مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

مطارحات علمية حول نظرية ولاية الفقيه
الشيخ حسن الممدوحي


مقدمة
طرحت فكرة ولاية الفقيه على الصعيد الفقهي في فترة متقدمة من تاريخ الفقه، كما ورد التعبير بالحاكم والسلطان العادل في كثير من الابواب الفقهية، والمراد به الامام المعصوم في حال الحضور او الفقيه الجامع للشرائط، على ما صرح به الشهيد الثاني والمحقق الكركي وفخر المحققين والمحقق القمي والسيد المجاهد (قدس سره) في بحوث: الوصية، والجزية، والولاية على الصغار.
والابواب التي ورد فيها التعرض لولاية الحاكم عديدة من الفقه، كباب: الوصايا والنفقات، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء، وجوائز السلطان، والخمس، والمتاجر، والحدود والتعزيرات، والديات، والجهاد والدفاع، والوقف، والجزية، والبيع (التصرف في اموال اليتيم)، وصلاة الجمعة، والاحتكار، واللقطة، والحجر، والرهن، والوكالة، والغصب، والقصاص، والطلاق، والمزارعة والمساقاة، والدين، واللعان، والمرتد، والايمان، والاجارات، والمفلس، وغير ذلك من الابواب التي ورد فيها الرجوع الى الحاكم ووجوب اتباع امره.
ولعل المحقق النراقي قد ارتكز في دعواه الاجماع لثبوت الولاية المطلقة للفقيه على هذا العرض الواسع لولاية الحاكم في الابواب الفقهية المشار اليها.
نعم، لم تبحث هذه المسألة بشكل مستقل في بحوث الفقهاء وابواب الفقه المختلفة، وانما بحثت في ضمن بعض المسائل والاحكام. وقد قام النراقي ــ وهو اول من بادر ــ بدراسة المسألة بشكل مستقل ومفصل نسبيا، مدعيا قيام الاجماع على ثبوت الولاية للفقيه، بل الضرورة والبداهة.
قال (قدس سره): «المقام الثاني: في بيان وظيفة العلماء الابرار والفقهاء الاخيار في امور الناس وما لهم فيه الولاية على سبيل الكلية، فنقول: ان كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه امران:
احدهما: كل ما كان للنبي (ص) والامام (ع) الذين هم سلاطين الانام وحصون الاسلام ــ فيه الولاية وكان لهم فللفقيه ايضا ذلك.
الثاني: كل فعل متعلق بامور العباد في دينهم او دنياهم ولابد من الاتيان به... والدليل على الاول بعد ظاهر الاجماع حيث نص به كثير من الاصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات، ما صرحت به الاخبار ـ ثم اورد تسع عشرة رواية على ذلك وتبعها ببيان عقلي على ذلك فقال-:
واذا اردت توضيح ذلك فانظر الى انه لو كان حاكم او سلطان في ناحية واراد السفر الى ناحية اخرى، وقال في حق شخص بعض ما ذكر (في الاخبار الواردة في شأن الفقهاء) فضلا عن جميعه وقال: فلان خليفتي، ومثلي، واميني، والكافل لرعيتي، والحاكم من جانبي، وحجتي عليكم والمرجع في جميع الحوادث لكم، وعلى يده مجاري اموركم واحكامكم، فهل يبقى لاحد شك في انه لو فعل كل ما كان للسلطان في امور رعية تلك الناحية الا ما استثناه، وما اظن احدا يبقى له ريب في ذلك، ولا شك ولا شبهة.
ولا يضر ضعف الاخبار بعد الانجبار بعمل الاصحاب، وانضمام بعضها ببعض، وورود اكثرها في الكتب المعتبرة»[1].
ثم قال: «ان الامور التي هي وظيفة الفقهاء ومنصبهم ولهم الولاية فيه كثيرة ونذكر بعضها» ثم ذكر منها احد عشر موردا هي:
1ــ الافتاء.
2ــ القضاء.
3ــ الحدود والتعزيرات.
4ــ اموال اليتامى.
5ــ اموال المجانين والسفهاء.
6ــ النكاح.
7ــ ولاية الايتام والسفهاء.
8ــ استيفاء الحقوق.
9ــ التصرف في اموال الايتام.
10ــ كل فعل ثبت مباشرة الامام له من امور الرعية.
11ــ كل فعل لابد من ايقاعه لدليل عقلي او شرعي[2].
ثم بين ان تلك القاعدة الكلية التي اشرنا اليها في كلامه تبتني على اصلين:
الاول: ان كل امر يرتبط بامور المجتمع الاسلامي، لابد وان يتم على يد الحاكم، ولابد ان ينصب الشارع الرؤوف الحكيم عليه واليا وقيما.
الثاني: ان كل من يمكن ان يكون وليا ويحتمل ثبوت الولاية له، يدخل فيه الفقيه قطعا... فكل من يجوز ان يقال بولايته يتضمن الفقيه.
والمتحصل من جميع كلامه (قدس سره): ان الله تعالى لم يكل امر عباده الى احد، ولم يجعل لاحد على احد ولاية؛ لعدم امتياز احد منهم على احد، فالجميع سواسية، بيد انه سبحانه قد اقام في بعض المسائل الاجتماعية المستعصية والتي لا يقوى العباد على حلها قيما ووليا لتنفيذ حكمه سبحانه وتطبيقه، وقد صرح بذلك في اول بحثه قائلا: «ان الولاية من جانب الله ثابتة لرسوله واوصيائه المعصومين (ع)، وهم سلاطين الانام، وهم الملوك والولاة والحكام، وبيدهم ازمة الامور»[3] وقد اقاموا (ع) في حال غيبتهم نائبا ووليا على الناس.
وممن بحث المسألة من الفقهاء ــ في موارد عديدة واكثر تفصيلا ــ المحقق النجفي صاحب الجواهر حيث بحثها مفصلا في بحث الامر بالمعروف والنهي عن المنكر[4] ثم قال في آخر بحثه: «فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك (اي اقامة الحدود والاذن في الجهاد والدفاع و... الخ) بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئا ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم امرا ــ الى ان قال: ــ وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج الى ادلة»[5].
ونظيره في دعوى البداهة والضرورة ما افاده السيد البروجردي (قدس سره) على ما في تقريرات درسه ــ حيث قال: «اتفق الخاصة والعامة على انه يلزم في محيط الاسلام وجود سائس وزعيم يدبر امور المسلمين، بل هو من ضروريات الاسلام، وان اختلفوا في شرائطه وخصوصياته وان تعيينه من قبل رسول الله (ص) او بالانتخاب العمومي»[6].
اثارات ومناقشات حول ادلة ولاية الفقيه
حاولنا في هذا المقال تسليط الضوء على ما اثاره الاستاذ مهدي الحائري (رحمه الله) من مناقشات لادلة المحقق النراقي (قدس سره) في اثبات ولاية الفقيه، فقد كتب في رسالة تحت عنوان "الحكمة والحكومة" ذهب فيها الى ان مفهوم الحكومة ليس مفهوما حقوقيا بمعنى الحاكمية والسلطة، بل مفهوم اخلاقي منتزع من الحكمة العملية، بمعنى ان ينبري الناس الى انتخاب شخص من بينهم لادارة امورهم الاجتماعية مع مراعاة الضوابط والمعايير الخلقية في ذلك، من دون ان يكون له ولاية وقدرة وامر ونهي.
وبعبارة ثانية: انه لا يراد من الحكومة المعنى المصطلح لها من الحاكم والحكومة، بل هي امر خلقي في العلاقات الاجتماعية.
واما المناقشات والاشكالات التي اثارها المرحوم الحائري فهي:
الاشكالية الاولى
حول التوقيع الشريف المروي عن الامام المهدي عجل الله فرجه، والذي رواه الشيخ الصدوق في اكمال الدين بسند متصل، والشيخ الطوسي في كتاب الغيبة والطبرسي في الاحتجاج والحر العاملي في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن اسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري ان يوصل لي كتابا قد سئلت فيه عن مسائل اشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه: «اما ما سألت عنه ارشدك الله وثبتك ــ الى ان قال ــ واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله»[7].
وقد ذكر الشيخ الاعظم الانصاري (قدس سره) ان من جملة من له الولاية في التصرف باموال الغير، هو الحاكم اي الفقيه الجامع للشرائط، وقد تمسك (قدس سره) بهذا التوقيع الشريف، معتبرا ان المراد من الحوادث الواقعة فيه هو مجموع الامور التي لا يسوغ لعامة الناس توليها، وليس المراد بها المسائل الفرعية[8].
وقد اورد المناقش على الاستدلال بهذا التوقيع بما حاصله:
ان معنى الحجة الوارد في الحديث لا علاقة له بالحكومة، فان الحجة هي ما يحتج به المولى على العبد، وما يحتج به العبد على المولى. واي ربط لاحتجاج المولى والعبد بامر الحكومة وادارتها؟! فان مسائل السياسة هي امور جزئية ومتغيرة في حين ان فتوى الفقيه ثابتة وكلية.
والجواب:
اولا: ان الحجة تأتي بمعنى القصد، واطلاقها في البرهان على الحد الاوسط باعتبار ان احد الخصمين يقصد اثبات مدعاه للآخر، وبهذا المعنى ايضا تطلق على القياس البرهاني وعلى الشاهد والظن، والمراد في الجميع الغلبة على الغير.
ثانيا: انه قد ورد في التوقيع الشريف قوله (ع): «فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله» فقد اعتبر الفقيه حجة قاطعة في جميع المجالات، بما هو اعم من الاحكام والقوانين والحوادث الواقعة ورفع الاختلافات وحل المشاكل الاجتماعية.
ثالثا: ان كون الفقيه حجة على الناس في الاحكام الشرعية وكون الامام (ع) حجة عليه، هو من البديهيات الواضحة التي لا حاجة معها الى ان يكرر الامام بيانها ثانية، وعليه فان تكرار الامام (ع) لهذا الامر انما هو للاشارة الى ان ما ورد في سؤال اسحاق بن يعقوب انما هو السؤال عن الحوادث الواقعة التي جهل اسحاق بن يعقوب ــ بل وحتى نائب الامام الخاص محمد بن عثمان العمري ــ كيفية العمل فيها، فاوضح الامام (ع) هنا انه حجة على الفقيه، والفقيه حجة على الناس.
الاشكالية الثانية
ان فتاوى الفقيه كلية وثابتة، ومسائل السياسة جزئية ومتغيرة.
والجواب: ان كل مجتمع فيه احكام وقوانين ثابتة ومتغيرة، وان من لوازم تطبيق القانون ان تكون في القانون احكام اولية واخرى ثانوية، والاولى تطبق في الحالات الاعتيادية فيما يكون تطبيق الثانية في الحالات الاضطرارية. وهذه الخصوصية والميزة موجودة في قوانين الاسلام وتشريعاته بارقى الدرجات.
الاشكالية الثالثة
وهي فيما تمسك به من مقبولة عمر بن حنظلة، قال: سألت ابا عبد الله (ع) عن رجلين من اصحابنا بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة ايحل ذلك؟ فقال (ع): «من تحاكم اليهم في حق او باطل فانما تحاكم الى الطاغوت، وما يحكم له فانما يأخذ سحتا وان كان حقا ثابتا له؛ لانه اخذه بحكم الطاغوت وقد امر الله ان يكفر به، قال تعالى: {يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به}[9] قلت: فكيف يصنعان؟ قال: «ينظران الى من كان منكم ممن قد روى أحاديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، فليرضوا به حكماً فاني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخف بحكم الله وعلينا ردَّ، والراد علينا كالراد علي الله، وهو حدّ الشرك بالله»[10].
ويرد على الاستدلال به: انه قد تكرر لفظ الحكم والحاكم اربع مرات، فما هو الدليل على ان المراد به هو ادارة الدولة والسلطنة؟ لابد ان يسأل من الفاضل النراقي عن مصدره في هذا الفهم من لفظ الحاكم بحيث يشمل ادارة الدولة وقيادة الجيش والقضاء.
لا شك ان من الواضح عدم شمول هذا الدليل للقضاء لاثبات قيادة الجيش وادارة الامور.
لا يقال: ان الاطلاق المذكور مستفاد من لفظ الحاكم بمعونة مقدمات الحكمة، لا انه مستفاد من اطلاق كلمة الحكم.
فانه يقال: انه لا يمكن استفادة الاطلاق من مقدمات الحكمة بحيث يثبت للفقيه جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والسلطنة.
والجواب: ان ثمة قرينة في كلام الامام (ع) ينبغي الالتفات اليها بحيث لا يبقى مجال للاشكال، وهي عبارة عن ملاحظة الآيات السابقة على الآية المذكورة في الحديث، والآيات السابقة عليها هي على ما في سورة النساء: {ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل... يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شي ء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله... الم تر الى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به}[11].
لقد ورد في هذه الآيات عدة مسائل وامور ينبغي التوقف عندها، وهي:
1ــ مسألة الامانة.
2ــ معنى اولي الامر.
3ــ معنى الطاعة لله والرسول واولي الامر.
4ــ مسألة الكفر بالطاغوت.
5ــ الطاغوت.
6ــ معنى الحاكم.
وبملاحظة هذه المفاهيم يعرف المراد من قول الامام (ع): «اني جعلته حاكما». وبيان ذلك يتم ضمن امور:
الامر الاول: الامانة:
وقد ورد في تفسيرها هنا انها بمعنى:
1ــ الاحكام الالهية.
2ــ ولاية الائمة المعصومين (ع).
وقد ورد ذلك في بعض الاخبار:
منها: ما روي عن الامام محمد الباقر (ع) قال: «اداء الصلاة والزكاة والصوم والحج من الامانة »[12].
ومنها: رواية بريد العجلي قال: سألت ابا جعفر (ع) عن قول الله: {ان الله يامركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها} قال: «ايانا عنى...»[13]. وفي معنى هذه الرواية ست روايات اخرى في نفس الباب.
الامر الثاني: الولاية:
اخرج السيوطي في الدر المنثور عن زيد بن اسلم قال: «انزلت هذه الآية في ولاة الامر وفيمن ولي من امور المسلمين شيئا»[14].
قال الشيخ الانصاري: «الظاهر من هذا العنوان «اولوا الامر» عرفا هو من يجب الرجوع اليه في الامور العامة التي لم تحمل في الشرع على شخص خاص»[15] اي ان المراد من اولي الامر من له حق الولاية والحكم الاعم من ان يكون هو المعصوم او من ينوب عنه.
الامر الثالث: وجوب الطاعة لله والرسول واولي الامر:
من الواضح انه لا يمكن ان تكون الولاية على الناس نافذة وفي نفس الوقت لا تجب الطاعة من قبلهم، كما ان العكس كذلك، فلا يمكن ان تجب الطاعة ولا يكون حكم الولي نافذا.
ولا يختص وجوب الطاعة هنا بالاحكام العبادية حسب؛ لانه قد جعل في قبال وجوب الطاعة لاولي الامر حرمة التحاكم الى الطاغوت، بل قد بلغت درجة النهي عن ذلك حتى في حالات توقف احقاق الحق على التحاكم اليه، كما اعتبر المأخوذ بذلك الحكم سحتا وباطلا، وبذلك سلبت اهلية الحكم من الطاغوت وحكم بكونها لاولي الامر خاصة؛ مما يعلم معه ان وجوب الطاعة هو فيما يرجع لامر الحكومة.
الامر الرابع: الكفر بالطاغوت:
وقد ورد التأكيد على ذلك في آيات وروايات عديدة، ومن الواضح ان الانسان كائن اجتماعي، والحياة الاجتماعية تمثل ضرورة ملحة في وجوده، وقد قال امير المؤمنين (ع): «وانه لابد للناس من امير، برٌّ أو فاجر يعمل في امرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الاجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي »[16].
وقال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت ان يعبدوها وانابوا الى الله لهم البشرى}[17].
وقال تعالى ايضا: {يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به}[18].
وقد وصف الطاغوت في آيات اخر بانه يؤثر الحياة الدنيا، وعليه فكيف يمكن تفويض امر الحكومة الى مثل هذا الفرد؟!
الامر الخامس: في معنى الحاكم:
قال في مقاييس اللغة: سمي الحاكم حاكما لانه يمنع الظالم[19].
وفي لسان العرب: والحاكم منفذ الحكم، والجمع حكام[20].
وفي المفردات للراغب: حكمت الدابة: منعتها بالحكمة[21].
وعليه فان اطلاق لفظ الحاكم على القاضي من باب الاشتراك المعنوي، اي انه استعمل في احد المصاديق. وقد قال تعالى: {يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق}[22] فرتب القضاء على الخلافة. وان من غير المعقول ان يكون للفقيه الجامع للشرائط في الاسلام ولاية على المحجور والمفلس والغريم، والحكم بمصادرة اموال المرتد الفطري والقاتل والباغي واصدار حكم القتل والحبس والتعزير، ولا يكون له في نفس الوقت دخل في الحكم وادارة الامور!
وعليه فلا تلازم بين كون القاضي حاكما وبين كونه خبيرا في الاقتصاد والسياسة وقيادة العساكر والجيوش وغيرها؛ لان وظيفة الحاكم ــ كما هو الامر في سائر الحكومات في العالم ــ التنسيق بين السلطات والمراكز المؤثرة في ادارة البلاد.
فرئيس الدولة ــ سواء كان نظام الحكم شيوعيا او رأسماليا او اسلاميا ــ يقوم بدور المنسق بين السلطات الموجودة طبقا للنظم الحاكم للدولة.
وعليه فليس من اللازم ان يتصدى الحاكم لجميع السلطات والمهام كما هو واضح.
وبذلك فان الاستبعادات المذكورة غير واردة بحال اذا لاحظنا كل واحد من الامور السابقة المذكورة.
الاشكالية الرابعة
وهي عبارة عن الاستشكال في الدليل العقلي المتقدم. وهذا الدليل يتألف من برهانين:
البرهان الاول:
(الصغرى): ان وجود النظام بحاجة الى قدرة تنفيذية.
(الكبرى): ايكال المسؤولية التنفيذية الى الشخص القادر والكفوء لذلك.
(النتيجة): ايكال حفظ النظام الى الشخص القادر والكفوء.
البرهان الثاني:
(الصغرى): الفقيه اولى بادارة المجتمع من غيره.
(الكبرى): كل من هو اولى بادارة المجتمع، يتعين نصبه للحكم.
(النتيجة): يجب ان توكل ادارة المجتمع للفقيه.
وقد اشكل المستشكل على صغرى البرهان الثاني بما حاصله:
انه لا دليل على حصر الاولوية بالفقيه من بين سائر الطبقات والشرائح الاجتماعية، اذ هذه الاولوية ليست مأخوذة لا في معنى ومفاد كلمة «الفقيه»، ولا هي امر تعبدي؛ للزوم ان تكون النتيجة حينئذ تعبدية ايضا (من باب ان النتيجة تتبع اخس المقدمات) فيلزم عدم الحاجة لاقامة البرهان ما دامت احدى المقدمات تعبدية، مع ان المفروض كون النتيجة برهانية، ومراد النراقي كما لا يخفى هو اقامة البرهان للوصول الى النتيجة لا قبولها بالتعبد.
والجواب:
ان السر في تعيين الاولوية في الفقيه هو كونه خبيرا بالدين الذي يجب ان يدير المجتمع ويسيره ويحكمه، ذلك الدين العالمي الذي صدع به النبي الكريم (ص) وعرضه على العالم باسره؛ ثم طبقه وحكم به المجتمع بجميع احكامه وحقيقته، وكذا فعل امير المؤمنين وولده الامام الحسن (عليهما السلام) من بعده.
فالمقصود هو حاكمية مثل هذا الدين وتطبيقه على يد الفقيه.
اذا فملاكات هذه الاولوية في الفقيه هي:
اولا: الخبرة الكافية بالقانون الالهي المستوعب لجميع حاجات الانسان، وهو عبارة عن الدين.
ثانيا: التقوى ومخالفة الهوى.
ثالثا: المعرفة بالزمان والاوضاع المحيطة به.
رابعا: الشجاعة والصمود قبال التحديات.
خامسا: الاعتقاد الراسخ والقاطع بالاسلام، وترجيح المصلحة العامة على مصالحه الذاتية.
سادسا: النظر الى الدنيا والآخرة على ان احداهما مكملة للاخرى، وان الاخلال في متطلبات واقتضاءات اية واحدة منهما يعد نقصا.
سابعا: ارجاع ما هو خارج عن دائرة التخصص الديني الى ذوي الخبرة والاختصاص.
فهذه الامور تنتج كون الفقيه هو الاولى بالتصدي وتقلد زمام الامر.
الاشكالية الخامسة
هل ان تعيين الولي يتم بالنصب ام بالانتخاب؟ فان كان بالنصب فهل يكون النصب من قبل المرجع الديني بشكل خاص ام يكون نصبا عاما من قبل الشارع ويتم التطبيق من قبل مجلس الخبراء؟
والجواب: ان النصب ان كان من قبل المرجع، فيرد عليه ان مثل هذا التنصيب مما لم يقم عليه دليل شرعي ولا عقلي، ولم يدع ذلك احد الى الآن؛ لان المجتهد هو الشخص المؤهل لمثل هذا المقام، فلا حاجة الى نصب فقيه آخر له.
فالنصب العام هو من قبل الشرع، وقد الزم الشارع الفقهاء بالتصدي على نحو الوجوب الكفائي ممن توجد فيه الشرائط، فاذا تعلق التكليف باحدهم سقط عن الآخرين، بل يمكن القول بانه اذا قام من به الكفاية فلا تكليف ولا بعث لغيره من قبل الشارع، واما التعيين فهو عن طريق الخبراء حسب، ويتم هذا الطريق المشار اليه في الرسائل العملية منذ القدم، عن طريق البينة او الشياع. ومن يعينه الخبراء هو الشخص المتعين لولاية الامر. وهو بلا شك طريق عقلائي سار في جميع المجالات والتخصصات، فارفع الدرجات العلمية في كل تخصص وعلم يتم تعيينها عن طريق خبراء نفس ذلك العلم.
وليس تأسيس مجلس خبراء القيادة في الجمهورية الاسلامية الا من اجل ادارة الامور بشكل افضل وتشخيص الاعضاء الخبراء في هذا المجلس ومعرفتهم من قبل الشعب، وتسهيل عملية انتخاب الولي الفقيه، فلا يقال اذا ان البينة او الشياع كاف في تشخيص القائد في هذا الزمان.
هذا، مضافا الى ان من وظائف الخبراء التشاور مع القائد والاشراف على مجريات الامور.
واما انتخاب الناس للولي فليس مما قام عليه دليل من الشرع او العقل؛ اذ لا قيمة هنا للانتخاب في مثل هذه الامور التخصصية، فان ايكال التشخيص في مثل هذا الامر الهام للرأي العام مخالف للعقل والفطرة.
فاذا النصب العام يكون من قبل الشارع، والتطبيق من قبل مجلس الخبراء، وانتخاب الشعب وانقيادهم يوجبان بسط يد الفقيه وفعلية ولايته، فالامام امير المؤمنين (ع) كان هو الولي الشرعي ابان تنحيته وعدم انقياد الناس له، ولكنها وصلت مرحلة الفعلية عندما انتخبه الناس وبايعوه.
كما ان النصب اذا لم يكن من الشارع فلا تجدي بيعة الناس حتى لو اطبقوا واجمعوا على البيعة. وقد كان فقهاؤنا لا يرون شرعية الحكومات السابقة. ولم يكونوا يقفون الى جانبها الا في موارد قليلة تأسيا بقول النبي (ص): «الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله فما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان»[23].
الاشكالية السادسة
ان انتخاب القيادة اذا كان من قبل مجلس الخبراء فهذا معناه ان الخبراء هم الذين يعينون الولي، فيكونون هم وليا على القائد وهو مولى عليه، فلا يكون هو وليا لهم ولا نافذ الحكم عليهم.
والجواب:
ان دور الفقهاء والخبراء في مجلس القيادة ليس هو تنصيب الولي؛ لان تنصيبه قد تم بجعل الشارع كما هو فرض الكلام، وانما دورهم تشخيص وتعيين الفرد الاليق والاولى من بين المجتهدين والفقهاء الموجودين.
الاشكالية السابعة
ان فكرة ولاية الفقيه لا تنسجم وفكرة الجمهورية، فهما فكرتان متناقضتان ولا تجتمعان في نظام واحد؛ وذلك لان معنى الجمهورية هو حكومة رأي الشعب واعتباره في جميع القرارات، في حين ان معنى ولاية الفقيه هو حكومة رأي الفقيه، فالناس في هذا النظام بمنزلة القصر والصغار الذين هم بحاجة الى الولي.
والجواب:
ان الشعب عندما يصوت لصالح النظام الاسلامي فانه يعلم بان تطبيق الاسلام وقوام النظام لا يتم الا بوجود الزعامة والقيادة الاسلامية فيه.
وليس النظام الجمهوري الاسلامي بدعا بين النظم والدول في العالم، فان جميع الجمهوريات والنظم الديمقراطية الاخرى في العالم في اي نظام كانت هي بحاجة الى من يقودها ويتخذ القرارات في ادارتها في حال الصلح والحرب وغير ذلك، وتجب مراعاة تلك القرارات والتصميمات. ولا يقول احد ان الشعب في تلك الجمهوريات لا يحتاج الى الولي عليه، كما لم يعتبر احد الناس صغارا وقاصرين، بل الجميع يقر بضرورة القيادة وفاعليتها.
الاشكالية الثامنة
ان نظام الحكم في ولاية الفقيه ليس فيه الضمانة العملية في حال تخلف الولي بعد وصوله الى سدة الحكم عن وظائفه والتعدي على حقوق الآخرين.
والجواب:
ان الاصل الاولي في الاسلام هو ما ورد في قوله سبحانه: {ولا تطع آثما او كفورا}[24] وورد في الحديث ايضا: «لا تصلح الامامة لرجل الا فيه ثلاث خصال:... وورع يحجزه عن معاصي الله»[25].
وعلى ضوء هذا الاصل فقد ورد في القانون الاساسي للجمهورية الاسلامية المادة رقم (111) انه: "اذا عجز القائد عن اداء وظائفه القيادية او افتقد احد الشروط اللازمة المصرح بها في المادة رقم (109)، او كان فاقدا لها منذ البدء، فانه يعزل من مقامه فورا".
الاشكالية التاسعة
ان من لوازم الولاية المطلقة ومنح الاختيارات الكاملة للولي بروز حالة الاستبداد والانفراد بالرأي والقرار. ولا تجدي مواجهة الشعب واحتجاجهم لايقافه عند وظائفه القانونية.
والجواب:
انه قد تقدم في جواب الاشكالية الثامنة ان الشارع فوض الاختيارات الكاملة للولي آخذا بنظر الاعتبار الضمانة العملية لذلك، وهي عبارة عن حالة التقوى ومخالفة الهوى والطاعة والانقياد لله تعالى، كما ان نفس الولي يأمر بخلعه وعزله وعدم وجوب طاعته فيما لو خالف وطغى، بل انه ينعزل بشكل تلقائي وقبل كل شيء من جهة الشارع نفسه. هذا، مضافا الى ان ولاية الفقيه تعني ولاية الفقه والقانون وحاكميتهما، فكلما كانت الولاية والاختيارات اوسع للقانون كان تطبيق العدالة بقدرها.
الاشكالية العاشرة
انه كيف يمكن لنا تصور الولاية المطلقة للفقيه في جميع الامور والشؤون كالمسائل العائلية مثلا، فان رب الاسرة هو المسؤول عن ادارتها ولا يحق لاحد فقيها كان او غير فقيه التدخل في ذلك ، وايضا لا يحق التدخل في شؤون الدولة ومراكزها كالسلطة التشريعية مثلا.
والجواب:
ان هذه الاشكالية قد انطوت على مغالطة واضحة، حيث عبرت عن ادارة الامور بالتدخل، وهذا غير صحيح؛ لان دور القائد ــ كما قلنا ــ هو التنسيق بين مراكز القرار وهي السلطات الثلاث، وهذا الدور لا يسمى تدخلا كما لا يخفى! ان ايعاز الوظائف والمسؤوليات في نظام ولاية الفقيه يتم على اساس التخصص في كل مجال، ولا دخل للولي الفقيه في ذلك سوى الاشراف والنظارة والتنسيق.
واخيرا، فان مقام الامامة والولاية عبارة عن مسؤولية خطيرة وامانة عظيمة، وفي ذلك يقول امير المؤمنين (ع): «ان عملك ليس لك بطعمة، ولكن في عنقك امانة»[26].
وروى البخاري عن رسول الله (ص): «كلكم راع وكلكم مسؤول، فالامام راع وهو مسؤول»[27].
وقال تعالى في سورة النساء: {ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل}[28] فليست الحكومة الاسلامية الا من اجل تحقيق العدالة واداء الامانة.
_________________________
[1] عوائد الايام: 537.
[2] المصدر السابق: 539.
[3] المصدر السابق.
[4] جواهر الكلام 21: 393 ــ 399.
[5] المصدر السابق: 397.
[6] البدر الزاهر (تقرير بحوث السيد البروجردي (قدس سره)): 52.
[7] وسائل الشيعة 27: 14، ب 11 من صفات القاضي، ح9.
[8] انظر كتاب المكاسب: 154، ط ــ تبريز.
[9] النساء: 60.
[10] وسائل الشيعة 18: 99، ب 11 من صفات القاضي، ح 1.
[11] النساء: 58 ــ 60.
[12] بحار الانوار 23: 274.
[13] المصدر السابق: 276، ح 5.
[14] الدر المنثور 2: 175.
[15] كتاب المكاسب: 153. ط ــ تبريز.
[16] نهج البلاغة: 82 ط ــ صبحي الصالح، الخطبة 40.
[17] الزمر: 17.
[18] النساء: 60.
[19] انظر: معجم مقاييس اللغة 2: 91.
[20] انظر: المصباح المنير: 145.
[21] المفردات في غريب القرآن: 126.
[22] سورة ص: 26.
[23] بحار الانوار 72: 380.
[24] الانسان:24.
[25] اصول الكافي 1: 407، كتاب الحجة، ح 8.
[26] نهج البلاغة، الرسالة 5: 336، تحقيق الدكتور صبحي الصالح.
[27] صحيح البخاري: 7، باب النكاح.
[28] النساء: 58.
 

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية