مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

عقبات في طريق التبليغ الإسلامي المعاصر
نهى عبد الله[*]


(قراءة في خطاب الإمام القائد الخامنئي)
تقديم:
تطور مفهوم التبليغ الإسلامي التاريخي, من المصطلح القرآني, الخاص بتبليغ النبي رسالات ربه, إلى مفهومه الإسلامي المعاصر، الذي يشمل تصدي العلماء, وغيرهم من المعنين بهذا الأمر؛ لتبليغ الدين.
ولكن هذا المفهوم المعاصر, ما زال حديث العهد من حيث البحث والتحقيق، رغم أنّه قديم العهد من حيث التطبيق.
فكل ما قدم حديثاً من دراسات أو تنظير في هذا المجال، هو عصارة ما قدمته تجارب المبلغين, ونتاج تطبيقهم العملي الطويل. فجاءت هذه الدراسات والقراءات المختلفة, بناءً على نتائج ممارسة التبليغ عملياً. أما الشق العلمي, استمد روحه من المفهوم القرآني للتبليغ, ومن سيرة الأئمة (عليهم السلام), وأقوالهم المأثورة.
- فهل حققت عملية التبليغ, الإسلامي توازناً مثالياً بين أساسها النظري والتطبيقي؟ وهل نضجت بما يكفي؟
- ما هي المشاكل التي تعترض طريق المبلغ؟
- وما هي مناشئها؟
يحاول هذا العرض قراءة بعض المشاكل, ومعرفة بعض الأسباب التي تقف خلفها, بالاستناد إلى كلمات السيد عليّ الخامنئي؛ لأنّ خطابه المتعلق بهذا الموضوع يمثل قراءة ً حيّة, خاضتها ساحة إسلامية بمختلف جهاتها ومراكزها. ويستعرض المقال مفهوم التبليغ الإسلامي ومرتكزاته وعناصره؛ تمهيداً لعرض المشاكل والعقبات, التي قد تشمل هذه العناصر, ثم طرح بعض الحلول.
*معنى التبليغ وتطوره:
يعني التبليغ بشكل عام: نقل مفاهيم معينة, والعمل على جذب نظر الناس والتأثير بهم؛ لبنائهم طبقاً لهذه المفاهيم للوصول إلى تحقيق أهداف مختلفة على الصعيد المعرفي والعقلي والروحي والعقيدي والسلوكي والاجتماعي وربما اقتصادي… بغض النظر عمّا تحمله هذه المفاهيم من قيم أو حقيقة أو جزء الحقيقة[1]. هذا المعنى تستخدمه وسائل الإعلام العالمية، لكن يحوي التبليغ الإسلامي مضموناً خاصاً ومختلفاً عن مفهوم التبليغ العام، وللتوضيح:
التبليغ الإسلامي هو دعوة الأشخاص لهدايتهم, عبر الاعتقاد بمفاهيم خاصة تحمل قيماً وحقيقةً كاملة, فهو لا يكتفي بنقلها إليهم، بل العمل على جذبهم إليها وهو فحوى الدعوة, اعتماداً على تأثرهم بها عقيدياً وروحياً، "فالتبليغ القرآني يعني توصيل الحقيقة إلى أذهان الناس وإخراجهم من الجهل"[2].
يلاحظ مما تقدم:
1. أنَّ التبليغ هو عملية إيصال ونقل المفاهيم. وهذا يعني اشتراط توفر هذه المفاهيم لنقلها. والمقصود، هي المفاهيم والمضامين الإسلامية المستوحاة من المصادر الأساسية للدين.
2. تضمَّن التعريف السابق، العملَ على التأثير في الشخصية وبنائها. وهذا يستلزم معرفة الشخصية ومواصفاتها ومرحلتها ومشاكلها ونقاط التواصل والتفاهم معها.
3. أنَّ بناء الشخصية يجب أن يكون طبقاً للمفاهيم الأساسية في الإسلام. فيجب أن تحتوي عملية التبليغ على الصفاء التام ووضوح الصورة المعطاة؛ لذلك، يجب بادئ ذي بدء أن تصان هذه المفاهيم بشكل صحيح، وأن تُتناول صافية نقية؛ لتصل بنسبة النقاء نفسها إلى الشخصية الإنسانية، وتَعمل على التأثير بها.
4. أنّ عملية التبليغ عملية مقصودة ومدروسة، ويجب أن تبنى على أسس دقيقة ومتينة؛ لخدمة أهداف عليا مختلفة, فتبني الإنسان من كل جوانبه وأبعاده, وأن دورها هو تلبية احتياجاته المختلفة.
* بعض الأركان الأساسية في عملية التبليغ:
قد يتضح مما سبق بعض الأركان والمرتكزات الأساسية للتبليغ. لكن ما يجب توضيحه هو أن هناك مرتكزات أساسية ثابتة لا تتغير، وهناك مرتكزات أساسية أيضاً وهامّة لكنَّها متغيرة؛ بسبب أنَّ عملية التبليغ متغيرة بطبيعتها, ومتأثرة بالتطور الإنساني والتطور التاريخي، الذين يسببان تطوُّراً معرفياً وثقافياً وتكنولوجياً وعلمياً وسياسياً... ممَّا يؤثر على التطبيق والوسائل والمنطلقات لعملية الاتصال والتواصل بين المُبلغ والمتلقي, وأهم هذه المرتكزات الثابتة هي:
1- البناء الصحيح لشخصية المبلِّغ: ومما يعني توفر عدة أمور في شخصية المبلِّغ، وهي:
أ- وضوح الحقائق والمعارف الإلهية وجلائها لديه، وعدم وجود الثغرات والشبهات الفكرية في معارفه.
ب- وعيه الحاجة والمشاكل الاجتماعية, وإدراكه نقاط الفراغ والنقص الفكري والتربوي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي... الذي يحتِّم دوره معالجتها. كما يجب معرفة الجوانب التي يستطيع العمل عليها، والانطلاق منها.
ج- معرفة الوسائل, والقدرة على تطويرها حسب المقتضيات المتغيرة، وغيرها من الأمور. الأهم من ذلك، توفر مستوى أخلاقي عالٍ لدى المبلغ؛ لأن ما يواجهه من تحديات، قد يحول دعوته إلى دعوة شيطانية متخصصة وماهرة وماكرة, ما لم يحفظ قدراته ومفاهيمه وأطروحاته بسورٍ أخلاقي, ودرع من التقوى الحقيقية؛ ليكون محصَّناً من تلك التحديات والمغريات. والحقيقة، إنَّ هذا الدور لا يتم بدون هذه الناحية الوجدانية؛ لأن شخصية المبلغ الحكيمة والمناسبة قائمة عليها ومرهونة بها.
فإن مهمة تبليغ الدين بأحكامه وقيمه وثقافته إلى الإنسان هي مهمة الأنبياء (عليهم السلام)، فيجب على العلماء العظام والأشراف التصدي لها والإشراف على سيرها. إذاً مهمة إعداد الداعية والمبلِّغ هي من مسؤولية الحوزات الدينية العلمية والعلماء الأشراف.
2- معرفة نوع المخاطب: إن المجتمعات تختلف أفرادها باختلاف أنماط العيش والثقافات والأثر التاريخي لكل مجتمع, وتبعاً لها تختلف التقاليد والأعراف ووسائل الإتصال والتواصل، بل تختلف أنماط التفاهم واللغات؛ لذلك يجب معرفة المخاطب بكل جوانبه وأبعاده؛ لإدراك الأولويات في العلاج، أو الوقاية أو الإشراف والمراقبة.
ومن المعروف، أنَّ الباحثين من المستشرقين يمضون أوقاتاً وفتراتٍ طويلةً يتعايشون خلالها مع الناس في مجتمعٍ معين؛ للتعرف على نمط التفكير السائد بينهم, فيدركون ما يحتل الأهمية الكبرى لدى الناس؛ ليعملوا عليه. وهذا ليس بالأمر الجديد, حيث نجد أنّ معجزات الأنبياء وآياتهم لم تتطابق، بل اختلفت وتنوعت, بحسب طبيعة القوم الذين عاش النبي بينهم.
3- تميز الهدف وتحديده ومعرفة الغايات المتفرعة عنه:
إنَّ الإخلاص في سبيل تحقيق الهدف السماوي حافزٌ كافٍ؛ لتحقيق مستوى عالٍ من الدعوة والعمل المتقن. لكن يجب معرفة أنَّ هناك غايات متغيرة يجب الوصول إليها؛ لتحقيق الهدف النهائي أو الحقيقي. فإن عدم معرفتها أو الاهتمام بها يمثلان أحد المشاكل الأساسية التي تحول دون الوصول والبلوغ إلى الهدف المنشود. والكلام عنها يأتي في محله من البحث.
يقول السيد القائد (دام ظله) في كلام له ألقاه بحضور جمعٍ من العلماء التبليغ معناه الإيصال. ونحن إذا استطعنا إيصال رسالة الله إلى القلوب, وعكسنا هذا النور الساطع على النفوس الطيبة, نكون قد أدينا مهمتنا الكبرى هذه[3]. فالهدف من التبليغ هو الهدف نفسه من وجود الإسلام والنظم التربوية الإسلامية. وهو تحقيق معنى العبودية في الإنسان لله تعالى, وعلى ضوئه ونوره الساطع تتحدد الغايات الفرعية بحسب الأولوية, منها تثبيت القيم الإنسانية, بل تنميتها داخل النفوس، والتركيز على شخصية الفرد، وإعداده لبناء مجتمع سليم في عاداته وأفكاره وطباعه ومنتجات تطوره وأحكامه وحربه وسلمه...
بعد عرض بعض أهم المرتكزات الأساسية الثابتة, يجب تميزها عن المتغيرة، التي تخضع في تغيرها هذا إلى الواقع المتغير والثقافات المتلونة, والاحتياجات المتفاوتة. وهي كثيرة جداً ومتعددة، لكن يمكن حصرها تحت عنوان الوسائل والأساليب:
الأساليب والوسائل:
أمام اختلاف المجتمعات، وثقافات شعوبها، لا يستطيع الداعي والمبلغ والمربٍّي الوقوف مكتوف اليدين, بل يجب مواكبة هذا التغير، والتفكير بحسن الاستخدام، بل التطوير الإيجابي؛ ليضمن وصل الناس بالدين من خلال المفاهيم المتعارفة لديهم، أو الأساليب التي يستطيعون التجاوب عبرها.
هذا التطور، لا يلغي الدور المؤثر للأساليب التقليدية التبليغية, بل هو يعزز جهودها ويثمرها, وهو أحد الضمانات لامتداد المفاهيم, وبقاء تأثيرها.
أما الأساليب التي يمكن استخدامها، فهي متعددة، وتنقسم إلى التقليدية والحديثة باعتبار الزمن. وتنقسم باعتبار الأسلوب إلى المباشر، كالموعظة والمحاضرات والندوات...؛ وهي ما يباشره الداعية بنفسه, فيوجه المفاهيم إلى المبلغ بدون واسطة, أما القسم الآخر فهو الغير مباشر كالقصة والرواية والفيلم و... وينقسم كل قسم إلى بياني وغير بياني باعتبار تقديم نفس الفكرة أو تقديم ملازمتها عوضاً عنها, فالمسرح أسلوب مباشر غير بياني, واللوحة الفنية كذلك. أما القصة فهي أسلوب بياني غير مباشر.
وبشكل عام هذه الأساليب لا تنتهي؛ لأنها قابلة للتشكل والتطور والتحسين، كالألوان التي تختلف بتركيبها وشدتها وضعفها وخفتها..
فهذه الأساليب مهما تنوعت هي محكومة لعدة عواملٍ؛ كالمواضع التي يتقبل الناس فيها الأساليب التقليدية أكثر من تقبلهم للحديثة, سرعة التأثير وقوته، مواضع اللين والمرونة ومواضع الشدة والحزم, مواضع القول ومواضع الفعل, ثقافة الناس - المتلقين– ووعيهم, وتقاليدهم, وأعرافهم, وخصوصيات حياتهم, وأوقاتهم.
* التبليغ المعاصر ومشاكله
عبر مطالعة سريعة لتدرج الدعوة في التاريخ واختلاف أشكالها, نجد أن الدعوة في عهدها الأول اتخذت أسلوباً غير الأسلوب الذي اتخذته بعد ذلك, واستمر التغير والتبديل حتى العصر الراهن. وذلك بسبب قهري، وهو اختلاف طبيعة وثقافة الإنسان.
لكن السؤال، هل الأساليب المتوفرة حالياً للدعوة لدى الأمة الإسلامية تتناسب مع منحى التغُّير الزماني ومستوى التطور الثقافي والعلمي والتقني؟ أم لا؟!
- لماذا نجد بعض المفاهيم المتداولة بشكل كبير لدى الناس هي خاطئة في الحقيقة ؟!
- لماذا يكون مستوى التطبيق لدى المسلمين الملتزمين، غير المفترض به أن يكون في زمن خاتم الأوصياء (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؟! بحيث يعتبر هذا العصر تمهيداً لحكومة أهل البيت (عليهم السلام) العظمى.
- لماذا ما يطرح على المنابر مخالف لما يحكم به ويطبق؟ بحيث يشعر المستمع في بعض الأحيان أن ما يطرح هو مُثل وترف فكري لا قلب له ليحي على هذه الأرض؛ ليتنفس الهواء ويرى النور.
- لماذا يوجد هذا التدهور الفكري؛ كوجود أولئك الذين يعتنقون الفكر الشيوعي في قلب الأوساط الإسلامية الملتزمة تحديدا"؟
- لماذا أصبح السفور والتبرج والتعري أصلاً والحجاب والستر والتحفظ أموراً دخيلةً؟
- كيف انقلبت هذه المفاهيم؟
- لماذا أصبح التعامل داخل نطاق الأخلاق وسماحة النفس أمراً نادراً, موقوفاً على تبادل المصالح؟
- لماذا نسمع من أذن واحدة ونصمَ الأخرى عن السمع ؟
- ما هي أسباب التوتر, وضعف الشخصي, وعدم الثقة بالنفس, والاكتئاب, والعصبية والغضب؟ هذه الأمور التي يبتلى بها مجتمعنا.
- لماذا تفضل العلم عن الدين, وتقطع يد الدين قبل وصولها إلى العلم ؟
- لماذا لا يوجد الكثير من الأسئلة التي تدور في أذهان الطلاب والشباب اليافعين الإجابة عليها؟
- لماذا نفتقر إلى حضور علماء الدين ي الوسط الفكري الاقتصادي, الفني, والاختصاص الاجتماعي والتربوي...؟ إلاّ ما ندر.
- لماذا يمل المستمعون أحياناً من الإنصات لبعض الندوات الفكرية والمحاضرات والمواعظ الدينية؟
- لماذا لا يمثل بعض العلماء قدوة للمحيطين بهم؟ بل على العكس هم محل نقد؟
والأسئلة والاستفسارات والتعجب بلا نهاية.
ربما تكون هذه صورة قاتمة جداً للمجتمع الراهن, لكنها ناتجة عن عدة أسباب. وهذا لا يعني عدم وجود صحوة ثقافية جيدة, ومفاهيم أخلاقية تربوية راقية, لكن هذه الصورة توضح الحاجة الملحّة بشدة إلى عمل جاد ومجهود مراقب. وهذه المرحلة ليست البداية، بل هي حلقة في سلسلة طويلة, نسقت حلقاتها وربطتها يد العناية الإلهية الحكيمة التي ربّت هذا الإنسان في مهد النبوة الأصيلة ورعاية الإمامة الرشيدة، ثم وعى الإنسان في زمن العلم والعقل والتأمل والتفكر والتدبر والمعرفة بالاستفادة من هذا المخزون النوري الروحي، حتى اشتد عوده في المحن والبلاءات والمواجهات والتحديات المختلفة, ظهرت خلالها ألوان البسالة والجهاد, والطروحات العلمية الراقية, فمُلئت سماء الإسلام بنجوم علماء، وصفوا بفضلهم على بعض الأنبياء.
وجاءت الثورة المباركة الإسلامية؛ لتقطف من ثمار هذه السيرة المباركة… أماّ الآن, نحن بحاجة إلى الحفاظ على هذا المخزون الروحي أولاً من يد العابثين والأعداء. ثانياً، نحن بحاجة إلى مواكبة المستجدات العلمية والتدقيق بها والإحاطة بالتقلبات الفكرية والتطورات التقنية، مما يؤثر على حسن التشخيص والتطبيق العملي الصحيح والسليم لهذا المخزون الإلهي.
وهذا السبيل مليء بالمواجهات والتحديات والعقبات, التي يمكن أن تتمحور حول محور أساس, وهو عدم توفر أحد المرتكزات الأساسية للتبليغ أو أكثرها.
فإنَّ مفهوم التبليغ هو مركب من عناصر جزئية مترابطة يجب توفرها جميعاً, بحيث يُشكّل فقْد أي عنصر منها عقبةً ومشكلةً مما يمنع من تحقق المفهوم, بالتالي لا يتحقق الهدف المنشود.
ويمكن توضيح هذه المشاكل وبعض ما يمكن علاجها به، على ضوء ما طرحه السيد القائد في بعض كلماته:
1- مشاكل على مستوى عنصر المضمون:
أ- من الواضح، أنّ المضمون في عملية التبليغ مستمد ومبني على أساس المعارف والأحكام الإلهية الصافية والحقّة. لكن المشكلة تكمن في عدم الاستفادة بشكل كبير منها, وخلو الساحة من الأبحاث التي من شأنها حلّ بعض المشكلات العصرية كحكم التشريح, وزرع الأعضاء ووهبها, فلسفة الأحكام, حاكمية الإسلام, نظريات إسلامية في الاقتصاد والسياسة والإدارة, الإسلام دين حياة أم قتل وموت, وأن تكون قابلة لتصل إلى عامة الناس؛ لأنها للتطبيق وليست للتخزين والتكديس...
ب- عدم الاستفادة من الكمّ المعنوي الروحي في الدين, الذي من شأنه معالجة حالات التدهور العصبي وحالات الغضب والتوتر, وهذه حاجة ملحة, خصوصاً في المجتمعات التي عاشت أزمات التوتر واللا أمن من جرَّاء الحروب والنزاعات الخارجية والداخلية, إلى درجة أنَّ تناول الأقراص المهدئة أصبح أمراً اعتيادياً في مجتمعنا, ولا تكاد تخلو أسرة من تعاطي أحد أفرادها هذه الأقراص.
كما توجد ظاهرة طبيعية جداً، وهي حلّ مواقف النقاش والتفاهم بين الناس بالصراخ والغضب والتوتر.
الطفل يصرخ مقلِّداً الكبار في وجه والديه ملحاً في طلباته. ويتبادلون رذيل الكلام في الأسرة بشكل طبيعي.
في الحياة اليومية, لا يتأثر الناس كثيراً إذا ما سمعوا صراخاً عالياً؛ لأنها أصبحت لغةً للتفاهم فيما بينهم.
هذه مشاكل إنسانية كبرى أدت إلى تفاعل المراهقين وتجاوز ردات فعلهم تجاه الموجهين والأساتذة الحد الأدنى من الاحترام والأدب. وهذا الانحراف بسبب عدم الارتواء الروحي والعاطفي.
ج- إن هذا النقص الروحي سبب فراغاً فكرياً كبيراً، كان بمثابة ثغرة، دخلت منها الثقافات الغربية، الأجنبية عن الإنسان وعن الدين؛ لأن الإنسان بطبعه، إن لم يتأثر بالحسن تأثر بالردىء لا محالة. والعكس صحيح, إن لم يفسد قلبه شيء, يبقي هذا الجزء صافياً نقياً. وربما يكون هذا سبباً مباشرا ًفي ظهور تلك الجماعات المنحرفة مثل (عبّاد الشيطان)، وتسربها إلى البلاد العربية وبعض المجتمعات الإسلامية.
2- مشاكل على مستوى المبلِّغ: وهي الأسوأ والأخطر؛ لأن المبلِّغ هو قُطب العملية التبليغية وهو المؤثر في جميع الحالات، إما إيجاباً وإما سلباً.
أ- أخلاقه: إنَّ الجانب الخُلقي، هو الحصن لجميع طاقاته وإمكاناته. والمشاكل تكمن في التساهل في إيصال بعض المفاهيم؛ بسبب الخلل الأخلاقي، أو الجهل بأمر ما أو الخجل من التصريح به, مما يؤدي إلى نشوء خلل وتشوه فكري لدى الناس. ويعبر سماحة السيد الخامنئي عن الجهل والتساهل أنهما آفتان تسببان الكوارث[4]. فيجب الالتفات ومحاولة علاجهما.
ب- المهارات:
- إنّ عدم اكتساب المبلِّغ لغة القوم المخاطبين، وعدم معرفته بطبيعتهم يسببان خلطاً بين الأمور وعدم وضوح الصورة المعطاة.
- عدم استخدام السبل المناسبة والوسائل الكفيلة بإيصال المفاهيم بشكل صحيح, كالتركيز على الأساليب التقليدية في مجتمع عملي كادح. حيث يضيق الوقت وتقل القدرة على التركيز والإنصات المستمر.
- عدم طرح المضمون المهم والجانب المناسب, كالتركيز على الجانب الشرعي في حين أنَّ الأمة - مثلاً - تمر في أزمة سياسية حادة تحتاج إلى التوجيه والتحليل.
- عدم التشخيص الصحيح للمواقف والمشاكل المواجهة.
3- مشاكل على مستوى عنصر المخاطب:
- عدم تحديد نوعية المخاطب يشكل مشكلة حقيقية. حيث أن الأمة تبني قوتها من الشباب, والواقع يسجل انحرافاً في هذه الشريحة بشكل كبير.
- عدم مخاطبة الطفل أيضاً بشكل خاص ومكثف هو عامل لهدم الطفولة, وهي مرحلة هامة لرسم أول معالم شخصية الإنسان وثقته بنفسه, وبناء الأحلام التي تشكل حافزاً له على النشاط والإنتاج والتفاعل مع محيطه.
- عدم توفر الخطاب لأصحاب الثقافة العامة, والمتخصصة, والمبدعة بشكل متوازن ومتكامل. بل نجد أن أكثر ما قُدم هو للثقافة العامة, أما المتخصصة فهو نادر.
4- مشاكل على مستوى الهدف:
- عدم تحديد الهدف بشكل واضح, أو تحديد هدف محدود.
- عدم تميز الهدف عن الغايات الفرعية أو الثانوية. مثلاً، يجب أن يلاحظ في دعوة الفتاة السافرة التدرج من أمر إلى آخر, مثلاً تحفظها في التعامل مع الأجانب, ثم بناء المرتكزات العقيدية والشرعية شيئاً فشيئاً, فالالتزام بترك المحظورات والستر المقبول؛ للوصول إلى فتاة ملتزمة دينياً صالحة فكرياً ونفسياً وروحياً، فلا يمكن بلوغ الهدف النهائي دون المرور بالغايات الفرعية، وتحقيق المقدمات لها.
5- مشاكل عامة:
1- التأخر عن متطلبات العصر وعدم مواكبتها.
2- عدم الاستفادة من الطاقات الإنسانية بشكل كاف.
3- عدم التصدي للنظريات الفكرية العصرية المنحرفة بشكل قوي.
4- صعوبة توفر مبلغين للخارج، قادرين على التواصل على مستوى اللغة والثقافة والدينية والدراسة الاجتماعية الواعية.
5- غياب طلاب العلوم الدينية عن مشاكل عصرهم ومجتمعهم.
6- تعود الناس على التطبيق الأعمى للسابق، بحيث يشكل مانعاً للفهم الحقيقي الواعي للأمور.
7- عدم التنسيق بين الجهات التبليغية فيما بينها، والاختلاف في المنطلق والغاية والأسلوب.
8- رواج الثقافات الفاسدة من داخل وخارج المجتمع الإسلامي.
9- طرح الثانويات وتقديمها على الأولويات, وعدم ربط الواقع مع حاجة الناس.
10- التحديات والمغريات المادية المفروضة على شخص المبلغ.
* بعض الحلول المطروحة:
إنَّ العلاج أو الحل يكمن في نقطتين أساسيتين، هما:
أ- الوقاية
ب- الإبداع والتطوير
أ- الوقايـة:
1- التنبه للنقاط التي يركز عليها العدو ويحاربها، حيث يعتبر السيد القائد هذا الاهتمام كإحدى الخدمات التي يقدمها لنا الأعداء[5]، في لفت نظرنا إلى أنها نقاط حساسة في التأثير.
2- شن هجوم مضاد؛ وهو تبيين الحقائق الإسلامية, وتوضيح المفاهيم بكل أبعادها العقيدية والشرعية والأخلاقية والروحية، إحياء التراث والاستفادة منه, فهذا من شأنه سدّ الفراغ الفكري، والإجابة الكلية عن الأسئلة الجزئية, وسدّ الطريق على الدخيل من الأفكار، وشحن الجانب الروحي وإرساء السكينة والطمأنينة لدى الناس، ونشر الثقافة بكل تفاصيلها في كل تفاصيل الحياة.
3- إعداد المبلغين، والحرص على تملك التقوى والزهد في نفوسهم قبل كل شيء. صياغة المناهج والأساليب في الدعوة والتبليغ وتوسيع مداركها, ورفع مستوى التخطيط والبرامج على أساس المعرفة بالتيارات الفكرية السائدة, وتعلُّم اللغات الحية.
4- الدراسة المعمقة لطبيعة الإنسان وموارد تأثره.
ب- الإبداع والتطوير:
- يكمن في الاستفادة من المضمون, والوسائل بحيث يكون المبلغ قادراً على الابتكار والإبداع في استخدام شتى الوسائل، حسب وعيه للمستجدات. والتركيز على عامل شدة التأثير ومساحة المتأثر ومدى التغطية, وخلق الإبداع في الكلمة, والمنظر، والفعل, والفيلم, والموسيقى... بحسب المعيار الإسلامي الشرعي.
- التركيز على إتقان العمل من كل جوانبه, كالبلاغة في القول, والجمال في الرسم... أن يشمل عنصر الفن بشكل عام.
- الاستفادة من قوة المنبر الحسيني وسره، وإعداده للتوجيه والبناء والإصلاح كما أراد سيد الشهداء (عليه السلام). بالإضافة إلى تنمية التحليل السياسي والعمل الجماعي وإعداد المؤتمرات بمشاركة جميع الجهات المعنية؛ لصياغة أسلوب فكري متناسق ومناقشة المستجدات والمشاكل في الدعوة، والعمل على حلّها. بل يجب العمل على دراسة النظريات المطروحة في المصادر الإسلامية الأساسية؛ للخروج بنتائج مساعدة عبر الاجتهاد والتحليل وتقريب المفاهيم.
استهدفت هذه الإطلالة طرح بعض المشاكل التي تقف في طريق التواصل الإسلامي، لكنها ما زالت تحتاج إلى ترشيد ونقد وتوجيه في قراءتها وتحديدها.
_____________________
[*] متخرجة في المعهد.
[1] يراجع: خطاب للسيد علي الخامنئي، خلال لقائه مبلِّغي الحزب الجمهوري الإسلامي، في 1/4/1361 هـ-ش. نقلاً عن: (لا. مؤلِّف): التبليغ في الإسلام (في كلمات وتوجيهات الإمام الخامنئي). ط1، مركز بقية الله الأعظم (عجل الله فرجه الشريف) للدراسات والنشر، بيروت، 1999م. ص24.
[2] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[3] يراجع: من كلام القائد، بمناسبة قدوم شهر رمضان، بتاريخ 24 شعبان 1419هـ، طهران. نقلاً عن الخامنئي, علي: التبليغ أمانة إلهية. ملزمة مصوّرة، إعداد مركز التخطيط في معهد السيدة الزهراء(عليها السلام) بيروت, ص2.
[4] يراجع: الخامنئي، التبليغ أمانة إلهية، م.ن، ص2.
[5] يراجع: المرجع نفسه، ص163.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية