مركز الصدرين للدراسات السياسية || الدراسات السياسية

ولاية الفقيه (الأدلة وشرائط الولي)
الـشـيخ مهدي الهادوي الطهراني


يمكن إثبات ولاية الفقيه بطرق مختلفة[1]، نشير هنا إلى أوضحها وأيسرها.
ونكتفي بالإشارة إلى دليلين (عقلي ونقلي) في هذا المضمار:
الدليل العقلي:
لاشك أن المجتمع بحاجة إلى قائد، وان الأمور الحكومية ليست من الأمور الخارجة عن دائرة الدين، بل إن عناصر شمولية الدين في هذا المجال بينت في الإسلام بصورة نظام متكامل والعقل لا يرى منعا عن تدخل الدين في مسالة الحكومة فحسب، بل إنَّه وبمقتضى الحكمة يصر على ضرورة ذلك.
وإذا ما نظرنا إلى الحكومة بمنظار الدين واعتبرنا أن مهمتها الأساسية صيانة القيم الإلهية والأهداف الإسلامية والأحكام الشرعية، فان العقل يحكم بضرورة أن يكون على رأس مثل هذه الحكومة شخص عالم بالأحكام الشرعية والواجبات الدينية، وهو الذي يستطيع أن يكون قائداً للناس فلو كان المعصوم حاضراً لحكم العقل بتفويض هذا المنصب إليه، ولكن بما أن المعصوم غائب في الوقت الحاضر فالعقل يرى أن الفقهاء العدول هم القادرون على إدارة شؤون المجتمع، وهم الأولى بهذا المنصب.
وبعبارة أخرى: إن العقل يرى ضرورة أن يكون على رأس الحكومة العقائدية شخص عالم بتلك العقيدة وفي الشريعة الإسلامية ـ وهي مجموعة القوانين والأحكام الإلهية ـ يعتبر الفقهاء هم المصداق لمثل هذا الشخص.
الدليل النقلي:
استدل بعدة روايات لإثبات ولاية الفقيه، منها:
الرواية الأولى: ما رواه الصدوق (رض) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: ((اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول اللّه، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي ))
ولابد من البحث في جهتين:
الأولى: البحث السندي للتأكد من صحة صدورها.
الثاني: البحث الدلالي، لأجل تقييم دلالتها على ذلك المطلب.
وبما أن الرواية المذكورة نقلت إلينا بأسانيد مختلفة وفي كتب عديدة[2] فلدينا اطمئنان بصدورها، ولا سبيل للشك في ذلك.
ولتوضيح كيفية دلالة هذه الرواية على ((ولاية الفقيه)) لابد من الإشارة إلى نقطتين:
الأولى: أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت له ثلاثة شؤون أساسية:
1 ـ إبلاغ الآيات الإلهية وتبليغ الأحكام الشرعية وإرشاد الناس.
2 ـ القضاء في الخلافات ورفع الخصومات.
3 ـ قيادة المجتمع الإسلامي وتدبير شؤونه، أي الولاية.
الثانية: إن الـمراد بالذين يأتون بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويروون أحاديثه وسنته هم الفقهاء وليس الرواة والمحدثون، لان الراوي هو الذي يروي الحديث فقط ولا يمكنه أن يحدد أن ما يرويه هل هو حديث وسنة الرسول حقا أولا؟ انه يروي الألفاظ التي سمعها أو العمل الذي رآه فقط، بلا معرفة وجه صدور تلك الألفاظ والأعمال، أو معرفة معارضها أو مخصصها أو مقيدها أو كيفية جمعها مع تلك المعارضات لها والشخص الوحيد الذي لديه معرفة بهذه الأمور هو الذي بلغ مرتبة الاجتهاد والفقاهة.
ومع اخذ هذين النقطتين بنظر الاعتبار سيكون حاصل مفاد هذا الحديث هو: (إن الفقهاء هم خلفاء النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ( وبما أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت لديه شؤون مختلفة، ولم يذكر في هذا المقام لخليفته شاناً خاصاً إذن سيكون الفقهاء خلفاؤه في جميع تلك الشؤون[3].
وقد ناقش البعض في الاستدلال بهذه الرواية وأمثالها مما وردت فيها كلمة ((خليفة)) بأنَّ ((الخليفة)) له معنيين:
1 ـ المفهوم اللغوي الأصلي والذي ورد في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: {قال إني جاعل في الأرض خليفة} و{يا داود إنّا جعلناك خليفة فاحكم بين الناس بالحق}.
ففي الآية الأولى اعتبرت الخلافة أمراً تكوينيا غير قابل للوضع والتشريع، وفي الآية الثانية، بالرغم من أنّها أمر تشريعي إلا أنّها محصورة في مسالة الحكم والقضاء.
2 ـ المفهوم السياسي والتاريخي الذي بدأ في الإسلام بعد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا المفهوم للخلافة يعتبر الخلافة ظاهرة دنيوية وليست إلهية تفوض من قبل الناس ـ بحق أو باطل ـ إلى شخص ما، وهذا لا علاقة له بتاتاً بمنصب الإمامة، أو الرسالة التي تعتبر مقاما ومنصبا إلهيا[4].
ولو دققنا في المعنى اللغوي لكلمة ((خليفة)) سيظهر أن المقصود منها كان واحدا في جميع الاستعمالات القرآنية والروائية وحتى التاريخية، وإذا كان هناك من تباين، ففي موارد الاستخلاف فقط، فتارة: تكون هذه الخلافة في الأمور التكوينية والمقامات الواقعية، وأخرى: تكون في القضايا التشريعية والمناصب القانونية.
وحتى من الناحية التاريخية لو كان ظهور لمصطلح ((الخليفة)) بعد وفاة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فان المراد منه هذا المفهوم، وهو أن شخص الخليفة كان خليفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مسالة الحكومة وإدارة المجتمع ولذا فان مصطلح ((الخليفة)) ليس له معان ومفاهيم مختلفة، بل إن معناه واحد في جميع الموارد، رغم تفاوت موارد الخلافة.
ومعنى ((الخليفة)) في الرواية المذكورة جاء يحمل نفس هذا المعنى، وبما انه لم يذكر فيها مورد خاص للخلافة، فنستفيد الشمول ببركة الإطلاق[5]، فيثبت أن الفقهاء هم خلفاء للنبي في جميع شؤونه.
الرواية الثانية: التوقيع الشريف الذي يرويه الشيخ الصدوق في كتاب كمال الدين (أو إكمال الدين ) عن إسحاق بن يعقوب عن الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) فيما كتبه له بخطه المبارك جوابا على أسئلة وجهها إليه ((أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه عليهم ))[6].
ونفس هذه الرواية رواها الشيخ الطوسي في كتاب ((الغيبة)) مع اختلاف في ذيلها، فقد روى: ((و أنا حجة اللّه عليكم)) بدلا عن ((و أنا حجة اللّه عليهم))[7] وفي كتاب ((الاحتجاج)) ورد ((و أنا حجة اللّه)) [8] فقط.
وهذا الاختلاف في النقل ليس له أدنى تأثير على دلالة الرواية وفق التوضيح القادم.
وهذه الرواية من حيث السند قطعية تقريبا إلى (إسحاق بن يعقوب) حيث نقلتها طبقة من الرواة عن طبقة أخرى عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب.
أما بالنسبة لإسحاق بن يعقوب فلم يرد له توثيق خاص في كتب الرجال، وحاول البعض إثبات انه اخو الشيخ الكليني[9]، لكنها جهود غير موفقة، وليست ذات تأثير والطريق الأيسر أن نقول: انه نظرا للظروف التي كان يعيشها الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) في عصر الغيبة الصغرى والضغوط والكبت الذي كان سائدا في ذلك العصر والذي أدى إلى اختفاء الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) عن الأنظار وانقطاعه عن الأمة إلّا عن طريق النواب الخاصين، فان صدور التوقيعات التي كانت تعتبر وثيقة رسمية على حياة الإمام (عجل الله فرجه الشريف) وتصديه للأمور، لم يكن متيسرا الّا إلى الأفراد الموثقين جدا.
إذن نفس مسالة إرسال رسالة من قبل الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) إلى شخص في ذلك العصر تعد دليلا على وثاقة ذلك الشخص[10].
وإذا قيل: من أين لنا أن نعلم أن إسحاق بن يعقوب قد صدر إليه ذلك التوقيع؟ الم يكن من الممكن انه قد اختلق تلك الرسالة؟
قلنا: إن الكليني [على ما تميز به من الدقة في النقل ] قد روى عنه هذا التوقيع، إذن كان إسحاق لديه ثقة قطعا، وإلا لما كان يقوم برواية ذلك عنه أبداً، ولذا لا يبقى شك في صحة سند هذه الرواية[11].
وأفضل أسلوب للاستدلال بهذه الرواية ـ وهو ما ورد في كلمات بعض القدماء ـ هو:
إن الإمام (عجل الله فرجه الشريف) ذكر الجملتين: ((فإنهم حجتي عليكم)) و((أنا حجة اللّه)) بصورة تكشف بوضوح عن أن حجية رواة أحاديثهم (و هم الفقهاء كما أوضحناه) كحجتهم هم (عليهم السلام)، أي إن الفقهاء نواب الإمام (عجل الله فرجه الشريف) في الأمة، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار زمن صدور هذا التوقيع وهو الغيبة الصغرى، وعرفنا بان الإمام كان يؤهل الشيعة للدخول في الغيبة الكبرى، وانه كان يوصي بآخر وصاياه ويصدر الأحكام الأخيرة، سندرك بوضوح أن هذه الرواية تنظر إلى عصر الغيبة الكبرى، كما أن العديد من فقهائنا الأقدمين أشار إلى أن الإمام (عجل الله فرجه الشريف) اعتبر فقهاء الشيعة خلفاءه في كافة الشؤون ومنها قيادة المجتمع الإسلامي.
وقد ناقش البعض في الاستدلال بهذا الحديث ـ الذي نجده في الكثير من النصوص الفقهية إلا أن هذا البعض لم يطلع عليه باستثناء اطلاعه على كتاب العوائد للنراقي ـ وعده ناتجا من عدم البحث والتدقيق في معنى الحجة وعدم الاجتهاد في علم اللغة ((الحجة)) في المنطق والفلسفة وأصول الفقه أوقع نفسه في معضلة لا خلاص له منها أبدا[12].
إن المقصود من الحجية في هذه الرواية هو احتجاج المولى على العبد، أي أن للمولى إذا أمر عبده أن يحتج عليه بنفس ذلك الأمر حال مخالفة العبد أمر المولى فالإمام (عليه السلام) هو حجة اللّه، لان للّه أن يحتج على الناس بنفس ما أمرهم الإمام لو خالفوا أمره، وسوف لن يجدوا ما يعذرهم عن ذلك ولو كان الفقيه حجة للإمام، فانه إذا أمر بشيء، سواء كان ذلك من باب الإفتاء واستنباط الحكم، أو باب الولاية وإنشاء الحكم، فان الإمام (عليه السلام) سيحتج على المخالفين للأمر ذلك الفقيه بنفس هذا الأمر.
على أية حال، فلا شك في دلالة الرواية على ((ولاية الفقيه)) ونيابته عن الإمام المعصوم (عليه السلام)، كما ورد ذلك في كلمات الفقهاء المتقدمين أيضا.
الأمة وولاية الفقيه:
بالرغم من محاولة البعض بيان نظريات مختلفة لعلماء الإسلام حول مسالة الحاكم الإسلامي، وإيجاد تصور بان ((نظرية ولاية الفقيه)) هي إحدى النظريات المطروحة في هذا المجال، والتي تتفرع بدورها إلى فرعين: ((نظرية النصب)) و((نظرية الانتخاب)) ولكن ما نقل إلينا من كلمات كبار العلماء مـن القدماء والمعاصرين[13] توضح بجلاء أن (( نظرية نصب الفقيه بصفته وليا وحـاكما )) كانت وما زالت هي النظرية المطروحة والمقبولة لديهم، ولو طرحت نظريات أخرى في هذا المجال، فهي تعود إلى العقود المتأخرة من تاريخ الفكر الشيعي، واغلبها طرح من قبل أناس لم يكن لهم ثقل في الساحة الفقهية[14].
والأدلة الـتـي مـضت آنفا تدل جميعا على نصب الفقيه بوصفه وليا، ولم يرتاب فقيه،عالم بضوابط الاجتهاد في هذه المسالة، ولذا يقول الشيخ محمد حسن النجفي: ((فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئا ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمرا ولا تأمل المراد من قـولـهم: إني جعلته عليكم حجة))[15] إن البعض اعتبر تحقق مثل هذا الأمر ـ وهو ثبوت الـولايـة لمن بلغ مرحلة الاجتهاد ـ من الأمور المستحيلة وحمل الروايات الظاهرة في ((الولاية الفعلية)) على الولاية الشأنية أي أنهم آمنوا في الواقع بان الظهور الأصلي والأولي لهذه الطائفة من الروايات يثبت ((نظرية النصب)) ولكن بما أن هذا الأمر محال عقلا إذن يجب حمل هذه الروايات على الأهلية والشأنية خلافا لظاهرها، وقال:
إن الشارع المقدس أوضح في هذه الروايات أن الفقهاء لهم الأهلية لقيادة المجتمع الإسلامي وأي فقيه انتخبته الأمة ستكون له الولاية الفعلية.
أما لماذا يستحيل نصب الفقهاء بوصفهم حكاما؟
فـقـد قـالوا في الجواب عن ذلك: انه لو وجد عدد من الفقهاء الواجدين للشرائط في زمان واحد فانه ستكون لنظرية النصب خمسة احتمالات في ذلك:
1 ـ أن يـنـصـب كل واحد من هؤلاء الفقهاء من قبل الأئمة بصفته حاكما، ويستطيع أن يتصرف بشكل مستقل في هذا المجال.
2 ـ أن ينصبوا جميعا للحكم، إلا أن واحدا منهم فقط هو الذي يستطيع أن يعمل ولايته.
3 ـ أن ينصب واحد منهم فقط للحكم.
4 ـ أن ينصبوا جميعا بصفتهم أولياء، ولكنّ إعمال ولاية كل واحد منهم مشروط بموافقة الآخرين.
5 ـ أن ينصبوا جميعا للقيادة بحيث يعتبرون بمجموعهم قائدا وحاكما واحدا. وثمرة هذا الاحتمال والاحتمال السابق واحدة وتعودان إلى مورد واحد من الناحية العملية.
وهذه الاحتمالات باطلة جميعا.
فالأول يؤدي إلى الفوضى في المجتمع، لأنّه يمكن أن يكون لكل فقيه رأي يخالف رأي الآخرين، وفي مثل هذه الحالة سيختل نظام المجتمع، وسوف لا يحصل الهدف من تشكيل الحكومة وهو نظم الأمور والتنسيق بين قطاعات المجتمع وهذا مما لا ينسجم مع حكمة الحكيم عز وجل.
في الاحتمال الثاني لا يوجد طريق لتعيين من يستطيع إعمال الولاية ومن ناحية أخرى ستكون ولاية غيره من الفقهاء لغوا وعبثا، وجعلها من قبل الحكيم ـ سبحانه ـ قبيح وغير محتمل وبنفس هذا البيان يتبين بطلان الاحتمال الثالث أيضا.
أما الاحتمالان الرابع والخامس فباطلان لمخالفتهما مع سيرة ومنهج العقلاء والمؤمنين.
هذا، فضلا عن انه لم يعتقد احد بمثل هذه الاحتمالات[16].
وقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة مختلفة، منها:
1 ـ إن جـميع الفقهاء نصبوا للحكومة، وعلى هذا يكون الحصول على هذا المنصب واجبا كفائيا عليهم جميعا، أي لو بادر واحد منهم إلى تحمل هذه المسؤولية سقط التكليف عن الآخرين[17].
2 ـ إن مـسـالـة ولايـة الـفقيه ليست كمسالة صلاة الجماعة كي يستطيع كل عادل القيام بها، بل إن الـولايـة فـي المرتبة الأولى هي مسؤولية الشخص الأعلم والأتقى والأشجع والأكثر كفاءة من الآخرين[18].
إلا أن الجواب الأول إضافة إلى انه يرد في دائرة الأحكام التكليفية لا الأحكام الوضعية كالولاية، إلا انه لا يستطيع حل الإشكال، لان الواجب الكفائي قبل المبادرة هو واجب على جميع الفقهاء، ولذا فانه يـواجـه نـفس الاحتمالات الخمسة، ويعود الإشكال نفسه، والجواب الثاني علاوة على عدم وجود الـدلـيـل عـليه، يواجه مشكلة في فرض تساوي شخصين من أولئك الفقهاء في الشروط المذكورة، وبـالرغم من ندرة مثل هذا التساوي في عالم الواقع، إلا أن إمكان وقوعه كبير من وجهة نظر الفقهاء أنفسهم بان يعتقد عدد منهم بكون شخصه هو الأعلم، ومن جانب آخر أن في هذا الجواب نوع تسليم بالإشكال، وقبول باختصاص النصب بالفقيه الأعلم، الأتقى، الأشجع وليس سائر الفقهاء.
ومع كل ذلك فان الإشكال المذكور قابل للحل، لان جميع الفقهاء يعتقدون ـ وإطلاق أدلة ولاية الفقيه تقتضي أيضا ـ إن الولي لو حكم بشيء، فان امتثال ذلك الحكم واجب حتى على الفقهاء الذين لهم ولاية.
وكـذلـك لو تصدى فقيه لجزء من الأمور الولائية، فلا يجوز للآخرين حتى الفقهاء الذين لهم ولاية، التدخل في تلك الدائرة، وعلى ذلك فإننا نأخذ بالاحتمال الأول من الاحتمالات الخمسة ـ أي أن جميع الفقهاء الواجدين للشرائط يتمتعون بالولاية ـ ونرى أن وقوع الفوضى منتف عن طريق:
1 ـ وجوب امتثال الجميع حتى الفقهاء لحكم الفقيه.
2 ـ حرمة تدخل الآخرين حتى الفقهاء في دائرة تصدي الفقيه.
ولـذا، فـان نـظـريـة نـصـب الـفـقيه للولاية ـ وهي نظرية غالب فقهاء الشيعة العظام ومنهم الإمام الخميني (قده) ـ موافقة لظاهر أدلة ولاية الفقيه ولا تواجه إشكالا في عالم الثبوت أو الاثبات.
ومع كل هذا لو أردنا تشريع قانون للمجتمع لا يتحدد بمكان وزمان خاصين فليس أمامنا طريق سوى القبول بانتخاب الأمة[19].
وتوضيح ذلك:
بالرغم من أن نصب كافة الفقهاء بصفتهم أولياء لا يخلق لنا مشكلة في عالم الواقع ولا يتضاد مع الأدلة، وان بإمكان كـل إنسان فـي دائرة وظائفه الفردية الرجوع إلى فقيه جامع للشرائط في أموره الـولائية[20]، ولكن حينما ننظر إلى هذه المسالة بصفتها مسؤولية اجتماعية في إطار إدارة شـؤون الـمـجتمع، وأردنا أن نشرع قانونا لمثل هذه الحالة ـ حتى على أساس نظرية النصب وهي النظرية الصحيحة ـ فلا يوجد أمامنا طريق سوى اختيار أسلوب الانتخاب.
والانتخاب هنا يتم ـ بطبيعة الحال ـ بروح ((تعيين الفقيه الواجد للشرائط)) وليس بروح ((تعيين الـولـي من بين الفقهاء الحائزين على الشرائط)) كما يعتبر في نظرية الانتخاب، أي أن الأمة تنتخب الفقيه الحائز على شرائط الولاية، ولا تعين واحدا من الواجدين لهذه الشرائط وليا للأمة.
ومـن هنا فان أسلوب الانتخاب غير المباشر ـ انتخاب الخبراء من قبل الأمة وانتخاب الفقيه الحائز على الشرائط من قبل الخبراء ـ مرجح على أسلوب الانتخاب المباشر، أي انتخاب الفقيه الحائز على الـشـرائط من قبل الأمة مباشرة ونفس هذا الأمر جاء في دستور الجمهورية الإسلامية، ففي الوقت الـذي اخـذ فـيـه الـدسـتـور بـنـظرية النصب ـ والتي وردت بوضوح في مباحثات مجلس خبراء الـدسـتـور[21] ـ انـه اقر بصحة أسلوب الانتخاب غير المباشر في تعيين القائد ولذا، فان الأمة ـ حتى على أساس نظرية النصب ـ لها دور محوري في تعيين القائد وبالرغم من أن مشروعية حـكـومة الفقيه مستمدة من الشريعة المقدسة والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وليست من انتخاب الأمة، فان دور الأمة لا يتلخص في فاعلية النظام، وتحقيق أهداف القائد فحسب[22]، بل إنها بانتخابها ((لـلـفـقيه الجامع للشرائط)) ـ سواء بأسلوب الانتخاب المباشر أو غير المباشر ـ تحدد مصداق الولي القائد للمجتمع الإسلامي.
ولاية الفقيه أو نيابة الفقيه:
تـبين مما مضى أن للفقيه ـ استنادا إلى أدلة ولاية الفقيه ـ منصب الولاية وقيادة المجتمع الإسلامي، وان الـشـارع الـمـقـدس هـو الذي منحه هذا المنصب بالرغم من أن الأمة تقوم ـ وفي إطار قانون اجتماعي ـ بانتخاب الفقيه الحائز على الشرائط.
إن إتباع (نـظـرية الانتخاب) يعتقدون بان الشارع المقدس قد منح الناس الحق في انتخاب الفقيه الحائز على الشرائط من بين الفقهاء الآخرين، ولذا فهم يعتقدون ـ أيضا ـ أن الفقيه المنتخب هو ولي الأمر والحاكم، ولا يعتبرونه وكيلا عن الناس في إدارة شؤون المجتمع.
وفـي مـقـابل هذه النظريات ـ التي تمثل الآراء السائدة لدى الأكثرية المطلقة لعلماء الشيعة ـ اعتبر البعض ان السياسة وإدارة شؤون المجتمع ليست من الأحكام الإلهية الثابتة، لأنها من الأمور الجزئية والـمـتـغـيـرة والـخاضعة للتجربة، وهي خارجة بشكل كامل عن دائرة التكاليف والأحكام الكلية الإلهية[23] وعـلـى أساس هـذا الاعـتقاد فقد أنكرت الزعامة حتى زعامة المعصومين الـدينية[24]، وعرضت صورة أخرى لقضية الزعامة وقد تصور ذلك البعض أن هذه نظرية جديدة في تاريخ الفكر السياسي.
وبغض النظر عن مسالة ((فصل الدين عن السياسة)) وادعاء ((نفي زعامة المعصومين (عليهم السلام) للمجتمع الإسلامي )) ـ اللتين تتنافيان مع روح الإيمان، بل الثاني منهما ينافي الأصول الشيعية المسلمة ـ نقوم بدراسة نظريته السياسية وتقويم مواطن ضعفها وقوتها على أساس المعايير الحقوقية والسياسية.
فـلـو أردنا أن نوضح نظرية الملكية المشاعة المطروحة بصفتها أساس الفلسفة السياسية الحديثة بـعـدة سـطـور ونريح القارئ من العبارة المعقدة والفارغة لصاحب النظرية، فلابد أن نقول:
بما أن الإنسان جسم حي ومتحرك بالإرادة فان كل تصرف يصدر منه يعتبر ظاهرة طبيعية صرفة، وهذا الإنسان بحكم طبيعته الحية والمتحركة يختار لنفسه مكانا يستطيع أن يعيش فيه ويمارس حياته بحرية ومن هذا الاختيار الطبيعي نشأت علاقة خاصة جبرية تسمى ((الملكية الخاصة ))، وهذه الـمـلكية الخاصة مختصة به بمقتضى عيشه في مكان خاص، وبمقتضى عيشه في مكان مشترك في بـيـئة اكـبـر تكون ملكية خاصة مشاعة وهذان النوعان من الملكية طبيعيتان لأنهما تكونتا بمقتضى الطبيعة، وخاصتان ـ أيضا ـ لان كل فرد له هذان النوعان من الاختصاص المكاني على نحو مستقل، فالأفراد الذين تجبرهم الضرورة على العيش الطبيعي إلى جانب بعضهم، ويختارون مكانا لممارسة نشاطاتهم الحياتية، يتمتعون بهذين النوعين من الملكية الخاصة: الخاصة والمشاعة.
وبـمـا أن جـميع هؤلاء الأفراد شاركوا بمستوى واحد في التصرف في المكان الصغير((البيت)) والـمـكان الكبير ((البيئة المشتركة)) فسيكون لهم بشكل فردي ومستقل حق الملكية الشخصية المنحصرة بالنسبة للبيت وحق الملكية الشخصية المشاعة بالنسبة للبيئة المشتركة وهؤلاء الأفراد الـمالكين لأرضهم بصورة مشاعة ـ وبتوجيه من العقل العملي ـ يوكلون شخصا أو لجنة ويمنحونها الأجور اللازمة لكي تصرف جميع جهودها وإمكاناتها ووقتها لتنظيم شؤون حياتهم بصورة سلمية عـلى النحو الأكمل في تلك الأرض، وإذا لم يتفق جميع المالكين المشاعين على ذلك الانتخاب، فان الطريق الآخر المتبقي أمامهم هو تمسكهم بحكومة الأكثرية على الأقلية.
وهـذا شـبيه بالورثة الذين ورثوا أملاكا بصورة ملكية شخصية مشاعة ولم يأخذ بعد بعضهم سهمه عـن طريق التقسيم ففي هذه الحالة يكون الطريق الوحيد لإعمال حق الملكية الشخصية والمشاعة لـكـل مـنهم في أمواله هو أن ينتخبوا وكيلا أو حكما للحكومة أو التحكيم لكي يصون هذه الأموال بـالـصـورة المطلوبة، ويدافع عنها أمام أطماع الأجانب ولو لم يتفق جميع الورثة على هذه الوكالة والتحكيم يبقى الطريق الوحيد هو انتخاب الوكيل أو الحكم من قبل الأكثرية منهم[25].
اما ادعاءات أصحاب هذا الاتجاه فتتلخص في:
1 ـ إن ملكية الإنسان بالنسبة للبيئة الخاصة التي يختارها لعيشه، هي ملكية خصوصية طبيعية ليست بحاجة إلى اعتبار أو عقد.
2 ـ إن مـلكية الإنسان بالنسبة للبيئة الأكبر هي ملكية خاصة مشاعه طبيعية لا تحتاج إلى إقرار أو عقد.
3 ـ إن الـحـكومة في ارض ما تعني نيابة شخص أو مجموعة عن المالكين المشاعين بهدف تحسين ظروف حياة أولئك المالكين.
4 ـ لو لم يتفق جميع المالكين في الرأي على تعيين وكيل فسوف تصل النوبة إلى انتخاب الأكثرية.
أما الادعاء الأول ـ وهو مقتبس من بحث حقوقي في دائرة الحقوق الخاصة، وخرج على هيئة نظرية جديدة بعد أن أضفيت عليه صبغة فلسفية ـ فيصدق في باب الأرض التي لم يكن لها مالك وقام شخص بإحيائها.
والادعاء الثاني، لا يوجد دليل لإثباته ولا نخرج من حيث المجموع منه بمحصلة فما هي حدود البيئة المشتركة للفرد؟ هل تشمل محلته أو قريته أو مدينته أيضا؟ أو تشمل حتى الدولة التي يسكن فيها أو العالم كله؟
وقـد يـجـيب على ذلك قائلا: إن الدولة ـ طبقا لمذهب الملكية الشخصية المشاعة ـ هي تلك البيئة الـمـنفتحة والحرة التي دعت الضرورة عددا من الناس لاختيارها لعيشهم الطبيعي واتخاذها دائرة نفوذ لهم ولأسرهم[26].
إلا أن هذا الكلام لا يزيل شيئا من الغموض المحيط بهذا الادعاء، ولا يوضح لماذا لا يملك الإيرانيون القاطنون في القرى المجاورة للحدود العراقية بالشياع ـ مثلا ـ جزءا أو كافة الأراضي العراقية، في حين أنهم يملكون بالشياع أراض بعيدة عنهم جدا في داخل إيران.
وعـلى أية حال، لو أن شخصا أحيا أرضا لا مالك لها فانه سيملك تلك الأرض، ولكن ما هو الدليل على أن لـه حـقـا في الأراضي المجاورة لتلك الأرض، والتي يمتلكها أناس آخرون، أو التي لا مالك لها؟ فكيف بالأراضي البعيدة جدا عن الأرض التي أحياها؟
ولو قبلنا الادعاء الثالث واعتبرنا أن الحاكم يعتبر وكيلا عن المالكين لأرض مشاعة، فبما أن الوكالة عقد مشروع وقابل للفسخ من قبل الموكل في أي وقت، فهؤلاء المالكون بإمكانهم عزل ذلك الحاكم في أي وقت يشاؤون، وصاحب هذه النظرية يلتزم بهذه النتيجة[27] في حين أن مثل هذه الحكومة لـيـس لـها أي سلطة من وجهة نظر الفلسفة السياسية، لان الحاكم في مثل هذه الحالة هو وكيل عن الـناس وإذا ما أراد الوكيل من موكله شيئا أو ألزمه بالقيام بأمر ما فالموكل غير ملزم بالطاعة، حتى إذا كـان ذلـك الأمر فـي الـدائرة الـخـاصة لوكالة الوكيل مثلا لو أن أحدا وكل شخصا لبيع بيته بمبلغ معين فالوكيل لا يستطيع إرغام موكله على إجراء هذا العقد وبيع البيت بالمبلغ المذكور، بالرغم مـن انـه يـستطيع إجراء ذلك العقد بنفسه ما دامت وكالته باقية، إذن لايمكن اعتبار هذه الأطروحة نظرية سياسية مقبولة.
أما الادعـاء الـرابع، فانـه ينافي أساس نظرية الملكية الخاصة المشاعة، لأنه حينما يكون الأفراد مالكين لشيء بالشياع، فالتصرف به منوط بموافقة كافة المالكين ولا يوجد دليل على نفوذ تصرف من إجازته الأكثرية منهم ورفضته الأقلية.
ومن هنا، إذا لم يوافق جميع الورثة ـ في المثال المذكور ـ على توكيل شخص معين فانه لا يستطيع الـتـصـرف بـذاك المال المشاع اعتمادا على إجازة أكثريتهم، إذن هذه النظرية ليس بإمكانها تبرير حـكـومـة الأكثرية على الأقلية، وان الادعاء بعدم وجود طريق غير هذا، إبطال لنظرية الملكية المشاعة وليس تأييدا لها.
ومـن جـانب آخر انـه حتى على فرض توكيل شخص من قبل كافة المالكين لأرض بالشياع، فعندها يـمكن لكل واحد منهم إبطال تلك الوكالة وعزل الحاكم، لان الوكالة عقد قابل للإبطال طرح مثل هذه النظرية في ميدان الفكر السياسي؟ وعـلـى أي حـال، فـان نـظرية التوكيل نظرية ليس لها أساس، وتفتقد لأي برهان حقوقي وفلسفي وسـيـاسي، وما هي سوى نسيج غير متناسق ومع وضوح ومتانة نظرية ولاية الفقيه وضعف نظرية التوكيل فلا تبقى لدينا حاجة للدفاع عن ((ولاية الفقيه)) مقابل ((التوكيل )) بالرغم من أن البعض بادر إلى هذا الأمر[28].
شرائط الولي الفقيه:
وفـقـا لما مضى من بيان أدلة ولاية الفقيه فان الشخص الذي يستطيع إدارة الأمور وزعامة المجتمع الإسلامي هو الذي بلغ مرحلة الفقاهة، وبإمكانه استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة، وقـد عـبر عن هذا في الروايات بـ (( رواة حديث أو سنة المعصومين (عليهم السلام) )) وقد أوضحنا: إن الذي يستطيع توضيح هل أن هذا هو حديث أو سنة المعصومين (عليهم السلام)؟ هو الفقيه المجتهد الذي لديه معرفة تفصيلية بالدليل المعارض وحل التعارض وكيفية الجمع الدلالي والاعتبار السندي.
ولـعـل الـسبب في التعبير بـ (( رواة أحاديث وسنة المعصومين (عليهم السلام) )) في الروايات هو أن: مصطلح ((الـفـقيه)) أو ((المجتهد)) لم يستعمل زمن صدور الروايات بنفس معناه المستعمل الآن، أو لعل السبب هو أن: الفقهاء في ذلك العصر كانوا ضمن الرواة رغم أن كافة الرواة لم يكونوا مجتهدين.
على أي حال: فان احد شروط حاكم المجتمع الإسلامي في عصر الغيبة هو((الفقاهة))، والمراد بـهـا ((الاجـتـهاد المطلق ))، أي بإمكانه استنباط حكم أي مسالة من مصادرها، ولا تنحصر ملكته الاجتهادية في دائرة محددة، حيث يسمى ذلك بالاجتهاد المحتزي[29].
أما الـشـرط الآخر للحاكم الإسلامي فهو ((العدالة))، ورغم أن هذا الشرط لم يذكر في الأدلة الـنقلية لولاية الفقيه، إلا أن العقل يحكم بعدم إعطاء قيادة مجتمع قائم على عقيدة إلى شخص لا يؤمن بـتـلـك العقيدة ولا يلتزم بقوانينها عمليا ومن جانب آخر لدينا آيات وروايات تنفي إطاعة أو ولاية غـيـر الـعـادل[30]، مـثـل قـولـه تـعـالـى: {ولا تـطــع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}[31] وروى في الكافي عن الإمام الباقر(ع ) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): ((لا تصلح الإمامة إلا لـرجـل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية عـلى من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم ))[32] ونفس هذه الرواية تدل على شرط آخر يـدل عـليه العقل أيضا، وهو ((القدرة على أداء المسؤولية))، فالذي يستطيع استلام قيادة الأمة هو الـفـقـيـه الـعـادل الـذي لـديـه الـقـدرة على إدارة شؤون المجتمع، وهذا المطلب يؤكده ارتكاز العقلاء[33].
إذن الـشروط الأساسية للحاكم الإسلامي هي: الفقاهة، العدالة، والقدرة على إدارة شؤون المجتمع الإسلامي.
حدود ولاية الفقيه:
إن أدلة ((ولاية الفقيه)) تطرح الفقيه بصفته قائدا للمجتمع الإسلامي في عصر الغيبة، ولذا يثبت لـه في عصر الغيبة ما يلزم لقيادة وإدارة المجتمع، ويعتبره العقلاء من جملة حقوق وصلاحيات قادة الـمـجتمع وهذا ثابت بإطلاق الأدلة اللفظية، ولاسيما التوقيع الشريف، وعلى هذا المعنى يطلقون ((الـولاية المطلقة للفقيه))، في مقابل ((الولاية المقيدة للفقيه )) و((الإطلاق)) يعني فقدان القيد المفهومي في مقابل ((التقييد))، والإطلاق في ولاية الفقيه من ناحيتين:
1 ـ من ناحية المولى عليهم.
2 ـ من ناحية الأمور التي له ولاية فيها.
امـا مـن الناحية الأولى: فالفقيه له ولاية على كافة أفراد المجتمع الإسلامي من مسلمين وغيرهم، والـمـجـتهد والعامي، ومقلديه وغيرهم، بل حتى على نفسه، ولو اصدر حكما وفق الموازين وجب عـلـى الـجـميع ـ حتى الفقهاء وعليه هو نفسه ـ امتثاله والعمل به، والدليل على ذلك كما اشرنا هو إطلاق الأدلة الـلـفظية لولاية الفقيه وإضافة إلى ذلك أن مثل هذا الأمر يعد من اللوازم العقلية أو الـعـقلائية لقيادة المجتمع الإسلامي وقد ظن البعض نتيجة لاستعمال كلمة ((الولاية)) في مورد قـصـور الـمـولـى عـلـيهم عن إدارة شؤونهم وتحديد مصالحهم ومفاسدهم، إن ((ولاية الفقيه)) مـحـصـورة بـهـذه الـدائرة، أي خـاصـة بالقصر، في حين ان لفظة ((ولاية)) تستعمل في الفقه فـي موردين، تلحظ في احدهما مسالة قصور المولى عليه كالمجنون واليتيم دون الآخر الذي يكون بـمعنى إدارة شؤون المجتمع وتعتبر ولاية الفقيه من مصاديقه ولذا فولاية الفقيه لا تستلزم قصور المولى عليهم حتى يدعى: ((إن عبارة (الجمهورية الإسلامية تحت سلطة ولاية الفقيه) هي عبارة مـتـنـاقضة))[34] بل إن هذه الولاية ثابتة مع الإذعان بكمال المولى عليهم لان إدارة شؤون المجتمع بدونها عسيرة بل غير ممكنة.
وعـلـيـه فـان سـائر الفقهاء مع حيازتهم لمنصب الولاية ـ تبعا لنظرية النصب وهي الرأي المشهور والـصحيح ـ لابد لهم من إطاعة أمر الفقيه المتصدي لإدارة الأمور فلو كانت هذه الطاعة ناشئة من قصورهم وعجزهم، فكيف شملتهم أدلة ولاية الفقيه أما من الناحية الثانية، فالفقيه له ولاية على جميع الشؤون الاجتماعية للمجتمع، وبإمكانه أن يحكم فـيـهـا طبقا للموازين، ولو حكم وجبت طاعته على الجميع، ودليل ذلك ـ أيضا ـ هو إطلاق الأدلة اللفظية، واستلزام الولاية والزعامة بالنسبة لهذا الأمر.
وبـما أن الفقيه استمد ولايته من الشرع، فلابد له من العمل في إطار الضوابط التي بينها الشارع في الـمـجـالات الـمختلفة فلو كان الأمر الذي أراد أن يعمل ولايته فيه من المباحات ـ أي الأمور التي لـيـسـت واجـبة ولا محرمة، حتى إذا كانت مستحبة أو مكروهة ـ فميزان إعمال الولاية سيكون وجـود ((الـمـصـلـحة))، فلو كانت تتضمن تحقيق منافع للمجتمع أو للنظام الإسلامي أو لفئة من الـمـجـتمع، فبإمكانه أن يأمر أو ينهى استنادا إلى تلك المصلحة مثلما يتصرف العقلاء تماما في حياتهم الشخصية وفقا لما يشخصونه من مصالح في دائرة المباحات الشرعية وابرز دليل على هذا المطلب هو قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}[35] بعد أن نضم إليه دليل ولاية الفقيه،لان الـذي يـظـهر من هذه الآية الكريمة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالناس من أنفسهم، إذن لو كان بإمكان الناس أن يـقوموا بعمل ما أو يتركوه طبقا لرغبتهم فان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سيكون بإمكانه أن يأمرهم أو ينهاهم عن ذلـك بـطـريـق أولى وأدلة ولاية الفقيه تثبت للفقيه ما ثبت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) في مجال قيادة المجتمع، فالفقيه يستطيع أن يقوم بذلك أيضا ولو أراد الفقيه أن يعمل ولايته في الدائرة التي يكون فيها لـلشارع حكم إلزامي كالوجوب أو الحرمة، ويعتبر إلزام الشارع غير لازم، أو أن اللازم خلافه، فهذا الأمر مشروط برعاية قواعد باب التزاحم[36] ففي مثل هذه الحالة يجب الأخذ بالإلزام الأهم [مـلاكا] والتضحية بالإلزام المهم من اجل الحفاظ على الملاك الأهم وفي الأمور الشخصية تـقع مسؤولية رفع التزاحم وترجيح الأهم على المهم على عاتق المكلفين أنفسهم، ولكن في الأمور الاجـتماعية تقع مسؤولية اتخاذ الموقف على عاتق قائد المجتمع، ويجب على جميع أفراد المجتمع أتباعه وامتثال أوامره إضافة إلى ذلك يجب على الفقيه الالتزام بأحكام الإسلام في المجالات المختلفة لإعمال الإنسان الاجتماعية، كما يجب عليه أن يسعى إلى تطبيق النظم الإسلامية في المجالات الاقتصادية والتربوية والاجتماعية، ونفس هذا الأمر يعد تقييدا شرعيا آخر لإعمال ولايته.
ولاية الفقيه المطلقة والحكومة المطلقة:
تبين مما سبق أن الفقيه يتقيد ببعض القيود في إعمال ولايته، فبالرغم من قدرته على إصدار الحكم في أي مورد وعلى أي شخص، لكن تنبغي مراعاة المصلحة والتزاحم والنظم الإسلامية في إصداره لذلك الحكم.
إذن ((الـولايـة المطلقة للفقيه)) هي مصطلح فقهي خاص ينظر إلى دائرة الولاية والمولى عليهم، ويـنـفي التقييد في هذه المجالات لكنه لا يعني أبدا نفي أية قيود وضوابط في إعمال الولاية من قبل الـفـقـيـه، ولـم يـقل بهذا أي واحد من الفقهاء، بل إن عقائدنا تأبى ذلك حتى بالنسبة للمعصومين (عليهم السلام)، والأكثر من ذلك أن العدلية [الشيعة] يعتقدون أن الباري ـ أيضا ـ لا يحكم عبثا، إذن كيف يمكن للفقيه إن يحكم في أي مجال من دون أي ميزان وفقا لرغبته وإرادته فحسب؟
ومـن الـمـؤسف أن الجهل بهذا الأمر أو التجاهل به جعل البعض يعتبر ((الولاية المطلقة للفقيه)) مساوية ((للحكومة المطلقة)) المطروحة في الدراسات السياسية، ويعممون ما هو موجود في تلك الدراسات لهذه الحكومة على ولاية الفقيه.
في حين أن الحكومة المطلقة هي الحكومة التي لا يتقيد فيها الحاكم في إعمال حكمه بأية قيود، ولا يلتزم برعاية أي ملاك وميزان وقانون، ومثل هذا ـ كما مر في رأي العدلية ـ لا يصح حتى بالنسبة للباري عز وجل، والمعصومين (عليهم السلام).
الدستور وولاية الفقيه:
إن مفاد أدلة ولاية الفقيه ـ كما مضى ـ تثبت الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط فلو قامت حكومة فـي بـلـد ما تحت قيادة فقيه ودون فيها دستور بتوجيه وإشراف من ذلك الفقيه وحددت فيه دوائر الـتـدخل المباشر للفقيه، والقيت المسؤوليات الأخرى على عاتق المسؤولين في الدولة، وفي نفس الوقت أثبتت الزعامة العامة للفقيه[37]، ففي مثل هذه الحالة تطرح هذه التساؤلات:
1 ـ هل يستطيع ذلك الفقيه التدخل بشكل مباشر في دائرة أوسع مما حدده الدستور؟
2 ـ هل يستطيع ذلك الفقيه أن يغير في القانون؟
3 ـ مـا هـي قـيـمـة مـثل هذا الدستور في نظام ولاية الفقيه ولاسيما طبقا لنظرية النصب، وهي النظرية الصحيحة؟
لقد اشرنا فيما سبق أن الفقيه حينما يصدر حكما متناسبا مع الظروف وطبقا للضوابط الشرعية فعلى الـجـمـيع، بما فيهم هو، امتثال هذا الحكم والدستور يعتبر مجموعة من القوانين الإلهية والولائية وضعت لظروف معينة في زمان معين فما دامت تلك المصالح قائمة لا يحق لأحد أن يعارضه، سواء كان فقيها أو غير فقيه، قائدا أو غير قائد.
ولـذا، فـمـادام الـدستور باقيا على اعتباره ـ لبقاء الملاكات التي استوجبت وضعه ـ فعلى الفقيه أن يمارس صلاحياته في إطاره.
نعم، إذا دعت المصلحة إلى تغيير هذا الحكم ـ طبقا لتشخيص الفقيه أو مستشاريه ـ ستحصل عندئذ ضـرورة لـوضـع دستور آخر، وسيكون بإمكان الفقيه أن يصدر أمر الوضع دستور جديد بدلا عن الدستور السابق، أو إعادة النظر في الدستور السابق، وبعد ذلك يصبح العمل بالدستور الجديد واجبا على الجميع بما فيهم الولي الفقيه نفسه.
وبـهـذا يـتضح جواب السؤالين الأولين. وأما جواب التساؤل الثالث فيتضح من خلال الالتفات للنقطة التالية، وهي:
حـيـنما تقام حكومة إسلامية بقيادة فقيه جامع للشرائط في بلد ما فان مجموعة من الناس لا يؤمنون بـولايـة الـفـقيه ـ اجتهادا أو تقليدا ـ، ويختلفون مع الآخرين في حدود الولاية، وهذه الأقلية، من وجـهـة نظرها، لا ترى نفسها ملزمة بإطاعة الفقيه في كافة الأمور أو بعضها إلا أنهم يرون وجود ((مـيـثاق وطني)) أمرا ملزما لجميع أفراد الشعب، وإذا ما وجد مثل هذا الدستور فإنهم يعتبرون أنفسهم ملزمين بإطاعة قوانينه، ودستور الجمهورية الإسلامية ـ الذي عرض على الشعب للتصويت عليه ـ يمكن أن يكون مصداقا لذلك الميثاق.
وفـي الـواقـع أن مـثل هذا الأمر هو من المصالح التي تقتضي وجود دستور أساسي في بلد ما وبهذا يتضح جواب السؤال الثالث.
مفهوم الأرض والدولة في الإسلام:
يقسم العالم ـ طبقا للجغرافيا السياسية المعاصرة ـ إلى دول مختلفة تفصلها عن بعضها حدود وضعية مـقـبـولـة مـن قبل الحكومات، وفي كل دولة هناك حكومة قائمة، والناس القاطنون في تلك الدولة يعتبرون مواطنين وفقا لملاكات معينة، ويعد الآخرون أجانب عنها والقوانين التي تسري في بلد ما بـعـضها خاص بمواطني ذلك البلد، وبعضها خاص بالأجانب المقيمين فيه، وقسم مشترك فيما بينهم فـهـل لـهذه التقسيمات الجغرافية قيمة من وجهة نظر الإسلام؟ وبعبارة أخرى: ما هو العالم الذي يصوره الإسلام؟
فـي الـجـواب عن هذا التساؤل لابد من القول: إن الإسلام يطرح نفسه بوصفه دين العصور والبقاع جـمـيعا، ويرى العالم كله أرضا له، ذلك لان دائرة تطبيقه تتسع لذلك كله والمناطق التي تؤمن فيها الأكثرية بالإسلام تسمى ( دار الإسلام ) والمناطق الأخرى ((دار الكفر)) فالحدود الوحيدة التي يـؤمـن بـهـا الإسلام فـي العالم هي حدود العقيدة، والعقيدة الوحيدة التي لها قيمة في الإسلام هي الإسلام نـفـسـه {إن الدين عند اللّه الإسلام}[38] إذن ((دار الإسلام)) هي دولة واحدة، والـخـطـوط المفترضة والوضعية ليس لها تأثير على وحدة هويتها من وجهة نظر الإسلام، وهذه الأرض الـواحـدة تخضع في الحالة المثالية لحكم إمام معصوم (عليه السلام) والحكومة العالمية للإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) هـي تـحـقـيـق لـهـذا الـهدف ولو توفرت إمكانية هذا الأمر في عصر غيبة المعصومين، وكانت مصلحة المسلمين تتطلب إدارة أراضيهم بصورة دولة واحدة، فيجب أن يقوم الفقيه بإدارة تلك الأراضي بصورة دولة واحدة.
ولو كانت إدارة كل جز منها من قبل فقيه أكثر انسجاما مع مصالح المسلمين ـ سيما لو كان الفقيه من أهل نـفس البلد ـ وجب اتخاذ هذا المنهج، وبناء على ذلك، إن القاعدة الأساسية في المذهب السياسي الإسلامي هي أنّ (دار الإسلام) بلد واحد، ولكن يمكن إدارتها على هيئة دول مختلفة أو أقاليم أو ولايات لدولة واحدة، أو أي أسلوب آخر ينسجم مع مصالحها المتغيرة وهذه الأمور تعود في واقعها إلى الآلية السياسية التي يجب استخدامها.
الولاية والمرجعية:
قلنا: إن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت له ثلاثة مناصب أساسية:
1 ـ تبليغ الآيات والأحكام الشرعية وإرشاد الناس.
2 ـ القضاء في الخلافات ورفع الخصومات.
3 ـ قيادة المجتمع الإسلامي وتدبير شؤونه.
وان جـمـيع هذه الشؤون الثلاثة ثابتة للفقهاء في عصر الغيبة وهو ما دلت عليه الروايات التي ذكرنا بعضها.
والـمـرجـعـية في الفكر الشيعي هي مزيج من ((الإفتاء)) و((الولاية))، والمراجع العظام كانوا يرشدون الناس في الأحكام الإلهية ويتولون قيادتهم في الأمور الاجتماعية الجزئية أيضا.
ولـو فـكـكـنا بين منصبي ((الإفتاء)) و((الولاية)) وأطلقنا على الأول فقط اسم ((المرجعية)) فسنواجه عدة تساؤلات:
1 ـ هـل يـجـوز تـفـكـيك المرجعية من القيادة؟ أي هل يمكن أن يكون المرجع للناس في الأحكام الشرعية شخص، ويتولى شخص آخر قيادة المجتمع الإسلامي؟.
2 ـ وعـلـى فـرض جـواز التفكيك فهل يجوز التعدد في القيادة وتعدد المراجع، أو يجب ان يتحد الاثنان في شخص واحد؟ وهل يوجد تباين بين الأمرين ـ القيادة والمرجعية ـ من هذه الجهة؟
3 ـ وعـلـى فـرض الـتفكيك بين المرجعية والقيادة، فهل يجوز تقليد غير القائد في كافة الأحكام الاجتماعية والشخصية؟.
وقـبـل الإجابة عن هذه التساؤلات لابد من ذكر مقدمة مختصرة لتوضيح مفهوم ((الفتوى)) وهي عمل المفتي، و((الحكم )) وهو ما يصدر من قبل القائد.
حـيـنـما يرجع المجتهد إلى المصادر الشرعية للحصول على الحكم الشرعي الكلي ويتم استنباطه وفقا للأساليب الخاصة بالاستنباط ثم يفتي به لمقلديه، يسمى ذلك بـ ((الفتوى)) فالفتوى هي استنباط حـكـم الـديـن الـكـلـي في مورد ما بالرجوع إلى المصادر الدينية والاستفادة من طرق الاستنباط الـمـعروفة[39] في حين إن القائد يحدد طبقا للأحكام الشرعية الكلية والأنظمة الإسلامية ومـلاحـظة الظروف القائمة بدقة، مسؤولية جميع الأمة الإسلامية أو فئة خاصة منهم قبال مسالة مـعـيـنـة وهذا الأمر يسمى حكما، فالحكم تلاحظ فيه ـ إضافة إلى مراعاة الأحكام الشرعية الكلية والـقـيـم والأهداف الإسلاميـة الـشاملة ـ الظروف الخاصة أيضا، وما لم تتغير تلك الظروف فذلك الحكم يبقى نافذا من قبل القائد أو نائبه.
ويـرى الـشـارع أن امتثال الأحكام الإلهية العامة وفتاوى الفقيه الجامع للشرائط واجبة ومشروعة، كامتثال أحكام القائد وولي الأمر[40] بفارق أن العمل بفتوى الفقيه واجـب عليـه وعلى مقلديه فقط، في حيـن أن امتثال حكم القائد واجب على الجميع.
وبعد هذه المقدمة نبدأ بالجواب عن السؤال الأول، أي مسالة التفكيك بين المرجعية والقيادة.
التفكيك بين المرجعية والتقليد:
بيّنا فـي الأبحاث السابقة ملاك قيادة الفقيه وأدلتها وانتهينا إلى أن الفقيه يتصدى لإدارة شؤون الـمـجـتـمـع الإسلامي عـلى أساس المعايير والقيم الدينية، في حين أن مسالة المرجعية بمعنى ((الإفتاء)) هـي أمر آخر ويقع مفهوم التقليد في مقابل المرجعية، أي عندما يصبح شخص مرجعا يـكون الآخرون مقلدين له، ومن هنا لابد لنا من توضيح معنى التقليد ليتضح معنى المرجعية المقصود بـالـتقليد في المصطلح الفقهي هو: رجوع غير المتخصص إلى المتخصص في أمر تخصصي، وهذا أمر معقول ومقبول جدا، وهواهم دليل عقلائي على جواز التقليد في الأمور الدينية، حيث يجب على الإنسان غـيـر الـمـتـخصص أن يرجع في الأمور التخصصية إلى المتخصص فيها، وكافة أدلة الـتـقـلـيـد الـلـفـظـية آية {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} أو الروايات ناظرة إلى هذا الـمـوضـوع الـمقبول لدى العقلاء وموافقة لما هو المرتكز في أذهانهم ولذا، فنكتة مرجعية الفقيه هي تخصصه في الفقه ومقدرته على استنباط الأحكام الإلهية من المصادر الشرعية، في حين أن نكتة قـيـادتـه إضافة إلى هذا الأمر: هي قدرته على إدارة شؤون المجتمع على أساس الموازين والقيم الإسلامي ومـن هـنـا يـمـكـن أن يـرجـح فـقيه على فقيه في مسالة المرجعية لمقدرته الفقهية الـفـائقـة[41] ولكن بسبب قدرة الثاني على إدارة شؤون المجتمع يرجح على الأول في أمر القيادة، ولذا فتفكيك المرجعية عن القيادة أمر معقول وضروري في بعض الأحيان.
أما بالنسبة للسؤال الثاني، أي مسالة تعدد القائد أو المرجع ووحدتهما بعد إمكانية التفكيك بينها، فبما أن الـرجـوع إلى الـمـرجع يكون من باب رجوع الجاهل إلى العالم، ورجوع غير المتخصص إلى الـمـتـخـصص فوجود المتخصصين العديدين والمراجع المختلفين في المجتمع الإسلامي هو أمر جـائز، بـل مطلوب لكي يتمكن جميع الناس من مراجعتهم ومعرفة أحكامهم أما قضية القيادة وإدارة شؤون المجتمع الإسلامي، فبما أنها ترتبط بنظام المجتمع، وتعدد مراكز القرار يؤدي إلى الفوضى، وإن إطاعة الـقـائد واجـبـة على الجميع ـ بما فيهم سائر الفقهاء ـ فالقاعدة تقتضي أن يكون القائد واحـدا، سيما مع اخذ مفهوم الأرض والدولة من وجهة نظر الإسلام بنظر الاعتبار، وأن جميع دار الإسلام تعد دولة واحدة.
وربـمـا تـقتضي الظروف وجود قيادات إقليمية أو شكلا آخر للقيادة، ولكن يجب على جميع هذه القيادات أن تعمل بتنسيق وأسلوب واحد لكي لا تتعرض الأمة الإسلامية للتفرقة والتشتت.
فـي حين ليس من الضروري ـ في مسالة الفتوى ـ أن تكون فتاوى المراجع المختلفين واحدة، بل أن كل فقيه ملزم بان يفتي طبقا لتشخيصه ووفقا لقواعد الاستنباط.
إذن القاعدة الأولية هي الوحدة في القيادة والتعدد في المرجعية، بالرغم من وجود إمكانية عكس ذلك بالنسبة لهما كما أن وحدتهما ووجود قائد مرجع أمر ممكن أيضا.
أما بالنسبة للسؤال الثالث، أي إمكانية تقليد غير القائد في كافة الأمور، فيجب الالتفات إلى أن القائد يلحظ في حكمه ـ إضافة إلى الظروف الخارجية ـ الأحكام الإلهية العامة والأنظمة الإسلامية أيضا، ولذا سيكون ملاكه في إصدار الحكم هي فتوى نفسه.
هذا، وقد قلنا: إن امتثال أمر القائد واجب على الجميع، فلو كان بإمكان الناس أن يقلدوا غير القائد في كـافـة الأمور الـشـخصية والاجتماعية من ناحية، ويكونوا ملزمين بامتثال أوامر القائد من ناحية أخرى، فمن الممكن أن يواجهوا عقبات في بعض الموارد، وذلك حينما تكون للقائد فتوى خاصة في مـجـال اجـتماعي معين، ثم يصدر حكما على أساس منها وفي نفس الوقت تكون فتوى مرجع التقليد متخالفة معها، فكيف يمكن إلزام الناس بامتثال أمر القائد؟
وبطرح هذه المشكلة يظهر أن إطاعة القائد واجبة على الجميع، ونقض حكم الحاكم من قبل سائر الـفقهاء أمر مرفوض، وفي الأمور الاجتماعية لا يمكن للناس أن يقلدوا غير القائد، وما ورد في بيان ذيـل الـسـؤال الأول يختص بالأمور الشخصية، حيث يستطيع الناس في هذه الدائرة فقط أن يقلدوا غير القائد.
الخاتمة:
حاولت في هذا المقال التعرض بالبحث والتحقيق لأهم وجوه مسالة ولاية الفقيه والإجابة عن أشهر واحدث الشبهات المثارة حولها.
إن مـسـالة ولاية الفقيه على حجمها وسعتها هي إحدى أسس المدرسة السياسية للإسلام والتي تعد بـدورهـا جـزءا من النظام السياسي، وطرحها بصورة أوسع يتطلب مجالا أوسع، فكيف بطرح نظام الإسلام السياسي بجميع أبعاده والذي يشتمل على عشرات البحوث ومئات المسائل.
_______________________
[1] لقد تعرضت لتلك الطرق تفصيلا وتحقيقا في كتاب (الحكم الإسلامي في عصر الغيبة).
[2] الصدوق، من لا يحضره الفقيه 4: 420 (باب النوادر حديث 5919) الصدوق، كـتـاب الامـالـي109 (المجلس 34، حديث 4) الصدوق، عيون اخبار الرضا(ع ) 2/37 (حديث 94) الـصـدوق، مـعـاني الاخبار 2: 374 (باب 423). الحر العاملي، وسائل الشيعة 18 (كتاب الـقـضـاء، ابـواب صـفات القاضي، باب 8، الحديث: 50 و53) الحر العاملي، وسائل الشيعة (كتاب الـطـهـارة، ابـواب الوضوء، باب 54، حديث 4). النوري مستدرك الوسائل (كتاب القضاء، ابـواب صـفات القاضي، باب 8 الحديث: 10، 11، 48،52). المجلسي، بحار الانوار 20: 25 (كـتاب العلم، باب 8، حديث 83) الهندي، كنز العمال10:229 (كتاب العلم من قسم الاقوال، باب 3، حديث 29209).
[3] يـطـلـقون على هذا المنصب اصطلاحا (الاطلاق بملاك حذف المتعلق)، وللتحقيق اكثر راجـع: الإمام الـخـمـيـني، كتاب البيع 2: 468. آية اللّه السيد كاظم الحائري، اساس الحكومة الإسلامية ص 150.
[4] مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت (بالفارسية) ص 186 ـ 187 (بتصرف ).
[5] هذا الاطلاق هو الاطلاق الناشئ من حذف المتعلق.
[6] الـصدوق، كمال الدين (أو اكمال الدين) 2: 483 (باب 45، التوقيعات، التوقيع الرابع ).
[7] الطوسي، الغيبة: 177.
[8] الحر العاملي، وسائل الشيعة 18: 101 (كتاب القضاء، ابواب صفات القاضي، باب 11، حديث 9).
[9] التستري، قاموس الرجال 1: 786.
[10] لـقد تعرضت لهذه المسالة بصفتها احد الطرق الكلية للتوثيق في كتاب ((تحرير المقال في كليات علم الرجال))، (راجع: مهدي الهادوي الطهراني، تحرير المقال في كليات علم الرجال: 109 ـ 111).
[11] راجع: آية اللّه السيد كاظم الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة: 122 ـ 125.
[12] مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت ـ بالفارسية ـ ص 207 ـ 214.
[13] راجـع: المفيد، كتاب المقعنة: 810، زين الدين بن علي العاملي الجبعي، مسالك الافـهـام 1:53، المحقق الكركي، رسائل المحقق الكركي 1: 142، المقدس الاردبيلي، مجمع الـفائدة والبرهان 4:205، الشيخ رضا الهمداني، مصباح الفقيه، كتاب الخمس: 160، الحسيني العاملي، مفتاح الكرامة 10:21، الشيخ احمد النراقي، عوائد الايام: 187، مير فتاح المراغي، الـعناوين: 354، محمد حسن النجفي،جواهر الكلام 15: 421 و21: 395 و40: 18، سيد مـحـمد بحر العلوم، بلغة الفقيه 3: 221، الشيخ مرتضى الحائري، صلوة الجمعة: 144، الإمام الـخـمـيـني، كتاب البيع 2: 488
[14] قد طرح بعض الفقهاء البارزين من المتاخرين نظريات مختلفة مثل ((انتخاب الفقيه من قبل الامة بصفته وليا)) أو ((اشراف الفقيه على شؤون الحكومة )) أو ((ولاية غير الفقيه بنصبه من قبل الفقيه)).
[15] الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 21: 396.
[16] دراسات في ولاية الفقيه 1: 409 ـ 415.
[17] آية اللّه جوادي الاملي، ولاية الفقيه (رهبري در اسلام) ـ بالفارسية ـ ص 186.
[18] نفس المصدر: 187.
[19] ومـن هـنا فان مجلس خبراء الدستور بقبوله (لنظرية النصب) في الدستور، قد اقر بمسالة (انـتخاب الامة)، وقد رجح مجلس الخبراء اسلوب الانتخاب غير المباشر الاكثر انسجاما مع روح نظرية النصب على الانتخاب المباشر.
[20] وهو الاسلوب الشائع لدى الشيعة منذ القدم وإلى اليوم في الرجوع إلى المراجع العظام.
[21] اعـتـبـر الـبعض ان وجود اسلوب الانتخاب في دستور الجمهورية الإسلامية دليل على القبول بنظرية الانتخاب، وقد اتضح بطلان هذا الادعاء من خلال هذا البيان.
[22] سـعـى الـبـعـض مـن خـلال الاقتداء ببعض المذاهب في مجال الفلسفة السياسية كنظرية (الواجب) لهابز ان يبرر (نظرية النصب) ويحصر دور الامة في الفاعلية فحسب، وهذه التفاسير لا تنسجم كثيرا مع روح البحوث الإسلامية ومنها بحث ولاية الفقيه.
[23] مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت ـ بالفارسية ـ ص 64 ـ 65.
[24] المصدر السابق ص 171 ـ 172.
[25] مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت، بالفارسية ص 100 ـ 107.
[26] مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت، بالفارسية ص 113.
[27] المصدر السابق ص 120.
[28] آية اللّه جوادي الاملي، ولايت فقيه، بالفارسية: ص 110 ـ 112.
[29] آيـة اللّه جـوادي الامـلي، ولايت الفقيه، بالفارسية ص 121 ـ 122، آية اللّه السيد كاظم الحائري، اساس الحكومة الإسلامية ص 247.
[30] دراسات في ولاية الفقيه 1: 289 ـ 300.
[31] الكهف: 28.
[32] الكليني، الكافي 1: 407 (كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية، حديث 8).
[33] دراسات في ولاية الفقيه 1: 319 ـ 327.
[34] مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت، بالفارسية ص 216.
[35] الاحزاب: 6.
[36] يـطـلـق التزاحم على حالة تعذر امتثال الزامين شرعيين في وقت واحد، ولا يمكن امتثال احدهما الا بعصيان الاخر.
[37] وهـذا المطلب هو ما ورد في دستور الجمهورية الإسلامية، واثر ذلك اثيرت تساؤلات ـ شبيهة لماسنطرحه ـ سببت مناقشات واسعة.
[38] آل عمران: 19.
[39] وقـد اطـلق الإمام الخميني (قده) على هذه الاساليب ((الاجتهاد الجواهري)) أو ((الفقه التقليدي)).
[40] ومـن هـنـا يـقـال احيانا: ان الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين:
1 ـ الأحكام الالهية.
2 ـ الأحكام الولائية.
ويراد بالاول الأحكام الكلية الثابتة والفتوى، وبالثاني الأحكام الصادرة من قبل القائد.
[41] وقد اطلق على هذه المسالة ((شرط الاعلمية))، ويجب الرجوع إلى الاعلم حينما:
1 ـ تختلف فتوى الاعلم عن فتوى غير الاعلم.
2 ـ تـكـون الـفاصلة بين الاعلم وغيره كبيرة من الناحية العملية والتخصيصية بحيث تكون فتوى غير الاعلم المخالفة لفتوى الاعلم فاقدة للقيمة العلمية لدى العقلاء قياسا إلى فتوى الاعلم بالرغم من اعتبارها العلمي قياسا إلى آراء سائر الناس.

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية