالص" مصدر لاستنباط الأحكام الحكومية، والعقل الخالص، بدليل الملازمة "كل ما حكم به العقل حكم به الشرع"، يستوجب حكماً شرعياً، فإذن ـ بهذا الدليل ـ ستكون الأحكام الحكومية ـ مثل الأحكام الشرعية الأخرى ـ أحكاماً شرعية دائمية وأزلية، وستكون هذه الأحكام كالعقل الخالص نفسه ـ الذي يتمتع بالكلية والأبدية ـ أحكاماً أولية شرعية أزلية وأبدية. وما قرأتموه أن العقل أحد مصادر الحكم الشرعي، المراد به الأحكام الأولية الشرعية، لا الأحكام الحكومية التي سببها ومنشؤها الحكومة المؤقتة.
2 ـ وجاء أيضاً في جواب هذا السؤال المنطقي: للأحكام الحكومية والولائية ثواب وعقاب أخرويان، وكل حكم له ثواب وعقاب فهو (لهذا الدليل) حكم شرعي، وإذن فالأحكام الحكومية شرعية. نحن نقول:
أولاً: من أين وأي مصدر أثبت لكم أن الأحكام الحكومية تستلزم العقاب والثواب؟ هذا ادعاء خلق الساعة، ولم يُذكر في أي مكان.
ثانياً: إن مسألة العقاب والثواب مسألة كلامية ولا ربط لها بالفقه. وقبول وإنكار أي مطلب في المسائل الكلامية حر، ومع إنكارنا لذلك، فإن هذا الاستدلال باطل، وكأن لم يكن.
3 ـ وقيل أيضاً في جواب السؤال المنطقي المذكور (نقيض السلب الكلي إيجاب جزئي): لم تنحصر مصادر أحكام الدين بالكتاب والسنة، بل تشمل العقل الذي هو من مصادر الدين القوية، كما أن (العقل الخالص) إذا راعى الأصول والضوابط المنقولة سيكون له حكم ديني.
ونقول في الجواب على هذا الكلام:
أولاً: مقصودنا من الكتاب والسنة كل مصدر ديني شامل للعقل في سلسلة العلل.
ثانياً: ان هؤلاء الذين لهم اطلاع بأوليات المنطق والفلسفة يعلمون جيداً أن "العقل الخالص" هو "الفعلية المحضة"، الذي لم يلتفت ولم يتوجه إلى جزئيات الزمان والمكان أبداً، والأحكام التي تصدر عنه هي ـ مثل هذا العقل ـ أحكام أبدية وأزلية ولا تقبل التغير والكون والفساد؛ ليس لها أي علاقة بمصالح ومفاسد أي بلد وأي حكومة أو إقليم حتى تصل إلى تشخيص زيد وعمر.
وما قيل: بأن للعقل الخالص مع مراعاته للأصول والضوابط المنقولة، احكاماً دينية، دفعة أخرى من التناقضات المفهومية.
(للعقل الخالص) مشخصات ذاتية لا تنفك عنه، كما يلي:
أولاً: انه أزلي الثبوت وأبدي البقاء.
وثانياً: عنده كليات وشمول على الجميع ولا يتحد مع الجزئيات ومتغيرات الطبيعة الزمانية والمكانية المتجددة.
ثالثاً: انه مصان من أي نحو من التحول والتبدل الأعم من الكون والفساد والحركات الجوهرية والعرضية:
1 – Eternal
2 – Universal pure Reason
3 – Immutable
يرجى الإنصاف، كيف يمكن للعقل الخالص بهذه الخصوصيات أن يكون مصدراً للأحكام المتغيرة ومفاسد المحيط الطبيعي والتحولات الاجتماعية الجزئية جداً والمتغيرة في الزمان والمكان؟
إضافة إلى ذلك، إذا كان العقل الخالص هو المستند لاستنباط الأحكام الحكومية ـ كما جاء في الجواب عن أسئلة الكاتب ـ فما هي حاجة هذا العقل إلى مجلس تشخيص، وهو خالص وذاتي البداهة، ولا يقبل التمويه، ولا يتعرض للقلّة أو الكثرة، ومجرد من خصوصيات الزمان والمكان؟
والأكثر من ذلك أن تشخيص المصالح المرسلة ـ التي هي تماماً بمعنى تشخيص المصلحة العامة ـ هي في عِداد القياس والاستحسان ومن مصادر استنباط وفتاوى العامة، يعني أهل السنة والجماعة. وبما أنها لا تفيد اليقين، فهي غير معتبرة ولا مشروعة ولا حجة عند أئمة الشيعة ـ سلام الله عليهم ـ إلا من باب الظن المطلق، وهذا أيضاً على القول بانسداد باب العلم والعلمي.
شاهد تاريخي
قرأت في إحدى كتابات الإمام الفخر الرازي بأن مصادرة فدك تمت على أساس حكم حكومي، والحكومة هي التي شخصت هذه المصلحة، وهو أن يكون الملك المذكور تحت تصرف الحكومة العامة وبيت مال المسلمين، إلا أن أئمة الشيعة لم يمضوا هذه الطريقة أبداً.
الكل يتذكر أن "بو رقيبة" أصدر قبل عدة سنوات في شهر رمضان المبارك حكماً، عن طريق تشخيص المصلحة، حَكم فيه بعدم وجوب صوم شهر رمضان المبارك بسبب المتاعب الاقتصادية، ووجب على الشعب المباشرة بالوظائف في أول الوقت!
وقد اعتبرت بعض الدول الغربية الشذوذ الجنسي أمراً قانونياً ومشروعاً للحد من النسل واستجابة للمصالح الاقتصادية والاجتماعية، اعتماداً على نفس أصل تشخيص المصالح العامة، مع اختلاف أن هؤلاء لا يسندون قوانينهم وتشريعاتهم إلى الله والنبي. ومن هنا يجب أن نقرأ هذا التحذير في الآية القرآنية، حيث يخاطب الله نبيه المحبوب: {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين}(1).
ومن المفاهيم الأخرى التي لفها الاضطراب الفكري وإبهام اللغة والثقافة العامة والفكر العمومي هو مفهوم "الولاية". والصحيح أنها جاءت في أصول مذهب التشيع بمعنى الإمامة، والإمام يشابه النبي بأفضليته العلمية على الآخرين في جميع الأمور. كما جاءت الولاية بمعنى آخر مثل القيمومة على الصغار والمجانين، أو بمعنى الصداقة والمحبة، وفي بعض الاستعمال بمعنى تقبل المسؤولية والتعهد بأمر من الأمور، لكنها لم تأتِ في أي مورد من الموارد بمعنى إدارة البلاد وسياسة المدن.
نعم، الولاية المطلقة لله في لغة المتكلمين وفلاسفة الإسلام تعني إحاطته وقيمومته على جميع العالم، وبالنسبة إلى النبي والإمام تعني الإحاطة الحضورية بالنظام التشريعي الأحسن، أي بمعنى الإمامة، ولا تتناسب مفهوماً مع فن السياسة المرادف للعلم الحصولي ومن مقولة الكيف النفساني.
وعليه، لم تأتِ (الولاية) ـ من جهة نظر مفاد ومفهوم اللغة ـ بمعنى الخبرة السياسية. وإن كانت المدينة الفاضلة والحكومة الافلاطونية تتطلب، في حالة الانتقال من حالة المثل إلى الوجود الخارجي العيني والحقيقي، أن ينال جميع المواطنين من الرشد والبلوغ الاجتماعي لكي يتمكنوا من استقبال العدل الإلهي، عن طريق النبي أو الإمام المعصوم، عن بصيرة وحب. على أن يعترف الجميع حق اليقين بأن هؤلاء بالإضافة إلى مقام النبوة والإمامة ـ اللذين يستمدان جذورهما من مقام الالوهية ـ هم الأفضل للحكم والقيادة السياسية التي تدور حول محور متغيرات الزمان والمكان.
لقد تحقق نموذج الحكومة السياسية ـ الاجتماعية لنبي الإسلام العظيم الشأن في بداية التاريخ بعدما هاجر من مكة إلى المدينة، وبعد (25) عاماً حصلت هذه الفرصة الذهبية لعلي بن أبي طالب (ع)، فكانت إشراقة جميلة، إلا أنها كانت دولة عاجلة، وربما كان التقدير الإلهي إعطاء نموذج ليس إلا.
ومراد الكاتب أن الإمامة بمرتبة النبوة، إلا أنهما يختلفان بأن النبي مأمور بأن يعكس مشاهداته عن العالم على صيغة قانون إلهي للناس، وأن يعرف الأمة بنظام التشريع. وأما الإمام فيتعهد بإطلاع الأمة بهذه الوظيفة لكن لا من قِبله وإنما من قِبل النبي الأكرم، ودليل ذلك هو أن لا يضيف ديناً جديداً على دين النبي.
وللاطلاع أكثر على موضوع النبوة والإمامة يراجع كتاب "حكمت وحكومت" (الحكمة والحكومة).
سؤال تعجبي
بعد حقيقة الإمام، التي هي الأصل الرابع من أصول مذهب التشيع الخمسة، أصبح معلوم جيداً أن الإمامة تشترك مع النبوة بأنها تضع القانون الإلهي للعالم من خلال حضورها في محضر العلم العنائي الربوبي، والولاية تعني هذا الحضور للإحاطة بنظام التشريع الأحسن، والإمام (ع) هو ولي الشريعة بعد النبي، ولا يوجد شخص يشابهه بمثل هذه الرابطة الحضورية مع لوح العلم العنائي الربوبي. إذن كيف يمكن الاعتقاد ـ كما يصر بعض علماء الشيعة ـ بأن الولاية ليست شيئاً سوى الإمامة، فتنزلت من مشابهة مقام النبوة وفُسرت بإدارة البلاد وطلب السلطة إلى القيادة السياسية. وهذا النوع من السياسة والحكومة لم يرده الله إلى نبيه أبداً.
قال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر}(2).
____________________
(1) سورة الحاقة: 44 ـ 46.
(2) سورة الغاشية: 21 و 22.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية