مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

سلطة الولي الفقيه خارج حدود بلده
الشيخ محمد تقي مصباح يزدي


بسم الله الرحمن الرحيم
بما أن مسألة "سلطة الولي الفقيه خارج حدود البلد الخاضع لولايته" تقع في مرتبة متأخرة من سلسلة مسائل الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه، وتتوقف الاجابة عنها إلى حد بعيد على حل المسائل السابقة، وتخضع لأسس ونظريات قُبلت في مراحل متقدمة، من هنا بات لزاماً علينا في بداية الأمر إلقاء نظرة على المسائل المتقدمة عليها.
ولغرض التعرف على المسائل المتقدمة التي يستلزمها هذا البحث، يجب علينا أولاً وقبل كل شيء تدقيق النظر في عنوان المقالة الذي يُستشف منه افتراض وجود مجتمع أو بلد إسلامي ذي حدود جغرافية معينة ويحكمه نظام "ولاية الفقيه"، وتكون الأوامر الحكومية للولي الفقيه نافذة وواجبة التطبيق على الأشخاص الذي يعيشون ضمن تلك الحدود، والذين سبقت له البيعة منهم. وبعبارة أخرى: إن مبدأ ولاية الفقيه وشرعية النظام الذي يديره ونفوذ حكم الولي الفقيه الذي تسلم زمام الحكم بشروط خاصة، محرزة على من يعيش داخل حدود ذلك البلد وسبقت منهم البيعة، وهي ثابتة بدليل أو أدلة مقبولة.
ولكن تثار حول هذه المسألة المفروغ منها مسائل جانبية تستدعي وضع حل لها، وهي:
1 ـ إذا كان هناك فرد أو جماعة مسملة تعيش في بلد غير إسلامي (خارج حدود البلد الإسلامي المفترض الذي يدار بنظام ولاية الفقيه، فهل يجب عليهم إطاعة الأوامر الحكومية للفقيه المذكور أم لا؟
إن لهذا السؤال كما يبدوا فرضين؛ الأول هو: ان المسلمين المقيمين خارج البلد الإسلامي بايعوا الولي الفقيه. والفرض الثاني: انهم لم يبايعوه.
2 ـ إذا كان هناك بلدان إسلاميان تبنى أحدهما نظام ولاية الفقيه وبايع الفقيه الجامع للشرائط، فيما يدار الثاني بنظام حكومي آخر، فهل يجب على شعب البلد الثاني اتباع الولي الفقيه للبلد الأول أم لا؟
وهنا أيضاً يصدق الفرضان أعلاه (وهما بيعة وعدم بيعة الفرد أو الجماعة المسلمة في البلد الثاني).
3 ـ إذا اتخذ بلدان إسلاميان ولاية الفقيه منهجاً لنظام الحكم فيهما، ولكن عين شعب كل منهما فقيهاً خاصاً به غير الفقيه في البلد الآخر، أو اختار خبراء كل منهما فقيهاً غير فقيه البلد الآخر، فهل في مثل هذه الحالة يسري حكم كل من الفقيهين ضمن حدود ولايته فحسب، أم يشمل شعب البلد الآخر، أم هناك موقف ثالث؟
على الرغم من الفرض الوارد في هذه المسألة وهو ان أهل كل بلد بايعوا فقيهاً خاصاً، ولكن في الوقت ذاته يمكن افتراض ان بعض أهالي أحد البلدين قد بايع الفقيه الحاكم في البلد الآخر. ومن هنا يصدق الفرضان المذكوران في المسائل المتقدمة على هذه المسألة أيضاً.
النقطة الجديرة بالذكر هي ان المسألتين الأخيرتين افترضتا وجود بلدين إسلاميين مستقلين. فيما افترضت المسألة الأخيرة شرعية تعدد الولي الفقيه في بلدين متجاورين أو غير متجاورين.
4 ـ إذا كان هناك أشخاص في البلد الذي يحكمه نظام ولاية الفقيه لم يبايعوا ذلك الولي الفقيه لسبب أو آخر، فهل تطبق عليهم أوامره الحكومية أم لا؟
لأجل الإجابة عن هذه الأسئلة وتقصي أبعاد المسألة المعروضة على بساط البحث يجب دراسة مسألة حدود البلد الإسلامي وكيفية رسمها مع بلد غير إسلامي أو بلد إسلامي آخر، ثم أخذ قضية تعدد الحكومات الإٍسلامية أو البلدان الإسلامية بنظر الاعتبار من جهة، ومن جهة أخرى ينبغي البحث في أدلة ولاية الفقيه لغرض بيان كيفية شمولها للأسئلة الآنفة الذكر، مع الاشارة إلى دور البيعة في اعتبار ولاية الفقيه، لتتضح أهمية بيعة الأفراد وعدمها في وجوب طاعتهم للولي الفقيه.
وحدة البلدان وتعددها
عُرضت دراسات وفيرة عن نشوء الدول والشعوب وعوامل انفصالها وتمايزها عن بعضها أو اتحادها واتصالها مع بعضها، وأُبدِيَتْ آراء ونظريات مختلفة بهذا الشأن. كما بُحثت معايير انتماء الأفراد للدول وأقسامها من قبيل الانتماء الأصلي والاكتسابي والتبعي، وكذلك الانسلاخ من ذلك الانتماء طوعاً أو كرهاً.
أما ما ينبغي الإشارة إليه بإيجاز فهو أن وحدة الأرض، أو اللغة واللهجة المشتركة، ووحدة العنصر والدم لا يعد أياً منها عاملاً حاسماً في وحدة شعب أو بلدٍ ما. كما لا تحتسب الحدود الطبيعية كالجبال والبحار، أو اختلاف اللغة واللهجة، واللون والدم سبباً قطعياً لتعدد تمايز الشعوب والبلدان. بل إن هذه العوامل بمجموعها لا تشكل عنصراً ذا تأثير قطعي. فربما ينقسم شعب يشترك في اللغة والأرض إلى دولتين. وقد يتألف بلد واحد من شعوب تختلف في اللغة والعنصر وتفصل بينها حواجز طبيعية. وأمثلة هذه الحالة موجودة في عالمنا المعاصر.
من الطبيعي أن كل واحد من العوامل المذكورة يمهد الأجواء ـ حسبما تقتضيه طبيعة العلاقات بين بني الإنسان ـ لتلاحم وحدة الشعب والبلد، إلا أن أكثرها تأثيراً هو وحدة الآراء والتوجيهات التي تنتهي إلى وحدة الحكومة. أما العوامل الأخرى فتتسم بالنقص ويمكن أن تحل محلها عوامل غيرها، وهي مجرد عوامل مساعدة للعامل الأخير.
يرى الإسلام أن المحور الأساسي لوحدة الأمة والمجتمع الإسلامي هو وحدة العقيدة، ولكن في الوقت ذاته ينبغي الالتفات إلى ان وحدة الأرض ووجود الحدود الجغرافية الطبيعية منها والسياسية ليست فاقدة للاعتبار تماماً. وكما نعلم ان لـ"دار الإسلام" التي تعرف طبعاً بحدود جغرافية معينة، أحكاماً خاصة في الفقه الإٍسلامي؛
ففي بعض الحالات مثلاً تصبح الهجرة إليها أمراً واجباً، وقد يطرد منها الذمي الذي يتمرد على أحكام الذمة، ومن جهة أخرى لا يعد اختلاف العقيدة لدى شخص ما سبباً لاعتباره أجنبياً؛ لأن الدولة الإسلامية قد تضم داخل حدودها أشخاصاً غير مسلمين تتكفل هي بحمايتهم، وبذلك يكون هناك نوع من الانتماء إليها.
وحصيلة القول هي ان المجتمع الإسلامي يتألف أصالة من أفراد يعتنقون الإسلام بمحض إرادتهم ويلتزمون بقوانينه الاجتماعية والقضائية والسياسية، والأرض التي تقطنها هذه الجماعة تُسمى بالبلد الإسلامي أو دار الإسلام. وفي مرتبة لاحقة يمكن لغير المسلمين الانتماء إلى هذا البلد الإسلامي باتفاق خاص، ليعيشوا إلى جانب المسلمين بأمن وسلام.
وعلى هذا المنوال تتعين حدود الدولة الإسلامية مع غير الإسلامية، ومعنى هذا: (ان الأرض التي يقطنها اتباع الدولة الإسلامية تسمى بدار الإسلام، وتتعين حدود أملاكهم "مع توابعها ولواحقها" بحدود دار الإسلام التي تفصلها عن غيرها حدود طبيعية كالبحار والجبال أو حدود سياسية تشخص بعلائم وشواخص معينة).
يتبدى مما سبق أن الملاك في وحدة الدول أو تعددها هو وحدة حكوماتها وتعددها؛ أي ان كل جماعة انسانية تساس من قبل حكومة واحدة تنتمي إلى بلد واحد، وعلى العكس من ذلك يدل تعدد الحكومات المستقلة الواقعة في عرض بعضها الآخر على تعدد الدول أو البلدان. ومن المحتمل طبعاً أن تتمتع كل مدينة أو اقليم بنوع من الحكم الذاتي ولكن حينما تخضع عدة أقاليم لدستور واحد وتدار من قبل حكومة مركزية واحدة، وتتبع في سياستها الخارجية وشؤونها الدفاعية وما شابه ذلك قرارات الحكومة المركزية "كما هو الحال في الدول الفدرالية" تعتبر حينئذ بلداً واحداً، وتعدد الحكومات غير المستقلة منها لا يضر بوحدتها[1]. إلا ان العامل الذي كان له في أغلب الأحيان الدور الحاسم في تعيين حدود الدول وتشخيص وحدة أو تعدد الحكومات واتحادها أو انفصالها، هو عامل "قوة السلاح". ومما يثير الأسف أن هذا العامل أدى دوره في العالم الإسلامي، والحروب التي وقعت بين المسلمين وأدت إلى انقراض وظهور سلالات متعددة حكمت باسم الخلافة أو السلطنة تعد دليلاً ناصعاً على هذه الحقيقة التاريخية المريرة. أما المسألة المهمة هنا فهي دراسة هذه المسألة من جانبها الفقهي، ولذا بات لزاماً علينا إلقاء نظرة ولو سريعة على آراء الفقهاء في هذا المجال.
الموقف الفقهي من تعدد الدول
عرفنا ان "دار الإسلام" هي عبارة عن الأرض أو الأراضي التي تقطنها الأمة الإسلامية، ويمكن لغير المسلمين الانضواء بشروط خاصة تحت ظل الدولة الإسلامية وان يعيشوا إلى جانب المسلمين بأمن وسلام، وتعتبر الحدود الطبيعية أو السياسية لهذه الأراضي "حدوداً لدار الإسلام".
ولكن هل يمكن تجزئة دار الإسلام إلى عدة دول كاملة ومستقلة، أم لا؟ هذا الموضوع لم يبحث من قبل القدماء، وان كان سياق كلامهم يشير إلى "بلد إسلامي واحد" تدار شؤونه من قبل "إمام واحد". وحينما تتعدد الحكومات يعتبر زعيم كل حكومة نفسه هو الخليفة الحق، والآخرون على خطأ ومتمردون عليه! ولكن يمكن القول أن آراء الفقهاء كانت ناظرة إلى ظروف خاصة ولا تنطوي بشكل عام على نفي المشروعية عن تعدد الحكومات، بل وربما يستشف من بعض أقوالهم في شروط الإمام ومن بعض تصريحاتهم انهم لا ينفون الشرعية عن وجود حكومتين في منطقتين متمايزتين ـ عندما يكون المتصدون لزمام الأمور فيها حائزين على الشرائط[2] ـ لاسيما وإن الكثير من كبار أهل السنة (مثل أحمد بن حنبل) يرون أنه حتى حكومة الفاسق وشارب الخمر، الذي يتسلط على رقاب الناس بالقهر، مشروعةً وواجبة الطاعة[3]!
اما فقهاء الشيعة فيتفقون في الرأي على ان الخلافة من بعد رسول الله (ص) للامام المعصوم (ع) أصالة، وينفون أن تكون الإمامة لمعصومين في وقت واحد[4]، حتى وان كان أحدهما في شرق الأرض والآخر في غربها.
وبعبارة أخرى يعتقد الشيعة ان دار الإسلام كلها يجب أن تنضوي تحت قيادة وزعامة إمام معصوم واحد، وولاة كل اقليم يعينون من قبله، وكلهم طبعاً منفذون لأحكام الإسلام وأوامر الإمام المعصوم، فضلاً عما يحتمل أن يفوضه إليهم الإمام المعصوم من صلاحيات ضمن حدود الاقليم الذي يحكمونه، فيطبقون قرارات خاصة تهتدي بالأحكام الإسلامية العامة مع رعاية مصالح المسلمين وبما تقتضيه ظروف الزمان والمكان. في هذا الضوء يكون هناك نمط من الحكم الذاتي في مناطق مختلفة من دار الإسلام يمكن القبول به في ظل القيادة العامة للمعصوم.
ومن الطبيعي أن هذه الافتراضات كلها فيما لو كان الإمام المعصوم مبسوط اليد ولديه قدرة ظاهرية للتصدي للأمور؛ بمعنى أن تكون حكومته الشرعية مقبولة من الناس أيضاً. ولكن كما نعلم أن مثل هذه الظروف لم تتوافر إلا في الفترة القصيرة التي حكم بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، والإمام الحسن (ع). اما سائر الأئمة الطاهرين (ع) فلم يتصدوا لإدارة شؤون الدولة الإسلامية، بل ولم يؤذن لهم بإبداء آرائهم في هذا المجال، وكانوا على الدوام تحت المراقبة والنفي أو في السجون، ولذا لم يعلنوا مثل هذه الآراء إلا لخاصة أصحابهم مع توصيتهم بكتمانها!
وعلى هذا المنوال كان الشيعة محرومين من بركات حكومة أئمة أهل البيت (ع)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن الشيعة يقرون بشرعية الحكومات القائمة؛ وهذا ما جعلهم يعيشون ظروفاً في غاية العسر. وفي مثل تلك الظروف كان يتحتم عليهم ـ وفقاً للتعاليم الواردة في الروايات التي جاءت في هذا المضمار كمقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة ـ الرجوع إلى الفقهاء الحائزين على الشرائط للنظر في قضاياهم وخاصة القضائية منها. وقد أكدت بعض تلك الروايات على ان الرد على أمثال هؤلاء الفقهاء، كالرد على الإمام المعصوم، وعلى حد الشرك بالله تعالى[5].
وهكذا كانت دعاوى الشيعة ومشكلاتهم القضائية التي تقع في زمن الغيبة تُحل عن طريق الرجوع خفية إلى الفقهاء الجامعين للشرائط، إلى أن حصلوا في بعض المناطق على قوة ملحوظة مثل الفاطميين الذي أقاموا دولة مستقلة في مصر، والديالمة وآل بويه الذين تسنّموا الحكم في بعض بلاد فارس، حتى انهم هيمنوا على الخلافة العباسية التي كانت تعيش حالة من الانحدار والتقهقر. إلى ان انتهى بهم المطاف إلى انشاء الدولة الصفوية في بلاد فارس والتي أخذت تنافس الخلافة العثمانية آنذاك.
في ظل تلك الأوضاع والظروف، وجد فقهاء الشيعة المجال مفسوحاً أمامهم لعرض آرائهم ومستلزماتها، إلا اننا وكما أشرنا في مقدمة البحث مضطرون لإلقاء نظرة على آراء الفقهاء، وأدلتهم في هذا الموضوع من أجل الاجابة عن الأسئلة التي تُثار في هذا المجال.
ويشكل هذا الموضوع في الحقيقة صلب المقالة المعروضة بين يدي القارئ.
ملاك مشروعية ولاية الفقيه
كان الشيعة ـ كما سلف القول ـ يرجعون إلى الفقهاء، امتثالاً لما جاء في الروايات المنقولة عن عمر بن حنظلة وأبي خديجة، والتوقيع الصادر عن الناحية المقدسة، لحل ما يعرض لهم في شؤون حياتهم اليومية. وكانوا في الحقيقة يعتبرون الفقهاء الحائزين على الشرائط "نواباً عامين لإمام العصر" (عج)، مقابل "النواب الخاصين" في عصر الغيبة الصغرى. وعندما حصل بعض الحكام الشيعة على أسباب القوة أخذت مسألة ولاية الفقيه تثار بشكل أوسع. ومن انتشار هذه الأفكار بين عموم الناس انصب اهتمام الحكام والسلاطين الشيعة على كسب ود وتأييد الفقهاء بغية اضفاء الصبغة الشرعية على سلطتهم، حتى انهم كانوا يستأذنونهم علنياً في ادارة شؤون البلاد. وفي المقابل وجد الفقهاء في تلك الأوضاع فرصة سانحة لنشر المعارف الإسلامية الأصيلة.
ولكن يبدو ان أياً من السلاطين لم يكن مستعداً لتسليم السلطة للفقيه الجامع للشرائط في أي عصر من العصور، وفي الوقت ذاته ما كان أي من الفقهاء يأمل الحصول على مثل هذه السلطة. وفي الواقع ان ولاية الفقيه لم تحقق بمعناها الأصيل إلا مع انتصار الثورة الإسلامية في ايران، حيث برزت عند ذاك الحاجة إلى دراسات وبحوث دقيقة حول مرتكزاتها وفروعها.
القضية الأساسية الأكثر أهمية تتمثل في التساؤل المثار عن الملاك في مشروعية ولاية الفقيه، وعلى أية صياغة فنية يقوم دليلها؟ لأن الاجابة الواضحة والدقيقة عن هذا السؤال تتيح تقديم اجابات وافية عن المسائل الفرعية، ومنها الأسئلة المطروحة في مطلع هذه المقالة.
يمكن هنا الاشارة إلى أصلين أساسيين هما:
الأول: تستمد ولاية وحكومة الفقيه شرعيتها من الولاية التشريعية الإلهية، بل ولا شرعية لأية ولاية أساساً إلا بإذن وتنصيب إلهي، وأي اعتراف بشرعية أية حكومة عن طريق آخر غير هذا يعد نوعاً من الشرك في الربوبية التشريعية الإلهية. وبعبارة أخرى ان الله عز وجل منح مقام الحكومة والولاية على الناس للإمام المعصوم، والإمام المعصوم هو الذي يعين الفقيه الجامع للشرائط، سواء في زمن حضوره وعدم تسنّمه للسلطة أو في زمن غيبته، وطاعته ـ في الحقيقة ـ طاعة للامام المعصوم، كما ان الرد عليه بمنزلة الرد على الإمام المعصوم، وانكار الولاية التشريعية الإلهية: "والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله"[6].
الثاني: ان الشارع المقدس منح حق الولاية للامام المعصوم فحسب، ومن الطبيعي ان تصريفها يختص بزمن حضوره. واما في زمن غيبته فيجب على الناس العمل بالقواعد الكلية نظير "أفوا بالعقود" و"المسلمون عند شروطهم" أو أحياناً حين تتوافر مثل هذه الأدلة، ينتخبون الشخص الجدير بالحكومة ويبايعونه، نظير ما يعتقده أهل السنة بشأن الحكومة بعد رحيل رسول الله (ص). وغاية ما في ذلك هو ان الشريعة قد بينت شروط الحاكم الصالح، والمسلمون مكلفون ان يشرطوا عليه، أثناء بيعتهم له، العملَ وفق ما جاء في أحكام الإسلام.
والملاك في مشروعية ولاية الفقيه ـ في ضوء هذا الأصل ـ هو العقد الذي يبرمه مع الناس؛ أي ان البيعة هي التي تضفي الشرعية هنا على ولاية الفقيه.
يبدو ان المرتكز في أذهان الشيعة، والمستفاد من أقوال الفقهاء هو الأصل الأول، والتعابير الواردة في الروايات الشريفة تؤيد هذا المعنى تأييداً تاماً. واما الموجب لذكر الأصل الثاني فهو إما الميل إلى الاتجاه الديمقراطي الغربي ـ الذي وجد له مع الأسف رواجاً في البلدان الإسلامية ـ أو للاتيان بدليل جدلي لإقناع وإلزام المعارضين، على غرار ما جاء في خطاب أمير المؤمنين (ع) لمعاوية بشأن اعتبار بيعة المهاجرين والأنصار[7].
وعلى كل حال، نتناول دراسة المسائل المعنية على أساس كلا الأصلين، ولكن قبل الدخول في صلب الموضوع لابد من عرض ايضاح حول أصل نظرية ولاية الفقيه ومفاد أدلتها.
أدلة ولاية الفقيه
يُقسم دليل إثبات ولاية الفقيه الجامع للشرائط عموماً إلى قسمين: عقلي ونقلي.
الدليل العقلي
نظراً لضرورة وجود الحكومة من أجل تلبية حاجات المجتمع ومنع وقوع الفوضى والفساد واضطراب النظام، وبما ان أحكام الإسلام لا تختص بعهد الرسول (ص) والأئمة (ع) وإنما يجب تطبيقها في كل العصور، من هنا يمكن اثبات ولاية الفقيه بدليلين هما:
أولاً: عندما يتعذر تحقيق المصلحة بشكلها المثالي المطلوب، يجب حينذاك احراز المرتبة الأدنى من الحد المطلوب. وفي المسألة المعروضة امامنا حينما يحرم الناس من المصالح التي توفرها لهم حكومة الإمام المعصوم يجب عليهم السعي لنيل المرتبة التالية لها؛ أي يجب عليهم تبني حكومة من هو أقرب إلى الإمام المعصوم. وهذا القرب يتبلور في ثلاثة أمور أصلية، هي:
أ ـ العلم بأحكام الإسلام العامة، وتلك هي الفقاهة.
ب ـ الجدارة الروحية والأخلاقية بحيث لا يقع تحت تأثير الأهواء النفسية والترغيب والترهيب، وتلك هي التقوى.
جـ ـ الكفاءة والقدرة على تدبير شؤون المجتمع، وهذا يستلزم توافر خصال فرعية من قبيل الوعي السياسي والاجتماعي، وفهم القضايا الدولية، والشجاعة في التصدي للأعداء والمفسدين، والحدس الصائب في تحديد الأولويات والشؤون الأكثر أهمية، وما شابه ذلك.
إذن يجب أن يتصدى لزعامة المجتمع من تتوافر فيه هذه الشروط أكثر من غيره من الناس، وهو الذي يخلق الانسجام بين أركان الحكومة ويسوقها نحو الكمال المنشود.
وتعيين مثل هذا الشخص يقع طبعاً على عاتق ذوي الخبرة، كما هو الحال في سائر جوانب الحياة الاجتماعية.
ثانياً: ان الولاية على أموال وأعراض ونفوس الناس من شأن الله تعالى، وتتخذ صيغتها الشرعية بتنصيب وإذن منه. ونحن نؤمن انه منح هذه السلطة القانونية للرسول الكريم (ص)، وللأئمة المعصومين (ع)، ولكن عندما يُحرم الناس من القائد المعصوم، فإما ان يكون الباري تعالى قد أذن للناس بالانصراف عن تطبيق الأحكام الاجتماعية للاسلام، أو أنه أجاز لأصلح الناس تطبيقها لكي لا يستلزم ذلك ترجيح المرجوح عليه ونقض الغرض المطلوب، وما هو مخالف للحكمة.
ونظراً لبطلان الفرض الأول، يثبت لدينا الفرض الثاني؛ أي اننا نستشف عن طريق العقل ان مثل هذا الإذن قد صدر من الله تعالى ومن الأولياء المعصومين وان لم يصلنا دليل نقلي واضح في هذا الخصوص. والفقيه الجامع للشرائط هو ذلك الفرد الأصلح الذي يعرف أحكام الإسلام أكثر من غيره، ويتصف أيضاً بضمانة أخلافية أكثر من أجل تطبيق تلك الأحكام، كما انه أكثر كفاءة من غيره في ضمان مصالح المجتمع وتدبير شؤونه.
إذن نستشف شرعية ولايته عن طريق العقل، مثلما الحال في الكثير من الأحكام الفقهية الأخرى، وخاصة في الشؤون الاجتماعية التي تثبت لدينا صحتها عن هذا الطريق (أي طريق الدليل العقلي).
الأدلة النقلية
وهي عبارة عن الروايات الدالة على ارجاع الأمة إلى الفقهاء للنظر في متطلباتهم الحكومية، وخاصة الشؤون القضائية والمنازعات، أو تلك التي تسمي الفقهاء بصفة "الامناء" أو "الخلفاء" أو "ورثة الأنبياء" ومن بأيديهم زمام الأمور. وقد انجزت بحوث وفيرة عن سندها ودلالتها لا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيلها، ويمكن الرجوع إلى الكتب والرسائل المختصة في هذا الحقل.
ومن بين تلك الروايات مقبولة عمر بن حنظلة، ومشهورة أبي خديجة ، والتوقيع الشريف للامام صاحب الزمان (عج)، وهي ذات سند معتبر، ومن غير المسوغ التشكيك في سند أمثال هذه الروايات التي تتسم بشهرة الرواية والفتوى. ودلالتها واضحة على تنصيب الفقهاء كنواب عن الإمام المقبوض اليد في تصريف الأمور؛ وان لم تكن الحاجة لمثل هذا التنصيب في زمن الغيبة أكثر، فهي لا تقل عنها.
إذن يثبت لدينا نصب الفقيه في زمن الغيبة بدلالة "الموافقة". كما ان احتمال تفويض تنصيب ولي الأمر إلى الناس في زمن الغيبة لا يقوم عليه أدنى دليل، كما انه يتنافى مع التوحيد في الربوبية التشريعية، ولم يقل به أي فقيه شيعي (إلا في الآونة الأخيرة) ولا حتى من باب الاحتمال.
وعلى أية حال تعتبر الروايات المار ذكرها مؤيدات جيدة لتعضيد الأدلة العقلية.
يتضح إذن في ضوء هذا المبدأ ان البيعة لا دور لها أبداً في شرعية ولاية الفقيه، مثلما انها مجردة أيضاً عن أي دور في شرعية حكومة الإمام المعصوم. وإنما توفر بيعة الناس الأرضية لإنزال مبدأ الولاية إلى حيز التنفيذ، ولا عذر للحاكم الشرعي مع وجود البيعة للاعتزال عن تدبير شؤون المجتمع، وهو ما يشير إليه قول أمير المؤمنين (ع): "لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر…"[8].
وهنا يخطر سؤال مفاده: بأية صورة حصل تنصيب الولي الفقيه من الله تعالى ومن الإمام المعصوم؟ وهل مقام الولاية لكل فقيه جامع للشرائط بالفعل؟ أم انها لفرد خاص دون غيره؟ أم لمجموع الفقهاء في كل عصر؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي القول: إذا كان المستند الأساسي هو الدليل العقلي، فمقتضاه واضح؛ لأن نصب الفقيه الأفضل من حيث الكفاءة الإدارية ومستلزماتها ومن لديه القدرة على إدارة دفة شؤون جميع مسلمي العالم عبر تعيين الحكام والولاة المحليين، أقرب إلى المشروع الأصلي لحكومة الإمام المعصوم، وهو أقدر على تحقيق الهدف الإلهي القاضي بوحدة الأمة الإسلامية وحكومة العدل العالمية. ولكن فيما لو انعدمت الظروف العالمية المناسبة لإقامة مثل هذه الدولة الواحدة، فيجب النزول إلى صيغ أخرى مع مراعاة الأقرب فالأقرب.
ولكن لو كان المستند الأصلي له هو الروايات؛ فمع ان مقتضى إطلاقها يفيد ولاية كل فقيه جامع للشرائط، ولكن بما ان روايات أخرى أكدت على تقديم الأعلم، كالحديث النبوي المشهور[9] وصحيحة عيص بن قاسم، لهذا السبب نصل إلى مفاد نفس تلك الأدلة العقلية.
السؤال الآخر الذي يُثار هنا هو: إذا لم يوجد الشخص الأفضل في جميع الجوانب، فما الذي ينبغي عمله؟
وجواب ذلك هو ان الأفضل نسبياً يجب أن يتصدى لأداء هذه المسؤولية، وعلى الناس القبول بولايته. وفروع هذه المسألة تتسع طبعاً للكثير من البحث، وتتطلب بحثاً مستأنفاً.
النتيجة
نعود هنا للإجابة عن الأسئلة التي أثرناها في بداية البحث وهي:
مفاد السؤال الأول هو: إذا كان بلد إسلامي واحد يحكمه نظام ولاية الفقيه، فهل يجب على المسلمين الذين يعيشون في بلدان غير إسلامية إطاعة أوامره الحكومية أم لا؟ (طبعاً فيما إذا كانت أوامره تشملهم أيضاً).
جواب هذا السؤال وفقاً للمبدأ الأول (أي ثبوت الولاية بالتعيين أو باذن الإمام المعصوم)، واضح؛ لأنه على فرض احراز أفضلية الفقيه المذكور للتصدي لمقام الولاية، ووفقاً للأدلة العقلية والنقلية، يحق لمثل هذا الشخص الولاية على الناس، ويكون أمره نافذاً على كل مسلم ويجب عليه تنفيذه. اذن فطاعته واجبة أيضاً حتى على المسلمين المقيمين في الدول غير الإسلامية.
اما في ضوء المبدأ الثاني الذي ينص على توقف ولاية الفقيه على الانتخاب والبيعة، فيمكن القول ان انتخاب أكثرية الأمة أو أكثرية أعضاء الشورى أو أهل الحل والعقد يعتبر حجة على الآخرين أيضاً. وهذا مما يقره العقل وربما تؤيده بعض الأقوال النقضية الواردة في نهج البلاغة[10] والتي تنظر بعين الاعتبار لبيعة المهاجرين والأنصار. وهذا يعني ان طاعة الولي الفقيه، وفقاً لهذا المبدأ، واجبة أيضاً على المسلم المقيم في البلاد غير الإسلامية، سواء بايع أم لم يبايع.
ولكن قد يُقال ان هذا الانتخاب وهذه البيعة معناها تفويض الصلاحية من قبل المبايِع للمبايعَ له ضمن اتفاق معين، ومن هنا تجب طاعة الولي الفقيه على من بايعه فقط، وهي غير واجبة على المسلمين خارج تلك الدولة، بل ولا على المسلمين الذين لم يبايعوه في داخل تلك الدولة، إلا ان حكم العقل ليس ثابتاً ولا قاطعاً في مثل هذه المسألة، كما هو الحال في الآراء الجدلية التي لا يراد من ورائها إلا اقناع أو إلزام الخصم.
اما السؤال الثاني فكان مفاده: إذا كانت هناك دولتان إسلاميتان، إحداهما فقط تُساس بنظام ولاية الفقيه، فهل طاعته واجبة على المسلمين الذين يعيشون في دولة أخرى أم لا؟
وجواب هذا السؤال يجري أيضاً مجرى السؤال السابق، مع فارق واحد هنا وهو إمكان افتراض صورة نادرة أخرى، وهي ان مسلمي البلد الآخر إذا كانوا يرون حكومتهم ـ اجتهاداً أو تقليداً ـ شرعية وواجبة الطاعة (حتى وان كانت تُدار بنمط آخر يختلف عن ولاية الفقيه)، يكون واجبهم الظاهري هنا طاعة حكومتهم، وليس طاعة الولي الفقيه الذي يحكم في بلد آخر.
وأما السؤال الثالث فهو: إذا أقام أهالي دولتين إسلاميتين أو أكثر ولاية فقيه خاصة بهم، فهل يعتبر حكم أي من الفقهاء الحاكمين نافذاً على أهالي البلد الآخر أم لا؟
الإجابة عن هذا السؤال تستلزم مزيداً من التأني، وسبب ذلك يعود إلى:
أولاً: يجب افتراض شرعية ولاية كلا الفقيهين (أو الفقهاء) وحكم كل منهم واجب الطاعة في بلده، كما سبق وأن أشرنا إلى أن وجود بلدين إسلاميين مستقلين استقلالاً تاماً ولهما حكومتان شرعيتان يقبل في حالة تعذر إقامة حكومة إسلامية واحدة. واما إذا افترضنا ان ولاية أحد الفقهاء فقط شرعية ومحرزة، فهنا نعود إلى ما عرض في المسألة السابقة.
ثانياً: يجب أن نفترض على أدنى تقدير ان حكم أحد الفقهاء الحاكمين يشمل أيضاً المسلمين المقيمين في بلد آخر، وإلا فلا يصدق نفوذ حكمه عليهم.
ونظراً للشرطين المذكورين أعلاه، إذا أصدر أحد الفقهاء الحاكمين أمراً عاماً بحيث يشمل المسلمين المقيمن في البلد الآخر الذي يتبع فقيهاً آخر، تكون لهذه المسألة ثلاثة احتمالات على الأقل؛ لأن الحاكم الآخر اما يؤيده، أو ينقضه، أو يسكت ازاءه.
فإذا أيد الحاكم الآخر الحكم المذكور، فلا نقاش في هذا الصدد، لأن هذا يعتبر بمنزلة إصدار حكم مشابه من قِبَله ويجب تنفيذه طبعاً. وأما إذا نقضه ـ ولابد أن يكون نقضاً معتبراً طبعاً يستند إلى بطلان ملاك ذلك الحكم بشكل عام، أو القول بعدم نفاذه على أبناء دولته ـ ففي هذه الحالة لا يكون للحكم المنقوض أي اعتبار عند أهالي دولته، إلا إذا أوقن أن النقض الوارد لم يكن صحيحاً. اما إذا اختار الصمت إزاء الحكم المذكور، فتكون الحالة هنا وفقاً للأصل الأول في اعتبار ولاية الفقيه (حيث يكون التعيين من قبل الإمام المعصوم)؛ أي تجب طاعته حتى على الفقهاء الآخرين، مثلما ينفذ حكم أحد القاضيين الشرعيين على القاضي الآخر وعلى نطاق الدائرة التي يقضي فيها.
وأما إذا نظرنا إلى المسألة في ضوء الأصل الثاني، فيجب القول حينها أن حكم كل فقيه نافذ على أهالي دولته فقط (بل وعلى من بايعه منهم فقط) ولا اعتبار له على الآخرين. ولا مجال هنا للتمسك بدليل العقل.
وأما على فرض مبايعة المسلمين المقيمين في بلد ما للفقيه الحاكم في بلد آخر، فهذا يعتبر في الحقيقة بمثابة انسلاخ من الانتماء إلى البلد الذي يقيمون فيه واختيار الانتماء إلى البلد الذي بايعوا الولي الحاكم فيه. ولا تدخل هذه المسألة في صلب موضوعنا هذا.
__________________
[1] راجع في هذا المجال كتب القانون والقانون الدولي.
[2] إمام الحرمين الجويني، كتاب الارشاد، نقلاً عن: نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ص 322، 326.
[3] القاضي أبو يعلي، الأحكام السلطانية، ص 20، 23؛ وابن قدامة الحنبلي، المغني، ج10، ص 52؛ والنووي، المنهاج، ص518؛ والدكتور وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، ج6، ص682.
[4] الكليني، الكافي، ج1،ص178؛ والمجلسي، بحار الأنوار، ج25، ص16و 107؛ وعيون أخبار الرضا، ج2، ص101؛ وعلل الشرائع؛ ج1، ص254.
[5] الكليني الكافي، ج1، ص 67، وج7، ص412.
[6] وسائل الشيعة، ج 18، ص98؛ اصول الكافي، ج1، ص67؛ التهذيب؛ ج2، ص218، 301.
[7] نهج، الخطبة 173، والرسالة6؛ وشرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد) ج4، ص17.
[8] نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.
[9] البرقي، المحاسن، عن رسول الله (ص) انه قال: "من أمّ قوماً وفيهم أعلم منه أو أفقه منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة". وأيضاً راجع نهج البلاغة، الخطبة173؛ ووسائل الشيعة، ج1، ص35؛ وتحف العقول، ص 375، وكتاب سليم بن قيس، ص148.
[10] نهج البلاغة، الخطبة 173، والرسالة6؛ وشرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج4، ص17.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية